مع التطور التكنولوجيّ المتصاعد الذي يحققه الكيان الصهيوني، انزلقت بعضُ الدول العربية نحو التطبيع التكنولوجيِّ مع الكيان لتستفيد من التكنولوجيا الصهيونية كي تتجاوزَ أزماتها الداخلية والأمنية النابعة من الأخطار المُتصاعِدة.
 

مقدمة

مع التطور التكنولوجيّ المتصاعد الذي يحققه الكيان الصهيوني، انزلقت بعضُ الدول العربية نحو التطبيع التكنولوجيِّ مع الكيان لتستفيد من التكنولوجيا الصهيونية كي تتجاوزَ أزماتها الداخلية والأمنية النابعة من الأخطار المُتصاعِدة.

وكان يُفترَضُ أن يكون الاتساع الهائل في حجم الفجوة التكنولوجية العربية مع “إسرائيل” بوصفه خطراً على موازين الصراع القائمة بينهم وبين “إسرائيل”؛ إلا أنّ حملة التحولات في البنية الأمنية الإقليمية خلال الأعوام الأخيرة دفعت الأمور نحو منحىً مختلف؛ فبدلاً من أن تنظر الدول العربية إلى التفوق التكنولوجي لـ”إسرائيل” على أنه إخلالٌ بموازين الصراع، تنظر إليه الآن كمفتاحٍ لتلبية احتياجاتها المُتزايدة من التكنولوجيا، خاصّةً في المجالات الأمنية، في حين أن “إسرائيل” أخذت تنظر إليه على أنه مفتاحٌ لتحقيق هدفها طويل الأمد بتطبيع العلاقات مع جِوارها العربي، دون أن تخلّ بتوازناتها الاستراتيجية والأمنية.

نستكمل هنا الجزء الثالث من بحث إسلام موسى (عطالله).

التطبيع العربي والتكنولوجيا الصهيونية

تغيّر مسارُ الصِّراع العربيِّ الصهيونيِّ بعد صعود النظام الدولي أُحاديِّ القطبية التي تُهيمن عليه الولايات المُتّحدة الأمريكية، وبعد حرب الخليج الأولى، وليس من قُبيل المبالغة القول إنّ الحدث المفصليّ الذي ساعد أيضاً على ذلك كان أحداث 11 أيلول 2001 وإعلان الرئيس السابق جورج بوش حربه الشهيرة ضدّ الإرهاب، فضلاً عن دعوة الولايات لنظامٍ عالميٍّ جديدٍ، خصوصـاً مـع مؤتمر مدريد عام 1991 وبِـدء المفاوضات العربية – الصهيونية للسلام.

ولم تكن محاولة البحث عــن صيغةٍ مُلائمةٍ لإدراج “إسـرائيل” في منطقةٍ عربيةٍ مُعاديةٍ لها وفق مواصفات التاريخ الحضاريِّ والثقافيِّ والدينيِّ، بلّ حسب سمات الجغرافيا الإقتصادية ونظام السوق العالمية، وخلق فيها نواة سوقٍ شرقَ أوسطيةٍ تتوسّع بالتـدريج انطلاقاً مـن “إسرائيل” كنواةٍ، ودورها كقوةٍ جاذبةٍ ومُهيمنةٍ اقتصـادياً وتكنولوجياً وأمنياً ومدنياً. سمح ذلك كلّه أن تقدّمت “إسرائيل” وفق إستراتيجيةٍ مُتكاملةٍ تبحثُ فيها عن سلامٍ مشروطٍ متسلّحةً بغلبتين: غلبةٍ أمنيةٍ رادعةٍ في عالمٍ عربيٍّ “عُدوانيٍّ”، ودولةٍ “ديمقراطيةٍ” في وسط “دكتاتورياتٍ” وتفوُّقٍ إقتصاديٍّ وتكنولوجيٍّ مُتقدّمٍ في شرقٍ عربيٍّ “مُتخلّفٍ”[1]. سهّل لها الأخيرُ نسْجَ علاقاتٍ ثُنائيةٍ مع دولٍ كثيرةٍ في العالم من خلال شركات التكنولوجيا الاستثمارية بتلك الدول، أو حتى من خلال الصفقات التى قامت بها، أو من خلال الشركات الصهيونية التى اندمجت في الشركات الكبيرة.

