كما كان الحال في كلّ الحالات الاستعمارية، لم تقتصر عملياتُ القمع على الأحياء من أهل البلاد، وإنّما امتدت لتبطِش “بالأجساد الميتة”، وخاصّةً جثامين المُقاومين، إذ مارست الجيوش الاستعمارية عبر التاريخ تمثيلاً منظَّماً بأجساد المُقاتلين، بتشويهها وبتْر أجزاءٍ منها وحرْقِها، وتحديداً جثامين الشهداء الذين آلموها؛ أو كما يُطلَقُ عليهم في لغة العدو القانونية الحالية “مُنفّذو العمليات النوعية”.

وبهذا، فإنّ كلَّ  إجراءات حجز الجثامين ودفنِها في مقابر الأرقام ليست إلّا طريقةً قانونيةً ليبراليةً ديمقراطيةً حديثةً للتمثيل بالجُثث عند العدوّ الصهيوني، الذي يدّعي الديمقراطية وخضوع مُمارسته للقانون. وهذا ما يعرفه كلُّ من عاين جثامين الشهداء المُحتجزة، وشاهد وأحسَّ التشوهات التي أحدثها حجْزُ الجثامين عليها.

هذا التعريف “حجز الجثامين”، بكونه تمثيلاً بالجثث، لا يندرجُ في إطار ما يُسمّى “فضح إسرائيل وتعرية مُمارستها”؛ وإنّما هو الوعي بجوهر المُمارسة الصهيونية المُتأتّي من التحرُّرِ من شبكةِ ما تنسُجُه “إسرائيل” من خطاباتٍ قانونيةٍ وسياسيةٍ وأمنيةٍ حول الجثامين لتُعَقْلِن هذا الفعل الهمجيَّ اللاعقلانيَّ.

(1)

الانتقام من المقاوم بالتمثيل بجثته عبر احتجازها لفترةٍ تتغيّر خلالها طبيعتَها، إنّما يعودُ إلى سببٍ نفسيٍّ جوهرُه الشعورُ الصهيونيُّ بالعجز، حين يتعطّل عمل الأجهزة العقابية (المخابرات والجيش ومصلحة السجون) إزاء المقاوم لحظة استشهاده. وفي الوقت الذي لا يتبقّى فيه من المقاوم إلا جثّتُه، تُحوَّل “إسرائيل” معهد الطب العدلي في أبو كبير، والحاخامية العسكرية إلى أجهزةٍ عقابيةٍ تُمارِس العقاب على الجُثّة. وبذلك، تمُدُّ سيادتها على الجسد الفلسطيني إلى مرحلة ما بعد الموت. وكأنّ “إسرائيل” من خلال هذه المُمارسة العِقابية تُفعّل عقيدتها الأمنية التي تقوم على “إغلاق الدائرة”؛ انطلاقاً من أنّ لا أحدَ يمسُّ بأمن “إسرائيل” ينجو من العقاب، حتى الموتى.

(2)

ورثت “إسرائيل” مُمارسات الاستعمار البريطاني في بلادنا فلسطين وطوّرتها في ما يتعلّق بالتعامل مع جثامين الشهداء؛ إذ مارست القوات البريطانية التمثيل بالجُثّة الفلسطينية، وهذا ما أشار إليه العديد من مؤرِّخي “الفترة الانتدابية”. ومن هذه الممارسات تقليدُ حرق جُثث المقاتلين الفلسطينيين لإفنائها للحيلولة دون استحالة جنازاتهم مناسبةً للتظاهر والحشد ضدّ الاستعمار. وهي ذات الحجة التي تمّ رفعها مُبرّراً لاحتجاز الجثامين في الهبة الشعبية، والمتمثّلة بالعمل على عدم استحالتهم نموذجاً ومثالاً للتقليد والمُحاكاة من خلال مراسيم التشييع المَهيبة.

كما ترجع المدوّنة القانونية، التي يعتمدها العدو إلى يومنا هذا، والمُشرِّعة  لحجز جثامين الشهداء ودفنهم في مقابر الأرقام إلى عهد “الانتداب البريطاني”، وبالتحديد البند الثالث من المادة 133 للعام 1945 من قانون الطوارئ، وصيغُتها المعدّلة الحالية، التي تعود لشهر كانون الثاني من العام 1948، والتي تُعطي القائد العسكريَّ صلاحياتٍ بتحديد مكان وزمان وترتيبات دفْنِ الجثامين. بعد قرار ما تُسمّى “محكمة العدل العُليا” الأخير في 14 كانون أول 2017، تمّ تشريع قانونٍ يُعطي ذات الصلاحيات التي يعطيها “القانون الانتدابي” إلى الشرطة الصهيونية.

