يشكّل هذا المقال مناسبةً لإعادة التأكيد على أن التطبيع الإعلامي، بالتحديد، ليس فقط جريمةً أخلاقيةً عنوانها قبول العدو كـ”آخرَ” للحوار، وإنما هو حقيقة تعاون مع العدو في وقت الحرب ومساهمةٌ في عملياته العسكرية.

توطئة

نضع بين أيديكم ترجمة لمقال “مجهود جيش الدفاع في العمليات الإدراكية كمكمّل للمجهود القتالي الناري”، نُشر في موقع معهد أبحاث الأمن القومي “الإسرائيلي”، بتاريخ 28 شباط 2018، لـ”جابي سيبوني”، و”جارل بارل فينكل”. يتحدث المقال عن تعاظُم العمليات الإدراكية في جيش العدو، كمكمّلٍ للعمليات القتالية، ويقدم تلخيصاً لطبيعة هذه العمليات وأنواعها. لا يمكن اعتبار هذا المقال المختصر إعلانَ خطةٍ أو توجهاً جديداً عند العدو، بقدر ما هو مساهمة في تشجيع هذا التوجه وترشيده. يشكّل هذا المقال مناسبةً لإعادة التأكيد على أن التطبيع الإعلامي، بالتحديد، ليس فقط جريمةً أخلاقيةً عنوانها قبول العدو كـ”آخرَ” للحوار، وإنما هو حقيقة تعاون مع العدو في وقت الحرب ومساهمةٌ في عملياته العسكرية.
*ترجمت هذا المقال هنادي قواسمي بشكل شبه حرفيّ، مع إبقاء المصطلحات الصهيونية كما وردت فيه.

مجهود جيش الدفاع في العمليات الإدراكية كمكمّل للمجهود القتالي الناري

كثّف جيش الدفاع الإسرائيلي في الآونة الأخيرة نشاطاته في إطار عمليات تشكيل الوعي [العمليات الإدراكية]، ساعياً لتأسيس منظومةٍ قويةٍ وذات أثرٍ في هذا المجال. ضمن ذلك، طُوِّرَ تصورٌ لعمليات تشكيل الوعي، بالتزامن مع تطوير الأدوات التكنولوجية، وتأهيل القوى البشرية المناسبة، وبناء أُطرٍ مؤسساتية داعمة. في إطار ذلك، يأتي استخدام القدرات المُعلَنة للناطق باسم جيش الدفاع بما يسمح بوجود خطابٍ مباشرٍ مع جماهير واسعة في الدول المعادية، بما يشمل الخطاب مع العناصر الإرهابية في الشبكات الاجتماعية.

يتضمّن ذلك استخدام قدراتٍ متنوعةٍ تمّ تطويرها مؤخّراً في الجيش، غرضها الرئيس خلق شرعيةٍ لإسرائيل لدى الجماهير الدولية، والتأثير على العدو، بل أيضاً الحفاظ على قوة الردع. يشكّل التطور التكنولوجي والحضور [الإسرائيلي] في الشبكات الاجتماعية -سواءً كان حضوراً مُعلناً أو مخفياً- ذُخراً استراتيجياً لدولة إسرائيل، جنباً إلى جنب مع استخدام القوة القتالية المُميتة [المقصود الأساليب التقليدية المُعتمدة على استخدام القوة النارية المُميتة، بالانجليزية kinetic effort].

نشر الناطق باسم جيش الدفاع الإسرائيلي، العميد “رونين منليس”، في نهاية كانون الثاني 2018 مقالاً في الصحافة العربية يحذّر فيه سكان لبنان من “السلوك البلطجي الذي ينتهجه حزب الله، من تأسيس بنىً تحتيةٍ للإرهاب، ومصانع لتصنيع وسائل القتال تحت نظر الحكومة اللبنانية، ووسط استيعاب القوى العسكرية وسط السكان بدون أية عوائق”. أضاف الناطق باسم الجيش أنه من الأفضل لسكان لبنان ألا “يسمحوا لإيران وحزب الله استغلال سذاجة الرؤوساء اللبنانيين لإقامة مصنع للصواريخ الدقيقة كما يحاولون هذه الأيام”، مُذكّراً إياهم بأن الجيش جاهزٌ ومستعدٌ، و”كما أثبتنا في السنوات الأخيرة، ومن يجب أن يعرف عن ذلك يعرف فعلياً، خطوطنا الأمنية الحمراء واضحة، ونحن نُثبت ذلك كلّ أسبوع”.

