بعد مرور 44 عاماً على الجريمة، ما زالت جثّة الراحل يوسف نصر، مؤسس جريدة الفجر، مجهولة المكان؛ هذا ما يُؤكّده الجميع من المُقرّبين للشهيد وعائلته، ولكن يبدو أنّ الحقيقةَ غيرُ ذلك!

  بعد منتصف ليلة الخامس من شباط 1974 الباردةِ العاصفةِ، دخل يوسف نصري نصر، مؤسس جريدة الفجر ورئيس تحريرها البالغ من العمر 35 عاماً، بيتَه في حيِّ وادي الجوز، لتختفي آثارُه إلى يومنا هذا!

تولّت شرطة الاحتلال “التحقيق” في حادثة الاختطاف، ومن ثمّ القتل، كما اعتقلت العشرات للتحقيق في الحادثة، وأفرجت عنهم جميعاً. انتهت القضية بإدانة مُتّهمٍ واحدٍ بتهمة المشاركة في عملية الخطف دون القتل، سيُحكَم بالسجن لمدة 8 سنواتٍ ويُطلق سراحُه مُبكّراً، وتختفي آثاره بعد سفره إلى الأردن.

بعد مرور 44 عاماً على الجريمة، ما زالت جثّة الراحل يوسف نصر مجهولة المكان؛ هذا ما يُؤكّده الجميع، وكلُّ مَن تواصلتُ معهم أثناء كتابة هذه السطور من المُقرّبين للشهيد وعائلته، ولكن يبدو أنّ الحقيقةَ غيرُ ذلك!

قُبلةٌ على باب العامود

قبل حرب 1967 بقليلٍ، عاد يوسُف نصري نصر إلى أرض الوطن بعد أن أنهى دراسته الجامعية في حقل اللغويات في أمريكا، مُتمرِّداً على إرادة عائلته التي عملت جاهدةً لثنْيِه عن العودة، وبعد عوْدته حاولت العائلة أن تُجبره على الرجوع “والاهتمام بمستقبله” في الخارج بواسطة الضغط الماليِّ عليه، إلا أنّه أبى قائلاً: إذا غادر الجميع فمن سيبقى!

تقول أختُه عفاف عجلوني: “كان أوّل ما فعله يوسُف بعد وصولِه إلى القدس تقبيله أرضيةَ باب العامود؛ حامِداً لله شاكراً عودته إلى الوطن. وفي عام 1968، أصبح مُدرِّساً في مدرسة الرشيدية، واعتُقل لفترةٍ قصيرةٍ على خلفية “نشاطٍ معادٍ للدولة”.

في بداية السبعينات، وضمن الحِراك السياسيِّ للجبهة الوطنية الفلسطينية، توجّه يوسُف إلى رجل الأعمال بولص عجلوني؛ زوجُ أختِه عفاف، من أجل تمويل إطلاق صحيفةٍ وطنيةٍ فلسطينيةٍ. كان يحلُمُ أن تدخل كلَّ بيتٍ فلسطينيٍّ في الوطن والشتات. وهكذا، في نيسان 1972، بدأتْ جريدةُ الفجر الأسبوعية بالصُّدور، وكان يوسف نصري نصر صاحب الامتياز ومُحرِّرها الرئيس، والسرُّ الذي كان يعرفُه الجميعُ حينها أنَّ الجريدة تكتب صوت منظمة التحرير الفلسطينية. 

ألقى الشهيد يوسُفُ حجراً في المياه الراكدة للصحافة الفلسطينية التقليدية؛ فجاءت الفجرُ بروحيةٍ نقديةٍ وموقفٍ سياسيٍّ واضحٍ ومُناهِضٍ للاحتلال ومُمارساته، وللنظام الأردني وأزلامه في الضفة وغزة. جاء ذلك في مُناخ بداية السبعينات السياسيِّ؛ حيثُ مشاريع التقاسم الوظيفي وتبعات ما بعد حرب رمضان، وتصفية الوجود الفلسطيني المُسلّحِ في الأردن.

