وترتبط أهم نقاط التضارب بين قطر وباقي دول الخليج اليوم ارتباطاً أساسياً بمحاولة الأولى إيجاد طرق نوعية ومستحدثة لدفع الجزية في ظل هيمنة أمريكية ومظلة عسكرية مصاحبة لها في المنطقة. إنّ الإشكال مع قطر ليس على مواقفها بلّ على أهمية تلك المواقف في التجييش السياسي القائم حالياً.

مقدمة

إن ألقينا نظرة، ولو سطحية، على قطر ثمّة القليل مما يدل على أنّ شبه الجزيرة التي لا تتعدى مساحتها 11,500 كيلو متر مربع، بتعداد سكاني لا يتجاوز المليونين وما يقارب الـ 400 ألف مواطن، يمكنها أن تلعب دوراً فاعلاً ومنافساً لقوى سياسية إقليمية كبرى.

وفي ذات الإطار، فإن تعاون قوى إقليمية عربية كبرى (مصر، السعودية، الإمارات، إلخ) في مجابهة قطر واحتواء نفوذها السياسي يدلّ على أنّ ما يؤرق هذه الدول ليس مجرد طبيعة الدور الذي تلعبه قطر، أيّ تقرّبها من الإخوان المسلمين أو علاقتها مع إيران واستضافة حركة حماس، بل أيضاً توجسها من الأدوات التي تمتلكها قطر في صياغة وتشكيل قوة ناعمة ذات أهمية في المنطقة.

أدّت مجموعة من العوامل لتعاظم الدور القطري في الإقليم، ارتكزت أساساً على الثروة المادية التي وفرها الغاز الطبيعي في المنطقة. مستغلةً الوفرة المادية، أسست قطر سياسةً خارجيةً مكّنتها من دخول فئة الوزن الثقيل في المنطقة بالرغم من صغرها وهامشية قوتها العسكرية، ويعدّ هذا الدور في جوهره محاولةً لتقديم أوراق اعتماد مصحوبة ببنية تحتية سياسية وفكرية توظَّف في خدمة القوى العظمى خصوصاً أمريكا.

لطالما أرّقت قطر ثلاث قضايا رئيسية: أولاً، وأهمها، قضية أمن نظام آل ثاني واستمرارية حكم الأمير تميم بن حمد ومن قبله أبيه حمد بن خليفة، خاصةً وأن قطر عانت من تدخلات قوى إقليمية (البحرين والسعودية وعُمان تاريخياً) في الصراعات العائلية الداخلية. ثانياً، ولا تقلّ أهمية عن سابقتها، قضية الحفاظ على استقلالية قطر السيادية، وسط محاولات السعودية المختلفة لاحتوائها وضمّها، ومحاولات الإمارات العربية المتحدة في ظل أواخر الستينيات لضمّها أيضاً. وثالثاً، قضية حقل الغاز، فالحقل الأكبر في العالم، حقل غاز الشمال، هو حقل مشترك مع إيران ويعدّ من أهم العوامل التي تمكّن قطر من لعب دور سياسي فاعل لما يوفره هذا الحقل من قوّة مادية مرتبطة بالعوائد المادية له. يُعبّر عن ذلك (هيو ايكن)، الكاتب والمحلل السياسي الأمريكي، بقوله إنّ قطر دولة “محاصرة بين اثنتين من كبرى القوى في المنطقة: السعودية التي تحاذيها براً، وإيران التي تُشارك قطر قوتها الاقتصادية من خلال أكبر حقل غاز في العالم”.

صاحبت هذه القضايا قطر منذ بداية صعودها ككيان سياسي شبه مستقل في الخليج العربي، لتّتسم سياستها الخارجية بمرونة صاحبتها منذ بداية تنامي النفوذ البريطاني في المنطقة. كان اهتمام الاستعمار البريطاني حينها في منطقة الخليج مرتكزاً على حماية الطرق الملاحية مع الهند وخلق مناطق آمنة من القرصنة في المحيط الهندي وصولاً لبحر العرب والخليج العربي. في تلك الحقبة، انشغل الكثير من أعيان العائلات الحاكمة والقبائل المتنفذة في الخليج العربي بتوطيد العلاقات مع المملكة المتحدة واللعب على التناقضات بين العثمانيين والاستعمار البريطاني في محاولة لخلق مساحات من النفوذ في مواجهة التحدي الداخلي من عائلات أخرى. يوضح (الين فورمهورز) في كتابه عن تاريخ قطر الحديث: “لعب شيوخ آل ثاني المصالح البريطانية والعثمانية ضدّ بعضهم البعض لصالح قوة العائلة ومكانتها المحلية في قطر. فيعدّ دفع الجزية لدول كبرى وعظمى جزءاً من تقليد تاريخي طويل في الخليج”.