وفّر هذا المقال لمحةً عامةً عن مجموعةٍ متنوعةٍ من النشاطات العلنية والسرية التي يتّخذها الجيش الإسرائيلي في مجال حملات تشكيل الوعي [العمليات الإدراكية]، هادفاً لنقل رسائل بعينها للجمهور المستهدف في لبنان، في المنطقة، وفي العالم، والتي تتمحور أساساً حول أن جهود إيران وذراعها حزب الله لتقوية حضورهما في المنطقة واضحةٌ أمام إسرائيل، وأن إسرائيل قادرةٌ على العمل ضدّهما، ومن الأفضل لسكان لبنان ألا يساعدوا في ذلك، إذ يتم استغلالهم كدروعٍ بشريةٍ في معركةٍ مشاركتهم فيها ليست حتمية.

ويضطلع جيش الدفاع الإسرائيلي بجهودٍ أخرى لتشكيل الوعي في مواجهة حزب الله وإيران، ويقوم “أفيخاي أدرعي”، المسؤول في وحدة الناطق باسم الجيش عن الشبكات الاجتماعية في العالم العربي، بإدارة محادثةٍ حيّةٍ على شبكات الإنترنت بهدف خلق مجابهة بين حزب الله وجماهير مُستهدفة متنوعة في لبنان.

ومع اقتراب الانتخابات المتوقعة في لبنان أيار المقبل، نُشر في الموقع الإعلامي اللبناني IMLebanon مقالٌ يستعرض نشاط جيش الدفاع على الشبكات الاجتماعية في لبنان. تحت عنوان “على من تضحك؟”، يتوجّه “أدرعي” بشكلٍ مباشرٍ لنصر الله ويسأله: “من أمرك بإرسال شبابٍ للموت في سوريا؟ أيّ مصلحةٍ لك جرّتك لحربٍ لا طائل للبنان بها سوى مصالح إيران”؟ بالإضافة إلى ذلك، جابه “أدرعي” نصر الله بالادّعاء: “لماذا قتلتم مع الإيرانيين بدر الدين؟”. ما زال من الصعب قياس تأثير هذه النشاطات على حزب الله، ولكن يبدو أنها تتلقى اهتماماً كبيراً في الصحافة اللبنانية، ولها أفُقُ تأثيرٍ على المدى البعيد.

كثّف جيش الدفاع في الفترة الأخيرة نشاطاته في إطار جهود [تشكيل] الوعي [العمليات الإدراكية]، ساعياً لتأسيس منظومةٍ قويةٍ وذات أثرٍ في هذا المجال. ضمن ذلك، طُوِّرَ تصورٌ لعمليات تشكيل الوعي، بالتزامن مع تطوير الأدوات التكنولوجية، وتأهيل القوى البشرية المناسبة، وبناء أطرٍ مؤسساتيةٍ داعمةٍ. كما أضيف مجال تشكيل الوعي والعمليات الإدراكية إلى التدريبات التي يُجريها الجيش. ولا تعتبر أهمية هذا الجهد في الحرب النفسية (في تشكيل الوعي) أمراً جديداً، وإنما هي جزءٌ من تاريخ حروب العصور القديمة (كَقِدَم الـ DNA). كما حدّد كارل فون كلازوفيتش في حينه، فـ”إن أهمية قمع روح العدو القتاليّة لا تقلّ عن القتل الفعلي لجنوده”، مُشدّداً على أن استخدام القوة المميتة في ساحة المعركة يجب أن يرافقه، ويتداخل معه نشاطٌ هادفٌ للتأثير على وعي العدو.