وكما سيتّضحُ لاحقاً؛ سيجد الراحل الشهيد يوسُف نفسَه يسبحُ في بركةٍ مليئةٍ بأسماك القرش، وفي اللحظة الحاسمة سيجدُ ذاته وحيداً في مواجهة مصيرِه المأساويِّ.

ليلة الخامس من شباط العاصفة

في مُنتصفِ ليلة الخامس العاصفة من شباط عام 1974، غادر الشهيد يوسُفُ مكاتب الفجر بصُحبة جميل حمد، مُحرِّر في الفجر، في سيارة الجريدة، تاركاً حمد الراحلَ باب بيته في حيِّ وادي الجوز، وسيكونُ حمد بهذا آخرَ من رأى الشهيدَ قبل اختفائِه.

أثناء عودته إلى بيته، مرَّ الصيدليِّ باسم حنانيا بالقُرب من بيت الشهيد يوسُف، حيث كان ينوي زيارةَ الراحلِ الذي تجمعُه وإيّاهُ صداقةٌ من أجل التوسُّط بينه وبين محمود أبو الزُّلُف، مُحرِّرِ صحيفة القدس ومؤسِّسِها، بعد مقالٍ لاذعٍ نُشِر في الفجر ينتقدُ علاقة صحيفة القدس ببلدية الاحتلال والنظام الأردني. وبينما كان يهمُّ الدخول إلى البيت، رأى سيارةً “مشبوهةً” تُبْطِئُ لتقف قُبالة بيت الراحل. وحسْب إفادته في التحقيق؛ فإنه سارَعَ بالهرب من المكان خائفاً، بسبب معرفته المُسبقة من يوسُف بأنه قد تلقّى تهديداً بالقتل!  

في 30 كانون الثاني، أيّ قبل خمسة أيامٍ من حادثة الاختفاء، نشرت الفجر مقالاً، باسم هيئة التحرير، يُهاجم الشيخ محمد الجعبري رئيسَ بلديةِ الخليل بكونِهِ لا يُمثّل الشعب الفلسطينيَّ، وأنّه رجلُ النظام الأردنيِّ الخائن، بجانب مقالٍ آخرَ حمل اسم فؤاد عبد الجبّار عن مُلابَسات بناء مُستوطنة كريات أربع.

تلقّى الشهيدُ يوسُفُ تهديداً بالقتل، فامتنع عن المبيت في بيته وحيداً، واستأجر على إثْره غرفةً في فندق “السانت جورج” المُقابل لمقرِّ جريدة الفجر، لمدّة أسبوعٍ، إلا أنّه ترك الغرفة بعد ليلتين بعد أن شَعَر، على ما يبدو بالطُّمأنينة، إثْر وساطةٍ “لحلِّ الخلاف” في الرابع من شباط -قبل الحادثة بيومٍ واحدٍ- مع الشيخ الجعبري بحيث يُعقَدُ لقاءٌ بعد أربعة أيامٍ في الخليل!

بعد تغيُّب الراحل يوسُف عن عمله في اليوم التالي، السادس من شباط، تمّ إبلاغُ الشرطة الإسرائيلية والتي ستقومُ لاحقاً بتشكيل فريق تحقيقٍ خاصٍّ برئاسة العميد “روبين منكوفيسكي” ذي الخبرةِ الطويلةِ في التحقيق في الجرائم الخطيرة، والذي سيتولّى التحقيقَ في قضية المُطران كبوتشي في آب من العام ذاته 1974.  

