يعدّ المكان عنصراً محوريّاً من عناصر البناء الفنيّ والدراميّ في أيّ عملٍ أدبيٍّ، ولا يمكن الابتعاد عن تأثير المكان في الأعمال الأدبيّة، لكونِه يختبرُ الظاهرةَ الجماليّةَ لدى المؤلف، وباعتباره أهمّ ما ينظُم العناصر الإبداعيّة ويربطها سويّةً، مكوّناً البيئة التي تنمو فيها حبكة العمل الأدبيّ، ويُلقى بصناعة المكان على سرديّة المؤلف الذي يدفع بكلّ ما لديه من موهبةٍ لمحاولة نقل المكان الذي تشغله الشخصيّة الأدبيّة المُتخيّلة من حيث الاسم والتاريخ والأبعاد والعادات الاجتماعيّة والأحوال السياسيّة، إذ تُفرّد للمكان مساحةٌ خاصةٌ في أيّ عملٍ روائيٍّ. ولطالما ارتبط الأدباء بمدنهم وارتبطت هي بهم أيضاً؛ فارتبطت موسكو بـ “تولوستوي”، والقاهرة بنجيب محفوظ، وباريس بـ “بلزاك” و”موديانو”.

شغلت مدينة القدس حيّزاً كبيراً في مخيلة الأدباء في البناء الفنيّ، سواءً في الأدب المقاوم، أو في الأدب العربي بشكلٍ عامٍّ، فضلاً عن الأدب الصهيوني. ونقل هذا الاهتمام الصراع العسكريّ والسياسيّ، والتحيّزات الدينية والاجتماعيّة، حول مدينة القدس إلى ساحات الأدب. فالمكان، وتحديداً القدس، متشعّبٌ ومتداخلٌ في العالم الأدبي، ويحتاجُ للكثير من التدقيق القَلِق على مصير المكان حتّى على الورق؛ فالتاريخ يسجّل رؤيته الخاصة عن هذا الجانب الحيويّ في العمل الإبداعي.

خطورة وصفيّة المكان – الرواية نموذجاً

يستوجب وصفُ المكان تحديدَ زمنٍ يُعطي مؤشراً إلى أيّ اتجاهٍ سيتحرك الوصف، فالزمن يهيئ القارئ نفسيّاً ليتخيل المكان ويتقبّله حسّياً، ومن هذا المنطلق فمكان الرواية – الواقعيّة تحديدًا- بالغُ الأهمية والخطورة في ذهنيّة القارئ. تطوّر الوصف المكاني على يدّ كلٍّ من “بلزاك” و”فلوبير”؛ إذ صارت المنازل، والشوارع، والرسومات على الجدران، والأثاث تحدّد هويّة الأشخاص في الرواية ومزاجيتهم وأصولهم، ويُمكن للوصف أن يُضيف قيمةً جماليّةً أو تحقيريّةً، كيفما يريد الأديب. وحول العلاقة بين الرواية والتاريخ، يرى نجيب محفوظ أنّ الرواية عبارةٌ عن “استعراضٍ للحياة اليوميّة بكلّ مشاكلها وقضاياها وأشخاصها…وجزءٌ من تاريخٍ لم يكتبه المؤرخون، ثمّ إنّ التاريخ عبارةٌ عن أحداث وتفسير ورؤية وأشخاص، وكذلك الرواية”.

وانطلاقاً من ذلك، يصبح من الضروريّ معالجةُ “مكان القدس” في الكتابات العربيّة، وضرورة كشف تزوير هويّة هذا “المكان” في الأدب الصّهيونيّ على العديد من المحاور، تناوَل أبرزُها المحور الاجتماعيّ وشبكة العلاقات الناشئة في القدس باعتبارها مدينةً محتلّةً. وفي روايته “رأيتُ رام الله”، يوضّح مريد البرغوثي أهمية هذا المحور، قائلاً:

“العالم ليس معنيّاً بقدسنا، قدسُ الناس، قدسُ البيوت والشوارع المبلّطة والأسواق الشعبيّة، حيث التوابل والمخلّلات، قدسُ العتّالين ومترجمي السيّاح الذين يعرفون من كلّ لغةٍ ما يكفلُ لهم ثلاث وجبات معقولةٍ في اليوم.. العالم معنيٌّ بـ “وضع” القدس، بفكرتها وأسطورتها، أمّا حياتنا وقدس حياتنا فلا تعنيه، إنّ قدس السماء ستحيا دائماً، أمّا حياتنا فيها مهددةٌ بالزوال”.

