يأخذنا خالد عودة الله، في هذا النص، في رحلة حنينٍ إلى مشمش بيت حنينا وزمانه، حينما كان للمشمش طعمٌ، وكانت القرية تنتج حوالي طنٍّ منه، وذلك قبل أن تستنزفها الهجرة إلى بلاد الحلم الأمريكي الزائف، ويُجهز عليها الاستعمار الصهيوني.
على فراش الموت، عنَّ على بال الحاجة “نعيمة” مشمش كرمها، فطلبته، فجيء لها بمشمشٍ من السوق، أخذت حبةً وتحسستها ثم رمتها، قائلةً “مش مشمشنا”، ولم تطلع عليها الشمس.
كان انقراض أشجار المشمش المستكاوي من كروم قرية بيت حنينا إعلاناً مأساوياً عن نهاية حياةٍ اجتماعيةٍ كاملةٍ، استنزفتها الهجرة إلى بلاد الحلم الأمريكي الزائف، وأجهز عليها الاستعمار الصهيوني. ستصبح الحياة بعد المشمش الحنيني حنيناً دائماً إلى مشمشة “هالصة” تقطر حلاوةً تقطفها الأيدي على الندى، وسيصير كلُّ مشمشٍ بعدها يشبه المشمش ولا يكونه، يؤكل ولا يقضي الشهوة، قريباً ممّا كان يردده أهل البلاد وقد صاروا لاجئين “وين هذا البرتقان ووين برتقان البلاد؟”.
يقول العارفون بسيرة الأرض والشجر إنّ قريتنا شهدت طفرةً في زراعة اللوزيات؛ المشمش المستكاوي والمرقوق (البرقوق) في بداية الثلاثينات. رافقت هذه الطفرة حركة استصلاح نشطة للأراضي، ومن هنا أخذت تُسمّى العديد من قطع الأراضي المستصلحة اسم “تعميرة”.
توزعت زراعة المشمش على كل كروم وحواكير القرية، وجادت أرض “النقعات” و”الرّويس” بأحسنه، فنمت أشجارها حتى صارت المشمشة “قد الدار”، وعادةً ما امتازت مشمشةٌ أو أكثرُ، فذاع صيتها في القرية، فيُقال مثل “مشمشة دار فلان”.
زُرعت أشجار المشمش المستكاوي بشكلٍ أساسيٍّ، مع القليل من أشجار المشمش الأمريكاني أو “الكلابي”. يحيل الأخير، في المعجم القروي الحنيني، إلى ما لا يصلح للأكل أو الأقل منزلةً، فيُقال: مشمش “تشلابي”، كبيرُ الحجم، لكن لا طعمَ له، وبذرتُه مرّةٌ. ويقال: فقع كلابي؛ أي لا يصلح للأكل، ويُسّمي الدّقيقة والبناؤون قطعةَ الحجرِ منقوصةَ الطولِ على جوانب الأبواب والشبايبك “كلب” في مقابل العَرقة مكتملة الطول.
كانت أمي (قدس الله سرها) تلقّط المشمش “التشلابي” وهو أخضرٌ عَجَرٌ، قبل أن ينضج لأنه إذا “استوى دوّد”، فأحمله لأبيعه لطالبات مدرسة بيت حنينا الثانوية للبنات في القرية، والتي كانت تأتيها الطالبات من كل قرى وأحياء القدس المجاورة. كان أصعب ما في هذه المهمة هو مغافلة مديرة المدرسة، سميرة الجاعوني، ذات الشخصية المُهابة والصوت الجهور، فضلاً عن التسلل إلى بوابة المدرسة “على العصرونة” قبل أن تصرف الطالبات مصروفهنّ.