ياسر الكركي “يَحمِل” القضية

ما نعرفُه من معلوماتٍ تفصيليةٍ حول عملية الاختطاف مصدرُها الأساسيُّ إفادة ياسر الكركي المُدان الوحيد في القضية. بدأت الشبُهاتُ تدورُ حول ياسر الكركي، 44 عاماً ويعمل سائقاً على خطِّ بيت لحم -الخليل، بعد حوالي عشرين يوماً من حادثة الاختفاء، بعد قدومه إلى مقرّ الجريدة باحثاً عن مُحرِّر الجريدة جميل حمد حسب ما نقله إلياس نصر الله. 

يقول إلياس نصر الله، والذي عَمِل في جريدة الفجر وعاصَرَ الأحداثَ التي تلتْ الاختطاف، في كتابه “شهاداتٌ على القرن الفلسطيني الأول”: إنّ الصّحافيَّ في جريدة معاريف “إيدي سوفر“، والذي كان دائم السؤال عن مُجريات القضية، عرَضَ المُساعدة على عائلة يوسُف نصر للتواصل مع الكركي ومُحاولة التحقُّق من دوره المُحتَمل في القضية. وبحسب نصر الله؛ جاء اللجوء إلى”سوفر” بسبب شكوكِ العائلةِ المتعلّقةِ بتعامُل الشرطة الاسرائيلية “المُتساهل” مع القضية. 

وبحسب نصر الله أيضاً؛ فإن “سوفر” أقنع ياسر الكركي، بعد إيهامه بأنّه رجلُ أمنٍ “إسرائيليٍّ” بأنه يعلم عن دوره في قضية الاختطاف، ووعَدَه بأن يوفّر له الحماية والمُساءَلة القانونية بالإضافة إلى مكافأةٍ ماليةٍ من العائلة في حال دلّهم على مكان احتجاز يوسف. في المحصِّلة قام الكركي بتقديم اعترافٍ مُفصّلٍ حول عملية الاختطاف.

ما يسرُدُه إلياس نصر الله حول دخول “سوفر” على خطِّ البحث عن الراحل يوسُف نصر، يثيرُ مجموعةً من التساؤلات؛ إذ يقول إنّ الكركي قد ارتبك واعتقد أنّ “سوفر” رجلُ أمنٍ جاء لاعتقاله على خلفية قضية اعتداءٍ جنسيٍّ على طفلٍ. يتناقض هذا القول مع الترتيب الزمني للأحداث؛ فكيفَ يرتبكُ ويعتقِدُ الكركي ذلك وهو، بحسب نصر الله ذاتَه، كان آتياً لمقرِّ صحيفة الفجر باحثاً عن جميل حمد ليلومَه كونَهُ لم يدفع الكفالة المالية للإفراج عنه بعد أن كان مُعتقلاً على ذات القضية! فضلاً عن أنّه من غير المعقول أن ينهار الكركي صاحبُ السّوابق “وخِرّيجُ الحبوس” بهذه السُّرعة، ومن اللقاء الأول، وأن يقدِّمُ اعترافاً تفصيلياً عن دوره في اختطاف الراحل يوسُف نصر، لا سيما أنّه كان -لا بُدّّ- أن يعلم حجم القضية التي شغلت الرأي العام الفلسطينيَّ والعربيَّ وأثارت عاصفةً من ردود الأفعال! وحتّى لو كان دافعُ الكركي هو الحصول على المال كما يقول نصر الله، بصفته مُدمِناً على القِمار، فقد كان بإمكانه أن يكتفي بعرْض خدماته في التحرِّي عن مكان وجود الراحل نصر فقط دون توريط ذاته في القضية!

