“إلى شهداء الجبل ومقاتليه على مرّ الزمان”… مقالٌ بحثيّ عن ملحمة جبل النبي صمويل المنسيّة في الحرب العالمية الأولى، لخالد عودة الله. قراءة طيّبة

“إلى شهداء الجبل ومقاتليه على مرّ الزمان”

 توطئة

في مثل هذه الأيام من شهر كانون الأوّل من العام 1917، كان القتال ما زال مستمرّاً على جبل النبي صمويل – كما هو متعارف عليه بين القرويين – وما حوله من المناطق، والتي شكّلت في مجموعها جبهة النبي صمويل. تربّع الجبل في قلب هذه الجبهة، وامتدّت باتجاه الشمال الشرقيّ إلى البيرة عبر الجيب وجبل الشيخ أبو زيتون غربيّ بيتونيا، والشمال الغربيّ من بيت إجزا إلى العوريات (بيت عور الفوقا والتحتا) وصولاً إلى قرية شلتا قضاء الرملة، وشرقاً وادي بيت حنينا والظهرة وتل الفول ورأس الطويل، وجنوباً عبر خربة البرج وبيت اكسا ولفتا ودير ياسين إلى عين كارم.

على الجبل وحوله، دارت منذ منتصف شهر تشرين الثاني حتّى نهاية كانون الأوّل أشرس معارك الحملة البريطانية على فلسطين في الحرب العالمية الأولى وأدماها؛ من القصف المدفعيّ ذي العيار الثقيل إلى الطعن بالحِراب (السنجات). وعلى الجبل وما حوله، سقط مئات الشهداء من الجيش العثماني، وقُتل المئات من الغزاة البريطانيين. وعلى صخر الجبل، انكسرت اندفاعة الجيش البريطاني الكبرى نحو القدس بعد سقوط الخطّ الدفاعيّ الحصين غزة – بئر السبع.

بعد مرور أكثر من مئة عامٍ على معارك الجبل، ما زالت آثارها حيّةً على صخره وحجارة جامعه، وما زالت شظايا القذائف وخراطيش الرصاص مبذورةً هنا وهناك بين بلّانه وزعتره، تشهد على فصول ملحمة الجبل المنسيّة، التي غلبتها في الذاكرة الجمعية لمعركة القدس في الحرب العظمى صورةُ رئيس بلدية القدس حسين سليم الحسيني، يرفرف خلفه العلم الأبيض باحثاً في جبال القدس عمّن يقبل منه مفاتيح المدينة وصكّ استسلامها في 9/12/1917 ، وصورة “أللنبي” داخلاً القدس من باب يافا (الخليل) مشياً على الأقدام في مشهدٍ سينمائيٍّ دعائيّ أُعدّت كلّ تفاصيله بدقةٍ [1] في مكتب الحرب البريطاني، تالياً خطاب النصر الذي كتبه له “مارك سايكس” شريك “بيكو” في الاتفاقية الشهيرة.

وُلِدتُ جاراً للجبل، تفتحتْ عيناي على الدنيا والجبل واقفاً أمامي، ما شاهدتُ جبلاً مهما سما وشهق، إلّا ورأيته قزماً أمامه. ومنذ طفولتي، لم أنقطع عن زيارته، وكلّما ضاقت بي الدنيا، صعدتُ إليه، فينداح العالم أمامي بلا نهاية، وينشرح الصدر وتنتفض الروح وتطير.

أوّل ما أنظر إليه إذا ما صحوت، فالدنيا بخير ما دام الجبل. وقبل أن أتعرّف على تاريخه المسطور، تعرّفتُ على حكاياته من الأمّهات والجدّات؛ عرفنَ جامعه بـ “جامع الولي”، وإذا ما رفعنَ الأكفّ إلى الله بالدعاء أشرنَ إليه من بعيد. وإذا ما ذُكر الجبل، ذُكر الغزاة القادمون من صوبه والمدافعون عنه. ولا أذكر أنّي هبطتُ يوماً منه إلّا وأنا أحملُ بعضاً من شظايا ورصاص حروبه، أعودُ بها إلى بيتي أتفحّصها وأفكّ رموزها وأصنّفها بحسب تقويم حروب الجبل من العام 1917 حتّى العام 1967.

تكاثرتْ الشظايا والرصاصات، وقادتني رحلة فكّ رموزها إلى ما غاب وطواه النسيان وبقيتْ شاهدةً عليه، فتجمّعتْ خيوط الحكاية لتنسج قصّة معارك الجبل وتَدافُع الأمم عنده. هذه إحدى فصولها، لعلّ في روايتها بعض الوفاء للجبل وعطاياه. 

الجبل

في شمال غرب القدس على بعد 8 كم من المدينة، يرتفع جبل النبي صمويل 895 متراً عن سطح البحر، وهو بذلك أعلى جيران القدس من العوالي. يهيمن الجبل على الدروب من الساحل (يافا) إلى القدس، التي تخترق جبال القدس من السهل الساحلي، حيث “الطريق البحري” ممرّ الجيوش عبر العصور من مصر إلى بلاد الشام والرافدين وبالعكس؛ شمالاً طريق العوريات (بيت بيت عور التحتا- بيت عور الفوقا) من الرملة، وجنوباً طريق باب الواد، وبينهما طريق عمواس – القبيبة – النبي صمويل – وادي بيت حنينا، ويطلّ من على بُعد 4 كم على طريق نابلس – القدس؛ الطريق التاريخيّ الطبيعيّ الذي يعبر جبال وسط فلسطين من الشمال إلى الجنوب على خطّ تقسيم المياه.

الواقف على الجبل في يوم صافٍ، إذا ما رمى بصره يصل إلى عيبال وجرزيم شمالاً، وجبال الخليل جنوباً، وجبال الضفة الشرقيّة الكرك وعمّان شرقاً، والبحر المتوسط غرباً. وكان الجبل من منذ أقدم العصور موئلاً للعباد والزهاد، أقاموا عليه المعابد والصوامع والأديرة والمقامات والجوامع. عرفه العرب باسم رامه ومار سمويل ومار صمويل (القدّيس صمويل) ودير شمويل ودير سمويل، نسبةً للدير الذي بُنيَ عليه في الفترة البيزنطية على أنقاض معبدٍ وثنيٍّ سابق. وبعد الفتح العربي الإسلامي، حُوّل الدير إلى مسجدٍ أو بُنيَ الأخير على أنقاض الدير. ازدهر الجبل في الفترة الأموية، واشتهر بصناعة الفخار ودمغ اسمه على الجرار، واعتنى الأيوبيون والمماليك والعثمانيون بالجامع، وعمّره أهل البلاد بالصلاة وطلب الحاجات من العليّ القدير من عند المقام العالي، ويقصده الحجيج والزوّار والرحّالة والجواسيس من كل الملل والنحل إذا ما شدّوا الرحال إلى القدس. 

بلغ عدد سكّان قرية النبي صمويل في العام 1896م 40 نسمةً، و121 نسمةً في العام 1922. [2] امتدّت بيوتها القليلة حول الجامع من الجهة الشرقيّة والجنوبيّة، وأحاطت به كروم القرية وحواكيرها من جهاته الأربع. وفي فترةٍ متقدّمة، بُنيّ مقامٌ جنوبيّ الجامع؛ “مقام الشيخ إحمَد”. بقيت القرية على حالها إلى أن هدمها الصهاينة في العام 1971، بعد احتلال الجبل في حزيران 1967 انتقاماً لمقتلتهم على الجبل في نيسان 1948. [3]


(بيوت قرية النبي صمويل والجامع من الجهة الشرقية الجنوبية ما بين الأعوام 1898-1914) [4]

سنبسط الحديث فيما يلي عن جبل النبي صمويل في الفترة الصليبية، وذلك لأنّ حملة “أللنبي” على القدس في الحرب العظمى تسمّت بالحملة الصليبية الأخيرة، لأسبابٍ دعائيّةٍ أساساً، دون أن تعني هذه الأسباب عدم أصالة وعي المقاتلين البريطانيين بذاتهم كجنودٍ في حملة “استرداد” القدس بمنطق التاريخ ومنطق الهويّة. 

جبل النبي صمويل: مسرّات وأحزان صليبية

بحسب أدبيات الحملة الصليبية على القدس، إنّه من على جبل النبي صمويل رأى المحاربون الصليبيون القدس لأوّل مرة. فبعد احتلال الرملة، سيطر الصليبيون على رأس الطريق من الساحل إلى القدس، مؤمّنين طريق الإمداد من ميناء يافا إلى القدس، ممّا سيمكّنهم من فرض الحصار عليها لاحتلالها. عسكر الصليبيون ثلاثة أيامٍ في الرملة قبل أن يواصلوا المسير نحو القدس، وباتوا ليلة السابع من حزيران في قرية القبيبة.