وتِبعاً لهذا البعد الخطير الذي أشار له مريد، فإذا اختفت الدكاكين والمنازل الفلسطينيّة والأزياء والأطعمة، وإذا اختفى تاريخنا حول المدينة، وذهبت معه قصص نضالنا وصمودنا، ماذا سيبقى؟ بالتأكيد ستبقى القدس التي يتمّ تهويدها.

وجد الأدباء العرب في القدس بيئةً معيشيّةً، كأصحاب الأرض والأكثر استقراراً نفسيّاً وصلةً بالمكان، فتعدّدت موضوعات رواياتهم لتشهد الحبُّ والخيانة والنجاح والخسارة، وشملت حياةَ بشرٍ واقعيّةً مُبتعدةً عن الخرافات أو الوعود الدينيّة، على عكس ما سنراهُ في الأدب الصهيونيّ.

القدس في الأدب العربيّ

سنتّخذ في هذا المقال روايتيْن عربيّتيْن كنموذجٍ للحديث عن ظهور القدس كمكانٍ في الأدب والرواية العربيّة، واخترتُ روايةَ (مصابيح أورشليم)، للروائيّ العراقيّ علي بدر، لتناولها القدس كـ”مكانٍ” في سياقٍ تاريخيٍّ، ورواية (سوناتا أشباح القدس)، للروائي الجزائريّ واسيني الأعرج، والتي تتناول المدينة في سياقٍ رومانسيٍّ عاطفيٍّ. وبينما تولي كلتا الروايتين أهميةً لمدينة القدس، كظرفٍ مكانيٍّ للرواية، تستفيضان في وصفها، من زاويتين مختلفتين.

مصابيحُ أورشليم – علي بدر

كلُّ شيءٍ صامتٌ حول هذه المدينة..  كلُّ شيءٍ أخرس

في هذه الرواية، يقدّم الروائي علي بدر خريطةً للقدس على مرّ العصور، قام بتجميعها وتركيبها بنفسه، وجعل أحد أشهر المثقفين الفلسطينيين والعرب بوصلَتَنا لقراءة هذه الخريطة: إدوارد سعيد، واصفاً أعماله الفكريّة بأنّها “أخطر الحروب على إسرائيل”. يبدأ بدر برسم القدس في روايته بوحيٍ من صورٍ التقطها “جوزيف دو برانغي” للمدينة،[1] والتي تعدّ من أقدم صور المدينة. كما اعتمد على صور “جيمس غراهام”، أوّل مصوّرٍ يعيش في القدس، خلال خمسينيّات القرن الماضي، وأحد رجال البعثات التبشيريّة للقدس، كما يستندُ إلى العديد من الوثائق الأمريكيّة والروسيّة والقصص الخياليّة التي تناولت الحديث عن القدس؛ إذ يُدرك علي بدر صعوبة الكتابة عن مدينةٍ هُدمت 18 مرةً وأعيد بناؤها إثر كلّ هدم، ويمتدّ عمرها إلى 45 قرناً، ويصفها قائلاً: “القدس شيءٌ لا يمكن تصنيفه، وحده الله يمكنه الكتابة عنها” .

القدس في خمسينيّات القرن الماضي. تصوير: جيمس غراهام

يحاول علي بدر، من بداية الرواية، أن يرسم خطّ التغيّر في القدس وفي حياة ساكنيها مع مرور الزمن؛ فكان يعقد المقارنات بين ملابس العرب منذ إعلان الدولة اليهودية؛ فحاول، مثلاً، قراءة ملابس والي القدس  الذي يظهر في الصور مُرتدياً الأخضر المُغطّى بقفطانٍ لونه أزرق ونعلٍ أخضر اللون ويُمسك مسبحةً في يده، فيما نقرأ نحنُ من هذه الألوان الحسَّ الصوفيَّ وفكرةَ الخير على أرض القدس التي يُجسّدها خليط اللونين الأخضر والأزرق.

