أبو شادي يدخن خلسةً، هكذا يبدأ الـ”واجب”، ثم ينطلق أبو شادي مع شادي في رحلة توزيع دعوات حفل زفاف الابنة آمال، ليكون هذا الفعل إطاراً زمنياً، ذا خفةٍ لطيفةٍ، يعكس من خلال محطاته واقعيةً…

تتنقل اللقطات من خلال رحلة بصرية-سمعية للشخصيات في الناصرة؛ أزقتها، روتينيات أهلها، وقمامتها. يجعلُ هدوء اللغة البصرية الصورَ جذابةً دون الحاجة إلى جهدٍ إضافيٍّ. يرتجف استقرار هذه الخفة الهادئة عندما يشرع الموضوع في طرح نفسه؛ حينما تبدأ اللقطات بتوجيه المُشاهد نحو “عناصر” معينة. فالقمامة والقمامة، ثم تتصاعد اللقطات- بسخرية- في أول محطة من محطات الفيلم- أول بيت يدخله البطلان ليجدا بمجرد إعلان وصول شادي مع أبيه، ابنة صاحب المنزل بزيّها المثير وتأنقها الصارخ تدخل حاملةً القهوة لشادي وأبيه في هذا الوقت المبكر من اليوم.

وهكذا تشرع اللقطات في إطالة نفسها بوقفات مشابهة في الطريق من محطة لأخرى- حدث لآخر، والتي بدورها تقتحم تقنيات التصوير والمونتاج. فعلينا أن نرى جميع فساتين محل العرائس ذات التصميم المبالغ فيه أو “الكيتش”، وأن نستمع للموظفة تعيد نفس المديح بالطريقة ذاتها عدة مرات لجميع اختيارات آمال؛ والتي (لسبب ما قد يكون له علاقة بالرغبة الملحة في إظهار الذوق “الغريب” للمجتمع في أزياء المناسبات) لا تبحث عن فستان أبيض ليوم زفافها رغم أنها قد صرحت سابقاً في الدفاع عن اتباعها الطريقة التقليدية في التحضير للزفاف بأن: “الموضوع مش أنا”. وفي النهاية تختار الزهري المرصع بحبيبات لؤلؤ مزيفة.

تكتظ الأحداث بالقضايا و”الاقتباسات” من الطبائع الشائعة في المجتمع، فكل حركة أو سطر موجودان لاستثارة شادي، المثقف الوطني المتحضر، فيعبّر عن مآخذه على مجتمعه. وهو محور “واجب”؛صراع الابن العصري مع الوالد التقليدي الذي يبدأ بامتعاض شادي المهندس المعماري (رغم ما ينشره الوالد عن كون ابنه طبيباً) من “الذوق الخرائي” لأهل البلد في الموسيقى والديكور، ويتجلى بمباشرة أكثر برفض شادي لدعوة “روني آفي” إلى حفل الزفاف وهو “إسرائيلي” يسعى أبو شادي لإرضائه ليحصل على ترقية، ثم يختفي النقاش بين سيل من الصراعات حول قيم اجتماعية كمظهر شادي واختياراته الشخصية في حياته وانتقاده للعادات السائدة.

لكن سرعان ما يعود الصراع بين الأب وابنه حول دعوة “روني” ويحتدّ عند الحاجة لذروةٍ ما تقديماً لإنهاء الفيلم. في تلك اللحظة، يخرج البطلان من السيارة وكأنهما خرجا من إطار الفيلم، فيتحول المشهد إلى شجار مسرحي يلتفان فيه حول بعضيهما وينتظر كلٌّ منهما الآخر أن ينهي صراخه ليردّ عليه بمثل الجمل الرنانة.