وفي صبيحة السابع من حزيران من العام 1099م، وصلتْ طلائع الصليبيين إلى جبل النبي صمويل، ومنه شاهدوا القدس للمرّة الأولى بعد ثلاث سنواتٍ من الزحف من أوروبا. ومن على ذلك المطلّ، وصلت الدراما الصليبية إلى أوجها؛ بلّلت الدموع الأعين وركعوا على ركبهم وأقسموا عهد الفتح والفرح، وأطلقوا على الجبل اسم “جبل المسرّة” أو “البهجة” (Mountjoy)، قبل أن ينطلقوا لحصار القدس ومن ثمّ احتلالها. وصار من سُنّة الحجيج الإفرنج من بعدهم الصعود إلى الجبل الذي صار اسمه “بهجة الحجيج”.

بعد الاحتلال الصليبي للقدس، بنى الصليبيون حصناً وديراً لرهبان “البريمونسترتينشيان” (Premonstratensian)، سُمّيَ “سانت سمويل”، ويذهب العلّامة المرحوم سهيل زكّار، مؤرّخ الحروب الصليبية، أنّ المسلمين عرفوا حصن “سانت سمويل” باسم الجيب الفوقاني، وأمّا الجيب التحتاني فهو الحصن على تلّة قرية الجيب. [5] وكان الحصن أيضاً مقرّاً لفرقةٍ عسكريّةٍ صليبيةٍ تسمّت بـ “فرقة جبل البهجة” (Order of Mountjoy) تخصّصت في حراسة الطريق من الساحل إلى القدس؛ إذ كانت دائماً ما تتعرّض قوافل الحجيج والبضائع إلى إغارات أهل البلاد عليها في دروب جبال القدس الوعرة وكمائنها. [6]

وعندما وصلت طلائع القوّات البريطانيّة إلى السفح الغربيّ لجبل النبي صمويل مع غروب شمس العشرين من تشرين الثاني 1917، طلبت قيادة الحملة على فلسطين من رسّامها الرسميّ “جيمس مكبي” لوحةً احتفاليةً تصوّر بلوغ القوات البريطانية جبل النبي صمويل، فرَسَم لوحةً أطلقَ عليها اسم “النظرة الأولى إلى القدس” (First Sight Of Jerusalem)، تيمّناً بالبهجة الصليبية التي سبقت احتلال المدينة.


(First Sight Of Jerusalem لـ “جيمس مكبي” 22-11-197 ) [7]

في التواريخ الرسميّة البريطانيّة للحملة على فلسطين 1917، وفي مذكّرات الجنود المحاربين، يُعرَف جبل النبي صمويل عادةً بأنّه “متسبيه” (Mizpah) “التوراتية”، وبأنّه “جبل البهجة” الذي رأى الصليبيون منه القدس لأوّل مرةٍ، ويُسهَبُ بالحديث عن أنّه أقصى نقطةٍ وصلها ملك إنجلترا “ريتشارد قلب الأسد” في شهر كانون الثاني 1192 في الحملة الصليبية الثالثة لاسترداد القدس. [8] وتقول الحكاية إنّه قبل نكوص “قلب الأسد” خائباً، وقف على جبل النبي صمويل متحسّراً وأشاح بوجهه عن المدينة في الأفق لئلّا يبصرها، وغطّى وجهه بكفّيه خجلاً من القدس بعدما أخفق في احتلالها.


(رسمٌ كاريكاتوري نُشر في مجلة “بنش” الساخرة بعد دخول “أللنبي” إلى القدس، يظهر فيه “ريتشارد قلب الأسد” من على النبي صمويل رافعاً رأسه وناظراً إلى القدس بعد تحريرها على يد “أللنبي”: ” وأخيراً تحقّق حلمي”) [9]

وفي نهاية شهر كانون الثاني 1917، كتب “أللنبي” في رسالةٍ إلى زوجته بأنّ قوّاته تشقّ طريقها في ذات الطريق التي سلكها “ريتشارد قلب الأسد”، وبأنّها وصلت النقطة التي انكفأ عندها. [10]

وعند اشتداد القتال على جبل النبي صمويل، كانت قصّة “قلب الأسد” المكسور تُستحضر لشحذ الهمم للصمود تحت النار العثمانية في سبيل استكمال حملة “قلب الأسد” وإيصالها إلى غايتها باحتلال القدس. وأما مَن نفذت عزيمته وتسلّل اليأس إلى روحه، فقد رأى في قصته دليلاً على استحالة احتلال القدس وأنّ قدرهم، كما قدر أسلافهم، هو النظر إلى القدس من بعيدٍ دون الحصول عليها.

أُنجز الكثير من الدراسات حول الخطاب الصليبيّ في الحملة البريطانية [11] على فلسطين في الحرب العالمية الأولى، تُشير هذه الدراسات في مجملها إلى أنّ إطلاق اسم الحملة الصليبية على حملة “أللنبي” جاء أساساً من قبل القادة السياسيّين الإنجليز، وفق رؤيتهم لحملة “تحرير القدس” كحملة “بروباغندا” تهدف إلى رفع معنويات الشعب البريطاني ولحشد دعمه للقيادة السياسية البريطانية والمجهود الحربيّ، وذلك في ظلّ تعثّر القتال على الجبهة الغربية (فرنسا وبلجيكا)، والعجز عن تحقيق إنجازاتٍ ذات قيمةٍ توازي ثمن النزيف البشريّ الهائل في حرب الخنادق. وقد منح تشبيهها بالحروب الصليبية القادة الإنجليز وسيلةً سهلةً لإفهام عامة الناس دوافع الحملة بعيداً عن لغة المنطق الجيوسياسيّ الإمبرياليّ لبريطانيا.

في الوقت ذاته، كان القادة الإنجليز متخوّفين من التأثير السلبي لـ “بروباغاندا” الحرب الصليبية، من جهة المخاطر المحتمَلة لتصوير الصراع مع العثمانيّين كصراعٍ دينيٍّ على رعايا الإمبراطورية المئة مليون من المسلمين “المحمديّين” بلغة الإمبروطورية، وعلى عشرات الآلاف من الجنود المسلمين الهنود المقاتلين في جيش “أللنبي” بشكلٍ خاصّ.  

لنتذكّر، أنّ أحد الأسباب الرئيسية لفتح الجبهة الشرقية (فلسطين والعراق والحجاز) ضدّ الدولة العثمانيّة تلخّص في مجابهة الأثر التحريضيّ للدعوة إلى الجهاد التي أطلقها العثمانيون ضدّ بريطانيا مع بداية الحرب، خاصةً في مصر والهند. حيث سيكون على بريطانيا توجيه جزءٍ من قوّاتها ومواردها لقمع أية قلاقل وثوارتٍ فيهما ضدّ السلطة البريطانية، ممّا سيُضعف المجهود الحربيّ البريطانيّ على الجبهة الغربيّة الأساسيّة في أوروبا. [12] أدّى هذا التخوّف إلى إصدار وزارة الإعلام البريطانية تعميماً سرّياً مشدّداً للصحافة البريطانيّة في 15-11-1917، ينصّ على وقف استخدام مسمّيات “الحرب الصليبية” والحرب المقدّسة” بأيّ شكلٍ من الأشكال في وصف الحرب مع العثمانيين. [13] 

في المقابل، لجأ الإنجليز إلى تصميم حملةٍ دعائيّةٍ رديفةٍ موجّهةٍ للخارج، مبنيةٍ على القِيم الليبرالية للإمبراطورية البريطانية (الحرّيات والديموقراطية). كانت رسالة هذه الحملة: الحرب ضدّ العثمانيين هي حربٌ لتحرير شعوب المشرق من الاضطهاد والاستبداد والتخلّف العثماني، وكثّفتها في شعار [14] “فليرحل التركيّ” (THE TURK MUST GO).