القدس في خمسينيّات القرن الماضي. تصوير: جيمس غراهام

نشهَد في الرواية ثنائيّةً وصفيّةً (فلسطينيّةً – صهيونيّةً) من وجهة نظر بدر؛ فالقدس التي ضاعت ما بين السلوان والسّهو تمتدّ بين منازل قديمةٍ وشرفاتٍ مغلقةٍ وبين شوارع مُبلّطةٍ مُغبرّةٍ وأزقّةٍ رطبةٍ، وباعةٍ على الأرصفة، وأطفالٍ نائمين على أكتاف أمُهاتهم، وشحّاذين، وعُمّالٍ بسواعدٍ مُتعرّقةٍ يدخلون القدس المحتلة، وصيادي يافا الذين يبيعون السمك في الشِّباك، وعُمّال النظافة التائهين في الحدائق، وحارة النصارى بروائحها وعالمها ومناخها الحارّ المُفعم بروائح الراهبات المُميّزة.

ويذكر البوابات القديمة، كباب العامود وباب الزّاهرة وباب الخليل، ويصف الطرق المؤدّية إليهم بأنّها طرق “الأنبياء والملوك”، وفي ذات المشهد القديم جعلها الطرق التي اتّخذها “الجنود والتجار والكولنياليون” مساراً لهم. ثم يذهب إلى ذِكر تغيُّر المارّين بطرق القدس على طول أزمانها؛ إذ شهدت المدينة عدّة تحوّلاتٍ لطبيعتها ومركزها الذي جعلها طريقاً مهمّاً للمستعمر وحتّى مقصِداً له، كما جعلها طريقاً تجاريّاً تخضع لتغيّرات التجارة الدوليّة وطرقها؛ من هذا ما سجّله من تغيُّر أحوال القدس مع افتتاح قناة السويس وكثرة حضور المستشرقين والمستكشفين إليها، مثل الأديب الفرنسي الشهير “فولبير”، الذين لم تُرحّب المدينة بهم، والكثير من الصور التي التقطتها هذه البعثات كانت لنساءٍ مُحجّباتٍ وبيوتٍ وشبابيكَ مغلقةٍ أُوصِدت في وجوههم.

تتغيّر ملامح مدينة القدس مع مرور زمن الرواية وتختفي أحياؤها القديمة لتحلّ محلَّها بناياتٌ جديدةٌ ومحلاتُ ملابسٍ رياضيّةٍ و”فاست فود”. ويمرّ بطل الرواية، إدوارد سعيد، على فندق الملك داوود، هذا الفندق الذي يُعدّ نموذجاً حيّاً للتغيّر ودليلاً على إرهاب الصهاينة؛ إذ تمّ تفجيره من قبل عصابات الإرغون برئاسة مناحيم بيغن آنذاك، ومن ثمّ أعاد الصهاينة بناءه والاستحواذ عليه، وهو مثالٌ بسيطٌ على عملية التهويد الواسعة لمدينة القدس.

بالانتقال إلى مُستعمرة “أورشليم إسرائيل” التي تختزل كلّ هذا في حدائق توراتيّةٍ وصورةٍ مُتخيّلةٍ لحيوانات التوراة الناجية من الحرب، موضوعةٍ في حديقةٍ شيّدها “إهرون شولوف” [2]؛ إذ ترى شخوص الرواية اليهودية أنّ القرود والأسود والغزلان هي التي شكّلت محور أحلام النبي يعقوب، كرموزٍ تُشير إلى رفقاء المجاعة والحرب. وتتشكّل “إسرائيل” في حوارات شخوص علي بدر باعتبارها حُلماً يوتوبيّاً، بلّ “صوتاً بلا موسيقى”.

يتعمّد علي بدر ذكرَ هرتزل وصنعَ مونولوجٍ على لسانه وهو يقول: “إن “أورشليم” تعطي لنا فرصةً جديدةً، فرصةً أخرى لنكون أوروبا في مواجهة البربر”، وهذا خطٌّ يبيّن فيه بدر استخدام الصهاينة للقوة حتى في الخطابات؛ كما يأتي على لسانهم في أحد فقرات الرواية: “اليوم نحنُ التاريخ .. نحنُ نكتبه.. نحنُ شهودُه وقُضاته وتوراته.. وليس هناك من معترضين، ولا أيّ شيءٍ من هذا الخراء”! جملةٌ ترسّخ حضور سياسة الإقصاء في وجه كلّ مُعترضٍ على وجود هذا الكيان المغتصب.

تشرح الرواية أهميّة القدس الاستثنائية في السرديّات اليهوديّة وللسياسة الصهيونيّة؛ فيقول “بن غوريون”: “لا وجودَ لـ”إسرائيل” دون القدس، ولا وجودَ للقدس دون الهيكل”. هكذا إذاً تُعتَبر القدس وعاءً لصناعة أيديولوجيا احتلال الأرض.

