الضابط السابق في الجيش الأمريكي ديفيد ميكي ماركوس  David Mickey Marcus(1901-1948)، من العسكريين الغربيين الذين ساهموا في رفد العصابات الصهيونية بالخبرة العسكرية، والذي كان أول من حمل لقب “جنرال” في جيش الاحتلال الصهيوني.

مقدمة
يرتبط المشروع الصهيوني منذ بداية فكرته بشبكةٍ معقدةٍ من القوى الغربية التي ترى تحقق مصالحها من خلاله. ولقد ساهمت تلك القوى دولاً وجماعاتٍ وأفراداً في خلق هذا الكيان وتعزيز أسباب وجوده حتى يومنا هذا. اتخذت تلك المساهمة أشكالاً عدّة، كتوفير الدعم الماديّ أو السلاح، أو التدريب العسكري، أو الخبرات الزراعية والاقتصادية، وغيرها.

وفي مجال التدريب والمساندة العسكرية تبرز مساهمة ما يقارب 3500 عسكريٍّ أجنبيٍّ من غير الصهاينة، ممن اكتسبوا خبرات عسكرية متقدمة بفعل مشاركتهم في الحرب العالمية الثانية، وقد جاؤوا إلى فلسطين وشاركوا بشكل فعّال في حرب عام 1948.

عُرِف هؤلاء فيما بعد باسم “ماحل”، وهو اختصار باللغة العبرية لتعبير: “من خارج البلاد”، في إشارة إلى أنهم جاءوا من الغرب إلى فلسطين خصيصاً للمشاركة في الحرب، ولم يكونوا منذ البداية جزءاً من تشكيلات العصابات الصهيونية المختلفة، وقد وصل عددهم إلى 4500 مقاتلٍ من أكثر من 50 دولة مختلفة.

نتحدث في هذا المقال عن واحد من هؤلاء العسكريين الغربيين الذين ساهموا في رفد العصابات الصهيونية بالخبرة العسكرية وهو الضابط السابق في الجيش الأمريكي ديفيد ميكي ماركوس  (David Mickey Marcus1901-1948)، والذي كان أول من حمل لقب “جنرال” في جيش الاحتلال الصهيوني (أو ما يعادل رتبة كولونيل في ذلك الوقت).

من هو ماركوس؟

ماركوس كما يظهر في كتاب التخرج لكلية ويست بوينت
ولد ديفيد ميكي ماركوس في 22 شباط 1901 في بروكلين في نيويورك، لعائلة يهودية تعود أصولها إلى رومانيا. عمل والده مردخاي بائعاً للخضار، وتوفي بينما كان ماركوس في التاسعة من عمره. في العام 1920 انضم ماركوس إلى الكلية العسكرية الأمريكية “ويست بوينت”، وتخرج منها بامتياز عام 1924. استمر في خدمته العسكرية بعد إنهاء دراسته في الكلية العسكرية، وتسرّح من سلاح المدفعية برتبة نقيب (كابتن) عام 1926. بعد ذلك التحق بكلية “بروكلين” للحقوق، وتزوّج من “إيما هاتزبورج”.

عمل ماركوس محامياً في النيابة العامة في نيويورك، ومساعداً للمدعي العام، وكان لفترة ما نائباً لمفوض مصلحة السجون في المدينة، ومن ثم أصبح مفوضاً للمصلحة ذاتها، واشتهر في تلك الفترة بتنظيمه اقتحامات مفاجئة للسجون، وقد صُوِّرَ فيلم (Blackwell’s Island) بالإلهام من نشاطه ذلك.

نظراً لخبرته القانونية، انتقل ماركوس في العام 1939 للعمل في صفوف الاحتياط في الجيش الأمريكي، في قسم النيابة العسكرية. وعلى الرغم من أن أعضاء السلك القانوني في الجيش غير مخولين بالتدريب العسكري، إلا أن ماركوس نجح في تولي مهمة تدريب كتيبة “الرينجر”، وهي كتيبة نخبة عسكرية في الجيش الأمريكي، أثناء مناورات عسكرية خاصّة في “لويزيانا”، ومن ثم انتقل معهم إلى “هاواي” بعد الهجوم على ميناء “بيرل هاربر”، وهناك أشرف ماركوس على تدريب أكثر من ثمانية آلاف جندي خلال عام 1941.

