تنبني المقولة التأسيسية لهذه الورقة على فكرةٍ مفادُها أن الإنتاج الثقافي الصهيوني، والسينمائي بشكل خاص، لازمَ السرديات الصهيونية الكبرى على نحو دعائي رافد في بدايات المشروع، وانعكاسي لتحولات المجتمع بعد إقامة “الدولة”. 

ملخص

ترمي هذه الورقة إلى معالجة تمثيلات الشخصية اليهودية في السينما الصهيونية، من خلال تتبع ثلاثة نماذج سادت في فترات مفصلية من عمر المشروع الصهيوني، وهي: بناء اليهودي الجديد في الفترة المبكرة، وأسطورة البطل الرجولي المقاتل، وانهيار أسطورة البطولة وإبراز عدميّة التضحية.

وتنبني المقولة التأسيسية لهذه الورقة على فكرةٍ مفادُها أن الإنتاج الثقافي الصهيوني، والسينمائي بشكل خاص، لازمَ السرديات الصهيونية الكبرى على نحو دعائي رافد في بدايات المشروع، وانعكاسي لتحولات المجتمع بعد إقامة “الدولة”. انتهجت الورقة تحليل ثلاثة أفلام صهيونية تعكس تلك النماذج، التي هيمنت على المشهد السينمائي على مدار القرن الماضي.

بمثابة مقدمة: عقدة الجسد اليهودي في الخطاب الصهيوني

لم تقم الصهيونية كمشروع تحرر سياسي لليهودي ببناء أمة له فحسب، بل حملت همّ انعتاق جسد الذكر اليهودي من العبودية، إذ كان الخطاب الطبي “المعادي للسامية” في أوروبا يربط جسد اليهودي بالمرض والجنون والانحراف الجنسي والأنوثة. وتسلل هذا الخطاب إلى أعمال فلاسفة ومفكرين يهود من أمثال فرويد[1].

خلق ذلك الخطاب هوساً لدى حاملي الفكر الصهيوني الأوائل؛ من أمثال هرتزل وماكس نوردو، بضرورة تجاوز تلك التنميطات التي أُلصقت باليهودي في أوروبا؛ فصار الهمّ الشاغل هو بناء “يهودية العضلات”. وكان الاعتقاد أن هذه الهوية سيكون لها دورٌ رئيسيٌ في حلّ المشكلات الاقتصادية والسياسية والوطنية لليهود[2].

صارت هذه الهوية، والتي كانت في بداياتها متشكلة كمفهوم عمّا يجب أن يكونه اليهودي، نموذجاً ليهود الصابرا (الرواد الطلائعيين). حرص النموذج على بناء هوية “فحوليّة”؛ جوهرها الذكر اليهودي المنخرط بجسده في العمل اليدوي والعلاقة المباشرة مع الأرض. رغم أن هذه الهوية تم بناؤها لتجاوز “اليهودي القديم”، إلا أنها بقيت في علاقات توتر مع ذلك النموذج؛ فلم تحقق حسماً مطلقاً[3].

كانت الإنتاجات الأدبية والثقافية، في فترة اليشوف، مرآة لتلك العلاقة المتوترة مع الجسد اليهودي القديم، وأداة في نفس الوقت لخلق نموذج يوتوبي عن اليهودي الجديد.كان المسرح والأفلام والأغاني أهم تلك المجالات الثقافية، والتي سُخرت جميعها في خدمة الماكينة الدعائية الصهيونية في سبيل تحويل النماذج المنشودة إلى واقع.

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، تعاظم التأييد للحركة الصهيونية بفعل المحرقة، واقترب المشروع من مبتغاه أكثر. صار للعصابات الصهيونية العسكرية وزن أكبر بعد أن لقي المشروع تأييداً من عدد كبير من اليهود، وتم استقدام اليهود الناجين من المحرقة. بدأت تلك العصابات، التي شكلت الجيش الصهيوني فيما بعد، تكتسب ثقة أكبر من اليهود باعتبارها الحامي لهم والرافد لأمل استقرارهم.

وفي فترة لاحقة، أحيطت بالجيش، فترة إقامة “الدولة”، هالة من القداسة. وأصبح، على المستوى الفعلي والخطابي، مصنعاً لإنتاج اليهودي الجديد التي ظلت سماته مرتبطة بالذكورية؛ وهو ما انعكس على تمثيلات البطل اليهودي في الإنتاج الثقافي، السينما تحديدًا، كما سنرى في القسم اللاحق من الورقة.

كيف يتم إنتاج الذكورية في المجتمع الصهيوني؟

خضع اليهودي في عملية الانتقال من نموذج اليهودي القديم الى نموذج اليهودي الجديد لسلسلة ممنهجة من عمليات الهندسة الاجتماعية؛ فالقيم والأخلاقيات وطرق الانضباط والسلوكيات جميعها مُنتجة ضمن الجيش ومؤسساته، كما “ترتحل” هذه القيم والمشاعر التي يتم تعزيزها في الجندي من خلال الجيش لحياة الفرد المدنية. ضمن هذا التوجه، تكون ممارسة الجندية عبارة عن آلية تربية لليهودي على مجموعة من السلوكيات “الرجولية” من قبيل أن يتعلم كيف ومتى وأين يُفصح عن مشاعره، وكيف له أن يُتقن مجموعة من التقنيات المتعلقة بجسده من قبيل تعابير الوجه، والإيماءات، وامتلاك “الروح الباردة”؛ بمعنى القدرة على التصرف بثقة في الظروف المتوترة..الخ[4]. 

لم تعد النظرة مقتصرة على أن المحارب يُشكل رمزاً للذكورية في الجيش، بل أصبح الجيش نفسه مكاناً لتعزيز وتأكيد وإعادة إنتاج الرجولة. ففي الجيش الصهيوني تحيل الرجولة إلى مجموعة من المثُل أو المفاهيم الأساسية للكيفيات التي تكوّن ذكراً يهودياً في المجتمع. لا تقتصر المُثل هنا على الصفات النفسية التي قد يمتلكها الأفراد، وإنما أيضا تشتمل أنماطاً اجتماعية متوفرة ومعترفاً بها، وتقدم نفسها على أنها ذات شرعية[5].

ارتبطت الذكورية في “إسرائيل” بنموذج الجندي المحارب الذي يتم تصويره كشعار للمواطنة الجيدة، إذ إن هذه الهوية تلعب دوراً محورياً في تشكيل تراتبيات جندرية وهوياتية مدنية، والتي بدورها انعكست على البنية الاجتماعية داخل “الدولة”. لا يقتصر مفهوم الذكورية، إذا ما أخذناه ببعده الضيق، على العلاقات الجندرية، بل هو مجال ثقافي رحب وضروري لفهم الفعل المؤسسي الاجتماعي في أبعاده كلها، بدءاً من الرجل وعلاقته بالمرأة، وانتهاءً بالدولة ومؤسساتها[6].