وقد أجاد علي بدر ضبط أصوات المَشاهِد؛ فسقوط فلسطين مع صراخ الأمّ وصوت البقاء يرافقُ حركة خروج الفلسطينيين من قريةٍ لأخرى، وحركة جنود “بن غوريون”، مُختلِطاً بدعاية الأخير بأنّه حامي الهيكل وآخرُ الناجين من محرقة أوروبا، فضلاً عن همس الأغنيات العربيّة وزُخْر الشوارع بها.

يعلّل علي بدر كتابته هذه الرواية، فيقول إنّ “إسرائيل” نشأت كفكرةٍ أدبيّةٍ رومانسيّةٍ نُسجت من الخيال، فبالتالي “يجبُ إعادة كتابتها عن طريق الأدب، وهكذا يتم تكذيبها أيضاً، الرواية هي أفضلُ حربٍ”.

سوناتا أشباح القدس – واسيني الأعرج

القدسُ مدينةٌ تكفي الجميع، قلبها واسعٌ دينها كبير، إيمانُها متعدّد
وأشجارها تغطي كلّ العرايا ومراياها ليست عمياء وحيطانها ليست للبيع

تسرد الروايةُ قصة الفقد والشوق إلى الوطن عبر رحلةِ الطفلة ميّ التي تغادر القدس إلى بيروت، ومن ثمّ إلى أمريكا، وهي طفلةٌ ذات الثماني سنوات، لتكبر وتصبح فنانةً تشكيليّةً وأمّاً لطفلٍ اسمه “يوبا”. تمرّ الأيام وتموت الأم “ميّ”، تاركةً وصيةً بحرق جثتها وذرِّ رفاتها في حارات القدس. وفي فصلٍ بعنوان “كبرياء اللّون وهشاشة الفراشة”، يُرفض السماح لميّ أن تُدفن في القدس، لتقرّر وهبَ جسدها للنار، وهو نوعٌ من رمزيّة الاحتجاج على التعسّف ضدّ أصحاب الأرض الأصليّين، فتحيي ميّ في ذاكرتها خالَها المجنون بالحياة، وأمَّها ذات الصوت المسروق، وتعيدُ أهلَ القدس من القبور: الجدّ والحبيب والأخوة، في دلالةٍ على البقاء، وبقاء الأرواح أيضاً في موطنها الأصليّ، لتُنثَر الرفات والروح هناك في حواري القدس وفوق نهر الأردن، وتُدفن العظام في أمريكا.

يوبا -الابن- لم يزُر القدس أبداً إلّا في مخيّلته، زارَها مرتين في الخيال، والثالثة ستكون لنثر رفات أمّه في حواري مدينتها القدس. في الفصل الأول، يسرد “يوبا” تخيّلاته للقدس، إذ ألقى به جدُّه إلى سوق المغاربة خلفَ حائط البراق، إلا أنّ جده “بوميدين لمغيث الأندلسي” خَلَد إلى النوم ولم يستيقظ أبداً، وقال الناس إنّ الرجل غادر من شدّة حزنِه على القدس، متّجهاً نحو الأندلس ليموت ميتته الأخيرة هناك. يوظّف واسيني الموشحات الأندلسية في هذه الرواية، وهو ما يُمكن تفسيره ربطاً بين احتلال القدس وضياع الأندلس، كإحدى علامات الضعف والوهن في التاريخ العربيّ والإسلاميّ.

يُكمل “يوبا” تخيّلاتِه عن زيارته الثانية، لكن هذه المرة يزيدُ “واسيني” من وصفهِ لأحياء القدس التي تعبرها روح أمه في جوٍّ معبّقٍ بالبارود. تدور ميّ من حارةٍ إلى حارة، و من زاويةٍ إلى أخرى، مروراً بالحرم القدسيّ وقبة الصخرة والمسجد الأقصى، ومن باب الرحمة إلى حارة الشرفة، ومن ثمّ إلى حارة اليهود في الجزء الجنوبيّ الشرقيّ من المدينة، مروراً بحارة المغاربة وباب المغاربة، إلى حارة الأرمن وباب النبي داوود وجبل الزيتون، ثمّ الجزء الشماليّ من المدينة، حيثُ حارة النصارى. تمرّ بجوار كنيسة القيامة والباب الجديد حتّى حارة السعديّة وحارة حطّة. كلّ هذا وهي تردّدُ “حذاري أن تكون مثل جرسٍ معلّقٍ لكنيسةٍ مهملةٍ كلّما مسّتهُ يدٌّ تداعى ألماً، ثمّ سكن إلى ألمِه الأول”، ثمّ تصرخ مي: “وجدتُها .. وجدتُها.. ألوان القدس يا يوبا”. يستيقظ يوبا من حلمه، ويفهم لماذا كان اللونُ همَّ أمه طيلة حياتها، ولهذا طالما قالت إنّ لون القدس “نتّف أعماقها”.