وعلى الرغم من محاولات ماركوس الحثيثة للاشتراك في القتال خلال الحرب العالمية الثانية، إلا أنه أُرسِلَ ليشغَلَ وظيفةً مكتبيةً في البنتاجون عام 1943. وفي عام 1944 انتقل ماركوس إلى لندن في مهمة مؤقتة للمساعدة في إدارة أحوال فرنسا المحتلة من قبل الألمان، كانت تلك المهمة التي تحجج بها ماركوس أمام مرؤوسيه في سبيل تحقيق رغبته في العودة إلى الصفوف الأمامية في ساحات القتال.

انقطعت أخبار ماركوس في لندن، ومن ثمّ تفاجأ قادتُه خلال عملية “إنزال النورماندي”(1) بوجوده متطوّعاً مع قوات المظليين التي هبطت فوق فرنسا ليلة الهجوم. في يوم الإنزال قفز مع رفاقه دون تدريب مسبق على عمليات الإنزال، إلا أنه نجح بجمع الجنود وإعادة تنظيم بعض من القوات المشتتة، قبل أن يلتحم مع القوات الألمانية بمعارك مختلفة. وعند علمت القيادة بذلك، طُلِبَ من ماركوس الخروج من أرض المعركة والعودة مباشرة إلى الولايات المتحدة.

لكن ماركوس عاد مرةً أخرى إلى أوروبا بعد احتلال القوات الأمريكية لألمانيا ليخدم كرئيسٍ للشؤون الداخلية للمناطق المحتلة من قبل قوات الحلفاء في برلين وألمانيا الغربية، تحت إمرة قائد قوات الاحتلال الأمريكية في برلين الجنرال “لوسيوس كلاي”.  في العام 1946 منحت بريطانيا ماركوس لقب “الضابط الفخري” تقديراً لجهوده “المميزة التي قام بها التعاون مع القوات المسلحة البريطانية خلال الحرب”.

في العام 1946 استُدعي ماركوس ليعمل في الفريق القانوني المسؤول عن محاكمة “نورنبيرج”، حيث عمل على اختيار المحامين والقضاة لمجرمي الحرب النازيين واليابانيين، مُبدياً اهتماماً خاصّاً بتوثيق جرائم ألمانيا النازية، ومع نهاية المحاكمة بحلول العام 1947 عُرِضَ على ماركوس منصب جنرال والخدمة كملحق عسكري للسفارة الأمريكية في الاتحاد السوفيتي، إلا أنه اعتذر واختار العودة للحياة المدنية، لكن ذلك لم يكن نهاية المطاف.

الانضمام للهاغاناه

تختلف الروايات حول علاقة ماركوس بالحركة الصهيونية، ولكنها تُجمِع بأن تلك العلاقة لم تتشكل إلا بعد أو خلال الحرب العالمية الثانية، ومن المرجّح أنّ إيمانه بوطنٍ قوميٍّ لليهود تشكّل خلال خدمتة العسكرية في ألمانيا المحتلة، وبعد إطلاعه على ما يجري في معسكرات الاعتقال النازية.

بعد قرار التقسيم عام 1947، أرسل دفيد بن غوريون “شلومو شامير” إلى الولايات الأمريكية المتحدة، ليبحث في أوساط القادة العسكريين للجيش الأمريكي عن ضباط واختصاصيين محتملين لإقناعهم بالانضمام لخدمة المشروع الصهيوني – دون علم أو موافقة الحكومة الأمريكية. تعرّف “شامير” في إطار بحثه ذلك على الكولونيل “ديفيد ميكي ماركوس”، وعرض عليه ما يحمله من بن غوريون.

كان ردّ ماركوس حينها أنه سيساعد شامير في الحصول على الشخص المناسب لهذه المهمة، وبدأ البحث في قوائم الجنرالات والضباط المتقاعدين، إلا أن أحداً لم يقبل بهذا العرض بدون موافقة الحكومة الأمريكية على المهمة، وذلك خوفاً على مناصبهم في الجيش. وعندما رفض الجميع المهمة توّجه ماركوس إلى شامير معبّراً عن رغبته شخصياً في التطوع،قائلاً: “ربما لستُ الشخصَ الأفضلَ لهذه المهمة، لكنني الشخص الوحيد المستعد للذهاب”.