وأما المرقوق فقد تنوعت أصنافه المغروسة من السانتاروزا والبنجر، صغير الحبة وكبيرها، والمرقوق الأصفر صغير الحبة وكبيرها، وأبو زقم وليلى والمعطّر. وكانت الحكمة الزراعيّة الشعبية تقضي بأنّ يُركَّب المشمش والمرقوق على أشتال اللوز المرّ، فالأصلُ المُرُّ مقاومٌ لعدوّ المشمش اللدود- حشرة “الفرار”- حفار الساق والجذور. وإذا ما تجولتَ اليوم في كروم بيت حنينا البور، فحيث ما وجدت شجيرات اللوز المرّ، فتلك علامةٌ على ما مات من أشجار المشمش، كأنها أطلالٌ تدل على أيام العزّ الماضيات.
” الخُشة إزغيرة والباب مخلّع”
في بدايات التغريبة الحنينية، هاجر رجال القرية وبقيت نساؤها، وقد انتهت حياة القرية الاجتماعية ومشمشها بموت جيل حارسات الكروم والأرض، وفي ظلالهن الوارفة قضيت طفولتي وتشكَّلت شخصيتي.
تبدأ حكاية المشمش في ذاكرتي بأصوات أدعيةٍ خاشعةٍ بعد الفريضة، تبتهل إلى الله إذا ما هبّت رياحُ آذارَ قويّةً بأن يتلطّف بالحال، فلا يسقط نوار المشمش والمرقوق قبل أن يعقد الثمر، ويتحول الدعاء إلى ترويدةٍ حزينةٍ: “يا رب اطّلع، يا رب اطلع، الخُشة إزغيرة والباب مخلّع”. وأما الكابوس الحقيقي فتجلّى في حبات البَرَد التي كانت تتساقط في نيسان وأول أيار، لـ”تُطبِّش” حبات المشمش “تطبيشاً”، فتضرب الموسم.
وإذا ما عقد النوّار، تصبح مهمة حارسات الأرض والكروم نطارة المشمشات، تحسباً من غنم الرعيان ومن حرامية المشمش الذين يمكنهم أن يَمرِطوا المشمشة بدقائق. وأما خط الدفاع الثاني فكان “إعلاناً وهميّاً” بأن المشمشَ مرشوشٌ، فكانت حارسات الكروم يدفعن ليرتين أو ثلاثاً “ليمين رجدة”(رحمه الله) لينادي في القرية: “يا أهالي بيت حنينا الحاضر يعلم الغايب، كَرَم فلانة مرشوش بالفلدور وقد أعذر من أنذر”.
وها هي أمي (قدّس الله سرها) وقد عقدت خرقتها على رأسها، وأنا ممسكٌ بطرف ثوبها، ترافق الحرّاث تلماً تلماً عند اقترابه من عرق المشمشة، في الحرثة الثانية “الثناية”، حتى لا تشلع البغلة أغصانها المتدلية، ولا تَقرُم سحابات سكة الحراثة براعم رُقع التراكيب.
وعلى سيرة تركيب المشمش، فإن حياة القرية الزراعية ذبُلَت بموت أصحاب “الأيادي الخضراء” واحداً تلو الآخر. ويقال فلان “إيده خضره” لمن برع في الغرس والتركيب، فلا تموت غرسةٌ غرسها، ولا تخيب بذرةٌ بَذَرَها، وتنجح معظم رُقْعات التركيب من تحت يديه.
جمعة مشمشية: “إن نمّر غبّر”
إذا كان موسم الزيتون أبا المواسم، فإنّ موسمَ المشمش أبهجُ المواسم. شيئاً فشيئاً تصفرُّ حبات المشمش، فيقُلن: “نمّر المشمش”، وأول ما ينمَّر من الحبات الشرقيات والقبليات. وأما إذا توشَّح الاصفرار بالاحمرار، فتلك علامةٌ على أن الحياة قد أفرطت في إغداق البهجة على الكائنات، وإذا ما هبّت نسائم “الهوا” عليلةً بعد العصر، وحملت معها رائحة المشمش، فذلك الفردوس الأرضي وقد اكتملت جميع عناصره.