يستخدمُ واسيني الأعرج الوصفَ الدقيقَ لمدينة القدس، فروح ميّ تعرفُها وتعرّفُ يوبا عليها، حتّى وإن غادرتها مذ كانت طفلةً، في دلالةٍ على ارتباط الروح بهذه الأرض المقدسية. كان واسيني مُدركاً – منذ اللحظة الأولى في الرواية-  أنّ “كلّ من يغادرُ أرضاً يحتلَّها بالضرورة صدىً آخرُ، مخالفٌ له في كل شيء، حتّى في تنفّسه و أحلامه”.

لجأ الأعرج في روايته هذه إلى لغةٍ شعريّةٍ للتعبير عن حالة الحزنِ والفقد التي تنتاب يوبا لأمّه المتوفية، وجمَع هذا مع حزنِ ميّ لفقدانها الوطن. وعلى مدار الرواية، سندركُ كيف سيلعب اللونُ دور الرفيق في حياة ميّ، والذي يرمز به واسيني للسعادة داخل الوطن والمفقودة خارجه، إذ يؤكدُّ على لسان بطلته “الناس لا يدركون أنّنا لا نعود إلى أرضنا الأولى لنموت فيها فقط، ولكن لنعيش جزءاً جميلاً من العمر”.

ولا تغيب الأكلات الشعبيّة الفلسطينيّة عن صفحات الرواية، حتّى عندما تواجدت ميّ في نيويورك، فتتذكرُ صانع الفلافل “عم أبو نجيب”، وهو يمدح فلافله “يا الله يا فلافل! طعمُ الغنيّ والفقير، الصغير والكبير”. حتى الفعل الديني لدى ميّ ارتبط تماماً بالقدس؛ فهي تقرأ الإصحاح الرابع والعشرين لأنّه يذكّرها بجبل الزيتون، فتقول: “لم أكن أرى نيويورك، كنتُ منغمسةً في أحياء القدس القديمة”.

رحَل جسدُ ميّ وظلّت روحها هناك، في القدس، حيث تركتها. حصل بعدها ابنها على كتاباتِها، وعمَد واسيني للإشارة إلى أنّ رائحة الزيتون كانت تفوحُ من حاجياتها، فعلى الرّغم من أنّها لم تعد يوماً إلى القدس، إلا أنّ رائحته لم تفارقها. تظهر معركةُ واسيني الأدبيّة من أجل فرض الواقع الفلسطينيّ على القدس، حتّى ولو يسكنها رفاتُ الموتى، فيما سيقوم به “يوبا”، فقد وضع رفاتَ أمّه في جرارٍ، وزّعها على مقابر الأسرة، وأعاد كتابة الأسماء على شواهد القبور حتّى لا تمحيها الرياح.

كما أكثَر الأعرج من وصف الأماكن وأعطاها صِبغةً اجتماعيّةً فلسطينيّةً لأحداثٍ حول الحبّ والفشل والانكسار والفجيعة، وحتّى الدين. حيث لجأ إلى الرمزيّة الصوفيّة دلالةً على الحبّ الشديد، وأعطاها للجدّ الذي مات منذ زمنٍ بعيدٍ، دلالةً على غياب هذه السّماحة وهذا الحبّ للقدس عن المشهد الحالي.

ولم يغفل الأعرج أن يسلّط الضوء على ممارسات الاحتلال الصهيوني من خلال تجربة “يوبا”، وكيف يفرّق بين العربيّ وحامل الجنسيّة الأخرى في محيط القدس، وتحديداً عند حائط البراق، حيث دارَ حديثٌ قصيرٌ جداً بينه وبين جنديٍّ صهيونيٍّ كان يحمي مُصلّين صهاينةً، أظهر فيه الأخيرُ احتراماً كبيراً ليوبا لأنّه أمريكيٌّ وليس عربيّاً. ووُفّق الكاتب، إلى حدٍ ما، في توظيف الدلالات المقاوِمة وترسيخ أثر الفعل المقاوم في سياق الحديث عن المدينة المقدّسة. كما تلفتُ الرواية إلى حسرة بيع وتسريب الأراضي في القدس، وكيف اتّخذ جدّ ميّ قراراً عائلياً بتجريم بيع الأراضي إلى اليهود.