يشتغل مفهوم “الذكورية المهيمنة” كنموذج مثالي عن الذكورية المطلقة التي لا تتوفر لأي أحد؛ ذلك أن أنواع الذكورية الأخرى تتشكل تباعاً، إما التبعية أو الخضوع/ التواطؤ، أو التهميش، بما لا ينفصل عن البنية التراتبية داخل المجتمع من حيث الانتماء الإثني والجندري والجنسي[7]. فمثلاً، على مستوى العلاقات الإثنية؛ يشكل الانتساب إلى الجيش لليهود الأشكناز (الذكور تحديداً)، “طقس عبور” نحو الرجولة المطلقة والمواطنة الكاملة، بينما يمثل التجنيد بالنسبة لليهود الشرقيين “طقس عبور” إلى المجتمع الصهيوني كمواطن “جيد” نسبياً[8].

لقد بجّل المجتمع الصهيوني باستمرار الخدمة العسكرية، وخصوصاً المعارك، وأسطر الشجاعة والتضحية الشخصية، واحتفى بجنوده القتلى. بفعل هذه النزعة الاحتفائية، تم ربط مثُل الرجولة بمفاهيم أوسع لها علاقة بالبعد “الوطني”، واستمرارية الدولة من خلال التضحية المستمرة للأفراد.

بالإمكان تتبع مسار تطور تلك الأساطير حول البطولة والرجولة في الإنتاجات الثقافية الصهيونية، فهي من جهة عكست الحالة الثقافية والسياسية التي انبثقت منها تلك المثل. ومن جهة أخرى،كانت عاملاً رافداً في عمليات إعادة إنتاج وتوثيق أواصرها في المجتمع. السينما ليست استثناءً في هذه الحالة.

تماهت الأفلام الصهيونية التقليدية مع المقولة الصهيونية الكبرى حول بناء الشخصية اليهودية الجديدة بالتركيز على طابعها الطلائعي، الذكوري، الأوروبي، والمحارب. وبذلك تنبني تلك الشخصية كنقيض لثلاثة أنماط رئيسية، وهي: المرأة، واليهودي الشرقي، واليهودي الناجي من الهولوكست. وعلى هذا الأساس، عملت الأفلام الصهيونية الأولى على ترسيخ علاقة هرمية مع تلك الأنماط، لتجعل من اليهودي الطلائعي الجديد على رأس الهرم[9]. ولأن النماذج تُبنى على وقع التغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فإنها تظل عرضة للتبدل. وينطبق ذلك تماماً على نموذج الشخصية اليهودية الذي مرّ في مجموعة من التحولات سوف أتطرق إليها في بقية الورقة.

نظرة في تاريخ السينما الصهيونية

لم تكن صناعة الأفلام والسينما طفرة في المجال الثقافي الصهيوني، بل استطاعت أن تتشكل كظاهرة بعينها، خاصة في الفترات الأولى لبناء المشروع الصهيوني. ذلك أن الرواية الصهيونية تزامنت تماماً مع ولادة الصورة المتحركة. وقد تنبه الصهاينة بسرعة إلى الإمكانيات الجديدة في استخدام وسيلة الفيلم  كأداة دعائية تعبوية: “إن عودة ظهور شعب تبعثر في العالم 2000 سنة، على شكل أمة، تسجل مرة واحدة في التاريخ الإنساني.الحركة السياسية (الصهيونية) التي قامت بأكبر الجهد لتحقيق هذا الإنجاز المذهل، ظهرت في وقت ظهور السينما، واستخدمت الوسيلة الجديدة منذ بداياتها تقريبا.كانت تقصد تشكيل هوية قومية لم تكن قد وجدت بعد..كانت صناعة وثائقية ملّونة بالبروباغندا”[10]

أدرك ثيودور هرتزل نجاعة وسيلة السينما في خدمة مشروعه؛ إذ حاول صناعة فيلم دعائي عن “أرض الميعاد” بين السنوات 1899 حتى 1902، لكنه لم ينجح في ذلك. في عام 1903، نُفذت أول جولة سينمائية في مصر وفلسطين ولبنان بإشراف المصور “ألفرد عبادي” بإيعاز من شركة أديسون[11]. ومن ثم بدأت صناعة السينما الناطقة بالعبرية في فلسطين الانتدابية بالتطور، من خلال أفلام قصيرة أنتجها نشطاء الوكالة اليهودية بهدف توثيق وصول المهاجرين واستيعابهم، مثل فيلم “الأرض المقدسة” عام 1934، لتكون جزءاً من السردية الصهيونية الكبرى: “أرض بلا شعب”.[12]

كانت تلك الأفلام جهوداً متضافرة لتصوير “واقع وهمي”؛ فقد حاول صانعو الأفلام الصهيونية في فترة ما قبل “الدولة”، وخصوصاً قبل وقوع الهولوكست،أن يخترعوا واقعا خرافياً يوتوبياً عن أرض خالية تنتظر شعباً رائداً كي يصل ويحرثها[13]. في السنوات ما بين 1917 إلى ثلاثينات القرن الماضي، ساهم صانعو أفلام “أرض إسرائيل” في تشكيل الرموز الصهيونية ضمن أيقونات فنية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن معظمهم كانوا على صلة مع فنانين صهاينة بارزين من كتاب وشعراء ورسامين..الخ[14].

عُرفت الأفلام الصهيونية التي أنتجت قبل قيام “الدولة” بأنها صهيونية اشتراكية؛ إذ كانت شديدة التأثر بالواقعية الاشتراكية التي كانت تنمو في الاتحاد السوفييتي بعد الثورة، خصوصاً وأن كثيرين ممن بكّروا في صناعة الفيلم كانوا مهاجرين من أوروبا الشرقية تلقوا دعماً قوياً من المنظمة الصهيونية العالمية والصندوق القومي اليهودي[15].

استمرت الأفلام اليهودية الدعائية المحمّلة بالأيديولوجيا الصهيونية في سبيل استجلاب المزيد من اليهود، وتلقي الدعم من الأغنياء اليهود في الخارج حتى أواخر الثلاثينات، في حين شهدت فترة الحرب العالمية الثانية انقطاعاً في إنتاج الأفلام[16]. الأمر مرتبط بالتأكيد بعوامل لها علاقة بصعوبة وصول مواد الفيلم الخام من أوروبا، لكن ذلك وحده لا يفسر الانقطاع؛ لا بد أن أحداث المحرقة شكلّت نوعاً من الصدمة شلّ الحالة الثقافية اليهودية.

قبل أن تسود السينما الصهيونية التقليدية (بعد قيام “الدولة”) حالة من الصمت والتجاهل إزاء قضية المحرقة وضحاياها، أُنتجت بعض الأفلام التي تتعامل مع الناجين من الهولوكست في فترة الأربعينات، ليس بوصفهم ضحايا بقدر ما هم صورة عن اليهودي الجبان الضعيف الذي يلزمه إعادة تأهيل. وفي ورقتي هذه، سوف أتناول بالتحليل فيلم “غداً يوم رائع tomorrow’s wonderful day 1947 ” كنموذج لأفلام “صناعة اليهودي الجديد”.