وقد لمسنا في السابق حجم الاعتمادات المُتبادَلة وغير المُتبادَلة بين “إسرائيل” وكثيرٍ من الدول من خلال التكنولوجيا والمعرفة. وليس فقط مع دول أوروبا الغربية، بل إنّه ازداد وامتدّ إلى دول أوروبا الشرقية، بين الصين و”إسرائيل”، وبين الهند و”إسرائيل” التي وقّعت عقوداً مع الأخيرة بحوالي 20 مليار دولار بتاريخ 6 تمّوز2017 [2].

فيما وفّرت أسواق أوروبا الشرقية لـ “إسرائيل” بواباتٍ جديدةً لتصدير مُنتجاتها التكنولوجية وآلاتها المُصنّعة، كما وأعطتها فرصةً لتُنوِّع مراكز استيرادها التي كانت محصورةً بأسواق أوروبا الغربية، وبدرجةٍ أقلّ بالولايات المتحدة، مثلاً قفزت  الصادراتُ “الإسرائيلية” لبولندا من 11,300,000 دولار عام 1990 إلى 219,4 مليون دولار عام 2010، وحجم الاستثمارات الصهيونية فيها تجاوز الأربعة مليارات، أمّا الصادرات لهنغاريا فقفزت من 21 مليون عام 1990 إلى 152,8مليون، والتبادل التجاريَّ معها ومع رومانيا أكثر من 3 مليار يورو.

وقد وُقّعت الكثير من الاتفاقيات الاقتصادية مع دول شرق أوروبا، هدفت لتطوير التعاون التجاري، مثلاً وقّعت مع ألبانيا 9 اتفاقياتٍ اقتصاديةٍ [3]. أتاح لها فُرصاً للعمل بشكلٍ أوسع، فمثلاً تعمل شركة (Netafim)  الصهيونية التي أصبحت أكبر مُزوّدٍ لأنظمة الريّ بالتنقيط في العالم، في أكثر من 110 بلدٍ من خمس قارّاتٍ، ولها مكاتبُ في تايوان ونيوزيلاندا والصين والهند وتايلند واليابان والفلبين وكوريا وإندونيسيا وأمريكا والبيرو والمكسيك وتشيلي وكولومبيا والإكوادور، و11 مكتباً في أوروبا، وبدأت بعد عام 2009 بفتح نشاطٍ لها مع الدول الإسلامية في الكتلة السوفيتية السابقة، كأذربيجان وكازخستان وأوزباكستان، أدّت إلى علاقاتٍ وُدّيةٍ مع حكومة “إسرائيل” [4].

هذه المعرفة التكنولوجية أصبحت مطلباً عالمياً، والرهانُ الصهيونيُّ على أن يجد انقلاباً سيكولوجياً في مواقف العرب من “إسرائيل” يبدو أنه رهانٌ على التكنولوجيا الصهيونية. وهو رهانٌ على أن يُحدِث “انقلاباً وفقَ الحاجة والمصلحة” ويفتحُ قنواتٍ للتطبيع أو التعاون؛ لأنّهم كغيرهم سوف يحتاجون تلك التكنولوجيا. ومن وجهة نظر “إسرائيل”، فإنه رغم تناقض بعض الدول مع الصهيونية واليهودية والأحكام الدوغمائية على غرار الشعب قاتل المسيح والفكرة اللاهوتية عند المسلمين وهي الخيانات المُتعاقبة تجاه الرسل، واحتلال أرضٍ عربية، إلا أنّ العالم تغيّر! هناك افتتانٌ في العالم وإعجابٌ وطلبٌ وتنافسٌ على التكنولوجيا الصهيونية والمعرفة غير التنافسية هناك.