ثمّة خطٌّ آخرُ في الرواية، وهو خطٌّ تعلو فيه تشاؤميةُ الكاتب للوضع الحالي في فلسطين، تمثّلت الكلمات على لسان أبطاله، أنّهم لن يعودوا وأنّ كل ما بقي من ذكريات القدس ومفاتيح الديار القديمة لن يصبح إلّا ذكرى ألمٍ وفجيعةٍ. ولكن في المقابل، جاء على لسان ميّ، في كثيرٍ من المواضع، الندم لمغادرة القدس لا من أجل تحريرها، بلّ للموت فيها. كما جاءت في نصائحها لابنها طالبةً منه أن ينسى الماضي، وألّا يخون الحاضر، فتقوم بزيارة الأندلس وترفض زيارة القدس، لأنّ كل من تبقى فيها هم الأموات، وتتمنى لو ترحل ولو بروحها لأخْذِ حفنةٍ من تراب القدس وتتوسّد بها كالدراويش. يفتح هذا التناقض باباً لتساؤلات اليأس مقابل الأمل، والصراع بين المنفى والوطن، فضلاً عن خيار المقاومة والصمود في الأرض مقابل الاستسلام للمحتل.

القدس في الأدب العبري
رواية الجالسة في الجنّات – حاييم هزاز

ارتكن الأدبُ الصهيونيُّ في رؤيتِه للقدس إلى الحكايات التوراتية؛ حيث وُصفت بأنّها “أرض الله” و”أرض داود”، التي نُقل لها تابوتُ العهد وبُني فيها هيكلُ سليمان، وبها “حائط المبكى”. شكّل الوجدانُ الصهيونيُّ اليهوديُّ رؤيةَ الكاتب الصهيوني الأدبيّة عن المدينة، فتمخّضت رؤيةً سلبيةً يتمّ التعامل معها باعتبارها بيئةً ماديّةً لأحداثٍ روائيّةٍ، أو يتمّ التعامل معها بشكلٍ ميثيولوجيٍّ استناداً على كونها أرضَ الربّ وأرضَ الصلاة والحجّ.

اهتمّ الروائيون الصهاينة بالقدس وقسّموها إلى مستوياتٍ فكريّةٍ واجتماعيّةٍ أسطوريّةٍ؛ فيتمّ الدفع بأغلب أساطير الكتاب التوراتيّ حول المقدّسات في القدس إلى البناء الروائيّ، وجعله مُلغّماً بالرموز التي تصعب حتّى على القرّاء. يُعيدنا هذا إلى أهمية وصف المكان، ليتمّ التعاملُ مع القدس كبيئةٍ مقدّسةٍ لليهود ويُنزع عنها أيُّ تواجدٍ عربيٍّ، إسلاميٍّ تحديداً، ليحلّ مكانَهم أبطالُ أساطير العهد القديم، تبعاً لاستراتيجية الكاتب الصهيوني “روبن وولنرود”: “على العمل الروائيّ أن يُعطينا أبطالاً”. وهذا ما يفكّكه غسان كنفاني حول مشروع الأدب الصهيونيّ الذي يحاول سحب “الزمان – المكان” من تحت قدمي العربيِّ في القدس مهما كان هذا الأمر مُضرّاً بالعمل الفنيِّ أو مصداقيته.

نقرأ القدس أيضاً في رواية “الجالسة في الجنّات” للروائي  الصهيونيّ “حاييم هزاز” (1898 – 1973)، والذي استوطن في فلسطين قادماً من فرنسا عام 1931، وهو أوكرانيّ الأصل، واستقرّ في مدينة القدس مُستعمِراً حتى وفاته. اخترتُ هذه الرواية على وجه التحديد لتناولها مدينةَ القدس بشكلٍ ملتبسٍ، بلّ وتحقيريٍّ، يدلل على انفصال الكاتب عن المكان وتوظيفه إيّاه خدمةً للرواية الصهيونية.