لكن يا حسرتاه، هي بهجةٌ تنقضي سريعاً، ما بين أن ينمّر ويغبّر (ينتهي الموسم) أسبوعٌ إلى عشرةِ أيامٍ، كأنه زهرةُ العمر التي تذبل بسرعةٍ. وعلى سيرة العمر، كان من عادات حارسات الأرض والكروم حرصُهنَّ على إطعام الصغار من أول الثمار؛ أي أول ما ينضج منها، فـ”أول الثمار بتطوّل العمار”. وتُدلَّل المشمشة بأن يمشَّط وينعّم التراب على “قد فيّاتها”، فإذا سقطت حبةُ مشمشٍ على الأرض، استقبلها التراب الناعم بحنيّة.
يبدأ لِقاط المشمش في ساعات ما بعد العصر على “البراد”، حبةً حبةً، ويحدث أن يُبذَل جهدٌ مضاعفٌ للِقاط حبة مشمش “مِطِرفَة” بعيدةٍ عن اليد، فإذا صارت في اليد وإذ بها عجرٌ، فيقال “لو فيها خير ما خلاها الطير”، وطيورُ بلادِنا ذوّاقةٌ لا تنقر من الثمار إلاّ أحسنَها.
يُعبَّأ المشمش في “مطاحن”، وهي سلالٌ مصنوعةٌ من سيقان القمح مغطاة بجلد الغنم. وتُوجَّه المطاحن، فتُوضع الحبات الشلبيات على وجه المطحنة، وتغطى بورق المشمش، إذ إن التوجيه من حيل الفلاحين المتوارثة في “الضحك” على أهل المدينة، وتُقمط بمنديلٍ لكي تعرف كلُّ صاحبةِ مطحنةٍ مطحنتَها، ولا يُسمح لأحدٍ بكشف المطحنة قبل أن تصل المدينة.
“لوما العازة ولّا خسارة فيهم المشمش”
قبيل طلوع الشمس “من دَغشَة”، تتسلق بائعات المشمش السلم الخلفي لباص بيت حنينا، يرفعن المطاحن بمناديلها المزركشة على ظَهر الباص لبيعه في “المدينة”، فإذا قيل “مدّنت فلانة”، فهذا يعني سافرتُ إلى القدس حَصراً.
كان المشمش يباع في القدس بطريقتين، بالجُملة لمحلات الخضار والفواكه، ولا أزال أذكر محل “أبو ميّالة” للخضار والفواكه في باب الساهرة على زاوية “شارع السلطان سليمان”، الذي كنا نبيعه المشمش بالجملة، أو بالمفرق في “سوق البزار” في البلدة القديمة، وغيرها من المواضع التي تتزاحم فيها الأرجل.
ولعل محاولة التجار وزبائن المدينة التبخيسَ والمفاصلةَ في سعر المشمش هو منشأ شعوري العدائي المستحكم تجاه المدن وأهلها إلى يومنا هذا. وياما سمعت “لوما العازة ولّا خسارة فيهم المشمش هلمكلعطين”، تتمتم بها سراً نساءُ قريتنا.
أتجول في كروم وطرقات قريتنا، وأسال نفسي: مَن يُصدّق أن هذه القرية شبه المهجورة كانت قبل 35 عاماً تنتج يومياً حوالي ثلاثين مطحنةَ مشمشٍ (حوالي طن)! ومن يصدق أن هذه الطرقات الخالية كانت تصطف على جوانبها مئاتُ سحّارات المرقوق في العصريات بانتظار أن تأتي شاحنة “الغَوَشي” لتنقلها إلى الأسواق.
( في حواكير أهل باسل في الولجة مشمشاتُ أبي السعيد وأبي يزن، كانت حبات المشمش الممنوحة بحبٍّ تعيدني إلى أيام طفولتي، وتُعيد للمشمش طعمَه الأول)