يقولُ المدير التنفيذيِّ لشركة المزاد الأوليِّ على الشبكة الإلكترونية (eBay): “في الحقيقة أنّ هناك العديد من الأماكن الزاخرة بالأشخاص الموهوبين، وهناك بالتأكيد أضعاف الوسائل التى على “إسرائيل” تقديمها. مثلاً، يُعتَبرُ الطلاب في سنغافورة الأعلى في قمّة سلم الترتيب العالمي من حيث درجاتهم في اختبارات العلوم والرياضيات. كما أن شركاتٍ عالميةً أسّست مراكز لها في أماكنَ عديدةٍ منها الهند وإيرلندا أيضاً، لكننا لا نسلّم المهمات الحسّاسة لموظفي تلك البلاد، مثلاً (Google, Cisco, Microsoft, Intel, eBay…et)، أفضلُ أسرارِنا حفظاً هو الذي يحيا ويموتُ كنتيجةٍ لعمل الفرق الصهيونية. إنّ الأمر أكبرُ بكثيرٍ من مجرّد استخدام موظفينَ أجانبَ في مراكز للمكالمات الواردة في الهند أو توفير خدماتٍ تقنيةٍ في إيرلندا، فما نفعله “إسرائيل” يختلفُ عمّا يتمّ في أيّ مكانٍ آخر في العالم”[5].

وبالتالي لا شكّ أن التطبيع المُراهَنُ عليه ليس تطبيعاً ثقافياً بالمعنى الذي يؤدّيه تعبير التطبيع (أي جعلُ الأمور طبيعيةً وعاديةً)، إنّما تطبيعاً ستُجبِرهم عليه التكنولوجيا الصهيونية المدنية، والأمنية. إذ إنّ البلدين الأكثر تصنيعاً باتت تعكسُ للبلدان الأقلّ نمواً صورةَ مستقبلها القادم[6]. فعندما سُئل رئيس وزراء الكيان الصهيوني “نتنياهو” بعد المؤتمر الدبلوماسيِّ السنويِّ لصحيفة جيروساليم بوست في تشرين ثاني 2016 حول ماذا يريد العرب من “إسرائيل”؟ قائلاً: “ثلاثة أشياء: التكنولوجيا والتكنولوجيا ثمّ التكنولوجيا، إذ إنّ التحوّل السريع للاقتصاد العالميِّ نحو اقتصادٍ يعتمدُ على تكنولوجيا المعلومات يصبُّ في مصلحةِ “إسرائيل”، والتي تشغلُ موقعاً مناسباً بشدّةٍ في مجالات البيانات الكبيرة (Big Data) والاتصالات والذكاء الاصطناعي، وأنّ هذا وحده كفيلٌ بتغيير كلّ شيءٍ”[7].

ويبدو أنّ العقل الاستراتيجيّ الصهيونيّ الحاكم يُراهن على نشر نوعٍ مـن حالةٍ ذهنيةٍ أو سيكولوجيةٍ لدى العرب والعالم تكون بلا مضمونٍ تاريخيٍّ ولا بُعدٍ وطنيٍّ أو قوميٍّ، أي حالةٌ “لا ثقافيةٌ”[8]، وثقافةٌ سياسيةٌ تتكيّفُ وفق التحولات الدولية والمفاهيم العلمية المُستجِدّة، لتتجاوز أزمتها المفاهيمية القديمة المتمثّلة في فكرة “أرض الميعاد”، ومأزق الاستيطان، والتوسُّع الجغرافيّ بلا حدودٍ، وذلك من خلال الانتقـال إلى مفهـومٍ صهيونيٍّ جديدٍ وهو (تطبيعٌ تكنولوجيٌّ) أكثر تلاؤماً مع مرتكزٍ ما تشكّله سلطة التكنولوجيا والمعرفة الصهيونية في عصر المعلومات والاتصال مـن قوة تأثيرٍ ونفوذٍ وقُدرة شركاتها وأجهزتها الأمنية على المبادرة، وحذقها في تحليل البيانات الكبيرة وتقدّم المعلومات الأدقّ لاتّخاذ القرار بناءً على ذلك[9]، وملاحقة الإرهابيين في العالم من خلال التكنولوجيا، وهو ما يتفاخر به نتنياهو قائلاً في 21 شباط 2018: “إنّ أجهزتنا الأمنية (كان يقصد الوحدة 8200) منعت إسقاط طائرة ركّابٍ أستراليةٍ، وهذا واحدٌ من كثيرٍ جداً من مثل تلك التحرّكات؛ إذ إنّ محاولة التفجير تلك كانت لداعش، في محاولتها تفجير رحلةٍ تابعةٍ لشركة الاتحاد “الإماراتية” للطيران، والتي كان من المُقرّر أن تُغادر سيدني إلى أبوظبي[10]. 