الوصول إلى فلسطين

في الثلاثين من كانون الثاني عام 1948، ولضمان عدم كشف السلطات البريطانية الهوية الحقيقية لماركوس، دخل إلى فلسطين تحت اسم مستعار هو “ديفيد ستون”. التقى ماركوس حال وصوله إلى تل أبيب مع بن غوريون الذي قام بتعريفه على “يجال يادين”، قائد الهاغاناه، والذي أصبح لاحقاً القائد العام لجيش الاحتلال الصهيوني، والذي اصطحب ماركوس إلى غرفة عمليات الهاغاناه في قبو “البيت الأحمر” في تل أبيب، حيث التقى عدداً من قيادات الهاغاناه والبلماح الذين سيعمل معهم خلال الأشهر القادمة.

وفي أول تعليقٍ لماركوس، بعد الاطلاع على خرائط الهاغاناه وخططها، أشار إلى صعوبة قيادة هذا العدد الكبير من الجبهات الثانوية في نفس الوقت، مُنبّهاً إلى ضرورة الالتزام بجبهات أقل وأكثر مركزية. في اليوم التالي توّجه ماركوس ليبدأ عملياً تفقد قوات الهاغاناه والبلماح المنتشرة في جميع أنحاء فلسطين.

بعد شهر من وصول ماركوس إلى فلسطين كتب إلى بن غوريون: “لقد وجدتُ أقلَ مما توقعت، وأكثرَ مما أملت به، هناك أجزاء من الجسد، هناك رجل، عين، رأس، ولكن لا يوجد حتى اللحظة جسدٌ كاملٌ”. انتقد ماركوس الضعف الإداري لدى الهاغاناه، وقلة الترابط بين الضباط وجنودهم، وانتقد كذلك الضعف الجسدي لبعض الجنود وقلة ممارسة الرياضة وانعدام النظام والخطط أحياناً، وكذلك النقص في المواصلات، والأسلحة الثقيلة.

ولكن في نفس التقرير عبّر عن إعجابه بالقدرات البشرية للهاغاناه: “قامت الهاغاناه بإعداد قادة يمكن تحويلهم إلى ضباط عسكريين من النخب الأولى بسهولة”. وبعد تلقيه لتقرير ماركوس أرسل بن غوريون للحركة الصهيونية في الولايات المتحدة الكلمات الآتية: “سيكون من الممتاز أن نحصل على  عشرة آخرين من شاكلة ماركوس، حالاً”.

يذكر أن عصابات البلماح تحفظت بدايةً على “هذا الغريب القادم من أغنى وأقوى جيش في العالم، كيف سيتفهم وضعنا؟ كيف سيتعامل مع أولادنا غير المدربين؟ كيف سيتعامل مع نقص السلاح؟ كيف سيفهم هذا الغريب طبيعة عدوّنا؟ الوضع الخاص لهذا البلد وسياساته، وارتباطها الشديد بأرض المعركة”، هكذا علّق “ييجال ألون”، قائد البلماح آنذاك، ليستدرك بعدها قائلاً: “لقد كنا على خطأ، كان ماركوس الأقرب إلى البلماح روحياً”.

أثناء حرب 1948

في الأسابيع الأولى من الحرب شجّع ماركوس القيادة الصهيونية على تبني الفلسفة الأمريكية للعمل العسكريّ، المبنية على ارتباط الضابط بثلاثة أو أربعة من قادته فقط، مؤكداً على أهمية عمل المؤسسة العسكرية بشكل منفصل عن القيادة السياسية. كان ماركوس يردد دائماً لمجلس الهاغاناه العسكري: “الجيش مثل العمل، عليك أن تَعْلَمَ من رئيسك، وأنت رئيس من، إذا كان لديك أكثر من رئيس فتلك فوضى”.