مع وصول القوات البريطانيّة في بلادنا منطقة السهل الساحليّ، بدأوا يرون المستعمرات الصهيونيّة بتنظيمها المعماريّ الأوروبيّ وزراعتها الحديثة، وصاروا يقارنون بين حالها المزدهر المتحضّر وحال القرى العربية البائس، ويُرجِعون البؤس هذا إلى التخلّف التركيّ في مقابل التحضّر الأوروبي للمستعمرات. [15]

لا يُمكننا اختزال الخطاب الدينيّ للحملة البريطانية في البعد الدعائيّ، فالمُطالِع لمذكّرات ورسائل الجنود، على رأسهم “ألنبي”، يرى بوضوحٍ شيوع الخطاب الدينيّ بين هؤلاء الغزاة، حيث تكثر الإشارة إلى قصص الكتاب المقدّس المتعلّقة بأمكنةٍ مخصوصةٍ مرّ بها الغزاة في مسيرهم أو قاتلوا فيها. مَنحتهم هذه القصص الشعور بأنّهم كانوا منخرطين في حملةٍ مقدّسةٍ لتحرير القدس، ولكنّ القدس التي في مخيلتهم لم تكُن هي القدس الحقيقيّة التي قاتلوا في جبالها الوعرة وغاصوا في وحلها. وعند اشتداد القتال وتكاثر الجثث وهجوم الحنين إلى البيت، كان الجنود ينزعون صفة القداسة عن هذه الأرض التي حوّلتها الحرب الى جحيمٍ لا يُطاق، فالقدس هناك في السماء وليست على الأرض. [16] 

لنعُد إلى الأرض ومجريات القتال في الميدان..

المطاردة الكبرى : من غزّة إلى النبي صمويل

بعد أن نجح البريطانيون في صدّ حملتي الجيش العثماني على قناة السويس في شتاء 1915 وفي صيف 1916، انتقلت المبادرة للقوّات البريطانية، تحديداً بعد معركة رمانة [17] (27 تموز 1916)، لتصلَ قوّات الحملة البريطانية المنطلِقة من مصر (EEF) في بداية كانون الثاني 1917 إلى الحدود الدوليّة ما بين فلسطين ومصر واتخذت مواقع دفاعيةً هناك. [18] مع استمرار انسحاب القوات العثمانيّة إلى العمق الفلسطيني، وحاجة القوات البريطانية المرابطة عند مصادر المياه الشحيحة في سيناء وجنوب فلسطين، استمرّت هذه القوّات في توغّلها شمالاً في العمق الفلسطيني واضعةً نصب عينيها احتلال غزة الحصينة لمياهها العذبة ومينائها في أقصى خطّ الدفاع العثماني عن فلسطين، الممتدّ من بئر السبع شرقاً إلى غزة غرباً.

بقيَ خطّ بئر السبع – غزة الحصين عصيّاً على الاختراق خلال معركتيْ غزة الأولى والثانية في آذار ونيسان 1917، ودخلت بعده العمليات العسكرية البريطانية في حالةٍ من الاستعصاء، خلا بعض المناوشات والقصف المدفعيّ وعمليات التخريب، أهمّها تخريب سكّة الحديد عسلوج – عوجا الحفير في أيار 1917. استمرّت حالة الجمود هذه لستة أشهرٍ، تخلّلها في حزيران عزل الجنرال “جيمس موراي” عن قيادة القوّات البريطانيّة الغازية وتولّي الجنرال “إدموند اللنبي” منصب قيادة قوات الحملة على فلسطين. وصلت حالة الاستعصاء هذه إلى نهايتها بهجوم الخيّالة الأسترالييّن والنيوزلديّين الصاعق والمباغت على بئر السبع في 31 تشرين الأوّل 1917، ضمن عمليات ما عُرف بمعركة غزة الثالثة، حيث سقطت المواقع الدفاعيّة العثمانيّة على طول خطّ تلّ الخويلف وتلّ أبو هريرة وتلّ الشريعة وصولاً إلى تلال غزة.

(تلّ الشريعة، على بُعد 18 كم شمال غرب بئر السبع ، خالد عودة الله، تشرين الثاني 2020)

نُقِب السدّ، بكسر خطّ غزة – بئر السبع، وانطلقت العمليات العسكريّة البريطانيّة لاحتلال القدس.

هناك في لندن، بينما كانت الخيالة تتسلّل نحو بئر السبع، خرج اللورد “مارك سايكس”، سكرتير “كابينت الحرب البريطاني”، من الاجتماع حاملاً “البشارة”:
“Dr. Weizmann – It’s a boy”
معلناً الموافقة على إصدار وعد بلفور. حيث كان “حاييم وايزمن” ينتظر خارج “غرفة الولادة”، وأُعلن الوعد في 2 تشرين الثاني 1917. [19] وهكذا، استخدمت بريطانيا الصهيونيةَ وسيلةً للتحلّل من (سايكس-بيكو) فيما يتعلّق بمستقبل فلسطين، بعدما علّمتهم الحرب فيها وعليها قيمتها الجيوسياسية، مشياً على الحكمة الاستعمارية التليدة “الحرب وسيلة الربّ لتعليمنا الجغرافيا”.

في كانون الأول 1916، أصبح ” لويد جورج” رئيساً لوزراء الحكومة البريطانيّة خلفاً لـ “أسكويث”، وكان “لويد جورج”، المتعصب دينياً للأرض المقدّسة، استراتيجياً لامعاً وصاحب نظرةٍ شموليةٍ للحرب. يرى العوامل المعنويّة والاجتماعيّة لا تقلّ أهميةً عن العوامل العسكريّة المباشرة، ومؤمناً باستراتيجية “التقرّب غير المباشر”؛ أيّ فتح جبهاتٍ ثانويةٍ للحسم في الجبهة الرئيسية باقتصادٍ شديد القوة. ومن هنا جاءت حماسته لأهمية العمليات البريطانية على الجبهة الشرقية، [20] حيث يمكن تحقيق نصرٍ سهلٍ وقليل الثمن في فلسطين، باحتلال القدس ومن ثمّ دمشق، ليشكّل رافعةً مهمّةً للمجهود الحربيّ في الجبهة الغربية؛ ساحة الحسم، والتي كانت تبدو بدون أفقٍ مع نهاية السنة الثالثة للحرب.

لم تكُن الطريق سهلةً أمام “لويد جورج” لإقناع القيادة العسكرية (كتشنر وروبرتسون) برؤيته. فقد دار صراعٌ مريرٌ بين “الشرقيين” “والغربيين”، [21] وكان صراعاً غير تقليديّ، “تدخّل” فيه السياسيّ (لويد جورج) في الشأن العسكريّ بشكلٍ فظ ونازع الأمر أهله. وفي هذا السياق المتوتّر، كان على “أللنبي” أن يضبط إيقاع عملياته على وتيرته؛ يدعمه السياسيّ ويُعاديه أهل بيته من العسكر. 

كانت الحملة على فلسطين حرباً متدحرجةً، تطوّرت أهدافها مع مجريات الميدان ونتائجه، بدأت بحربٍ دفاعيةٍ عن قناة السويس هدفها إنشاء خطٍّ دفاعيٍّ أمثل للدفاع عن القناة في سيناء، وتطوّرت إلى نقاشاتٍ حول إمكانية احتلال القدس عندما كانت القوات البريطانية متخندقةً في العريش في كانون الأول من العام 1916. وقبل تنحية الجنرال”موراي” عن القيادة، وُضعت خططٌ عسكريّةٌ لاحتلال القدس دون أن يتمّ حسم مسألة كونها هدفاً للحملة. ومع بداية العام 1917، بدأ مصير القدس في مخطّطات الإمبراطورية يُحسم، وصارت المخطّطات مع وصول “لويد جورج” إلى الرئاسة أوامرَ وإمداداتٍ وذخائر، وأصبحت حملة “أللنبي” على القدس صداماً عسكرياً مع العثمانيّين وسياسياً مع الفرنسيين في الوقت ذاته.

على أثر كسر خطّ غزة – بئر السبع، وبداية الانسحاب العثماني شمالاً، أو لنقُل إعادة انتشاره لتأسيس خطٍّ دفاعيٍّ جديدٍ عن القدس، بدأ ما يُطلق عليه “المطاردة” في أدبيات التاريخ العسكريّ للحملة البريطانية على فلسطين. وهي سلسلةٌ من المعارك التي طاردت فيها القوّات البريطانية القوّات العثمانية أثناء انسحابها شمالاً، قاتل خلالها الجنود العثمانيين، خاصةً من وحدات “حرّاس المؤخرة” الذين شاغلوا القوّات الإنجليزية حمايةً لظهر القوّات الُمنسحبة، وسقط آلاف الشهداء منهم في قتالٍ فدائيٍّ حتّى الطلقة الأخيرة. 