وترتبط أهم نقاط التضارب بين قطر وباقي دول الخليج اليوم ارتباطاً أساسياً بمحاولة الأولى إيجاد طرق نوعية ومستحدثة لدفع الجزية في ظلّ هيمنة أمريكية ومظلة عسكرية مصاحبة لها في المنطقة. إنّ الإشكال مع قطر ليس على مواقفها بل على أهمية تلك المواقف في التجييش السياسي القائم حالياً. فهي حرب تشنها باقي دول الخليج وبعض دول المنطقة على أدوات الدور القطري، وصراع يتعدى كون قطر حاضنة لحركة الإخوان المسلمين أو مستضيفة لحركة حماس، هي حرب على منابع نفوذ سياسي تمكنت قطر من مراكمته في العقدين الأخيرين، خلقت فيهما أدوات لسياسة خارجية فاعلة مكّنتها من رفع قيمتها السياسية لدى دول عظمى وأهّلتها لتكون بديلاً خليجياً واضحاً للقيادة السعودية.

أدوات السياسة الخارجية القطرية

ارتكزت أدوات السياسة الخارجية لقطر على ثلاثة أبعاد مترابطة: البعد الأول: توفير قواعد عسكرية مثل قاعدة (العُديد) وهي الأهم في المنطقة للقوة الجوية الأمريكية، إضافة إلى توطيد العلاقات مع قوى إقليمية متعددة أهمها تركيا والكيان الصهيوني وإيران. البعد الثاني: خلق قوة ناعمة قطرية من خلال عناصر متعددة تتوافر أسسها في الضخ المالي الحثيث لمشاريع ذات طابع فكري وإعلامي في عملية شراء الذمم وبناء بنية تحتية فكرية وسياسية مؤثرة في تشكيل الرأي العام العربي وتعظيم مكانة العلامة السياسية (Brand): قطر. أما البعد الثالث فيرتبط أساساً بقدرة قطر على تشكيل حاضنة ما، في محاولة لجعل الدوحة قِبلة (واشنطن أو بروكسل العرب) للفرقاء السياسيين من الساحل الشرقي لأفريقيا وصولاً للعراق وسوريا وفلسطين ولبنان.

كانت بداية المحاولة القطرية الحثيثة في خلق نفوذ سياسي باستثمار إعلامي تمثل في صعود قناة عربية تُعنى بهموم العالم العربي وتحافظ على هامش من الاستقلالية في محاولة لخلق ثقة مع جمهور عريض وواسع عربياً. كانت الجزيرة، وما زالت، أداة قوة ناعمة للسياسة الخارجية القطرية، التي استغلت النقص في المعلومات الحرة وغير المقيدة في العالم العربي، من أجل نشر نفوذها ومكانتها في المنطقة.

وكانت القراءة القطرية للحالة العربية الإعلامية في أواسط التسعينيات دقيقة مما مكّنها من أن تكون سبّاقة في خلق منابر إعلامية مرتبطة بثورة المعلومات. فكما خلص تقرير(الكومنولث) (Commonwealth) إلى أنّه “بالنسبة للدول الصغيرة … خلقت ثورة الاتصالات إمكانية تقليص الحواجز التقليدية وفتحت إمكانيات جديدة” في العمل السياسي وبناء قواعد النفوذ.

وبالرغم من فقدان الجزيرة قوّتها لأسباب متعددة منها ما يتصل بدورها في الاصطفاف السياسي الذي صاحب الثورات العربية في المنطقة، وما يتصل بانتشار قنوات مماثلة بتمويل دول وأحزاب وقوى اجتماعية وسياسية متعددة، إلّا أن قطر عملت على تنويع مشاريعها الإعلامية من خلال دعم مواقع إلكترونية، ومشاريع إعلامية مرتبطة بانتشار وسائل التواصل الاجتماعي (AJ+) وغيرها، جميعها شكلت رافعة لاستمرار النفوذ القطري في الحقل الإعلامي. بالإضافة إلى الدور الجليّ والواضح للإعلام القطري في إدخال وجوه صهيونية إلى البيت العربي تحت شعار “الرأي والرأي الآخر” في عملية تطبيع لأوجه الكيان ونقاط حديثه، في حرب نفسية يشنها الأخير على المجتمعات العربية.