وهذا طابعٌ عامٌ للغة الحوار في الفيلم، والتي لا يمكن إهمال أنها كالأمريكية المترجمة وغريبة عن أسلوب المحادثة اليومي بالعربية. ففي العديد من اللقطات تجد الشخصيات لا تجيب أسئلة بعضها وتستمر في إعطاء التصريحات وتستورد مفردات وأساليب من مشاهد مقولَبة كمشهد “Everything will be Ok” الذي تم تفعيله في محل العرائس، حينما حاول الوالد التخفيف عن ابنته حزنها وإحباطها، ولحظات التغزل بإيطاليا بين شادي وابنة عمه. بنفس الوقت وبالتوازي مع الرغبة في مِلء المشاهد بمثل هذه التصريحات لإيضاح معلومات من الضروري إيصالها للجمهور، والتي كانت من الممكن أن تكون ظاهرة بشكل طبيعي كجزء من الدراما دون الحاجة إلى إعادة توكيدها كجملة ابنة العم “حلو، لازم نصير أوروبيين عشان نزور بلادنا”.

“فك” الصراع : السيجارة

في طريق عودته للبيت، وإحباطه واستيائه من فكر مجتمعه المتمثل في والده الذي لم يستطع في حياته أن يخلع جلبابه، ينادي عليه بالمصادفة جاره العفوي والطيب، يتفاجأ شادي بطيبته ولطفه، ومن خلال حديث الجار الطيب عن والده وشهادته لشادي بمدى حب والده له وحديثه المتواصل عنه* وفخره فيه يدرك شادي ما عمي عنه طوال الوقت”.

*يجدر هنا التنويه بأنه ذات الحديث أو ما ينعته شادي بـ”الأكاذيب” التي أزعجته طوال الستين دقيقة السابقة بسبب خجل أبيه به وبما يفعل.

يعود شادي للمنزل، يضع أسس الطريق للمصالحة والتفاهم من خلال شروعه في تحضير قهوة لاثنين، يصل الوالد ويعبر الجسر الذي مدّه إليه شادي من خلال إكمال ما تبقى من إعداد القهوة. يحتسيانها، بنفس الطريقة وبنفس الوقت، يتفاهمان بتدخين السجائر التي أنكر كلٌّ منهما أنه ما يزال يدخنها (ولا ندري من الشاب المتحضر الذي أثّر على والد شادي وغيّر رأيه كما فعل الجار الطيب مع شادي).

مثل شادي، حين نكون المستفيدين من الأكاذيب لا نعترض عليها فعلاً.

يضع الفيلمُ الفلسطينيَّ في فئتين مقولبتين، في “أبو شادي” وشادي، فأية شخصية من الناصرة ما هي إلا قطعة من العالم الذي يراه أبو شادي، والمِثلُ لشادي من الشخصيات المغتربة (عشيقة شادي، والدها، وأم شادي).

ولكن الانتقائية المبالَغة المحيطة بالشخصيات تدلُ  على نظرة من خارج الأحداث. فالمغترب، كشادي، غير جاهل بما يحدث في بَلَدِهِ خاصةً كناشط سياسي سابق وشخصية ذات تعلق عاطفي شديد بالوطن – حين يتفاجأ بتردد “الإسرائيليين” على المحال العربية. والعار الذي يأتي مع تحرر أنثى من مجتمعها لا تأتي آثاره بتلك الصراحة – أم شادي التي هاجرت مع عشيقها- وهذا ما يجعله أشد أثراً. وهكذا يجد المُشاهدُ المحليُّ نفسَه يقف مع صانع الفيلم يراقب من الخارج نتائج ونتائج، وتصريحات لا تعبر عن التعقيدات التي يعيشها هو، والتي جعلت مثل هذه النتائج تتفشى باستمرارية لتشكل الواقع حوله.

عملٌ ينبعُ من فعلٍ عاديٍّ كتوزيع الدعوات، لكن خصوصية الفكرة تجعلها جذابة في مسارها العادي، تفاصيلها العادية، وعقباتها العادية. هي بداية ملائمة لعمل اجتماعي-واقعي، تتبدد مع المسافة التي تخلق في أثر المنظور دائم البحث عن عناصر تحقق طابعاً معيناً – انتقاد كل ظاهرة محيطة – عوضاً عن كشف الطريق إليها. وبالنتيجة تلك المسافة بين المُشاهد والعمل تحول دون تحقيق دوره في كونه مكاناً للمحلي على الشاشة.