وكلّما حانت له الفرصة كان يشجع القيادة العسكرية الصهيونية على تبني سياسة الهجوم لا الدفاع، وعلى استحداث كتائب أكثر تنقلاً.  كما ساهم في كتابة ما يشبه الدليل العسكري الذي يحوي أهم الأسس العسكرية للقتال، وتم توزيعه على الجنود أو تدريسه في بعض الكتائب من قبل ماركوس نفسه، لرفدهم بالمعرفة العسكرية القتالية.

ويقول عنه عارف العارف في كتابه “النكبة والفردوس المفقود”: “يذكر اليهود هذا القائد الأمريكي (ميكي) بالثناء والتقدير لأنه هو الذي نبّههم إلى الخطر الذي يحيق بجيشهم إذا هم لم يعملوا على تقويته، وكان هذا الجيش، عندما رآه لأول مرة، من الضعف بحيث قال لهم كلمته المشهورة: “إن إسرائيل ستمحى من وجه الأرض في أول هجوم يقوم به الجيش العربي”، فاتبع اليهود نصائحه وولوه قيادة جيشهم، فقوّاه، وساقه إلى الميدان في معارك باب الواد”.

في شهر نيسان 1948 عاد ماركوس إلى الولايات المتحدة في زيارة سريعة لزوجتة المريضة، قابل خلالها الجنرال الأمريكي “عمر برادلي” الذي سأل ماركوس عن قدرة الجيش الصهيوني على الصمود في حال الهزيمة، فقال: “لسنا بجيش، بل نحن شعب مسلح، سنُهزَمُ فقط عند تدميرنا بشكلٍ كاملٍ”.  وقد كان بن غوريون قلقاً من سفر ماركوس، إذ خشي أنه لن يستطيع الرجوع بعد ذلك إلى فلسطين، فكان ردّ ماركوس حينها: “سأعود، حتى لو اضطررت للمجىء سباحةً”.

القتال في النقب

عاد ماركوس إلى فلسطين في الأول من أيار، ليعود إلى صفوف القتال مباشرةً، وكانت القوات الصهيونية قد أتمت احتلال طبريا وصفد وحيفا. وفي الرابع عشر من أيار، وبينما كان بن غوريون يُعلن قيام دولة “إسرائيل”، كان ماركوس يعمل على تحديد نقاط الضعف  في الجبهة، مشيراً بشكل خاصّ إلى جبهة النقب، التي كانت تتكون من 20 مستوطنة بخطوط اتصال ضعيفة.

انتقل ماركوس إلى النقب، ليجد القوات وقد شُلَّت حركتها على يد القوات المصرية، فأمر جنوده بالتصرف بما يملكون، بإطلاق النيران على الطائرات من الأسلحة الخفيفة، أو الهجوم الليلي، أو الهجوم والانسحاب، أو حتى عبر استخدام سيارات الجيب للهجوم السريع والانسحاب. في نفس الأسبوع وصلت سيارات جيب جديدة من الولايات المتحدة لتدخل المعركة في النقب ضدّ القوات المصرية، ولتنتهي المعركة بدفع القوات المصرية إلى غزة وسيناء، ومن ثم احتلال النقب الفلسطيني بالكامل.

عاد ماركوس إلى تل أبيب بعد ذلك، ومن ثم انتقل إلى الجبهة الأضعف عند القوات الصهيونية، وهي جبهة القدس. كانت تلك الجبهة الأضعف والأهم نظراً لمحاصرة المقاتلين العرب طريق باب الواد ومنع وصول الإمدادات لليهود، وهو الطريق المؤدي إلى المدينة والذي جرت على جنباته وفي سبيل السيطرة عليها الكثير من المعارك (القسطل مثلاً).

قائد جبهة القتال في القدس

فشل هجوم “شلومو شامير” الأول (عملية “بن نون أليف”-عملية “بن نون أ”) على القوات الأردنية في اللطرون تحت قيادة الكولونيل حابس المجالي، في الخامس والرابع والعشرين من أيار، والتي تكبّد فيها  الصهاينة خسائر بالأرواح والمعدات.