يُتابع نصر الله في شهادته، أنه في 24 آذار 1974 رتّب “سوفر” لقاءً ضمّ كلّاً من الكركي ومتيا نصار قريب الراحل، في مقهى الخان الواقع في محطّة القطارات على طريق بيت لحم، بهدف الاتفاق معه على المكافأة المالية مقابل المعلومات التي سيُدلي بها حول عملية الاختطاف. وفي هذا اللقاء أعاد الكركي تقديم اعترافٍ تفصيليٍّ عن حادثة الاختطاف:

  قام هو وبمشاركة كلٍّ من فتوح وشحدة وسمّور الجعبري بالدخول إلى بيت الراحل يوسف، قبل عودته في ليلة الخامس من شباط، وأنّه كانت بحوزتهم نسخةٌ من مفاتيح البيت أعطاهم إياها جميل حمد الذي كلّف الكركي بالمَهمّة. وبعد أن كَمَنوا للشهيد، قاموا بتهديده بمُسدّسٍ وسكينٍ فور دخول البيت، واقتادوه عَنوةً إلى سيارةٍ من نوع “فولسفاغن” تابعةٍ لبلدية الخليل. ثمّ توجهوا به إلى منطقة الخان الأحمر، وفي مكانٍ غير بعيد عن الشارع العام، حفروا حفرةً وأطلقوا النار على رأس الراحل يوسُف نصر ودفنُوه فيها.

يختمُ إلياس نصر الله هذه الرواية بالقول إنّه ما كاد الكركي ينتهي من اعترافه حتّى داهمت الشرطة المقهى بشكلٍ مُفاجئٍ واعتقلت الجميع!

تتناقض رواية إلياس نصر الله حول مداهمة الشرطة المفاجئة لمكان اللقاء مع ما قالته عفاف عجلوني، في مقابلةٍ مع صحيفة “يديعوت أحرنوت” في العام 1988 حول حادثة الاختطاف، بأن الاجتماع مع الكركي كان مُنسّقاً من قبل الصحافي “إيدي سوفر” مع الشرطة، وأضافت بأنّ ثمّة أجهزة تسجيل كانت قد ثُبِّتَت سلفاً في المكان لتسجيل اعترافات الكركي، وأنها قد ثارت ثائرتُها لاحقاً عندما أخبرتها الشرطة بأنّ الأجهزة قد تعطلت، وأنّ الصوت المُسجّلَ غيرُ واضحٍ وبالتالي لا يمكن استخدامه كدليلٍ ضدّه في المحكمة. 

إيدي سوفر؟

تطرحُ العلاقةُ ما بين الراحل يوسُف نصر والصحافي في جريدة “معاريف” “سوفر“، ودور الأخير المركزيِّ في الوصول إلى الكركي وتحميله القضية، العديد من التساؤلات؛ فلم يُعرف عن “سوفر” أنه كان ذا “خلفيةٍ يساريةٍ” ولم يُعرَف أنّه كان “مُناصِراً” للحق الفلسطيني ولو بالحدِّ الأدنى لتُشكّل أرضيةً لاهتمامه. فقد كان يعمل في السفارة الأمريكية في بغداد قبل هجرته مُستوطِناً إلى فلسطين. وقبل انتقاله للصحافة كان يعملُ في القسم العربي في الإذاعة والتلفزيون “الإسرائيلي”. وفي العام 1977، ترشّح لانتخابات “الكنيست” ضمن حركة التجديد الصّهيونيِّ الاجتماعيِّ، والتي تحملُ أيديولوجيةً استيطانيةً واضحةً. واختفت آثارُه بعد اعتقال ياسر الكركي. وبحسب الصحافة الصهيونية فإنّ أجهزة الأمن الصهيونية نصحتْهُ بمغادرة فلسطين لمُدّةٍ قصيرةٍ بعد القضية، إلا أنه عاد وشارك في تأسيس شركة “استوديوهات العاصمة” للإنتاج التلفزيوني في بداية الثمانينات.

لعلّ الخيط الوحيد لفهم هذه العلاقة أنّها جاءت عن طريق سُهير شريف هاني، خطيبة الراحل يوسُف نصر، والتي كانت تعمل في القسم العربيِّ في الإذاعة والتلفزيون “الإسرائيلي” قبل أن تُعتَقل في عام 1973، وتمضي حُكماً لمدّة 4 سنوات بتُهمة التجسُّس لصالح المُخابرات السورية. واعتُقل الراحل يوسُف على خلفية القضية ذاتها، وتمّ التحقيق معه ليُطلق سراحُه بعد مدّةٍ قصيرةٍ.    