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، عادت موجة جديدة من الأفلام الصهيونية التي حاولت أن تخلق بديلاً عن صورة اليهودي الناجي من الهولوكست، وتؤسس في المقابل أسطورة يشكلها ثالوث البطل الذكوري والطلائعي، الأرض، و”الوطن”. ولازمت تلك الأسطورة السينما الصهيونية التقليدية حتى العقدين الأولين من تأسيس “الدولة”. يعيد البطل اليهودي في تلك الأفلام إلى الأرض خصوبتها، ويحرر مياهها الراكدة ضمن عملية إزاحة عنيفة للفلسطيني الذي نادراً ما يظهر.

يقول جاد نئمان: “إن الرّواد اليهود في السينما التقليدية يقومون باستعادة الأرض، ويقومون بإخلائها من السكان بعد شرائها، وبهذا المعنى يأخذون، رمزياً، مكان البطريرك المحلي… كما ويزعم البطل اليهودي- رغم أنه يخطط لاستبدال السكان المحليين ونظامهم البطريركي “المتخلف” باليهودي الجديد والنظام الاجتماعي الاشتراكي التقدمي- أن السكان العرب سيستفيدون بدورهم من التقدم العام”[17]. لا ترمي هذه الورقة إلى تفكيك السردية السينمائية الصهيونية بما يختص بموقع الفلسطيني فيها، لكن التعريج عليها من شأنه أن يوضح كيف تم بناء صورة البطل الصهيوني على أساس كذبة الأخلاق واللاعنف.

سادت العقدَ الخمسيني والستيني فترةٌ يُطلق عليها الواقعية الصهيونية في السينما، وهي أفلام لم تتحرر من هيمنة الرواية الرسمية لحزب مباي الذي حكم “إسرائيل” دون انقطاع حتى العام 1977[18]. كانت هذه الأفلام تركز على الصراع مع العرب دون أن تُظهر حضورهم. حتى في الأفلام الحربية، لا تظهر المواجهة مع الفلسطينيين بشكل مباشر. على سبيل المثال: في فيلم “He walked through the fields, 1967””، رغم أنه يعالج أحداث عام 1948، تُصوَر الحرب على أنها مواجهة مع البريطانيين، مع حضور شبه منعدم للعرب[19]. ويُعد الفيلم استمراراً للإنتاجات السينمائية التي تحاول صناعة أيقونات بطولية، وهو ما سآتي على تحليله في بقية الورقة.

إلى جانب أفلام الواقعية الصهيونية، ظهرت في مطلع الستينيات أفلام اصطلح على تسميتها أفلام “البرويكس”، والتي أقحمت الشرقيين الى شاشات السينما “الإسرائيلية” بعد أن تم تغييبهم كلياً في السنوات السابقة. ولم تأتِ تلك الأفلام- وهي في أغلبها كوميدية- في سياق تفكيك الهرمية الإثنية الراسخة على المستوى الفعلي والخطابي، بل جاءت من أجل تعزيز كل الصور النمطية عن الشرقيين التي أُنتجت على مدار عشرين عاماً من الهيمنة الأشكنازية[20].

ولعل فيلم (صالح شباتي، 1964) هو أفضل الأمثلة على هذه العينة، الذي يتعامل مع الثقافة الشرقية بوصفها مرضاً يجب على اليهودي الشرقي المهاجر أن يتخلص منها. واللافت في أفلام “البوريكس” أن الأدوار الرئيسية (الأشكنازية والمزراحية) يؤديها ممثلون أشكناز، في حين أن دور العربي، الذي نادراً ما يظهر، يؤديه ممثلون شرقيون.[21] وكأن الأشكنازي يمتلك الصوتين الأشكنازي والمرزاحي معاً دون العربي، بينما يستطيع المزراحي أن يؤدي دور العربي، دون أي يبدو الأمر غريباً بالنسبة للمشاهد.

انخفض الإنتاج السينمائي في كيان الاحتلال في فترة الستينيات، ليُعاود الارتفاع بعد عام 1972 نتيجة عوامل عدة؛ أهمها الحالة السياسية التي ألهمت الكثير من المخرجين لإنتاج أفلام تمجّد انتصار الصهاينة في حرب 67. هذا إلى جانب عوامل تقنية، حيث تحسنت الصناعة السينمائية جراء بناء معملين لتحميض الأفلام الملونة، بالإضافة إلى وجود حوالي 15 شركة إنتاج و25 شركة خدماتية إنتاجية تتوجه بنشاطاتها باتجاه الشركات الأجنبية، لإغرائها بتوظيف رأس مالها لتحقيق أعمال مشتركة، عدا عن بناء مدينة “رعاة بقر” والتي استُغلت لتصوير أفلام “الصحراء”.[22]

في فترة الثمانينيات، ظهرت نزعة جديدة في السينما الصهيونية، تفكك الأساطير  المؤسسة للصهيونية وتنبني على نظرة عدمية واضحة. برزت تلك النزعة السينمائية نتيجة تضافر عوامل عدة يرجعها (جاد نئمان) إلى التغيرات السياسية الاجتماعية العنيفة التي أعقبت حرب 1967 و 1973، حيث احتلت العمالة الرخيصة من المناطق المحتلة مكانة مركزية في الاقتصاد بعد عام67، وحلت تدريجياً محل شرائح معينة من الطبقة العاملة الإسرائيلية، ما أسفر عن تعديل للتراتبية الاجتماعية. وقد أصبحت النخبة التي تماهت مع الصهيونية الإنسانوية اليوتوبية المزعومة العمالية في عزلة، أمام توافد نخب جديدة من الشرقيين واليمينيين، واليسار الإسرائيلي الجديد الذي يتبنى الحلول التفاوضية مع الفلسطينيين ويتجنب الخيارات العسكرية، كما يدعي جاد نئمان.[23]

وبذلك، يرى نئمان أن سينما الثمانينيات السياسية عبرت في مظهرها الخارجي عن الأيديولوجيا الانشقاقية للنخبة، إلا أن بنيتها الداخلية طرحت نقداً أكثر راديكالية للصهيونية. وهو يقسمها إلى ثلاثة أنماط: أفلام الصراع، السينما العدمية، وسينما الظل. تحتوي هذه الأنماط الثلاثة على بذور موت اليوتوبيا وبروز النزعة القيامية “الديستوبيا”.

في أفلام الصراع، تبرز رؤى “نقدية” للروايات الصهيونية الرسمية حول الحرب والعلاقة مع الأرض وطرد الفلسطينيين. فبينما كانت السينما الصهيونية المبكرة تبني شخصية أبطالها كروّاد يدركون حقيقة دورهم اليوتوبي التاريخي، تبدد أفلام الصراع في الثمانينات هذا الإحساس، وتصور أبطالاً يعانون من رؤية مضطربة للواقع، ويعجزون عن طرح السؤال المناسب. بينما تتضمن سينما الظل الأفلام التي أعادت إحياء الذاكرة المقموعة حول الهولوكوست. أما السينما العدمية، فتشمل الأفلام التي تُفرغ تضحية “البطل الصهيوني” من معناها البطولي[24].