وبعد فشل القوات الأردنية في انتهاز الفرصة وقيادة هجوم مضادّ ضدّ مركز قيادة القوات الصهيونية في المنطقة، انضم ماركوس لـ”شلومو شامير” للتخطيط للهجوم الثاني على اللطرون، أو ما يسمى “عملية بن نون بيت (ب)”. وبعد وصول قوات جديدة من كتيبة “جفعاتي”، بدأ العمل على هجوم أكثر تنظيماً من الهجوم الأول تم فيه توحيد غرفة العمليات والتنسيق المباشر بين الأسلحة المختلفة من قوات المشاة، والمدفعية، والمدرعات.

على الرغم من نجاح المدفعية الصهيونية في تدمير الأسلحة الدفاعية للجيش الأردني، إلا أن العملية فشلت بسبب الارتباك في صفوف قوات المشاة الصهيونية التي كُشفت مواقعها، إما على يد القوات الأردنية، أو عن طريق الصدفة، أو بسبب النيران التي اشتعلت بسبب استخدام المشاة الصهاينة لقواذف اللهب لضرب التحصينات الأردنية.

في يوم 28 أيار 1948، أعلنت القيادة الصهيونية في تل أبيب أن ماركوس هو قائد جبهة القدس، وكانت تحت إمرته ثلاث كتائب (“عتصيوني”، “هريئيل \بلماح”، و”شيفع”)، وبالتالي أصبح ماركوس قائداً لقطاعٍ كبيرٍ وأساسيٍ من القوات الصهيونية. وبعد أن كان أكبر مركز قيادي للقوات الصهيونية هو قيادة كتيبة، أصبح ماركوس جنرالاً  أيّ قائداً عسكرياً لجيش يقود أربع كتائب للمعركة، وهو ما يُسمى بالعبرية “ألوف”، هو مصطلح عبري  قديم مذكور في التوراة،  ويعني “الرجل الذي يقود الآلاف في الحرب”.

قاد ماركوس من منصبه القيادي هذا هجومه الأخير على اللطرون تحت مسمى عملية “يورام”. وعلى الرغم من التخطيط الجيّد للعملية، وإشغال القوات الأردنية بهجوم ثانوي قبل أن يفاجئ القوات الأردنية بهجوم مباشر على القلعة، واختراقه لمعظم الدفاعات الأردنية في الموقع، إلا أن فشل ماركوس في إيجاد قادة ميدانيين قادرين على اتخاذ قرارات سريعة خلال المعركة أدّى إلى نتائج كارثية على القوات المهاجمة ونصر جديد للقوات الأردنية المدافعة.

وقد ادعت بعض المصادر الصهيونية أن الهدف من عملية “يورام” كان التغطية على عملية فتح طريق بورما، حيث قام ماركوس بإلهاء القوات الأردنية لإشغالهم بعيداً عن الطريق الذي كان يجرب العمل على فتحه بعيداً عن اللطرون، للالتفاف على طريق باب الواد التي تقع اللطرون على مشارفها، والتي يمنع المقاتلون العرب الصهاينة من المرور عبرها.

طريق بورما

ناقلات صهيونية تشق طريقها في طريق بورما
بينما كان ماركوس يرسل القوات للهجوم على اللطرون، كان يُرسلُ قواتٍ أخرى للسيطرة على قريتي بيت جيز وبيت سوسين، لتسقط القريتان في 28 أيار 1948، وذلك بعد أيامٍ قليلة من نجاح القوات الصهيونية في احتلال بيت محسير وساريس.

أدّى سقوط هذه القرى إلى فتح الطريق للقوات الصهيونية باستخدام طريقٍ جبليٍّ موازٍ لطريق باب الواد، يبدأ الطريق من مشارف قرية دير محيسن ويمرّ بقرى بيت جيز وبيت سوسين، ليصل بعدها الى بيت محسير وساريس، ومن ثم طريق القدس بهدف إيصال إمدادات للكتيبة الصهيونية المتحصنة داخل مدينة القدس. 