يرسم “هزاز” القدس صهيونيةً بامتيازٍ، وينفي وجود “الآخر” العربيّ، المُسلم تحديداً، عبر أسلوبٍ وصفيٍّ مكثّفٍ، غرضُه تكثيفُ وتضخيمُ الوجود الصهيوني على الأرض. كما تتّخذ روايته المُشار لها أسلوباً صوفيّاً، ويعيش بطلُها في عالمٍ مُتخيّلٍ عن المسيح وعودته من أجل “الخلاص”، لهذا هاجر إلى أرض “إسرائيل” وهاجر معه كلّ من آمن بهذه الفكرة، وينتهي به المطاف مجنوناً.

غير أنّ ظهور الطفلة رومايا (16 عاماً) يمثّل بروز خطّ “الصوفيّة اليهوديّة” من جديدٍ، فلا تناسب لغة الطفلة سِنّها على أيّة حالٍ، فيأتي دورُها مفعماً بالحكمة والشاعريّة، ويبدأُ “هزاز” من خلالها بتشريح “المجتمع الإسرائيلي” في القدس، والذي يصفه ككتلةٍ حيّةٍ مكوّنةٍ من خليطٍ غيرِ متجانسٍ، يقول عنه في الرواية: “تجمّعت القدس من العالم كلّه، فهي صورةٌ من سبعين أمّةً وسبعين لغةً”.

لم يذكر “هزاز” العرب ضمن طبقات المجتمع في القدس؛ فأتى على ذكر طوائف “الأشكنازيم” مثلاً، أولئك المهتمّين بالملذّات والعربدة، و”السفارديم” المعتزّين بأنفسهم لأنّهم أكثر اليهود المعذّبين”! والأكراد وهم “سذاجةُ إسرائيل” على حدّ وصفهِ، ويشبهُون العوامّ التائهين في عهد “عزرا”، الذي أعاد لهم بناء القدس بعد أن هربوا من “السبيّ”، في حين يصفُ “يهود بوخاريست”، أنّهم مُترهّلو الجسد وغيرُ متدينين بشكلٍ كاملٍ”، واستمرّ في وصف اليهود المغاربة واليمنيّين والأوروبيّين، وغلب على وصفه التهكّم والسخريّة، التي تصلُ إلى حدّ التمييز العنصريّ في الكثير من الأحيان.

وفي هذه الرواية الصهيونيّة، يُسقِط الكاتب الفكرَ الصهيونيَّ على المكان، القدس، ويحاول أن يبني مظلوميةً مستندةً على المحرقة اليهودية تُشرعِنُ وجوده وامتلاكه للمكان؛ فيصفُ القدسَ في أحد مقاطع الرواية أنّها “أرضٌ ارتوت من الفاجعة التي حلّت باليهود في العالم، فلم يكتمل بناؤها يوماً وظلّت مدينةً حزينةً.. والقلبُ بها يمتلئُ يُتماً ووحشةً كلّما هبّت رياحُ الغرب الباردة”، حريصاً كلَّ الحرص على تجاهل وصفِ أيّ حجرٍ عربيِّ أو يحملُ صِبغةً “شرقيةً”، ويُسهبُ في وصف دور العبادة اليهوديّة والمدارس اليهوديّة الدينيّة، والتي يغلبُ عليها شكلُ وبناءُ بيئة الكاتب الأولى في أوكرانيا، يُترجَم، على سبيل المثال، بظهور مفاجئٍ لمقهىً أو حانةٍ معلّقين في فضاء المكان، يظهرُ بشكلٍ مباغتٍ وسط حشدٍ من الرموز والتلميحات الدينيّة.

يغلب على العملية الوصفيّة، التي نحلّلها في هذه الرواية، اكتفاءُ “هزاز” بالاسم العبريِّ الجامد للمكان، خصوصاً إن كان ذا طابعٍ اجتماعيٍّ “الشوارع – المباني – الأسواق”، دون تجسيدها أو تقديمها في قالبٍ ماديّ، ولهذا، لا يمكن تقبّل وصف القدس منه بشكلٍ حقيقيٍّ يخاطبُ الوعي، وتبقى القدس في روايته بلا جسدٍ أو روحٍ، وإن نقلنا أحداث الرواية إلى بيئةٍ أخرى، فقد لا نستطيع تمييز القدس عن طهران أو عن كييف!