لا أتبنى هذه التصنيفات بكليتها؛ فما يصنفه نئمان على أنه نقد راديكالي للصهيونية لا يعود أكثر من كونه نقداً لتوجه قديم في الصهيونية، وهو يعبر عن انهيار الصهيونية العمالية الطلائعية التي تأسست عليها الدولة، مقابل بروز صهيونية ذات طابع جديد على المستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي. ما يهمنا في هذا الأمر هو ما يتعلق بالتحولات البنيوية التي طرأت على تمثيل الجسد اليهودي والجندي بشكل خاص؛ من البطل إلى الضحية.

ولهذا، سوف أتطرق في بقية الورقة إلى تحليل فيلم “Paratoopres, 1977″ كنموذج للسينما العدمية، لأنها تعبر بالتحديد عن فلسفة ضمنية تفسر المزاج القومي تجاه الموت والتضحية، بعد أن كان موت الجندي وتضحيته نقطة مؤسسة في بناء “أسطورة الجيش الصهيوني” والجسد اليهودي الجديد.

ويبدو أن السمات العامة لسينما الثمانينيات ظلت مستمرة، من حيث تهاوي صورة البطل في السينما الصهيونية؛ فالبطل تحول من الجندي الرجل والمقدام والمغامر والجريء “اليهودي الجديد” إلى الرجل المتقاعد، والضعيف، والمشتت، وهي صورة اليهودي في التسعينيات وبدايات القرن الحالي[25].

إنتاج اليهودي الجديد في السينما الصهيونية المبكرة: فيلم “غداً يوم رائع Tomorrow’s wonder full day”نموذجاً[26]

في فترة الأربعينيات، أُنتج عدد من الأفلام التي تتعلق بالناجين من الهولوكوست، والتي صورتهم كمرشحين للالتحاق بصفوف جماعة الروّاد الطلائعيين. ويتحول الناجي في تلك الأفلام إلى حالة تصلح للريادة الاستيطانية بواسط التدريب الجماعي في كيبوتس (تعاونية زراعية) مرموق، حيث ينتهي التدريب بطقس من طقوس الانضمام إلى الجماعة.

يروي فيلم “غداً يوم رائع” قصة صبي ناجٍ من معسكرات الإبادة، انتقل إلى قرية استيطانية يهودية في فلسطين اسمها “بن شيمن”، والتي  أقيمت في بدايات القرن العشرين على أراضي مدينة اللّد. في النصف الأول من الفيلم، يظهر الصبي في حالة مستمرة من الضياع والاضطراب؛ إذ يعاني من عواقب تجربته القاسية في ألمانيا، ويظل حائراً وعاجزاً عن المشاركة في برامج إعادة التأهيل المخصصة للناجين الصغار في مدرسة داخلية زراعية.

تستمر حالة العجز لديه إلى أن يُضطر ذات يوم أن يلتحق مع زملائه للعمل في الحقل، فيصطدم بسياج من الأسلاك الشائكة، في إحالة إلى وقوف حواجزه واضطراباته النفسية أمامه كجدار يجدر به تحطيمه. ويصاغ المشهد كعملية تحرر من العقدة التي ظلّت تلازم الصبيّ الناجي من الهولوكست؛ فمن خلال تصرفه بعنف ضد النبات والحيوان من حوله، وتسارع الكلام عند “راوي الفيلم الذي يتحدث بصوته”، يبدو الصبي وكأنه أشفى جزءاً من جروحه، وبدأ بتفكيك تلك الحواجز التي كانت تكبله. أما النصف الثاني من الفيلم، فيصف إعادة تأهيل الصبي بشكل كامل، واندماجه في الكيبوتس الجديد.

الفيلم مليء بالسرديات التي يمكن الوقوف عندها فيما يتعلق بالرواية الصهيونية حول خلوّ الأرض من سكانها، وأسطورة تخضير الصحراء على أيدي يهود “الصابرا”، في إزاحة عنيفة لكل ما يتعلق بوجود الفلسطينيين، مع الأخذ بعين الاعتبار قصة إنشاء مشروع “بن شيمن” كأحد المشاريع التي أقيمت ضمن مستعمرة صناعية ومزرعة تجريبية في منطقة وادي اللد في حدود عام 1910، بمبادرة من طبيب يهودي ألماني الأصل اسمه سيغفرايد هيلمان، وذلك في سياق رؤيا استيطانية صهيونية.

أقيمت “بن شيمن” كقرية شبابية لتأهيل الأطفال اليهود، ومهمتها توفير الوئام والانسجام للأطفال الذين افتقروا للأمان في الدول التي تحدّروا منها. وفي عام 1946، طلب هيلمان من المخرج هيلمر ليرسكي أن يصور الفيلم كأداة لجمع التبرعات، وقد سمّاه “أدماه”[27]. وقد تم عرضه بشكل أساسي في الولايات المتحدة بهدف الترويج لقرية “بن شيمن” كنموذج للنظام التعليمي اليهودي في فلسطين. تم إنتاج الفيلم بواسطة شركة “هداسا” في نيويورك، وهناك تمّت إعادة إنتاجه بشكل مختلف قليلاً عن الأصل، وأعيدت تسميته باسم “غدًا يوم رائع”.[28]

فضلاً عن ذلك، جنح الفيلم نحو ترسيخ هيمنة اليهود الأشكناز على مستوى قيادتهم لمشروع إقامة “الدولة” باتجاه تأصيل الثقافة الأوروبية العمالية كنموذج لليهودي الجديد. يمكننا الوقوف بالتحليل عند كل تلك المركبات، لكنّي سوف أركز قراءتي في الاتجاه الذي يُبرز الآليات التي تم من خلالها الاشتغال على بناء جسد اليهودي كنقيض لليهودي في أوروبا.

هذا الصبيّ اسمه “بنيامين”، يظهر في القسم الأول من الفيلم متردداً في مشيته، رأسه مغمور بين كتفيه، وفي نظراته رغبة في اكتشاف شيء جديد، بحثاً عن مخرج من حالته الارتيابية. في أحد المشاهد، يجلس بنيامين في غرفة الصف مع زملائه الذين يتحدّرون من دول أوروبية مختلفة؛ إذ يتبين ذلك عندما يسأل المشرف كل طالب عن أصولهم واللغات التي يتحدثون بها وما إلى ذلك. وحين يناديه الأستاذ: بنيامين، بنيامين.. يرتبك ويهمس لنفسه: هذا أنا، ومن ثم يزيح وجهه، محاولاً إخفاءه كمَن يشعر بالخجل من نفسه. تتكرر مشاهد مماثلة تظهر بنيامين غير واثق من كينونته، وأرجح أن في ذلك إحالةً إلى الموقف الصهيوني (موقف الصهاينة المؤسسين للدولة) الذي ينظر بدونية واحتقار إلى اليهود الناجين من الهولوكست، بوصفهم جبناء، وهاربين.