وصلت القوات العثمانية إلى طريق يافا – القدس عند محطّة ملتقى سكّة الحديد وادي الصرار، حيث تلتقي خطوط السكّة الحديدية في قلب خطّ الدفاع الثاني: يافا – القدس، بعد سقوط خطّ الدفاع الأوّل غزة – بئر السبع، ودارت المعركة التي صارت تُعرف بـ “معركة محطّة ملتقى سكّة الحديد وادي الصرار” في 15-16 تشرين الثاني 1917. وبعد هذه المعركة، أعطى المشير “فالكنهاين”، قائد جيوش الصاعقة “يلدريم”، [22] أوامره بانسحاب الجيش السابع نحو جبال القدس لتأسيس خطٍّ دفاعيٍّ عن المدينة، والجيش الثامن نحو الساحل على ضفاف نهر العوجا الشمالية.

(محطّة وادي صرار العثمانية، خالد عودة الله، أيلول 2018)

بعد انفصال الجيشين، قامت استراتيجية “اللنبي” على عزل واحتواء الجيش الثامن في الساحل وتوجيه الجهد القتاليّ الأساسيّ ضدّ الجيش العثمانيّ السابع في القدس، مع أنّه كان بإمكانه توجيه ضربةٍ قاسمةٍ للجيش الثامن الضعيف، ولكن كانت ساعة “لويد جورج” “تُتكتك” بانتظار بشارة عيد الميلاد.

دخلت قوات “أللنبي” دروب جبال القدس في مطاردةٍ سريعةٍ لا تخلو من التهوّر، رآها “أللنبي” ضروريةً لحرمان الجيش السابع من فرصة التقاط أنفاسه والتخندق العميق في الجبال، وهو أمرٌ لو تمّ سيجعل معركة القدس معركةً طويلةً ومريرةً، بعدما علّمته معارك غزة أنّ الجنود العثمانيّين متى انغرسوا في الخنادق فإنّ خلعهم سيكون أمراً عسيراً.

ساهمت تقارير الاستخبارات العسكرية البريطانيّة، والتي ستثبت الوقائع عدم دقّتها، في تعزيز قناعة “أللنبي” بجدوى استراتيجية المطاردة السريعة والمغامِرة بالتوغّل في دروب جبال القدس الوعِرة وذروة الشتاء على الأبواب. وهكذا في هوجة المطاردة، لم ينتبه البريطانيون أنّهم أصبحوا تحت مزاريب المطر، وينخرهم برد الجبال وهم ما زالوا يرتدون ملابس الصيف التي قاتلوا فيها في الصحراء والساحل.

وضعت الاستخبارات العسكرية البريطانية أمام “أللنبي” تقديراً لحالة الجيش العثماني، يخلُص إلى جيشٍ يعيش بوادر انهيارٍ في ظلّ نقصٍ شديدٍ في المؤن والعتاد والرجال، وروحٍ قتاليةٍ في الحضيض بفعل الانسحابات المتتالية، وأنّ العثمانيين غير جادّين في الدفاع عن القدس، بل وأنّهم بحسب تقارير الاستطلاع الجويّ – على محدوديته بسبب حالة الطقس غير الموائمة للاستطلاع الجويّ – قد بدؤوا فعلاً بالانسحاب. 

بينما تخندق الفيلق العشرين العثمانيّ في سلسلةٍ من المواقع الجبلية حول القدس، بفرقتيْ المشاة الـ 26 والـ 53 اللتين تولّتا مهمّة الدفاع عن المدينة، أصدر “فالكنهاين” الأوامر للبدء الفوريّ في تحصين المدينة التي لم تكُن محصنة! ومن ضمنها جبل النبي صمويل، أيّ أنّ عمليات تحصين المواقع الدفاعيّة حول مدينة القدس قد بدأت قبل أيامٍ من الهجوم البريطاني الأوّل على القدس الذي بدأ في 18 – 11-1917.

وُجّه الفيلق الثالث العثمانيّ إلى شمال المدينة لحماية طريق القدس – نابلس، وعلى ما يبدو فقد جرى تفسير حركته شمالاً بشكلٍ خاطئٍ من قبل الاستخبارات العسكرية البريطانية بكونها تخلياً من العثمانيّين عن الدفاع عن القدس، هذا بالإضافة إلى حركة نقليّات مقرّ قيادة جيش السابع إلى نابلس.

وانكسرت قرون الثور على الجبل: المحاولة البريطانيّة الأولى لاحتلال القدس

كانت الخطّة التي وضعها “أللنبي” للمحاولة البريطانيّة الأولى لاحتلال القدس، والتي أطلقت عليها “لجنة تسميات المعارك في الحربية البريطانية” لاحقاً “معركة النبي صمويل” وبدأت في 18-11- 1917، تقوم على هجومٍ على محور غرب – شرق، تنفّذه الفرقة الـ 75 عبر ثلاثة محاور فرعيةٍ متوازيةٍ متقاربة، هدفه قطع طريق القدس – نابلس جنوبيّ مدينة البيرة، والذي بقطعه يُقطَع خطّ الإمداد الوحيد للقوّات العثمانيّة من مركزها اللوجستيّ في نابلس، المربوط بخطّ سكّة الحديد الحجازية. وبالتالي، لا يبقى أمام الجيش العثماني سوى الانسحاب شرقاً على طريق القدس – أريحا الصعب لئلّا يقع تحت الحصار فتسقط المدينة بدون قتال. [23]

ولكنّ حساب السهل لم يوافق حساب الجبل!

يُمكننا تقسيم العمليّات العسكريّة على جبل النبي صمويل إلى العمليّات التالية:
أوّلاً: احتلال جامع النبي صمويل وممرٍّ على سفحه الغربي باتجاه قرية بدّو 20 و21-11-1917
ثانياً: الهجمات المضادّة العثمانيّة على الجبل والقصف المدفعيّ العثمانيّ 22-11 إلى 8-12-1917
ثالثاً: محاولات تقدّم القوات البريطانية من مواقعها على الجبل باتجاه قرية الجيب 22-24-11 – 1917

أولاً، احتلال جامع النبي صمويل وممرٍّ على سفحه الغربي باتجاه قرية بدّو 20 و21-11-1917

بدأت معركة النبي صمويل أو الهجوم البريطاني الأوّل على القدس في 18-11-1917، تقدّمت القوات المهاجِمة على ثلاثة محاور؛ الأوّل على طريق العوريات (بيت عور الفوقا والتحتا) بقوّة خيّالةٍ مكوّنةٍ من فرقتيْ الخيّالة المتطوّعة “اليومانري” (Yeomanry) والخيّالة الأسترالية. وبعد أن واجهت القوّة صعوباتٍ في التقدّم بسبب وعورة الطريق الجبليّ والمقاومة العثمانية العنيفة، انسحبت فرقة الخيّالة الأسترالية، وانضمّت إلى فرقة المشاة الـ 52 التي تقدّمت على طريق اللد – بيت سيرا – بيت عنان – بدّو . وأمّا فرقة الخيّالة المتطوّعة، وبعد صدّ القوات العثمانية تقدّمها في عدّة محاولاتٍ عند جبل الشيخ أبو زيتون غربيّ بيتونيا، فانسحبت نحو بيت عور الفوقا، بينما واصلت الفرقة الـ 52 تقدّمها بدون مقاومةٍ، خلا مقاومة صخور البلاد ووعورتها لـ “تحرير” القدس من “الاحتلال التركي”، كما نصّ أمر المعركة.  [24]


(الوضع الميدانيّ لمعركة النبي صمويل مساء 21 – 11-1917) [25]

أمّا فرقة المشاة الـ 75، فانطلقت من موقع تمركزها في قرية أبو شوشة قضاء الرملة، عبر طريق باب الواد، وواصلت تقدّمها تحت المطر نحو قرية العنب (أبو غوش) بعد أن اشتبكت مع جيب مقاومةٍ عثمانيّ عند قرية ساريس، وباتت ليلتها في قرية العنب التي حوّلها الإنجليز إلى مقرٍّ لوجستيٍّ متقدّم، وأنشأوا فيها محطةً للتضميد في دير الفرنسيسكان في مبنى الكنيسة الصليبيّة في القرية.

بعد وصولها إلى قرية العنب، غيّرت الفرقة الـ 75 مسار تقدّمها الذي كان من المفترض أن يستمرّ على طريق باب الواد اختصاراً للطريق، فقد كانت الأوامر التي تحملها الفرقة تشدّد على الوصول إلى طريق القدس – نابلس جنوبيّ البيرة بأيّ ثمنٍ وبأسرع وقتٍ ممكنٍ، [26] ولهذا تخلّت الفرقة عن مسار تقدّمها عبر طريق يافا – القدس وأخذت طريقاً مختصرةً من قرية العنب عبر بدّو نحو الجيب، بعد أن شنّت هجوماً تكتيكياً تشتيتياً على القوات العثمانية على جبل القسطل للتمويه بأنّها ماضيةٌ على طريق باب الواد.