إنّ انشغال العالم أجمع بالتكنولوجيا والبيانات وخطرها ومزاياها، وبالإرهاب وضحاياهُ في كلِّ مكانٍ، لا يُمكن تجاهُله، لكنّ “إسرائيل” مشغولةً ومُسْتهلَكةً بأمورٍ أخرى: كيف تُطوّر تلك التكنولوجيا مثلاً وكيف تجني ريعها وريع الهجمات الإرهابية في كلّ مكانٍ، وتستخدمُها لمصالحها على المستويات: العالميِّ والإقليميِّ والمحليِّ. هي مستفيدةٌ دائماً من ما يُصيب الآخرين ويؤلمهم، وتستحدثُ منها فُرصاً اقتصاديةً وسياسيةً على كافّة المستويات[11].

فعلى المستوى العربيِّ تغلغلت الشركات الإسرائيلية في الدول العربية بشكلٍ مُلفتٍ؛ فحسب تقرير لوكالة (Bloomberg) الأميركية المتخصّصة بالتقارير والأخبار المالية، أنّ شركاتٍ إسرائيليةً عديدةً تقدّمُ خدماتٍ لدول عربيةٍ خليجيةٍ في مجالاتٍ مُختلفةٍ، وخاصّةً بما يتعلق بمجال الحماية الأمنية، وتعمل هذه الشركات بالسرّ رغم معرفة الطرف الثاني عن مالكيها. ومن بينها شركة (إنتوفيو- IntuView) التي تعملُ في السعودية، وعملُها الأساسيُّ هو التنقيب في الإنترنت الخفيِّ أو المُظلم، ويديرها “شموئيل بار”، وهو مؤسّسها كذلك، بناءً على خبرته في عمله السابق في الاستخبارات الصهيونيّة لمدة 30 عاماً، وشركة (IntuView) هي النسخة الصهيونية من التكنولوجيا الأميركية (بالانتير-Palantir)، وهي متخصّصةٌ بجمع وتحليل البيانات‏. ‏وينبثقُ عنها أهمّ برنامجين في تحليل البيانات: ‏(Palantir ‎Gotham) المختصّ بتحليل ‏بيانات كلّ ما يخصُّ الإرهاب وتستخدمه وزارة الدفاع الأمريكية،‏ و(Palantir ‎Metropoli‎‏).

باعت شركة “بار” خدماتها إلى وكالات الاستخبارات في نواحي أوروبا والولايات المتحدة، وتقدّم شركته أيضاً للأمن السعوديّ خدمات رصد “إرهابيين مُفترضين” عبر مواقع شبكات التواصل الاجتماعي، فالشركة تعمل تحرّياتٍ مُكثّفةً عن الجهاديين السعوديين، باستخدام إحدى برامجها والذي يُدعى (انتوسكان – IntuScan)، والذي يمكنه معالجة 4 ملايين من بيانات رواد مواقع التواصل الاجتماعي عبر الفيس بوك وتويتر في اليوم الواحد.