يُمكّن التطور التكنولوجي من تفعيل جهود تأثيرٍ واسعة ومُركّزة على جماهير مختلفة، كما أنه يخلق ساحة قتالٍ إضافيةٍ لساحات القتال الكلاسيكية. وهكذا، تجد الجيوش والدول نفسها مضطرةً للتعامل مع جهود التأثير من قبل العدو، والذي يستغلّ الحيز التكنولوجي والشبكات الاجتماعية لتحقيق إنجازاتٍ سواءً بالتوازي مع الوسائل القتالية التقليدية، أو بدونها. تُلزم هذه الظاهرة الجيوش والدول العمل على مستويين: المستوى الدفاعي بهدف إحباط جهود العدو، وكذلك مستوى الهجوم الاستباقي لتحقيق أهدافٍ بواسطة التأثير على جماهير العدو، وكذلك على مُتّخذي القرارات، والضباط، والمقاتلين، وأيضاً الرأي العام المحلي والدولي.

يمكن تقسيم عمليات تشكيل الوعي [العمليات الإدراكية] لثلاثة أنواع:

1- عمليات تشكيل وعيٍ سرّيةٍ لا يكون خلالها الطرف المستهدَف بالهجوم واعياً لوجود جهودٍ للتأثير عليه. في هذه العمليات يتمّ نقل الرسائل بطريقةٍ لا تمكّن جمهور الهدف من تشخيصها أو تشخيص تعرّضه لعملية تأثير. أحد الأمثلة على ذلك الرسائل التي يتم نقلها من خلال وسيطٍ غير مباشر.

2- عمليات تشكيل الوعي المستورة: التي يُطلق عليها أيضاً (عملياتٌ مع علْمٍ وهمي)، والتي يكون فيها المُستهدَف، سواء كان منظمةً أو جمهوراً أو دولةً، واعياً لحقيقة وجود عملية تأثيرٍ تستهدفه، ولكن في هذا النوع من العمليات لا يظهر القائمون على عملية التأثير، ويتخفّون وراء هوياتٍ وهمية. أحد الأمثلة على ذلك ما حصل خلال السباق الانتخابي لحاكم فلوريدا عام 1994، حيث اتصل نشطاء من طرف مرشّح الحزب الديمقراطي، “لوطون تشيلس” بحوالي 70 ألف مسنّ، وعرّفوا عن أنفسهم كممثلين للمرشح الجمهوري “جوب بوش”، وأخبروهم بأن الأخير ينوي تقليص مخصصات التأمين الوطني والمساعدة الطبية المخصّصة لهم.

3- عمليات تشكيل الوعي الظاهرة، مثل التصريحات والرسائل التي تضمّنها مقال الناطق باسم الجيش والموجّهة للبنان، أو نشاط الجيش في الشبكات الاجتماعية في لبنان.

العامل المشترك لكلّ أنواع عمليات تشكيل الوعي هذه هو وجودٌ أساسيٌ لساحة عملٍ في الحيز المكشوف، يتمّ من خلاله نقل رسائل لأنواع مختلفةٍ من الجماهير المستهدفة في الصحافة التقليدية (الجرائد، التلفاز، والراديو)، وفي شبكة الإنترنت، عبر رسائل في الشبكات الاجتماعية، المنتديات، المدونات، والنشر في المواقع. يحمل الجهد العلني ضمن هذه العمليات جوهر القدرة على التأثير وتوجيه الرأي العام، سواءً كان ذلك متعلقاً بجمهورٍ كبيرٍ أو بمتّخذي القرارات.

يتطلب العمل في الحيّز المكشوف مهاراتٍ عدة، أهمها الفهم لنفسية الجمهور، وتحليل جماهير الهدف. في هذا السياق، يمكن الاستفادة من العالم المدني لتطوير القدرات العملياتية للجيوش عامةً، ولجيش الدفاع خاصةً، إذ إنّ حملات التأثير على الجماهير المختلفة التي تقودها شركات الإعلان والعلاقات العامة للتسويق لشراء منتجات ما، أو لتعزيز مكانة سياسيين في الانتخابات، هي لبّ عمل تلك الشركات.