(3)
لا يقتصر دافع التمثيل بالجثامين الفلسطينية على مُعاقبة صاحبها وعائلته؛ فقد استخدمت “إسرائيل” الجثث كوسيلةٍ للردع، خاصّةً عندما تشعر بالعجز عن التعامل، وفهم منطق الفعل المُقاوم كما في الهبّة الشعبية الحالية، وكما بعد سلسلة العمليات الاستشهادية في منتصف التسعينيات. كذلك، تستخدمها كورقةٍ للمساومة في عمليات تبادُل الأسرى، و”كثمنٍ رخيصٍ إسرائيلياً” عالي القيمة فلسطينياً تدفعُه كبادرةِ حُسن نيّةٍ، تمهيداً لعمليةٍ سياسيةٍ ما، ولرفع أسهم بعض “النُّخَب المُعتدلة”، التي تلعب دور الوسيط مع الاستعمار الصهيوني؛ كما أعضاء الكنسيت العرب، ومحمود عباس، ووجهاء العشائر عبر الاستجابة لوساطتهم.

كما يعمل العدوّ على خلق مثالين للفلسطينيِّ؛ الفلسطيني الجيّد الذي يُمنح تسهيلات معينة، والفلسطيني الشرير الذي يُحرَم من هذه التسهيلات، بالتفريق بين الجثامين بحسب خلفياتها السياسية. وأيضاً كوسيلةِ تعذيبٍ نفسيّ مدروسة مبنية على ما يقوله علم النفس؛ بأنّ دفن الجثّة هو أوّلُ خطوةٍ في تقبّل موت العزيز، ومُقدّمةٌ أولى للتعايش مع ألم الفقد! يتضاعفُ ألم الأهل النفسيّ بهاجس أنّ الروح لا تزال تسكُن الجُثمان، وأنّها تخضع لأقسى أنواع العذاب بالصقيع، حيث تُجمَّد إلى ما تحت الصفر بدرجاتٍ، فتُصبح كلماتٌ مثل البرد والثلاجة والجليد كلماتٍ قاسيةً فتّاكةً.    

ومن المهمّ هنا التأكيد أنّ هذه الاستخدامات هي اعتباراتٌ ثانويةٌ لحجز الجثّة الفلسطينية في مقابل التمثيل ودافع الانتقام؛ إذ حدث خلال الأعوام السابقة أنْ رَفَضَ العدو تسليم جثامين شهداء بداعي أهمّيتها كورقةٍ في المفاوضات لتبادل الأسرى، في حين أنّه لم يُفرَج عن هذا الجثامين بعد عملية التبادل!

(4)

 إنّ ما يُطلق عليه “النضال القانوني”، هو خيار انعدام الخيارات النضالية الأخرى، ولا حاجةَ لكثيرٍ من المُحاججة للقول بأنّ القانون الاستعماري هو أداةٌ استعماريةٌ من حيث تعبيره عن المصالح والإرادة الاستعمارية، وقيامه بوظيفةٍ قمعيةٍ. علينا دائماً أن نتذكّر أنّ اللجوء “للنضال القانونيِّ” هو لجوءٌ اضطراريٌّ، وأنّ هذا اللجوء له إشكاليّاتهُ التي علينا دائماً التنبّه لها والتذكير بها،  لئلّا يُشوَّه النضال ويُختَزّل معناه إلى نضالٍ قانونيٍّ بشكلٍ آليٍّ.

إنَّ أهوَنَ هذه الإشكاليات صورةُ “إسرائيل” أمام ذاتها وأمام العالم ككيانٍ قانونيٍّ ديمقراطيٍّ، وأشدَّها خُطورةً تحوُّله إلى الخيار الوحيد والرّكون إليه، وبالتالي تعميق وإدامة حالة العجز النضالي الميداني، مع التنبّه إلى تبعات “النضال القانوني” الخطيرة على الوعي الوطني، عبر استدخال المنظورِ القانونيِّ التقنيِّ للقضايا الوطنية، والضياع في متاهات التعريفات والتشريعات القانونية التي تقومُ أوّلَ ما تقومُ به بإعادة تعريف القضايا من قضيةٍ وطنيةٍ واضحةٍ عنوانُها وقفُ التمثيل بجُثث أبناء شعبنا إلى تقنيةٍ تُعرِّفُها وتحدّدُها معايير المُحتلّ من مثل فصيل “الجُثة” ونوع العملية.     

(في حرب فيتنام، أطلقت الولاياتُ المتحدةُ عملية “الأرواح المُتجوّلة”؛ يُؤمن الفيتناميون بأنّ الجُثّة التي لا تُدفَنُ بمراسيم الدفن التقليدية في موطنها تبقى روحُها مُتجوّلةً مُعذّبةً. ولهذا، سجل الأمريكان أصواتٍ مُخيفةً تتخلّلها جُملٌ باللغة الفيتنامية، وبثّوها من الطائرات العمودية، وكأنّها صادرةٌ عن أرواح الجُثث التي يحتجزُها الأمريكان كيْ يؤثّروا على معنويات المقاتلين. باءت العملية بالفشل؛ فكلّما سمع المقاتلون هذه “الأصوات المخيفة”، كانوا يُطلقون النار على مصدر الصوت!)