يُظهر الفيلم أطفال الكيبوتس في حالة مفرطة في المثالية؛ فهم يعملون ويدرسون طوال الوقت وبشكل منّظم، ووقتهم مليء بالنشاطات، لا يكلّون ولا يشتكون من العمل في الحقل وحراثة الأرض. وتظهر في بعض المشاهد مجموعة من البنات الأطفال يرقصن، مرتديات لباساً يفترض فيه التعبير عن التقاليد اليهودية القديمة. يعكس الفيلم صورة مركزة عن بنية الكيبوتس، حيث العمل الدؤوب والوقت الذي لا يعرف الفراغ والانخراط بالتفاصيل، لدرجة جعلت بنيامين منتبهاً إلى أن كل حركة، وكل شيء ذو معنى عندهم. في هذه الحالة العامة بالتوازي مع انعدام الخيارات أمامه، وجد بنيامين نفسه منخرطاً في العمل الذي كان يمقته في البداية.

عندئذٍ، بدأ جسده بالانتصاب شيئاً فشيئاً حين تقبل فكرة العمل مع زملائه في الحقل، في إحالة إلى مفهوم العمل العبري ودوره في بناء الأرض والشخصية اليهودية. وفي أحد مشاهد الفيلم، تركز الكاميرا بلقطة قريبة على جسد “بنيامين”، وهو مُرتدٍ “كنزة” تُبرز عضلاته، وهو يزيل الحجارة والصخور من الأرض بعنف تحضيراً لحراثتها (في إحالة مباشرة إلى أسطورة تحويل الصحراء إلى أرض خضراء)، ويفكر في نفسه أن الحجر لطالما كان عدّوه “في إشارة إلى فرن المحرقة”، والآن يعمل على إزالته، بحثاً عن الكنز أسفله: الأرض. وترافق هذه اللقطة جملة رنّانة يقولها راوي الفيلم على لسان بنيامين: “الله احتاج الأرض من أجل أن يخلق الرجل، أنا احتجت الأرض من أجل أن أصبح رجلاً”.

إذا كانت العقدة في الفيلم هي حالة الاضطراب التي واجهها بنيامين إزاء انخراطه مع مجتمع الكيبوتس، فإن الذروة في حل تلك العقدة تصل حين يتم اختياره لنقل الشعلة في احتفال “الحانوكاة”، مهرجان الضوء، تجسيداً لعملية الانتقال من الظلام إلى النور؛ انتقال بنيامين من ظلمة معسكرات الإبادة إلى نور الكيبوتس، وكأنه قد أتمّ مرحلة الاندماج في مجتمعه الجديد، الأمر الذي يفصح عنه في داخله؛ إذ يقول: “ليس لديّ أخ أو أب، الآن أنا ابن إسرائيل”.

يستمر بنيامين في الركض، وهو يشعر أن المهمة أنيطت به كرجل وعضو مخلص لقريته وأرضه. كانت إضاءة شعلة “الحانوكاة” بمثابة طقس العبور بالنسبة لبنيامين؛ عبوره إلى المجتمع الصهيوني كيهودي جديد. لا يغفل الفيلم عن إعطائنا الإحساس بملازمة التردد لبنيامين حتى اللحظة ما قبل الأخيرة، حيث يُحسم هذا التردد بمشهد يرفع فيه بينيامين رأسه نحو الشعلة وينشد مع البقية، موصلاً رسالة، فحواها جدوى الاشتغال على اليهود وصناعتهم كيهود جدد. 

يرى بعض النقاد أن الفيلم يقترح بديلاً عن السردية البديهية اللازمة للموقف الصهيوني من ضحايا الهولوكست بأنهم “ذهبوا كخراف للذبح” ويقول: ” نحن اليهود الجدد لن نذهب كالخراف إلى الذبح”.[29]

أفلام الحروب: صناعة الرجولة البطولية

يلعب مفهوم الموت في ساحة المعركة، باعتباره مفهوماً جوهرياً في المجتمع الصهيوني، دوراً حاسماً في تشكيل الثيمات الأساسية في الأفلام ذات النمط البطولي-القومي، إذ ارتبط هذا النمط من الأفلام بولادة جيل “الصابرا” الذين شكلّوا، بواسطة منظمات ومؤسسات عسكرية مختلفة، نظرة عامة حول القوة العسكرية، بوصفها الجهة القادرة على حلّ المسائل القومية.

تنامت تلك الرغبة لدى المؤسسة العسكرية في امتلاك القوة والسلطة في لحظة التأسيس لخطاب يمجدّ فكرة البطولة، عبر تعزيز جملة من الأساطير التي تبرز قيمة التضحية عند المقاتل اليهودي، ابتداءً من أسطورة “مسادا” والقصص التوراتية، وصولاً إلى الأساطير الحديثة التي تحاول تخليد المقاتلين الصهاينة من أمثال “جوزيف ترامبيلدور”، الذي يعد “بطلاً صهيونياً مات في سبيل حماية مستوطنة تل حي”.[30]

تجلت تلك الأساطير القومية في سلسلة طويلة من الأفلام التي بدأت تبرز منذ فترة الخمسينيات وحتى أواخر الستينيات. من أبرزها فيلم  He walked through the fields (جوزيف ميلو، 1967)، وهو فيلم مقتبس عن رواية موشيه شامير (عام 1947)،  يحتفي بنموذج البطل الصهيوني “الصابرا” ممثلة بشخصية “أوري كاهان”.

يعلب “آسي ديان” نجل “موشيه ديان” دور بطل الفيلم (أوري). بعد تخرجه من مدرسة مرموقة للثانوية العامة، يواجه أوري صعوبة في الاندماج في نمط الحياة الشيوعي داخل الكيبوتس، كما أنه غير متأكد بشأن رغبته في الالتحاق بالجيش. يقع في حبّ امرأة من المهاجرين، وتحمل منه بصبي. وبعد أن كان متردداً بشأن التحاقه بالعسكرية، يجد نفسه عضواً في عصابات البالماخ.

تم إبراز الفكرة الرئيسية من خلال الجدل ما بين الرمزية القومية والقدر التراجيدي الشخصي، حيث قتل أوري في مواجهة. في سن الواحدة والعشرين، عاد أوري الابن من معركة في الضفة الغربية ليكتشف أن زميله ايال قد قتل في إحدى المواجهات.[31]

في الفيلم لا يظهر للمشاهد موت أوري. فبدلاً من إبراز جثته الميتة، يتم تثبيت لقطة الكاميرا على وجه أوري متفاجئاً، قبل لحظة تلقيه الرصاصة المميتة. هذه اللقطة السينمائية الثابتة (frozen frame) حملت دلالة برزخ الوجود بين الحياة والموت، مؤسسةً أسطورة “الميت – الحيّ”. تتلاشى صورة وجه أوري بصورة البحر، وفي ذلك دلالة رمزية على أن موت أوري ليس موتا متعالياً على الواقع، وإنما كان بمثابة بناء جسر للوافدين الجدد عبر البحر؛ أولئك الذين يشكلون القوام الفعلي للجماعة اليهودية المتخلية.[32]

على وقع تلك الأسطورة القومية، تم تصوير الحرب على أنها مدرسة ومصنع لإنتاج الذكورة، وتم إبراز المثل الأعلى للرجولة بوصفها رمزاً للبعث والإحياء على المستوى الشخصي والقومي، بحيث أصبح الرجل والمحارب وجهين لعملة واحدة، دون أن يفقد أي منهما سمات الشباب؛ إذ إن الموت والشباب متلازمان في تلك الأسطورة: “فالشباب رمز للرجولة والعنفوان والطاقة، والموت ليس موتاً على الإطلاق، بل التضحية والبعث”[33].