في السنوات الأخيرة يدور نقاشٌ في جيش الدفاع، كما في الجيوش الغربية، حول الجهة التي يجب أن تتولّى عمليات تشكيل الوعي والتأثير. ثمّة ميلٌ تقليديٌ نابعٌ من الطبيعة “الناعمة” لهذه العمليات، ولقربها من طبيعة عمليات الحرب النفسية، هناك توجّه لتوكيل وحدات الاستخبارات القيام بها. وذلك أيضاً، لأن مثل هذه العمليات تطلّبت في الماضي اعتماداً على معلوماتٍ استخباراتيةٍ مُحدّدة، ولذلك أُنيطَت هذه المهمة بحيّز الاستخبارات السريّ.

مع ذلك، وبما أن جوهر هذه العمليات يتعلّق بالحيز المكشوف والعلني، وأن المهارات المطلوبة لمن يضطلعون بهذه العمليات تتعلّق بالحيز الجماهيري والعمل مع جماهير متنوعة، فإنه من الأفضل أن يعطي جيش الدفاع مهمة قيادة هذه العمليات لمن يتخصّصون بالعمل في هذا الحيّز. بالإضافة إلى ذلك، فإن تطورات السنوات الأخيرة وتحوّل ساحة العمل إلى الحيز العلني تضطرّنا إلى بناء قدراتٍ بمستوياتٍ واسعة، مع استغلال نشاطات الجيوش عامةً ونشاط جيش الدفاع خاصةً للعمل في حيز الإعلام العلني.

يمكّن استخدامُ القدرات العلنية للناطق باسم جيش الدفاع في تأسيس خطابٍ مباشرٍ مع جماهير مستهدفةٍ كثيرةٍ في دول العدو، بما يشمل مخاطبة عناصر الإرهاب في الشبكات الاجتماعية، وذلك ضمن استخدام قدراتٍ متنوعةٍ تمّ تطويرها في السنوات الأخيرة في جيش الدفاع، وغرضها خلق شرعيةٍ لدولة إسرائيل عند الجماهير المستهدفة الدولية، والتأثير على العدو، وصولاً إلى  الحفاظ على قدرة الردع. إن التطور التكنولوجي والحضور في الشبكات الاجتماعية -سواء كان معلناً أو سرياً- يشكّلان اليوم ذُخراً استراتيجياً لدولة إسرائيل إلى جانب أنواعٍ أخرى من الذخر القتالي التقليدي. إن للعمل في الحيز العلني والمكشوف أفقاً واسعاً، حتى في السياق العملياتي بموازاة تكثيف المناورات وإطلاق النار في الحيز المادي.

تشمل الحرب على الوعي ثلاثة جهود: الجهد السابق للاشتباك، الجهد المرافق للاشتباك، والجهد التالي للاشتباك (أي بعد انتهائه)، وهي حربٌ تُساند الحرب الأساسية القائمة في الحيز المادي. أثناء الحرب على الوعي، يجب العمل انطلاقاً من رؤيةٍ عامةٍ تدمج مختلف الأجسام والسلطات والهيئات ذات العلاقة في الدولة، من ضمنها الجيش، وأجهزة الأمن، والجهات القضائية، والاقتصاديين والدبلوماسيين، بالاعتماد على توجيهٍ مستمرٍ من أجهزة الاستخبارات وجمع المعلومات والبحث.

يجب تطوير أدواتٍ وقدرات عملٍ في حيز الوعي للتأثير على جماهير مختلفة، وكذلك تطوير أدوات للردّ على التهديدات القائمة، وتطوير القدرة على إفشال تهديداتٍ في طور التشكّل، وأخيراً تطوير قدرات لشنّ هجومٍ استباقيٍّ لتحصيل أهدافٍ وسط جماهير مختلفة. إن نشاط جيش الدفاع في الصحافة العلنية وفي الشبكات الاجتماعية التي يُتابعها العدو، يشكّل مثالاً على نشاطٍ ذي أفقٍ عملياتيٍ كبيرٍ لدولة إسرائيل.