لم تواجِه الفرقة مقاومةً تُذكر في طريق تقدّمها إلى أن وصلت طليعتها شرق بدّو، عند بداية سفح النبي صمويل الغربيّ، حتّى فُتحت عليها النيران الرشّاشة من النبي صمويل. عندها أصبح واضحاً لقادة الفرقة بأنّ التقدّم نحو طريق القدس – نابلس ليس ممكناً دون احتلال وتأمين جبل النبي صمويل المسيْطر نارياً  على قطاع عمليات الفرقة.

ومع غروب شمس العشرين من تشرين الثاني 1917، بدأت عملية التقدّم تحت النيران من بدّو باتجاه جامع النبي صمويل. وبالنظر إلى وعورة الطرق، لم يكُن بإمكان القوّات البريطانية نقل مدفعيّة الميدان والرشاشات الثقيلة، وكان الاعتماد بشكلٍ أساسيٍّ على رشاش “لويس” الخفيف (Lewis Machinegun) الذي استُخدم كسلاحٍ دفاعيٍّ و لتوفير غطاءٍ ناريٍّ لتقدّم المُشاة. تكبّد الإنجليز في عملية الاحتلال خسائر بسيطة، 36 إصابةً ما بين قتيلٍ وجريحٍ بحسب التاريخ الرسمي البريطاني، [27] وانسحبت حامية النبي صمويل العثمانيّة نحو الجنوب والشرق، وتحصّنت في بيوت القرية وعلى السفح الشرقيّ والجنوبيّ للجبل.

أقامت القوّات البريطانية خطّاً دفاعياً شرقيّ المسجد على تخوم بيوت القرية. وبسبب الأرض الجبليّة والطبيعة السريعة للمعارك في جبال القدس، لم يتمّ حفر خنادق، وإنّما تمّ الاعتماد على بناء سواتر من السلاسل الحجرية بشكلٍ طوليٍّ، تضمّنت أعشاشاً للرشاشات الآلية، يُطلق عليها الإنجليز في أدبياتهم العسكرية “سانجار” (Sangar)، وقد دخلتْ اللسان العسكري الإنجليزي من الجيش الهنديّ.

وهنا لا بدّ لنا من التوقّف عند مسألة السهولة النسبية التي تمكّنت بها الفرقة الـ 75 من احتلال قمّة الجبل ذي الأهمية الاستراتيجية في الدفاع عن القدس، والذي كلّف القوّات العثمانية أثماناً باهظةً في محاولات استردادها؟ 

” تحكيمات يوك”

في كانون الأوّل من العام 1916، أقرّ قائد الجيش الرابع قبل حلّه، جمال باشا، الخطّة الدفاعية لمدينة القدس، والتي وُضعت للتعامل مع التهديدات المحتمَلة للمدينة من قبل الإنجليز: إنزالٌ بحريّ في قطاع يافا – عسقلان، وهجومٌ بريّ من جهة الخليل. تكوّنت الخطّة من ثلاثة خطوطٍ دفاعيّة؛ الأماميّ منها يمتدّ من بيت عور إلى عرتوف مروراً باللطرون، والخطّ الثاني: مجموعةٌ من المواقع الدفاعية المسيْطرة على الطرق إلى المدينة من جهة الغرب والشمال والجنوب في في جنوب الرام – النبي صمويل – بيت سوريك – القسطل – عين كارم – الخضر وبتّير. [28]

وأمّا الخطّ الثالث، فمجموعةٌ من المواقع المحصّنة في تلّ الفول بيت حنينا وشعفاط وبيت اكسا ودير ياسين وجبل العقود (جبل “هرتسل”) وجبل الراس (جبل “جيلو” بيت جالا) وصور باهر وصولاً الى جبل الطور. سارت عملية إنشاء التحصينات الدّفاعية عن القدس ببطء، فقد بقيت الخطط العسكرية العثمانية في فلسطين رهينة خلافات القيادة العسكرية العليا العثمانية، ما بين جمال باشا قائد الجيش الرابع من جهة وأنور باشا وزير الحربية. [29] 


(خريطة للمواقع الدفاعيّة العثمانية حول القدس خلال الحرب) [30]

عشيّة الهجوم البريطاني على القدس، لم تكُن الإنشاءات الدفاعية قد اكتمل إنجازها، وما أُنجز منها كان ضحل العمق ويتكوّن من خطٍّ واحدٍ. كما كانت الخنادق المحفورة حديثاً سهلة الاكتشاف، ذلك أنّ التراب الأبيض الناتج عن عمليات حفر الخنادق في جبال القدس ذات الصخور الحورية، “البيوض بلغة الفلاحين”، كان يمكن مشاهدته بوضوحٍ من طيران الاستطلاع الجويّ البريطانيّ على شكل خطوطٍ بيضاء، إذ لم يكن قد مضى الوقت الكافي لنموّ العشب ليغطّي آثار الحفريات. 

يقدّم المقدّم “كاسيل” من الكتيبة الـ 123، الذي تولّى القيام بمهمة استطلاعٍ لقمّة جبل النبي صمويل قبيل الهجوم عليه، التفاصيل التالية لدفاعات الجبل ولمهمّته:

مع تقدّم القوة المستطلِعة، فُتحت النار على القوة من جهة الجامع، وأمكن رؤية خطّين من الخنادق، يبدأ من الواجهة الجنوبية ويستمرّ غرباً بطول 700 مترٍ، والثاني يتّجه نحو الجنوب الشرقيّ ويتّصل بالمواقع الدفاعيّة جنوب المسجد. كما يوجد استحكامٌ منيعٌ على بعد 500 مترٍ غربيّ المسجد يحتوي على مرابض للمدافع الرشّاشة.

بدأ الهجوم على قمّة الجبل بالانقضاض على المعقل المحصّن وإسكات نيرانه وقتل من كان فيه، من ضمنهم ضابطٌ ألمانيّ. وبعد احتلاله، خلا محيط الجامع من القوّات العثمانية وانتهت عملية الاحتلال الساعة 11:30 ليلاً، وكانت حصيلتها 36 إصابةً، ما بين قتيلٍ وجريحٍ في صفوف الكتيبة، وأسْر 42 جندياً عثمانياً، واغتنام مدفع رشّاش. يصف المقدّم ” كاسيل” حالة الجنود العثمانيّين بـ “حالة صدمةٍ وهلع” من مباغتة القوة لهم. [31] 

(استحكامٌ للحرس الوطني الأردني في ذات موقع الاستحكام العثماني المتقدّم 500 م غرب الجامع، خالد عودة الله، آذار 2020)

يُورد المؤرّخ العسكري “جون جرينغر” روايةً لضابطٍ من كتيبة مشاة “دوك كورنوال”، التي شاركت الكتيبة الـ 123 في احتلال قمّة الجبل والجامع، يقول فيها:

لم تكُن هنالك مقاومةٌ جادّةٌ حول القريّة، وكانت الخنادق المحيطة بالموقع ضحلةً وبائسة، وقد لعب الحظّ دوراً مهمّاً في سهولة احتلال الموقع؛ إذ بدأ الهجوم لحظة تبديل القوات العثمانيّة على الجبل، والتقت القوّة الجديدة العثمانيّة الصاعدة لتسلّم حماية الجبل مع القوة الإنجليزية، وظنّت كلٌّ من القوتين أنّ الأخرى تريد الاستسلام قبل أن يتّضح “سوء التفاهم”، ومن ثمّ اتّخذت القوتان مواقع قتاليةً وبدأ إطلاق النار. [32]

إذن، سقطت قمّة الجبل بيد الإنجليز بسهولةٍ نسبيةٍ، بتظافر عامل الحظّ في التوقيت مع الإهمال في تحصين دفاعات الجبل، خاصةً من الجهة الغربية؛ خاصرة الجبل الرخوة بسبب قلّة انحدار سفحه وامتداده المنبسط نحو بدّو، وسيسقط مئات الشهداء من الجيش العثماني في محاولاتهم السيزيفية لتحريره ثمناً للحظة الغفلة ومزاج القيادات العليا المُتقلّب.