يقول “بار”: إنّ بداية تعامله هذا كانت منذ عامين، عن طريق شخصٍ ينتمي لمستوياتٍ عُليا في المملكة، وذلك عندما احتاج السعوديون مساعدته في تحديد هوية الإرهابيين المُحتملين، وكانت المُشكلة الوحيدة بالنسبة لهم والتي اشترطوا مُعالجتها حتى لا تُعيق التعاون: ضرورة إخفاء الهوية الصهيونية لشركته (IntuView) قبل العمل معه، ووصف هذه الخطوة، بدورِه، بالهيّنة [12].

هذه الشركات الصهيونية لا تقتصرُ على تتبّع الإرهاب من خلال البيانات فقط، بل تطوّرت حالياً معتمدةً على تكنولوجيا النانو مجسّات ضدّ الانتحاريين: وهي مجسّاتٌ صغيرةٌ جداً يُمكن تركيبها في أماكن عامّةٍ، وتستطيع أن تشخّص الانتحاري عن بُعدٍ، عن طريق مسافاتٍ مُختلفةٍ مثل رائحة المواد المتفجّرة أو الحرارة أو الوزن[13] . هذه التكنولوجيا ستجعل من “إسرائيل” مركزاً لتطوير تكنولوجيا مكافحة الإرهاب، والتي أصبحت معظمُ الدول بحاجتها نظراً  لحالة الانزلاق الواقعة في المنطقة.

ومثالٌ آخرُ يستعرضُه تقرير (Bloomberg)، هو الاستنجاد بشركاتٍ صهيونيةٍ لمساعدة شركة “أرامكو” السعودية للنفط و”النفط الوطنية” في عام 2012، عندما اخترق مُتسلّلون أنظمة الكمبيوتر الخاصّة بهاتين الشركتين السعوديتين، حيثُ قامت الشركات الصهيونية حينها بإصلاح الأعطال بعد مكافحة الاختراقات، حتّى بعد انتهاء المهمّة استمرّت بعض الشركات بالتعاقد من الخارج لحماية أمن معلومات هذه الشركات السعودية[14].

صحيحٌ أنّ المقاطعة العربية لـ “إسرائيل” تصاعدت لمستوياتٍ عاليةٍ؛ إذ شملت، ليس الشركات الداخلية والخارجية الصهيونية فقط، وإنّما شملت الشركات التي تملكُ استثمارات في “إسرائيل أو تبيع سلعاً تدخُل في صناعتها مكوّناتٌ من إنتاج الكيان الصهيونيّ. وتنصُّ قوانين المقاطعة على أن تبرز الشركات الأجنبية شهاداتٍ تُثبتُ أن تلك الشركات غير مملوكةٍ كُلياً أو جزئياً لصهاينة، وأنها لا تستخدم في صناعة منتجاتها أو في المنتجات التي تروّجها أي مكوناتٍ نشأت أو صُنعت في الكيان الصهيونيّ.

في الواقع كان هذا مُلزِمٌ لمعظم الدول العربية منذ عام 1948، لكن بعد التطور التكنولوجي وبروز دور الكيان الصهيونيّ في معظم الصناعات التكنولوجية التي “لا يمكن مقاطعتها”، على حدّ وصفهم، لا يوجد عربيٌّ وسواهُ لا يستخدم منتجات الرقائق الرقمية التي يُنتجها مصنع إنتل في كريات غات[15]، ولا يوجدُ عربيٌّ لا يعلم عن تطبيق (فايبر- Viber) للتراسل الفوريِّ، لكنه قد لا يعلم أنه هذا التطبيق اختُرِع في “إسرائيل”[16]. وبالتالي يصعُبُ الالتزام بالمقاطعة حسب سياقها التاريخي الأول، ولقد حرصت العديد من الدول على التعامل مع “إسرائيل” من قبل وُسطاء في بلدانٍ أخرى، ولكن حجم ونطاق النشاط في الكيان الصهيونيّ الآن في ستّة بلدانٍ على الأقل في الخليج، والذي بلغ مكانةً عاليةً أصبح من الصعب إخفاؤه.