في أسطورة الحرب، تم التركيز على الرجال لإظهار لوحة أخلاقية تمثل قيم الشجاعة والصلابة وضبط الغرائز والمشاعر،  والقدرة على حماية النسيج المجتمعي عبر عيش الحياة الرجولية. ضمن هذا السياق، تلعب الماسوشية دوراً مهماً في خلق الجندي القوي، والصلب الذي يستطيع أن يكون ماكينة حرب؛ فيكون الجسد، وفق هذا النموذج، قادراً وحده على أن يقاوم الإغراءات المرتبطة بالنساء والأعداء[34].

استطاع الروائي “موشيه شامير” أن يجعل من شخصيته الأدبية “أوري” نموذجاً ثقافياً مؤثراً للرجل اليافع “الصابرا” الذي يضحي بنفسه ويموت على “هيكله القومي” بشكل تراجيدي ملهم للشباب الصهيوني في فترة النكبة عام 48. الأمر مشابه بالنسبة للنسخة السينمائية للراوية التي أطلقت بعد نكسة 67، إذ إن الحالة البطولية والرجولية، التي مثلها أوري بالفيلم، تلاءمت مع حالة النشوة العسكرية التي سادت أجواء المجتمع الصهيونية في حينه[35].

على مستوى آخر، تجادل إيللا شوحاط أن الرواية والفيلم من بعدها يعكسان حالة ثقافية متجذرة في المجتمع الصهيوني تضع المرأة في مرتبة دون، حتى في أوساط الأشكناز “الصابرا” الذين هم أصلاً متربعون على قمة الهرم الاجتماعي، والسياسي ضمن تراتبية متأصلة بالعلاقة مع الإثنيات الأخرى. في معظم الأفلام الحربية التي تجسد تجارب البطولة، تظهر النساء، حتى اللواتي يلعبن أدواراً رئيسية في حياة الأبطال، في ظلال الحكاية وليس في واجهتها، ولا تحظى بأي وجود مستقل. في علاقة أوري مع حبيبته، بالتوازي مع خوضه غمار المعركة، يظهر وكأن الفيلم يضع الجانب العسكري والتعامل مع المرأة على نفس المستوى[36].
 

الجندي الصهيوني في السينما: من البطل إلى الضحية

يعد فيلم “المظليّون Paratroopers” (لجاد نئمان،1977) نموذجاً جيداً لانهيار الأساطير التقليدية في السينما الصهيونية. يصنف نئمان فيلمه في خانة “السينما العدمية” التي تضع أخلاقيات الموت المقبولة موضع التساؤل، ويعتبره ممهداً للاتجاه العدمي الجديد الذي يركز على موت الشباب قبل أوانهم في الحرب؛ إذ يوجه الفيلم الأنظار نحو الموت العبثي من خلال قصة انتحار مجند تعرض للمضايقات[37].

بطل الفيلم، ويسمان، هو مجند مبتدئ يختار التطوع في وحدة نخبوية داخل الجيش ليس تحقيقاً لرغبته، وإنما إرضاء لأهله ومحاولة منه لموافقة تطلعات وتوقعات المحيط الاجتماعي من حوله، وذلك رغم افتقاده المهارات العقلية والجسدية التي تجعل منه مقاتلاً في موقع مرموق. يظل ويسمان، نتيجة عدم أدائه للمهمات المنوطة به، يتلقى توبيخات وإهانات من قائده في الوحدة، الذي يظهر كشخصية عدوانية عنيفة.

ونتيجة تراكم كل تلك الضغوطات المرتبطة بتطلعات المحيط الاجتماعي وتوقعات مسؤوليه في الجيش التي لم يستطع أن يحققها، يغرق ويسمان في متاهات فكرية ونفسية يبحث من خلالها عن سبيل إثبات رجولته الناقصة وشجاعته المشكوك بأمرها، فيصبح الانتحار خياراً أمامه. يموت ويسمان في ظروف تبدو للمشاهد غامضة يمكن تفسيرها كحادثة أثناء التدريب، انتحار، أو حتى جريمة قتل نفذها قائده.

وبذلك، تكون قصة موته إشارة إلى ضرورة وضع صورة المقاتل الشجاع موضع المساءلة والتمحيص. ليس هذا فحسب، بل إن محاولة مؤسسة الجيش تبرير العنف العسكري باعتباره يخدم المصلحة “الوطنية” تتبدى في هذا الفيلم الذي يزيح الأبصار نحو الإرهاصات التي يتعرض لها الجندي الصهيوني[38]. وبالفعل، أثار الفيلم عند عرضه جدلاً واسعاً حول انتهاكات محددة يتعرض لها الجنود أثناء التدريب العسكري[39].

تُركت نهاية الفيلم مفتوحة وغير محسومة بشأن ملابسات مقتل ويسمان، حيث تم التلميح بانتحاره دونما تأكيد. ترى إيللا شوحاط أن هذا النمط السينمائي ذا النهايات المفتوحة يعتبر جزءاً من بنية سردية غارقة في اللايقينيات، بما لا ينفصل عن انهيار المنظومة القيمية التي كانت سائدة في العقدين الأولين من عمر “الدولة” الصهيونية[40].

يعتبر نئمان فيلمه مؤسساً لموجة سينمائية جديدة “تنهار فيها فكرة التضحية بالنفس في سبيل “الوطن”، والتي هي فكرة محورية في السردية الصهيونية، وتنحل إلى مكوناتها الذاتية من حيث الفكرة والشكل: 1- سقوط زمن الحاضر وتقليصه إلى لحظة واحدة. 2- القطع بين الإنسان وواقعه الكليّ، أي دولة اسرائيل”[41]. في حين يرى “إيرن كبلان” في فيلم “المظليون” تعبيراً عن انزياح في نموذج الجندي الصهيوني من دور البطولة إلى دور الضحية؛ إنها لحظة الانتقال من أسطورة “الميت – الحي” إلى نموذج الجندي الميت فعلاً، وروحاً، وجسدًا[42].