في صبيحة الثاني والعشرين من تشرين الثاني 1917، كان تمركز القوات المتحاربة على الجبل كالتالي:

قوّات الفرقة الـ 75 البريطانية تُسيْطر على قمّة الجبل وسفحه الغربيّ، احتلّت مبنى الجامع وحوّلته لمحطّةٍ ميدانيةٍ للتضميد، ونصبتْ مدفعيْ رشاشٍ على مئذنته، كما أنشأت ساتراً دفاعياً شرقيّ الجامع على تخوم مباني القرية. وأمّا القوات العثمانية، فقد تحصّنت في مباني القرية وحواكيرها بمسافةٍ تبعُد حوالي الـ 100 مترٍ عن الخطّ الدفاعيّ للقوات البريطانية، بالإضافة الى انتشار مرابض المدافع الرشّاشة والقنّاصة العثمانيّة على السفوح الجنوبيّة، من جهة خربة البرج حيث رابطت قوّةٌ عثمانيّة، والسفوح الشرقيّة حتّى وادي بيت حنينا الغربيّ والشماليّ المسيْطر على الممرّ السهليّ نحو الجيب.

بعد نجاحها في احتلال قمّة الجبل والجامع، أصدر “أللنبي” مرسوماً باعتماد “المفتاح” شارةً للفرقة وطُبع على آلياتها وبيارقها ودُمغ على أسلحتها. أمّا اختيار المفتاح، فقد جاء ضمن الحرب النفسية ليقول للعثمانيّين إنّ الإنجليز، باحتلالهم قمّة جبل النبي صمويل، قد استحوذوا على مفتاح القدس، وأنّ فتح أبواب المدينة قريب. هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى جاء رفعاً لمعنويات الفرقة الـ 75 التي حُطِّمت قوّتها في المعارك على الجبل، التي بدأت في صبيحة 22-11-1917، بعد خمسة أيامٍ من القتال.

وفي طريق الفرقة الـ 75 من النبي صمويل إلى قرية العنب، بعد تبديلها بالفرقة الـ 60، كتب أحد جنودها في مذكّراته:”عند تبديل فرقتنا، كان شعورنا أنّنا فشلنا مرّةً أخرى في “فتح ” القدس، وربّما لن يكون ذلك ممكناً إلى الأبد”. [33] 

ثانياً، نهاية المطاردة الكبرى: الهجمات العثمانية المضادّة على الجبل 22-11 إلى 8-12-1917

“على جبل النبي صمويل، وقع القتال الأكثر دمويةً في الحرب كلّها، مرةً تلو المرّة تناحر الألمان والنمساويّون والأتراك والسوريّون من جهة، مع الأسكتلنديّين والإيرلنديّين والويلزيّين والإنجليز والجوركيّين على الجهة الأخرى”. [34] 

(ديفيد وودرود، جحيمٌ في الأرض المقدسة)

استمرّ القصف المدفعيّ العثمانيّ طيلة ليلة الـ 21 -11 وصباح الخميس 22-11 على مواقع الإنجليز على جبل النبي صمويل، من مواقع المدفعيّة العثمانيّة في لفتا وشعفاط والرام ورام الله. كان القصف تمهيداً للهجوم المضادّ الذي شنّه الجيش السابع العثمانيّ لاسترداد النبي صمويل من القوّات البريطانية، وتكفّل بالهجوم فوج المشاة الـ 72، بمساندة كتيبة المشاة الأولى والإسناد المدفعيّ من الفوج المدفعي الـ 27 من الفيلق العشرين، مدعوماً بفرقة مشاةٍ وخيّالةٍ من الفوج الثالث المتمركِز شمال المدينة. بدأ الهجوم الساعة الثالثة بعد منتصف الليل، واستمرّ حتّى الساعة الثالثة من عصر اليوم التالي. كان القتال في معظمه التحاماً جسدياً بالحِراب، واستمرّت المعارك على موجاتٍ حتىّ الرابع والعشرين من تشرين الثاني. [35] 

وبهذا، وصلتْ المطاردة البريطانية للجيش العثماني إلى نهايتها عند جبل النبي صمويل، بعد أن تقدّم خلالها الجيش البريطاني مسافة 90 كم على جبهةٍ عرضها 35 كم، وعلى جبل النبي صمويل توقّف الانسحاب العثمانيّ وبدأ العثمانيون بشنّ هجماتٍ مضادّةٍ مركّبةٍ ومتتاليةٍ، وأصبح البريطانيون الذين احتكروا المبادرة الهجوميّة في موضع الدّفاع في كثيرٍ من الأحيان.

القتال في بيوت القرية وحواكيرها

لعلّ القتال الذي دار في قرية النبي صمويل هو الحالة الوحيدة للقتال في المناطق السكنيّة في الحملة على فلسطين في الحرب العالمية الأولى. [36] في 24-11- 1917، رفع النقيب “مالكوم سميث”، من الكتيبة السابعة – الفوج الأسكتلنديّ الملكيّ، تقريراً [37] عن عمليةٍ عسكريةٍ لتطهير بيوت قرية النبي صمويل من القوّات العثمانية يعطينا صورةً مجهريةً عن معارك الجبل، جاء فيه:


(رسم كروكي مرفق بتقرير “مالكوم سميث” يوضّح مسرح الاشتباكات)

 

“شرعنا في عملية تطهير الحواكير المحاطة بالسلاسل الحجرية شمال شرق الجامع، بدأتْ العملية الساعة 12:05 ظهراً، تعرّضنا فوراً للنيران والقنابل اليدوية من كلّ الجهات، وحاول النقيب “روجر” اعتلاء مبنىً لاستطلاع الميدان، فقُتل فوراً بنيران مدفعٍ رشّاش. حاولنا الالتفاف على العدوّ عبر فتحةٍ في الجدار، لكنّنا جُوبهنا بنيران كثيفة، فتراجعنا وتقدّمنا عبر فتحةٍ أخرى في الجدار لتثبيت مدفع رشاشٍ من طراز “لويس” عبر الفتحة، ولكن قَتل الأتراك كلّ من تقدّم لإطلاق النار من المدفع الرشّاش، وأَعطبت النيران التركية المدفع وأخرجته من الخدمة.

انقضّ علينا الأتراك بالقنابل اليدويّة وواجهناهم برمّانات “ميلز”، وأعطب الأتراك المدفع الرشّاش الثاني الذي ثبّتانه عند الجدار الأول. قُمنا بالانسحاب والاحتماء بالجدار الثاني، فتقدّم الأتراك واحتموا بالجدار الأول. حاولتْ القوة المبادَرة بهجومٍ معاكسٍ، ولكنّ خسائرنا كانت كبيرةً فتراجعتْ للاحتماء في المبنى، ونجينا بأعجوبةٍ من محاولة الأتراك تطويقنا. حلّ الظلام ووقعت المزيد من الخسائر في صفوفنا، وانسحبنا في الساعة الثامنة ليلاً حاملين معنا قتلانا، ولستُ متأكداً من أنّه لو حاولنا التقدّم مرةً أخرى إنْ كان سيبقى أحدٌ من القوّة على قيد الحياة”.

في يوم السبت 24/11/1917، كتب خليل السكاكيني في يوميّاته عن معارك النبي صمويل التي كان يراقبها هو وغيره من أهل المدينة بالمناظير:

“اشتدّ الضرب بعد الظهر على النبي صمويل، من جهة لفتا ومن جهة شعفاط … يظن أنّ سبب اشتداد المدفعية اليوم على الجانب الأيمن هو أنّ العثمانيين حاولوا الهجوم عليه من ذلك الجانب فأصلاهم الإنجليز ناراً حامية، وقد لاحظنا فرقاً بين القنابل التي كانت تتساقط على الجبل منذ أيّامٍ والتي تتساقط على الجانب الأيمن من جهتين، دخانها أسود كثيف… وقد راقبتُ بنفسي ذلك الجانب فلاحظتُ حركة أشخاصٍ بالقرب من شجرةٍ منفردة، وإلى جانبها جدار، فكان الأشخاص يستترون وراء الجدار وهي إلى يمين النبي صمويل، فلو كانوا إنكليزاً لاستَتروا في الجهة الأخرى من الجدار. وتُنقل أقوالٌ لجرحى وصلوا مساءً إلى القدس لقوا من الانجليز ناراً حامية، كل ذلك قرائن على أنّ الإنكليز هم الذين كانوا يُطلقون مدافعهم على الجانب الأيمن”. [38] 

(شبّاك على خطّ نار الحرب العظمى، خالد عودة الله، تشرين أول 2020)

تتقاطع مشاهدات السكاكيني في يوميّاته في ذات يوم الاشتباك مع ما وصفه النقيب “سميث” في تقريره أعلاه، فالجهة الشمالية الشرقية للجامع تقع على الجانب الأيمن للناظر إليه من الجنوب (مدينة القدس)، وكذلك تفاصيل تحرّكات الجنود واحتمائهم بالجدار. وتتطابق شهادة “سميث” والسكاكيني في توقيت بدء القصف وانتهائه. أمّا الملاحظة التي يوردها السكاكيني عن كون القذائف التي أُطلقت على الجانب الأيمن تختلف عن القذائف المُعتادة ولها دخانٌ أسود كثيف، فهذه المشاهدة تُشير إلى أنّ هذه القذائف كانت قذائف مدفعيةً شظائيةً مضادّة للأفراد من نوع “شرابنل” (Shrapnel)، والتي ينبعث منها دخانٌ أسود كثيف عند انفجارها في الجوّ قاذفةً مئات الكرات المعدنية أرضاً، واستخدمها كلُّ من العثمانيين والإنجليز بكثافةٍ خلال الحملة على فلسطين، وهو ما سنأتي على ذكره لاحقاً.