كان شقّ هذا الطريق الجبلي الذي عُرِف لاحقاً بطريق بورما، عاملاً أساسياً في السيطرة على غربيّ القدس، والتحايل على الحصار الشديد الذي فرضه العرب عبر طريق باب الواد، مانعين التواصل الصهيوني العسكري بين الكتائب خارج وداخل القدس.
بالاضافة الى توفير الدعم اللوجستي الضروري للقوات الصهيونية المستوطنة بالقدس، أدى اعتماد الطريق من قبل لجنة الأمم المتحدة المفوضة بتثبيت وقف إطلاق النار، كطريق يربط بين الكيان الصهيوني الوليد ومستعمراته في القدس إلى إعطاء شرعية دولية لاحتلال القدس.

وعلى الرغم من أن القوات الأردنية استخدمت هذا الطريق الجبلي خلال يومي 15 و16 أيار، إلا أنهم لم يعيروه أيّ اهتمام، ولم يقوموا بتأمينه. وفي 17 من أيار استخدم الطريق ثلاثة من قادة البلماح ليتسللوا الى خارج القدس المحاصرة، وفي 18 أيار حاولت قافلة مدرعة تابعة للقوات الصهيونية عبور الطريق، إلا أنها وقعت فريسة لنيران المدفعية الأردنية من موقع اللطرون.

سيارات المنظمات الصهيونية في طريقها للقدس من خلال طريق بورما
على الرغم من ذلك، بدأت القوات الصهيونية بالعمل على فتح الطريق لاستخدامه لنقل المساعدات للقوات المحاصرة داخل القدس. في البداية تم إرسال المساعدات على ظهور البغال والحمير وظهور المقاتلين الذين عبروا الطريق، متسللين تحت جنح الظلام، بعيداً عن أعين القوات الأردنية في موقع اللطرون، والذين فقدوا نقاط مراقبتهم المشرفة على طريق بورما بعد سقوط بيت جيز وبيت سوسين.

وفي 31 أيار والأول من حزيران وصلت أول قافلة من سيارات الجيب إلى القدس من الطريق الذي سماه ماركوس “شارع بورما” تيمناً بطريق بورما في الصين، والذي استخدمه الحلفاء لإيصال إمدادات للقوات الصينية خلال الحرب العالمية الثانية. 

تم شق جزء من الطريق بعيداً عن أعين القوات الأردنية في موقع اللطرون، والذين أدركوا ما حصل بعد فترة، ففتحت المدفعية الأردنية نيرانها على بيت سوسين وما حولها، إلا أن نيران المدفعية كانت عشوائية ونادراً ما أصابت أهدافها.

قامت القوات الأردنية بإرسال قناصة لإيقاف العمل في الطريق، وبين يومي الـخامس والسادس من حزيران، قتل عامل صهيوني وجرح 3 آخرون بالقرب من شارع بورما. في التاسع من حزيران حاولت القوات الأردنية احتلال قرية بيت سوسين للسيطرة على الطريق إلا أن الهجوم تم صدّه،  وحافظ الصهاينة على سيطرتهم الكاملة على الطريق.

فيما بعد بدأت شركة “سوليل بونيه” الصهيونية العمل على تهيئة الطريق لتعبر أول آلية عليه من أوله إلى آخره يوم بدء الهدنة، الحادي عشر من حزيران. وبالإضافة إلى طريق بورما، خلال فترة وقف إطلاق النار، عمل الصهانية على  فتح طرق ثانوية، استخدمت لإيصال السلاح إلى داخل القدس، كما تم ربط الصهاينة هناك بالمياه والمحروقات بأنابيب تم وضعها على طول طريق بورما.

بالخطأ!

في فجر الحادي عشر من حزيران 1948، صرخ المجند “أليعازار الينسكي”، ابن الـ 18 عاماً طالباً من الشخص في الجهة المقابلة كلمةَ السّر، أجاب ماركوس باللغة الإنجليزية التي لم يفهمها “ألعيازار”، فأطلق الأخيرُ النّارَ  في الهواء قبل أن يُطلِقَ النّارّ مباشرةً على ماركوس. وهكذا فارق ماركوس الحياة. نُقِلَ جثمان ماركوس إلى الولايات الأمريكية المتحدة برفقة “موشيه دايان”، وزوجته “روث”، ودُفِن في الأول من تموز في مقبرة الأكاديمية العسكرية الأمريكية “ويست بوينت”،  وقد حضر جنازته عددٌ كبيرٌ من الشخصيات العسكرية والمدنية الأمريكية.