إفادات متضاربة

بعد سلسلةٍ من الإفادات “المتضاربة”، سيستقرُّ الكركي على القول بأنُه شارك فقط في عملية الاختطاف، وأنّه تمّ نقلُ الراحل يوسُف إلى الخليل وأنّه لا يعلم شيئاً عن مصيره. وبهذا، أُدين الكركي بالاستناد إلى إفادته الأخيرة بتُهمة الخطف، وحُكم عليه بالسجن لستِّ سنواتٍ، بالإضافة إلى سنتين إضافيتين بسبب حُكمٍ سابقٍ بوقف التنفيذ. أمّا باقي المتهمين في القضية فأُطلِق سراحُهم “لعدم كفاية الأدلة”.

من المنطقيِّ الاستنتاجُ بأنّ ما كانت تسعى إليه أجهزة الأمن الصهيونية منذُ بداية ظهور الكركي على مسرح الأحداث هو إغلاقُ الملفِّ بتحميلِه القضية والتخلُّص منه أو تسهيل عملية التخلُّص منه!

ويبدو أنّ المحاولة الأولى للتخلُّص من الكركي كانت السَّجْن ووضعَه في غُرف السجناء الأمنيين، يُورِدُ هشام عبد الرازق في روايته التسجيلية، فرسان الحرية، حادثة اللقاء به في سجن “كفار يونا” في غرفة السجناء الأمنيين:

أنا ياسر من سُكّان القدس وخليليّ الأصل، مُتّهمٌ بقتل يوسُف نصر رئيس تحرير صحيفة الفجر المقدسية“. علت الدهشة وجوه كلّ الحاضرين، وبدأوا ينظرون كلٌ إلى الآخر. امتَقَع الشاب، وبدت على وجهه علاماتُ الخوف، فاستطرد: “لا.. لا.. أنا لستُ قاتله!! مالي أراكم مستغربين ؟؟ إنّني لم أقتله، ولكن حتّى لو كان الأمر كذلك، فلا تعتقِدوا بأنّ هذا الرجل فدائيٌّ مثلُكم“.

صرخ رياض: “سكّر هالموضوع بدناش نسمعه“، وأكمل رياض بحِدَّةٍ معروفةٍ لديه حين يتوتّر، مُلوِّحاً بيديه في وجه الشاب: ” لكن بدي أعرف إيش اللي جابك عندنا؟” فوجِئ الرجل بهذا الاستقبال، فأوضَح: “أنا على استعدادٍ أن أطلبَ الآن أن يُخرِجوني إلى غُرَف المدنيين“. كان يتكلّم كمن وقع في مصْيدةٍ. فتصدّيتُ: “لا يا أخي .. لا داعي، بإمكانك البقاء هنا“. استرق ياسر النظر إليّ بخُبثٍ وكأنّه يُريدُ أن يعرف ما إذا كنتُ جادّاّ في كلامي أم لا.

– لكن ماذا تعني بقولك أنك لم تقتله؟
– أعني أنهم قتلوه بعد أن اتفقوا معي على أن أعترف بأني القاتل، لأكون كبش فداءٍ وتُغلَق القضية.
– أنت تقول اتفقوا معك، وسلّموك في نفس الوقت!
– نعم، وأعتقد أنهم نسقوا الأمر مع دوائر الأمن الإسرائيلية.

في آذار 1976، وبعد عامين من دخول الكركي إلى السجن، قدّمت عائلة الراحل يوسُف نصر التماساً إلى “محكمة العدل العليا” بواسطة المحامية “فلتسيا لانغر” لإعادة استجوابه، وتم ّاستجوابُه بالفعل بحضورِها، ولكن دون الخروج بأيِّ جديدٍ حول مكان الجثة أو حيثيّات عملية الاختطاف.