في السابع والعشرين من تشرين الثاني 1917، بدأت القوات العثمانية هجومها المضادّ الكبير على طول خطّ الجبهة من النبي صمويل حتّى قرية ملبس (11 كم شمال شرق يافا). دارت أعنف الاشتباكات على جبل النبي صمويل، ومُهّد للهجوم بقصفٍ مدفعيّ كثيفٍ من مرابض المدفعية العثمانية في الرام ورام الله ومن شمال غرب الجيب وشعفاط، ومن ثمّ تقدّمت قوةٌ عثمانيّةٌ من صوب قرية بيت اكسا، وجُوبهت بنيران مدافع “لويس” الرشاشة التي نصبتها القوات البريطانية على مئذنة الجامع. [39] تكبّدت القوات العثمانية خسائر فادحةً بسببها، إلى أن قصفتْ الجامع، بحسب الرواية الرسمية البريطانية وهي صحيحةٌ على الأغلب، لإسكات المدفعيْن. ونتيجةً للقصف، دُمّرت مئذنة المسجد وانهار السقف على رؤوس الجنود البريطانيّين في داخله، فاحتموا من القصف بالنزول إلى المغارة تحت الجامع .

بعد إسكات رشاشي المئذنة، استطاع الجنود العثمانيون الوصول إلى بوابة المسجد، ودار قتالٌ دمويٌّ بالحراب انتهى بانسحاب الجنود العثمانيين، وتبعهم جنود “الجوركا” بدحرجة الحجارة عليهم كما يقولون. الإشارات المتكرّرة التي يُوردها المقاتلون من الطرفين حول استخدام الحِراب في القتال في النبي صمويل تُخبرنا الكثير عن طبيعة القتال القريب والملتحِم على الجبل ودمويّته. 

لعب جنود كتيبة “الجوركا” الهنديّة المتمرّسة في القتال الجبليّ دوراً أساسياً في صدّ الهجمات العثمانية على النبي صمويل، وفي معارك جبال القدس عامةّ. كان جنود الفرقة الهندية يصفون القتال في جبال القدس بأنّه صورةٌ مصغرةٌ عن القتال في جبال الهملايا في حروب الحدود الشمالية الغربية للهند.  [40]   كان هذا الهجوم العثمانيّ الأخطر على النبي صمويل، وعلى الأغلب أنّ العثمانيين سيطروا على الجامع لبعض الوقت قبل تمكّن البريطانيين من صدّهم. وقد لعب توقيت الهجوم دوراً مهماً في تمكّن العثمانيّين من الوصول إلى الجامع، إذ جاء في وقتٍ بدأت فيه عملية تبديل قوات الفرقة الـ 75 المنهكة بالكتيبة الأسكتلندية، ولا أدري هي الصدفة أم توفّر معلوماتٍ استخباراتيةٍ للعثمانيين.

تبعه في نفس اليوم هجومٌ مضادٌّ ثانٍ، وكان أكثر تنظيماً وعزماً هذه المرّة من من الجهة الشرقية، قادمٌ من جهة وادي بيت حنينا. نجح جنود ميسرة الهجوم في الوصول الى مواقع الفرقة الهندية، ولكن سرعان ما تمّ صدّه، ثمّ تبعه هجومٌ ثالثٌ عصراً انتهى بالفشل. 

لم تتوقّف العمليات القتالية على الجبل وحوله منذ احتلال قمّته حتى عشيّة احتلال القدس، أيّ من 21-11-1917 حتّى 8-12-1917، من القصف المدفعيّ بالقذائف شديدة الانفجار وقذائف”شرابنل” المتشظيّة المضادّة للأفراد، إلى الهجمات المضادّة المتتالية التي كانت تتحوّل إلى التحامٍ جسديٍّ وقتالٍ بالحراب. تمتْرس القنّاصة العثمانيون وراء صخور الجبل وبين البيوت والكروم ووراء شجيرات الصبّار، “ومن على الأشجار اصطادوا رجالنا (الإنجليز) على ضوء القمر”. [41]

قصة مئذنتين

يقول خليل السكاكيني في يوميّاته ( الثلاثاء 27 -11-1917): وبعد الظهر، اشتدّت المدفعية بدون انقطاعٍ ولكن من مكانٍ بعيدٍ إلى الشمال من القدس، جلستُ قليلاً في نافذة الغرفة العليا، أراقبُ بنظّارتي جبل النبي صمويل، فلاحَت لي على الجانب الأيمن منه أشباحٌ عديدةٌ يرفعون رؤوسهم ثمّ يخفضونها، ولعلّهم من الجنود العثمانيّين والله أعلم.. ومن الساعة الثالثة، ابتدأت المدفعية بشدّةٍ هائلةٍ لم يسبق لها مثيل، وكانت القنابل تتساقط مثل المطر على جامع النبي صمويل وحوله، وفي الساعة الرابعة سقطتْ المئذنة بعد أن ثبتت هذا الثبات العجيب”. [42]

استغلّ البريطانيون قصف العثمانيين [43] لجامع النبي صمويل وهدم مئذنته في حملتهم الإعلامية في ناحيتين:

الأولى: الهجوم الإعلاميّ على الجيش العثماني الذي لا يأبه بحرمة الأماكن المقدّسة ومشاعر المسلمين “باستهدافه جامع النبي صمويل وهدم مئذنته التي تحتلّ مكانةً عاليةً في نفوس المسلمين ويقدّسونها”، [44] في سياق الحملة الإعلامية الأوسع التي سعت للطعن في ادّعاء الأتراك أنّ قتالهم ضدّ البريطانيين هو دفاعاً عن الأرض والمقدّسات الإسلامية، بدليل قصف جامع النبي صمويل وهدم مئذتنه بعدما حافظت عليه القوّات البريطانية وتعاملت معه بكلّ حذرٍ احتراماً لقداسته. كلّ ذلك ضمن ما عُرف بحرب “الجهاد والجهاد المضادّ” [45] خلال الحرب العالمية الأولى على الجبهة الشرقية.


(على اليمين: أنقاض الجامع العمري الكبير في غزة، وإلى اليسار: أنقاض جامع النبي صمويل) [46]

الثاني: استغلّ الإنجليز قصف الجامع وهدم مئذنته للتغطية على قصفهم للجامع العمريّ الكبير في غزة وهدم مئذنته في أيار 1917. فقد تخوّف الإنجليز من تبعات استخدام العثمانيين لقصف الجامع العمريّ للتحريض دينياً ضدهم. الأمر الذي دفع القيادة العليا إلى التشديد على أنّ الجامع لم يُستهدف بشكلٍ مباشرٍ ومقصود، وأنّ القصف كان موجّهاً نحو مخزنٍ للذخيرة بالقرب منه وتضرّر الجامع بعد انفجاره (أيّ المخزن). أمّا الجنود البريطانيون المرابطون لأشهرٍ طويلةٍ في الخنادق، فقد كان لهم ثأرٌ طويلٌ مع مئذنة الجامع العمري، بسبب شعورهم الدائم بأنّ جميع حركاتهم وسكناتهم مكشوفةٌ ومراقبةٌ لأعين العثمانيّين من على المئذنة لهذا “كان على المئذنة أن تزول وقد أُزيلت”. [47] 

القاوقجي يحصل على وسام الصليب الحديديّ في النبي صمويل 

(نيشان الصليب الحديدي الألماني على صدر فوزي القاوقجي)

لم تتوقّف الهجمات العثمانية على الجبل، واستمرّت حتى بداية معركة القدس الثانية في 7 – 12- 1917 والتي انتهت باحتلال المدينة. يروي فوزي القاوقجي في مذكّراته عن محاولةٍ أخيرةٍ شارك فيها لاسترداد موقع النبي صمويل في 6 -12-1917، خُصّصت لها وحداتٌ قتاليةٌ وصفها القاوقجي بكثيرة العدد من “فيلق آسيا” الألماني، [48] على أن تقوم المدفعية العثمانيّة بمساندة الهجوم الألماني، الذي بدأ في الساعة الخامسة مساءً. تمكّنت القوات الألمانية من اقتحام الخطوط الدفاعيّة ودخول قرية النبي صمويل وسيطرتها على قسمٍ من القرية، بينما بقيَ القسم الآخر تحت السيطرة الإنجليزيّة بمواقع قتاليةٍ متقاربة.