يرى كبلان أن الجيش، حسب ما يظهر في الفيلم، صورة مجازية للمجتمع الصهيوني بكليته؛ فمن خلال احتضان الروحية العسكرية، أصبح المجتمع الصهيوني ببنيته قامعاً وغير متسامح مع من هم مقصرون في الأداء العسكري، تماماً مثل ما كان يفعل القائد العسكري المسؤول عن ويسمان، الذي كان قاسياً وعنيفاً معه دون إبداء سبب واضح. لا يظهر الجندي الصهيوني في هذا الفيلم بصورة الجندي الذي يضحي بحياته من أجل “الوطن”، بل نراه شخصاً متّقداً بالعنف والوحشية.[43]

يقدم كبلان مقاربة متعددة الأبعاد فيما يخص التحولات التي طرأت على نموذج “البطل اليهودي” في السينما “الإسرائيلية”؛ إذ يراها انعكاساً مباشراً لتقلبات المشهد الصهيوني برمته، من حيث الأبعاد الاقتصادية (التحول نحو اقتصاد السوق الحرّ والليبرالي، وتنامي صناعات الـhigh tech) والفكرية (بروز الباحثين النقديين من اليسار الجديد).

ألقت تلك التحولات الاقتصادية الجوهرية بظلالها على بنية المؤسسة العسكرية؛ إذ جرى خصخصة جزء من أقسامها، وتحويل جزء من الخدمات العسكرية إلى مسؤولية شركات خاصة. بالتالي، أصبح هناك حالة مختلفة داخل مؤسسة الجيش انعكست بالضرورة على القيم والمفاهيم والروحية العسكرية.

هناك نسبة لا بأس بها من الإسرائيليين، (لا سيما المجموعات الأشكنازية النخبوية التي شاركت في تأسيس الجيش)، ممن يرون في الجيش مكاناً لتحقيق أقصى قدر من المصالح الفردية أكثر من كونه حيزاً للوفاء بالواجب الاجتماعي[44]، فضلا عن أن تردّي الامتيازات المادية التي يقدمها الجيش أدى إلى تراجع مكانته في نظر أبناء طبقات النخبة[45].

من هنا تحديداً، بدأت تبرز النزعة الفردانية في التعاطي مع موقع الجندي ومكانته داخل المجتمع، ليصبح السؤال عن معنى تضحيته حاضراً بقوة، بما انعكس على المشهد السينمائي في تلك الفترة. يقول نئمان عن فيلمه “المظليّون” أنه “يدحض الفكرة الذائعة عن الموت البطولي من خلال إعادة تقييم دلالتها في المجتمع الصهيوني. وعلى المستوى السينمائي، تستغل الزمن لتستكشف بصورة أفضل لحظة مجابهة الموت الحتمية في الميدان.”[46] وبالرغم من أن تلك الأفلام لم تعالج العواقب الوطنية والقومية الناجمة عن تراجع هيبة المؤسسة العسكرية في نظر بعض النخب في المجتمع الصهيوني، إلا أنها تفكك جزءاً من التمثيل الأيديولوجي التقليدي ليهود الصابرا، وتزيل الغموض حول انعكاسات تلك الأيديولوجيا على الفرد[47].

خاتمة

أجمعت معظم الأدبيات التي تمت مراجعتها على أن نموذج التضحية والرجولة يتجه نحو الأفول، بالتوازي مع ظهور نزعة عدمية لا ترى جدوى في موت الجندي الصهيوني في ساحة المعركة. هذا إلى جانب نزعة قيامية “ديستوبيا” أخذت تسم بعض الإنتاجات الثقافية، ومنها السينمائية.لا يمكننا أن نفسر تلك التوجهات بمعزل عن التحولات الاقتصادية التي عززت من قيم الفردانية، والتحولات السياسية خاصة بعد نكسة عام 67، حيث تعززت سيطرة “إسرائيل” في المنطقة إبان تلك الحرب، وساد شعور لدى المجتمع الصهيوني بثبات وجودهم “نسبياً”. فضلا عن أنها تزامنت مع بروز المابعديات واللايقينيات التي برزت في أورويا، والتي جعلت من الحقيقة مفهوماً سائلاً مائعاً.

كما لعب بروز حركات التحرر القومية والوطنية العربية والفلسطينية وانتصاراتها في عدة مواجهات دوراً في زعزعة الأساطير المؤسسة لصورة الجندي “البطل”. ولا يغيب عن المشهد ظهور حركات هوياتية فرعية في “إسرائيل” أواخر الثمانينيات والتسعينيات تطالب بحقوقها ضمن الخطاب الليبرالي الدولاتي مثل الحركات النسوية، والمثلية الجنسية؛ فقد كان لها الأثر البالغ في إعادة النظر في مفهوم الرجولة المُنتجة في مؤسسة الجيش.

———————————————————
المراجع بالعربية:
1- الجعبة، عبد المعطي. 2011. دراسة استكشافية لبواكير الأفلام الصهيونية: الصورة تقودها الأسطورة. رام الله: مركز مدار
2- المناصرة، عز الدين. 1999. السينما الإسرائيلية في القرن العشرين: قراءة توثيقية. (ط2). بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر
3- كبها، مصطفى. 2002. “التوجهات الاستشراقية في السينما الإسرائيلية”. مجلة قضايا إسرائيلية. العدد7. رام الله: مركز مدار. ص149-153
4- أبو جبل، سليم. 2014. ” أفلام الأيديولوجيا والحرب في السينما الإسرائيلية”. مجلة قضايا إسرائيلية. العدد 53. رام الله: مركز مدار. ص93- 103
5- نئمان، جاد. 1999. “السينما الاسرائيلية: التابوت الفارغ في قبر ما بعد الحداثة”. حسن خضر (مترجم). بيروت: مجلة الكرمل (فصلية ثقافية). العدد59
6- شافيت، آري. 2013. “اللد 1948: المدينة، المجزرة و الشرق الأوسط اليوم”. مجلة قضايا إسرائيلية. العدد52. رام الله: مركز مدار. ص06-80
7- يوري، يورام. 2007. النخبة العسكرية الجديدة في اسرائيل: لماذا يعتبر فهم النخبة العسكرية أمرا مهما. قضايا اسرائيلية. عدد28. رام الله: مركز مدار. ص52
المراجع بالإنجليزية:
8- Miri Talmon and Yaron Peleg (editors). 2011. Israeli Cinema: Identities  in Motion. Austin: University of Texas press.
9- Ben-Ari, Eyal. 1998. Mastering Soldiers: Conflict, Emotions, and the Enemy in an Israeli Military Unit. New York: Berghahn Box
10-Levy, Orna. 2002. Constructing Identities al the margins: Masculinities and citizenship in the Israeli army. The Sociological Qurterly, vol34, no3. Wiley. Pp.357-383
11-Zaccai, Channa. 2012. “Blurring Sexual Binaries: Men, Masculinities, and the Israel Army.” Amsterdam Social Science 4(2): 33-57.
12-Yosef, Raz. 2004. Beyond Flesh: Queer Masculinities and Nationalism in Israeli Society. New Brunswick, NJ: Rutgers University Press
13- Pappe, Ilan. 2014. The Idea Of Israel: A History of Power and Knowledge. London: Verso
14- Naaman, Dorit. 2001. “Orientalism as Alterity in Israeli Cinema”. Cinema Journal, Vol. 40.Texas: University of Texas Press on behalf of the Society for Cinema & MediaStudies. pp. 36-54
15-Shohat, Ella.2010. Israeli cinema: East/ West and the politics of representation. W2. London, New York : I.B.Tauris & Co Ltd.