الخاتمة

انطلاقاً مما هو مقروءٌ في هذا المقال، ولدى المقارنة بين الرواية العربيّة والرواية الصهيونيّة، لا يغيبُ الصراع عن القدس كـ “مكان”، كما يمكن القول إنّنا نجد خطّاً عامّاً لجلد الذات والمجتمع، ونقداً مستمرّاً للذات الفاعلة، ولكن لسببيْن مختلفيْن؛ إذ يجلدُ العربيُّ ذاتَه بسبب شعور الفقد والهزيمة، بينما يجلدُ الصهيونيُّ نفسه ليظلّ متيقّظاً دائماً حتّى لا يُطرد من الأرض التي استعمرها. نتلمّسُ هذا في سطورٍ من رواية “هزاز”:

“كما لو أن المدينة كلّها، أُناسها يعانون من الخراب، وكيانها يبتعدُ عن القدسيّة، معتمةٌ ومريبة، ومتعددة الألوان، كما لو أنّها منسوجةٌ من العالم وضوضائه، ومرتبطةٌ بهواءٍ من القدس العليا. ولكن الأصعب من هذا هو الليالي. وفي ذلك الوقت الذي تهدأ فيه المدينة من جرّاء الحرب في الظلام، لا يوجد هناك صوتُ إنسانٍ أو ضوءُ شمعةٍ، ينسج القمر خيوطه على فتحات النوافذ والأزقّة، وتبدو مقفرةً ومهجورةً، فقد وقع سكانها في الأسر والمنفى، ولا يوجد لها اسمٌ أو ذكرٌ بداخلها”.

بالمقابل، نلاحظ  في الروايتيْن العربيتين اللتين ناقشهما المقال تغييب الفعل المقاوم، والذي انعكس على إهمال هذا الجانب مقابل الاهتمام الكبير الذي أولاه الكاتبان للخطّ الاجتماعيّ والمادّي للقدس، باعتبارها أرضاً للهويّة العربيّة – الفلسطينيّة، فيُؤصّل الأديبان لجذور القدس، وجذورهما فيها، ويُسكِن حبّهما وذكرياتهما وأحلامهما أسوار المدينة التي لم تطأها أقدامهما، وسط شعورٍ مملوءٍ بالهزيمة والفقد.

كما تبرز المدينةُ في هذين النموذجين على أنّها قِبلةٌ للعواطف، دون حيزٍ واقعيٍّ فيها. فنلاحظ اختفاء البُعد السياسيّ مقارنة بتكثيف البعد الاجتماعيّ، وغياب مؤسسات المدينة السياسيّة وشخصيّاتها الوطنيّة والنضاليّة. ويمكن تفسير هذا من خلال هيمنة مكانة القدس الدينيّة والثقافيّة في وجدان الروائيّ العربيّ،  مقابل تغييبٍ غيرِ مبررٍ لمكانتها السياسيّة المركزيّة في القضيّة الفلسطينيّة ونضال أهلها، لتظهر في سياقٍ حميميٍّ رومانسيٍّ مجرّدٍ. نقرأ هذا في سطورٍ من رواية الأعرج:

“هل جربت أن تُسرق منك مدينتك الوحيدة، بالضبط في اللحظة التي بدأت تعرفها فيها وتستنشق كلَّ صباحٍ عطرَ تربتها؟ أنا جربت ذلك وأشعر بعنف الغياب. أطلب من الله صبحاً ومساءً أن يحفظك من ذلك الإحساس المُدمي، وأن يمنحك الصبر الكافي لكي تواجه خسارات المدن الفادحة، ولا تضطرّ الى مواجهة ما أحسّ به الآن. لا أحدَ في الدنيا في منأى عن فقدان منبته وتربته. ويبدو أن قدرنا الكبير هو أن نتدرّب باستمرارٍ على الفقدان، ساعات في اليوم على الأقل مثلما نفعل مع الرياضة، لكي لا نموت قهراً”

وفي موازاة ذلك، ينسجُ الصهيوني مُقدّساته المُتخيّلة على الورق، ويكدّس آلياته العسكرية وجنوده، أيضاً، للدفاع عنها بين سطور الرواية، في محاولاتٍ مستمرةٍ لاستملاكها وتهويدها، كما الواقع.

***

الهوامش:

[1] جوزيف-فيليبرت جيرولت دي برانجي هو فنانٌ وعلّامة، وواحد من أول المستعملين للكاميرا الداجيرية. رابط

[2] أسّس أهرون شولوف حديقة الحيوانات التوراتيّة في عام 1940. رابط