أُطلق سراح الكركي قبل انتهاء مدة محكوميته التي أمضى منها ثُلُثَها، وسافر إلى عمّان لتختفي آثارُه!

عمدت الشرطة الصهيونية إلى خلق حالةٍ من الغموض “والصيد في الماء العكر” حول حادثة الاختطاف من خلال العديد من التسريبات للصحافة الصهيونية، والتي أبرَزَت بدوْرِها أنّ الراحل كان في أيّامه الأخيرة يعيشُ طفرةً ماليةً مكّنته من شراء سيارةٍ جديدةٍ من نوع “سوبارو”، كما أُبرِزَت هُويّته المسيحية وأنّه أثار معركةً مع القيادات التقليدية الإسلامية مُمثّلةً في الشيخ الجعبري، وصولاً إلى الادّعاء بأن مقتله جاء انتقاماً لدورِه في اعتقال خطيبته سهير هاني بتُهمة التجسُّسِ لصالح المخابرات السورية قُبيل حرب رمضان 1973.

وفي ذات السياق “التطيّيفي” للقضية، نشرت الصحافة العبرية بأنّ سهير هاني، خطيبة الراحل المُسلمة، كانت ستقوم بتغيير دينِها إلى المسيحية بحضور رجل دينٍ مسيحيٍّ في سجن الرملة، حيث كانت تقضي مُدّة محكوميّتها، لكيْ تتمكّن من الزواج من الشهيد يوسف نصر. 
    
في عام 1988، اختفى ملفُّ قضية ياسر الكركي من أرشيف المحكمة اللوائية في القدس، إذ قالت المحامية “لانغر” إنّ ملفّه وما يحويه من وثائقَ قد اختفى من مكتبها.

الشهيدُ يدلُّ على الشهيد

في مُنتصفِ شهر تمّوز الحالي، وأثناء تحضيري لكتابة مقالٍ حول احتجاز جثامين الشهداء، طالعتُ تحقيقاً استقصائياً للصحافية “سارة دار” حول مقابر الأرقام التي تُدفَن فيها جثامين الشهداء الفلسطينيين، كان قد نُشِر في جريدة “معاريف” الصهيونية في العام 2014. وفي مَعرِض حديثها عن فوضى عملية الدفن، وما تؤدّي إليه من حالاتٍ لا تتطابق فيها هُويّة الجُثّة الموجودة في “القبر” مع هُويّة صاحبها المُدوَّنة في السّجلات، تقول:

  “وحالةٌ أخرى مثيرةٌ للاهتمام هي حالة جو نصر (يوسُف نصر)، صاحبِ جريدة الفجر ومُحرِّرِها الرئيس، والذي تورّط في صراعٍ مع الشيخ الجعبري، رئيس بلدية الخليل”. وتضيفُ أنّ “إسرائيل” كانت على اطّلاعٍ على ما يدور في الجريدة من خلال مُخبرٍ محلّيٍّ كان يرفعُ تقاريرَ عن كلِّ ما يجري في الجريدة”. وتختِمُ بالقول: “في شباط من العام 1974 اختفى نصر من مكتبه، وبعد تسعِ سنوات اكتُشفت جُثّته في “مقبرة ضحايا العدو” في غور الأردن.

فاجأتني هذه المعلومة التي أسمعُ بها لأول مرة، فهي تُناقِضُ ما يعرفه الجميع بأنّ جثة الشهيد يوسف نصر لا تزال مفقودةً حتى يومنا هذا. ومن خلال الاتصال بعائلة الراحل وغيرِ واحدٍ ممّن عملوا معه، أكدّ الجميع أنّ الجثة مفقودةٌ حتى يومنا هذا. وبعد التواصل مع الصحافية “دار” لسؤالها عن مصدرِ ما أوردته في تقريرها، أبدت تفاجُؤَها عند علمها بأنّ أحداً لا يعلم عن قضية وجود جثة يوسف نصر في مقبرة الأرقام، وأردفت قائلةً، دون أن يخفى ارتباكُها، إنّها حصلت عليها من أرشيف “صحيفة معاريف”.