—————————————————

الهوامش:

[1] Yosef, Raz. 2011. “Homonational Desires: Masculinity, Sexuality, and Trauma in the Cinema of Eytan Fox”. In: Israeli Cinema: Identities  in Motion. Miri Talmon and Yaron Peleg (editors). Austin: University of Texas press. P:181-201
[2] Ibid
[3] Ibid
[4]Ben-Ari, Eyal. 1998. Mastering Soldiers: Conflict, Emotions, and the Enemy in an Israeli Military Unit. New York: Berghahn Box. P:107
[5] Ibid. p: 112
[6] Levy, Orna. 2002. Constructing Identities al the margins: Masculinities and citizenship in the Israeli army. The Sociological Qurterly, vol34, no3. Wiley. Pp.357-383
[7]  إن تعزيز صورة الذكر فائق القوة وصاحب البنية المتينة عمل على استبعاد ، بشكل رسمي وغير رسمي، المثليين والسحاقيات من المجتمع الصهيوني حتى أواخر الثمانينات والتسعينات. في أواخر القرن العشرين. برز في “اسرائيل” نشاطات تنادي بتوسيع مساحة الحقوق المدنية للمثليين والمتحولين جنسياً، وكانت جمعية “أغوداه” رائدة الحركات المطلبية تلك. كما أن هناك حالة خاصة فيما يتعلق بموقع المثليين والسحاقيات داخل مؤسسة الجيش، للاستزادة عن هذا الموضوع، انظر: Zaccai, Channa. 2012. “Blurring Sexual Binaries: Men, Masculinities, and the Israel Army.” Amsterdam Social Science 4(2): 33-57.
[8] Levy, Orna. Ibid
[9] Yosef, Raz. 2004. Beyond Flesh: Queer Masculinities and Nationalism in Israeli Society. New Brunswick, NJ: Rutgers University Press. P26
[10]  هيليل تريستر. 1995. “اسرائيل قبل اسرائيل. السينما الصامتة في الأرض المقدسة. مقتبس لدى: الجعبة، عبد المعطي. 2011. دراسة استكشافية لبواكير الأفلام الصهيونية: الصورة تقودها الأسطورة. رام الله: مركز مدار. ص25
[11]  أبو جبل، سليم. 2014. ” أفلام الأيديولوجيا والحرب في السينما الإسرائيلية”. مجلة قضايا إسرائيلية. العدد 53. رام الله: مركز مدار. ص93- 103
[12]  كبها، مصطفى. 2002. “التوجهات الاستشراقية في السينما الإسرائيلية”. مجلة قضايا إسرائيلية. العدد7. رام الله: مركز مدار. ص149-153
[13]  الجعبة، عبد المعطي. 2011. دراسة استكشافية لبواكير الأفلام الصهيونية: الصورة تقودها الأسطورة. رام الله: مركز مدار. ص29
[14] Israeli Cinema: Identities  in Motion. 2011. Miri Talmon and Yaron Peleg (editors). Austin: University of Texas press. P:12
[15]  الجعبة، عبد المعطي. 2011. دراسة استكشافية لبواكير الأفلام الصهيونية: الصورة تقودها الأسطورة. رام الله: مركز مدار. ص26
[16]  أبو جبل، سليم. مرجع سابق
[17]  نئمان، جاد. 1999. “السينما الاسرائيلية: التابوت الفارغ في قبر ما بعد الحداثة”. حسن خضر (مترجم). بيروت: مجلة الكرمل (فصلية ثقافية). العدد59
[18]  أبو جبل، سليم. مرجع سابق
[19] Pappe, Ilan. 2014. The Idea Of Israel: A History of Power and Knowledge. London: Verso
[20] Naaman, Dorit. 2001. “Orientalism as Alterity in Israeli Cinema”. Cinema Journal, Vol. 40.Texas: University of Texas Press on behalf of the Society for Cinema & MediaStudies. pp. 36-54
[21] Ibid
[22]  المناصرة، عز الدين. 1999. السينما الإسرائيلية في القرن العشرين: قراءة توثيقية. (ط2). بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر. ص 59
[23]  نئمان، جاد. مرجع سابق
[24]  نئمان، مرجع سابق
[25] Peleg, Yaron. 2011. Ecce Homo: The Transfiguration of Israeli Manhood in Israeli Films. Israeli Cinema: Identities  in Motion. 2011. Miri Talmon and Yaron Peleg (editors). Austin: University of Texas press. P:30-43
[26] فيلم “غدا يوم رائع” من إخراج هيلمر ليرسكي، 1946. للمشاهدة: https://www.youtube.com/watch?v=9iXkhML3MHk
شافيت، آري. 2013. “اللد 1948: المدينة، المجزرة و الشرق الأوسط اليوم”. مجلة قضايا إسرائيلية. العدد52. رام الله: مركز مدار. ص06-80 [27]
[28] Horak, Jan-Christopher. “Helmar Lerski in Israel”. In: Israeli Cinema: Identities  in Motion.. Miri Talmon and Yaron Peleg (editors). Austin: University of Texas press.  P:16-22
[29]  نئمان، جاد. مرجع سابق
[30] Yosef, Raz. 2004. Beyond Flesh: Queer Masculinities and Nationalism in Israeli Society. New Brunswick, NJ: Rutgers University Press. P: 61
[31] Zanger Anat. “Beaufort and My Father, My Lord: Traces of the binding Myth and the Mother’s Voice”. P.227
[32] Beyond flesh. In: Israeli Cinema: Identities  in Motion.. Miri Talmon and Yaron Peleg (editors). Austin: University of Texas press. P: 225-240
[33] As George Mosse says. Quotated. Yosef, Raz. 2004. Beyond Flesh: Queer Masculinities and Nationalism in Israeli Society. New Brunswick, NJ: Rutgers University Press P63
[34] Ibid. P: 64
[35] Ibid
[36] Shohat, Ella.2010. Israeli cinema: East/ West and the politics of representation. W2. London, New York : I.B.Tauris & Co Ltd. P: 85
[37]  نئمان، جاد. مرجع سابق
[38] Kaplan, Eran. “From Hero to Victim: The Changing Image of the Soldier on the Israeli Screen”. In: Israeli Cinema: Identities  in Motion.. Miri Talmon and Yaron Peleg (editors). Austin: University of Texas press. P: 59-70
[39]. Shohat, Ella. Ibid. P: 201
[40] Ibid. P 203
[41]  نئمان، جاد. مرجع سابق.
[42] Kaplan, Eran. Ibid
[43] Ibid
[44] Ibid
[45]  يوري، يورام. 2007. النخبة العسكرية الجديدة في اسرائيل: لماذا يعتبر فهم النخبة العسكرية أمرا مهما. قضايا اسرائيلية. عدد28. رام الله: مركز مدار. ص52.
[46]  ئنمان، جاد. مرجع سابق
[47] Shohat, Ella. Ibid. P: 201