وبدأت قطر في بذل جهود الوساطة كجزء من سياستها الخارجية إثر انتهاء الانتفاضة الفلسطينية الثانية. تضمنت جهود الوساطة مجموعة من الصراعات مع اتّساع واسع النطاق، من السودان إلى الفوضى الطائفية اللبنانية، إلى التوترات الدينية والقبلية اليمنية، إلى جيبوتي والعودة إلى فلسطين مع انقسام سياسي أشعل حرباً مصغرة في قطاع غزة الصغير. وعرضت قطر عاصمتها كوجهة للعديد من المنتديات والمنظمات متعددة الأطراف، بما في ذلك منظمة التجارة العالمية، والمؤتمر الإسلامي، والمنتدى الاقتصادي العالمي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وغيرها من المنظمات الأخرى. ونجحت قطر بشكل ملحوظ في دعم الصفقات السياسية والتوصل لها، فضلاً عن بناء سمعة الوسيط في المنطقة.

تقليدياً، يعدّ دور الوساطة من صلاحيات القوى الكبرى مثل المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية وتركيا أو مصر. ولكنّ قطر تحدّت بشكل فج احتكار الوساطة لهذه الدول وأصبحت وجهة رئيسية لجميع الجهات الفاعلة السياسية المهتمة بـ “حلّ النزاعات”. فاستطاعت الدوحة أن تجمع بين الفرقاء في حيز مكاني أو جغرافي واحد. على سبيل المثال، وقعت فيلا خالد مشعل التابع لحركة حماس بالقرب من مكتب التمثيل الصهيوني في الدوحة حتى تم إغلاق المكتب، بينما يقع مكتب تمثيل طالبان بالقرب من أكبر قاعدة أمريكية في المنطقة.

إنّ هدف قطر للعب دور الوساطة في النزاعات الإقليمية والدولية الكبرى يستند في المقام الأول على الهيبة التي تستمدها من إجراء هكذا نوع من دبلوماسية رفيعة المستوى. في حالة قطر، إنّ الوساطة جزء من استراتيجية أوسع تحاول فيها الدولة الصغيرة التغلب على العقبات الرئيسية التي تقف أمامها كلاعب صغير في الشرق الأوسط وبناء نفوذ أكبر مع اللاعبين الإقليميين وصولاً للقوى العظمى.

يكمن الجانب الآخر من استراتيجية قطر تلك في محاولة تحويل الدوحة إلى العاصمة السياسية للشرق الأوسط. هذا في الواقع يتجاوز مجرد خلق مساحات لوساطة في الصراعات القائمة في المنطقة إلى سياسة نشطة تفتح قطر فيها أبوابها للمفكرين والمثقفين والفلاسفة من جميع الأشكال والمشارب، من عضو الكنيست الصهيوني السابق عزمي بشارة إلى يوسف القرضاوي. إنّ وضع قطر كمنتدى لهذه الفئة الفكرية لا يخرج تماماً من إيمان بالمفاهيم الليبرالية المثالية للحوار، ولكن من استيعاب قطر لأهمية الجدالات الفكرية في تحديد معالم البرامج السياسية لدى تيارات ثقافية وسياسية متنوعة. أي من استيعاب قطر أنّ أفضل طريقة للتأثير على التيارات السياسية والثقافية الرئيسية التي تخطّ مستقبل المنطقة هي أن تكون قطر المنبر الذي تناقش فيه هذه الأفكار وتختلط، وكذلك يتم تحويل الطبقة المثقفة إلى إحدى أدوات هذه السياسة الخارجية. وهنا يجب التفريق بين أمرين، البراغماتية التي تتسم بها أحيانا حركات سياسية تحاول خلق مساحات من العمل السياسي من خلال التشابك مع قوى سياسية إقليمية، ومن مسؤولية المثقف بعدم الرضوخ والتماهي مع سياسات الدول، الفرق ما بين مثقف السلطة والمثقف العضوي المشتبك مع قضايا المجتمع.