بسبب ظروف مقتل ماركوس الغامضة، ووجود معارضة حقيقية لماركوس في صفوف البلماح والهاغاناه، قام ديفيد بن جوريون بتوكيل “يعقوب شابيرا”، الذي أصبح لاحقاً النائب العام الصهيوني، بالتحقيق في أسباب مقتل ماركوس. على الرغم من تضارب الأنباء حول عدد الطلقات التي أطلقت، وإصابة ماركوس وحتى سبب خروج ماركوس من موقعه، إلا أن “شابيرا” ادّعى في تقريره الذي لم يتم نشره أبداً، أن رصاصات “إلينسكي” القاتلة كانت وفق القانون والتعليمات. وهنا يجدر التنبيه إلى وجود رواية صهيونية مغايرة ومُغيَّبة حول مقتل ماركوس تشير إلى أنه تمّ اغتياله بسبب “خلافات” داخل العصابات الصهيونية ودوره في تلك الخلافات. 

مقاتلون في الهاغاناه يحملون جثمان ماركوس في القدس قبل نقله إلى أمريكا

شهادة بن غوريون

في مقدمة السيرة الغيرية التي كُتبت عن ماركوس ونشرت عام 1965، كتب دفيد بن غورويون: “روى ماركوس لي عن ماضيه وتجربته العسكرية، وعن دراسته في “وست بوينت”، وعن دوافعه للقدوم إلى البلاد. هو ليس صهيونياً، ولكن حسب إيمانه يستحق الشعب اليهودي أرضاً ودولةً له، وبما أن العرب أعلنوا أنهم لن يقبلوا قرار الأمم المتحدة ويرفضوه بالقوة، فإنه يرى أن من واجبه كأمريكي وكيهودي المساعدة بكل ما يقدر عليه”.

وفي التعزية به قال بن غوريون: “لقد عُيّن قبل زمن قصير كضابط رئيس لقواتنا في جبهة القدس، وأصبح فوراً الروح الحيّة للمسار العسكري في تلك الجبهة، وهي الجبهة التي شهدت المعركة الأصعب والأهم من ضمن كل المعارك التي خضناها. سيبقى اسمه مرتبطاً في العالم بتاريخ الشعب اليهودي، وأنا متأكد أن يهود أمريكا سيفخرون بابنهم الكبير والشجاع الذي فدى بروحه خلاص إسرائيل”.

*****

الهوامش

(:1) إنزال النورماندي: هو الاسم المعروف للعملية نبتون الذي تم من خلالها انزال اكثر من ١٥٠ الف جندي على سواحل فرنسا المحتلة خلال الحرب العالمية الثانية.
(2) محاكمات نورنبيرغ: هي سلسلة من 13 محاكمة عقدتها قوات الحلفاء ما بين الأعوام 1945-1949 لمجرمي الحرب من الجيوش المهزومة بعد الحرب العالمية الثانية، كالجيش الألماني والياباني والإيطالي. اكتسبت اسمها من المدينة الألمانية نوبرمبرغ Nuremberg  التي عقدت فيها جلسات المحاكم.
(3) المقولة منقولة من حوار “تسيبورا بورث” مع “ييجال ألون”.
(4) الكتيبة تتكون من 8 إلى 12 سرية بتعداد جنود يصل إلى 1200 بينما تتكون السرية من 8 فصائل بتعداد لايتجاوز 220.

المصادر:
1- مقال عن “ديفيد ميكي ماركوس” منشور على موقع “ماحال” الذي يخلد إرث الضباط الغربيين الذين حاربوا مع الصهاينة في حرب 1948. يمكن الاطلاع على المقال هنا.
2- مقال عن “ديفيد ميكي ماركوس” منشور على موقع “هيستوري.نت”، يمكن الاطلاع على المقال هنا
3- مقال عن طريق بورما، للاطلاع هنا.
4- كتاب بعنوان “الجنرال”، للكاتب: تد بركمان، يروي السيرة الشخصية لميكي ماركوس.