وحسب تقرير(Bloomberg) أيضاً، أن أحد مُؤسّسي شركات الأمن الشبكي الصهيونيّ الأكثر انتشاراً في أوروبا والولايات المتحدة، استطاع بناء بُنيةٍ تحتيةٍ من الأمن الشبكيِّ في دولة الإمارات العربية المتّحدة بأكثر من 6 ملياراتٍ بأيدي مُهندسين صهاينة. نفس هذه الشركات تعملُ في السعودية ولكن بوظيفةٍ تختلف عن مثيلاتها في الإمارات، حيث تعمل على معالجة وإدارة الزحام في مكة المكرمة.

كما وتعملُ شركاتٌ صهيونيةٌ أخرى، في منطقة الخليج تحت مُسمّيات شركاتٍ وهميةٍ، على تحلية مياه البحر، وحماية البنية التحتية، والأمن الشبكي، وجمع المعلومات الاستخبارية. هكذا أقر شبتاي شافيت، الذي كان يدير الموساد بين عامي 1989-1996، وهو مدير شركة أمن صهيونيةٍ في أثينا، “لا نقدّم تفاصيل عمّن فعل هذا أو كيف، المرء لا يكسر الغصن الذي يجلسُ عليه، إنّما الحذر واجبٌ”[17].

وبالتالي نخلُصُ إلى أن هذا ما يمكن أن يُسمّى بـ “الخطر الرقميِّ الصهيونيّ الجديد”؛ فهــو ليس “تطبيعاً ثقافياً”، كمــا يحلو للبعض أن يصفه ويتوهّمُ ويُنذرُ ويُحذّر. التطبيعُ التكنولوجيُّ هو انزلاق الدول العربية لتستفيد من التكنولوجيا الصهيونية لتتجاوز أزماتها الداخلية والأمنية وفقاً لضرورات الأخطار المُتصاعِدة، لا سيّما خطر الإرهاب في المنطقة العربية. وكان يُفترَضُ أن يكون الاتساع الهائل في حجم الفجوة التكنولوجية العربية مع “إسرائيل” بوصفه خطراً على موازين الصراع القائمة بينهم وبين “إسرائيل”؛ إلا أنّ حملة التحولات في البنية الأمنية الإقليمية خلال الأعوام الأخيرة دفعت الأمور نحو منحىً مختلف؛ فبدلاً من أن تنظر الدول العربية إلى التفوق التكنولوجي لـ”إسرائيل” على أنه إخلالٌ بموازين الصراع، تنظر إليه الآن كمفتاحٍ لتلبية احتياجاتها المُتزايدة من التكنولوجيا، خاصّةً في المجالات الأمنية، في حين أن “إسرائيل” أخذت تنظر إليه على أنه مفتاحٌ لتحقيق هدفها طويل الأمد بتطبيع العلاقات مع جِوارها العربي، دون أن تخلّ بتوازناتها الاستراتيجية والأمنية[18].

فحسب ما قال عمر موسى: “أنّ القادة الصهاينة الذين لا يُريدون العودة إلى الحرب، فمثلاً “شمعون بيرز” رئيس الكيان الصهيونيّ، قال له مرةً أن العصر المُقبل يجب أن يكون عصر التنافس الإقتصاديّ،  يسمّيه بيرز “تعاوناً اقتصادياً”، وكان يريدُهُ بالمجّان كما كلّ قادة “إسرائيل”، وكان واضحاً من أحاديثه الكثير حتّى وفاته 2016، عن كون عصر التكنولوجيا قد بدأ وأنّ “إسرائيل” جزءٌ منه وبالتالي في متقدمةٌ بفراسخ عن جوارها، وأن التقدم الصهيونيّ يتضاعفُ بقوّةٍ وسُرعةٍ لمواكبتها لنواحي التطور التكنولوجي كافّةً، وهو ما لا يتوفّر للعرب، هذا بالإضافة إلى نقطة الضعف الواضحة والخطيرة: أمنها[19].