إن جهود السياسة الخارجية القطرية هي جزء من استراتيجيتها الصغيرة للبقاء وتعاظم نفوذها وقدرتها على تقديم الخدمات لقوى سياسية متعددة أهمها الولايات المتحدة الأمريكية. فهي تستخدم ذراع الدعاية المتمثل بكوكبة من الأجهزة الإعلامية وقدراتها الاقتصادية التمويلية، وتأثيرها على الحقل الثقافي والفكري خدمةً لدور إقليمي سياسي متعاظم. جميعها أدوات تندرج تحت سقف دولة صغيرة ذات قوة عسكرية هامشية، تعتمد في نجاتها على مظلة عسكرية إمبريالية تتحدى عوامل ضعفها البنيوي من خلال المال والبروباغندا وشراء الذمم أساساً.

الأزمة الحالية

تُوّجت الخلافات طويلة الأمد بين دول الخليج مؤخراً بالإعلان عن مقاطعة سياسية واقتصادية لقطر. تتجذر الأزمة الحالية في مجالات متعددة تتعدى المواقف السياسية المتعلقة بإيران وتتعلق بدرجة التنافس الاستراتيجي (طبيعة وشكل “الجزية” للدول العظمى) ما بين قطر من جهة، والسعودية والإمارات من جهة أخرى. إنّ الإجراءات التي اتخذتها الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وغيرها هي جزء من جهد منسق لدفع قطر للتوافق مع الإجماع الذي تقوده السعودية اتجاه الإخوان المسلمين وإيران، إضافة إلى إخضاع أدوات السياسة الخارجية القطرية، في محاولة لتقويض تلك الأدوات وتركيع الدوحة بحيث لا تلعب أدواراً سياسيةً أكبر من وزنها.

تقاتل قطر اليوم على هامش قوّة ناعمة خلقتها على مرّ أكثر من عشرين عاماً والمتّصلة أساساً بالأذرع الإعلامية والثقافية والفكرية التي تموّلها وترفدها من الجزيرة إلى منابر قطرية محلية في دول عربية متعددة، علاوة على التحالفات التي صاغتها على إثر الربيع العربي وتشابكها مع حركة الإخوان المسلمين.

إنّ الصراع في جوهره هو صراع على الدور الذي تلعبه قطر والأدوات التي توّظفها في لعب أدوار سياسية في المنطقة. وليست كما يدعي البعض حرباً على “مواقف” سياسية محددة. فموقف الكويت وعُمان من إيران لا يختلف بجوهره عن الموقف القطري، ولا يقتصر هذا الصراع على امتعاض السعودية من الدعم الذي توفره قطر للإخوان في مصر أو حماس في فلسطين. فقد استطاعت قطر أن تخلق دوراً لها من خلال ابتكار أدوات ساهمت في وضعها على الخارطة السياسية ليصبح دورها منافساً جادّاً للدور السعودي في الخليج.

ما يتضح هنا أنّ هذا الصراع يوازي صراعاً آخر داخل أروقة صنع القرار الأمريكي بين أقطاب وأيديولوجيات متعددة، بين المحافظين الجدد واللوبي الصهيوني من جهة، والليبرالية العالمية التي تمثلها سياسات أوباما من جهة أخرى. فبينما أراد أوباما أن يخطّ مساراً سياسياً يقبل ويحتوي حركات معارضة إصلاحية لا تتحدى أو تنقلب على الخطوط الحمراء العامة لواشنطن في المنطقة (مثل الإخوان المسلمين)، يحاول ترامب إرساء سياسة خارجية قوامها الدعم غير المشروط للأنظمة التابعة من مصر إلى السعودية وصولاً لقطر.

ارتكزت الاستراتيجية الأوسع للولايات المتحدة على المحاولة من الحدّ من التدخلات المباشرة وإيجاد ميزان قوى ناضج في المنطقة تستطيع من خلاله فرض هيمنتها دون تحدٍ واضح المعالم من أي قوة إقليمية أو عالمية، وما نشهده حالياً هو امتداد لهذه الاستراتيجية الأوسع تحت إدارة ترامب، ولكن بطرق مختلفة عما اتبعته إدارة أوباما. تلك الفروقات الهامشية ما بين سياسة أوباما وسياسة ترامب من جهة والفروقات بين الدور القطري وبين الدور السعودي هي التي أدت إلى تصاعد الأزمة اليوم، وليست حفنة من التغريدات المنسوبة للأمير تميم بن حمد.