بالنظر إلى طبيعة كتابات الصحافية “دار” الجادّة، وخاصّةً في الصحافة الاستقصائية، وبالنظر إلى أن نشر المعلومة ليس من مصلحة الأجهزة الأمنية الصهيونية؛ يمكننا إلى حدٍّ ما الوثوق بصحّة المعلومة، والافتراض بأنّ خللاً ما أدّى إلى كشفها. تؤكّدُ هذه المعلومة المسؤولية الكاملة للاحتلال الصهيوني عن اختطاف ومقتل الراحل الشهيد يوسُف نصر، ويبقى السؤال: هل اغتالت أجهزة الأمن الإسرائيلية يوسُف نصر بمساعدة عملائها، بعد أن وجدت الظروف ملائمةً جداً للتخلص منه في ظلِّ العِداءات غير القليلة التي خلقتها له كتاباته؟ أمّ أنّها تدخلت لاحقاً للتغطية على الجُناة؟

عشاءٌ فاخرٌ في فندق النوتردام

ثمّة العديد من الحيثيّاتِ الغامضة المُتعلّقة باغتيال الشهيد وإخفاء جُثّته، ولكنّ الواضح بأنّه تُرِك لمواجهة مصيرِه المأساويِّ المُتوقّعِ وحيداً ودون حمايةٍ، ويبدو أنّ غيابه عن الساحة الإعلامية الفلسطينية وعن جريدة الفجر تحديداً كان أمراً يُمكن الاستفادة منه عند أطرافٍ كثيرةٍ.

أُحيلت رئاسة تحرير صحيفة الفجر، بعد “اختفاء” يوسُف نصر، إلى مُحرِّرٍ يدعو للترشُّح والتصويت في انتخابات “بلدية القدس الإسرائيلية”، ويبدو أنّ ذلك جاء ردّاً لجميل “تيدي كوليك” الذي عرَضَ مكافأةً ماليةً من البلدية لمن يُدلي بمعلوماتٍ حول مصير الراحل يوسُف نصر.

وسينتقل جميل حمد للعمل مُحرِّراً في جريدة النهار، صحيفةُ النظامِ الأردنيِّ الذي لطالما هاجمه مِن على صفحات الفجر، وستُغلق كلّ جرائد القدس، وتبقى صحيفة “القدس” السُّلطةُ الرابعةُ للسُّلطات الثلاثة؛ الأردن والسلطة الفلسطينية “وإسرائيل”.

وأنا أبحثُ هنا وهناك عن معلوماتٍ حول الراحل يوسُف نصر، سألتُ أحد العاملين السابقين في صحيفة الفجر إذا ما كان يوجدُ كتابٌ حولَه يروي سيرتَهُ ويجمَعُ مقالاته، فقال: “لا، لا يوجد، فوجودُهُ كان مروراً عابراً قصيراً في الصحافة الفلسطينية، مش زي أبو الزلف“!

في مكالمةٍ هاتفيةٍ بعد عامٍ من “اختفائِه”، وعدَ ياسر عرفات عائلة الراحل يوسف نصر بالوصول إلى الجُناة، ووعد أيضاً أن يكونَ الخامس من شباط من كلِّ عامٍ يوماً وطنياً لذكرى الشهيد. وفي عام 1993، أغلق عرفات جريدة الفجر بعد أن أصبحت مرحلة “ما بعد العِداء لإسرائيل” لا تُطيق أسماءَ من قُبيل الفجر والعودة، وإنما تطلّبت أسماءَ أكثرَ حياديةً من مثل الأيام والحياة الجديدة. 

  وستُختَصرُ إحياءُ ذكرى الشهيد يوسُف نصر في عشاءٍ فاخرٍ في فندق النوتردام…