نتنياهو يقول أنّ الكلام يدور عن تغيّراتٍ هائلةٍ وعن تحوّلٍ جوهريٍّ، إننا نقفُ حالياً في مكانٍ مُختلفٍ، إنّنا نُقيم علاقاتٍ متينةً مع أوروبا ونطوّرُها مع أوروبا الشرقية، ودولٌ كثيرةٌ منها إسلاميةٌ، كلّ ذلك قد تغيّر بسبب التفوق التكنولوجي، إننا ندخل ساحةً جديدةً ألا وهي كتلة الدول العربية، فالذي يحدثُ معها بالفعل أمرٌ لم يسبق حدوثه في تاريخنا حتّى عندما كنا نُبرمُ الاتفاقيات. وبالرغم من عدم بلوغ التعاون بشتّى الطرق والمستويات مرحلةَ الظهور علناً بعدُ، إلا أنّ الأمور الحاصلة بصورة غير مُعلنةٍ إلى حدٍّ كبيرٍ. إن ذلك لتغييرٌ كبيرٌ، فالعالم برُمّته يتغير، ولكن لا يعني ذلك أن تغييراً حدث في المحافل الدولية والأمم المتحدة واليونسكو بعد!

***

هنا تجدون الجزئين الأول، والثاني من هذا البحث.

الهوامش

[1]   كوثراني، وجيه، 1995، الشرق الأوسطية والتطبيع الثقافي مع إسرائيل البعد التاريخي وإشكالات راهنة، مجلة الدراسات الفلسطينية المجلد 6، العدد 33، ص10
[2]  مكتب رئيس الحكومة الإسرائيلية قسم الإعلام، 2017، نص إعلان مشترك للهند وإسرائيل.
[3]  سيف، عاطف، 2014، وسط أوربا وشرقها عالم إسرائيل الجديد، علاقات إسرائيل الدولية، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية مدار، ص253
[4]  سينور، دان – ساول سينجر، 2009، مرجع سابق، ص111-102
[5]  سينور، دان – ساول سينجر، 2009، مرجع سابق، ص40
[6]  على ماذا يطلق اسم فلسطين ، ص 61
[7]  السعيد، محمد، 2017، القوة الناعمة التكنولوجيا كقاطرة للتطبيع مع إسرائيل، الجزيرة، هنا
[8]  كوثراني، وجيه، 1995، الشرق الأوسطية والتطبيع الثقافي مع “إسرائيل” البعد التاريخي وإشكالات راهنة، مجلة الدراسات الفلسطينية المجلد 6، العدد 33، ص13
[9]  المرجع السابق، ص15
[10]  BBC عربي، 2018، إسرائيل أحبطت مخططا لتفجير طائرة إمارتية، هنا
[11]  الترتير، علاء، 2015، “إسرائيل” وداعش وهجمات باريس، نقطة وأول السطر، تاريخ الوصول للموقع الالكتروني، 24 نيسان 2016، هنا
[12]  Jonathan Ferziger and Peter WaldmanJ, 2017, How Do Israel’s Tech Firms Do Business in Saudi Arabia? Very Quietly, Bloomberg, هنا، تم الاعتماد على ترجمة انجي مصطفي للتقرير، المنشور على صفحة المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية، من ص1-6.

[13]  محمد، بكر، نحن و”إسرائيل” وتكنولوجيا النانو، هنا
[14]  Jonathan Ferziger and Peter WaldmanJ, 2017, Previous reference.
[15]  وزارة الخارجية الإسرائيلية، 2014، أكبر استثمار في تاريخ “إسرائيل”، هنا
[16]  اختراعات إسرائيلية احترقت حياتك التكنولوجية، هنا
[17]  Jonathan Ferziger and Peter WaldmanJ, 2017, Previous reference.
[18]  كوثراني، وجيه، 1995، الشرق الأوسطية والتطبيع الثقافي مع “إسرائيل” البعد التاريخي وإشكالات راهنة، مجلة الدراسات الفلسطينية المجلد 6، العدد 33، ص15
[19] عمر موسي، كتابيه، دار الشروق، ص40