مع استمرار القتال، وصلت تعزيزاتٌ بريطانيةٌ كادت أن تحاصر القوّة الألمانية. يقول القاوقجي إنّه قاد قوّةً ألمانيةً بعد منتصف ليل السادس من كانون الأوّل 1917، في هجومٍ مباغتٍ على القوات الإنجليزية بالقنابل اليدوية والحِراب واصفاً ما حدث بـ “المجزرة”، انسحب على أثرها الإنجليز من القرية واحتلّها الألمان، واستحق القاوقجي لذلك وسام “الصليب الحديدي الأول” (Iron Cross). في اليوم التالي، شنّ الإنجليز هجوماً على القرية واستردّوها. [49] تؤكّد المصادر البريطانية وقوع الهجوم دون تفصيلاتٍ في 6 -12-1917، [50] وتُورد المصادر العثمانية أمر “فالكنهاين” بتنفيذ مجموعةٍ من “الهجمات المُفسدة” (لتشويش تحضيرات الجيش البريطاني لشنّ هجومه الثاني لاحتلال المدينة) في ذات التاريخ، من ضمنها هجومٌ في قطاع النبي صمويل، دون ذكر المزيد من التفاصيل.


(صورةٌ جويّة عسكريّة بريطانيّة لجبل النبي صمويل، بتاريخ 28-11-1917، الساعة الواحدة ظهراً من جهة الشمال، تُظهر الصورة: الجامع (1) بدون مئذنة والدمار بواجهته الشرقيّة (2) وبيوت القرية شرقيّ الجامع (4) والخنادق العثمانية غربيّ الجامع وفي الجنوب الشرقيّ منه (3) و(8) والطريق من القرية إلى القدس (5) وإلى قرية الجيب (6) والسفح الشمالي شديد الانحدار جهة قرية الجيب(7) )   [51]

ثالثاً، النبي صمويل – الجيب: حقول الموت

في الثاني والعشرين من تشرين الثاني 1917، تقدّمت الفرقة الـ 52 البريطانية من بيت لِقيا لتحلّ محلّ الفرقة 75 في النبي صمويل، حتّى تواصل الأخيرة تقدّمها، حسب خطة “أللنبي”، نحو هدفها جنوب البيرة لقطع طريق نابلس – القدس، كان عليها أن تحتلّ تلّ الجيب الذي يسيْطر نارياً على طريق تقدّمها. على التلّ، تخندقت القوات العثمانية في كروم القرية؛ وراء السلاسل الحجرية (السناسل) وبين أشجارها بمرابض جيّدة التحصين والتمويه للمدافع الرشّاشة.

ما بين جبل النبي صمويل وتلّ الجيب، تمتدّ منطقة سهليّة خالية من السواتر بعرض 800 مترٍ، كان على القوّات الإنجليزية عبورها بعدما أنشأت لها رأس جسرٍ بريّ على قمة جبل النبي صمويل، مع تأمين طرق بدائيّةٍ للإمداد عبر بدّو، تصل قرية العنب التي حوّلها الإنجليز إلى قاعدة إمدادٍ وتموينٍ وتبديٍل للقوّات الُمنهكة بفعل الاشتباكات التي لم تتوقّف في الجبل.

علينا أن نتذكر أنّ احتلال النبي صمويل لم يكُن هدفاً بحدّ ذاته، إنّما كان لا بدّ من احتلاله لكونه يسيْطر طوبوغرافياً على طرق محور تقدّم القوات نحو طريق القدس- نابلس، وقد أصبح التقدّم عبر الجيب ممرّاً إجبارياً للتقدّم نحو طريق القدس – نابلس، بعد تعثّر التقدّم عبر بيتونيا عند جبل الشيخ أبو زيتون غرب بيتونيا. وقد علمنا أنّ القوات العثمانية بقيت متخندقةً على جبل النبي صمويل بعد احتلاله، وخاصةً سفوحه الشمالية والشرقية والشمالية الغربية، بالإضافة إلى استحكامها في بيوت القرية. وهكذا كانت القوات البريطانية في كلّ محاولاتها للتقدّم من غربيّ جبل النبي صمويل نحو الجيب، وما أن تصل المنطقة السهلية، حتّى تصبح مكشوفةً تماماً وفي مرمى النيران المتقاطعة [52]  العثمانية من تلّ الجيب والسفح الشماليّ الشرقيّ لجبل النبي صمويل.

حاولت القوات البريطانية تجنّب طريق الموت هذا باتّخاذ مسارٍ للتقدّم نحو الجيب من الغرب، كما حدث مع فوج مشاة “الجوركا” الثالث في 23/11/1917. فبحسب تاريخ الفوج الرسميّ، تعرّضت كتيبتان لما وُصف بـ “المذبحة” فور بدء الفوج بالنزول من السفح الغربيّ للجبل للتقدّم نحو الجيب من المحور الغربيّ، عندما تفاجأت القوّات بنيران مدافع رشّاشةٍ كثيفةٍ من السفح الغربيّ للنبي صمويل، الذي من المفترض أن يكون تحت السيطرة الكاملة للقوّات البريطانية، تقاطعت مع نيران قادمةٍ من تلّ الجيب حصدت الكتيبتين، ومن نجح بعبور الـ 800 مترٍ المكتسحة بالرصاص لم يعُد. [53] 

توالت المحاولات البريطانية لاحتلال الجيب، من ضمنها محاولة الالتفاف على الجيب عبر السفح الشرقيّ بمحاذاة وادي بيت حنينا لتجاوز الجيب نحو بيرنبالا، ولم تنجح. وفي عصر الرابع والعشرين من تشرين الثاني 1917، أبرق قائد العمليات في قطاع النبي صمويل إلى قيادة الفيلق 21 البريطانيّ، المتواجدة في السوافير الغربية، بأنّ مَهمة الوصول إلى طريق القدس – نابلس عبر التقدّم من النبي صمويل الى الجيب أكبر من إمكانيات الفيلق حالياً. وفي الساعة 7:50 مساءً، وصلت أوامر “ألنبي” بوقف العمليات العسكرية في قطاع النبي صمويل.


(جبل النبي صمويل من الخنادق البريطانية من الجهة  الغربية الجنوبية، 1917) [54]

من معركة القدس إلى معركة النبي صمويل

وبعد وقف العمليات نحو طريق القدس – نابلس من النبي صمويل عبر الجيب، أصدر “أللنبي” أوامره بوقف الهجوم على القدس، وشرع بعمليات تبديلٍ للقوات المحاربة؛ الفرقة 21 بدل الفرقة 20 المنهكة. وعلى الرغم من توقّف العمليات الهجومية، فإنّ الهجمات العثمانية لم تتوقّف. وفي تلك الأثناء، قامت القيادة العسكرية البريطانية بتعديل خطّة الهجوم القادم على القدس، بنقل محوره جنوب جبهة النبي صمويل المستعصية الى طريق يافا – القدس، والتقدّم شرقاً من محور بدّو – عين كارم باتجاه غربيّ المدينة.

وبذلك، تخلّى “ألنبي” عن قاعدة مسافة الـ 8 كم، التي حُدّدت كحدٍّ أقصى مسموحٍ به للعمليات العسكرية من المدينة المقدّسة حفاظاً على “حرمتها”. وأُردف هذا التقدّم بتقدّمٍ آخر على طريق الظاهرية – الخليل – بيت جالا وقرى القدس الجنوبية، وإنشاء خطّ جبهةٍ من النبي صمويل عبر بيت حنينا وصولاً إلى تلّ رأس الطويل (على التخوم الشرقية لمستوطنة “بسغات زئيف” اليوم). وفي خضم التحضيرات للهجوم الحاسم على القدس، شنّت القوات العثمانية هجوماً على النبي صمويل في 6 – 12 -1917 وتمّ صدّه، وهذا يتطابق مع موعد الهجوم الذي أورده القاوقجي.

وقبل أقلّ من 24 ساعةً من احتلال المدينة 9-12-1917، وأثناء تقدّم القوات البريطانية نحو بيت اكسا قادمةً من بدّو لتأمين طريق يافا – القدس، تعرّضت القوات البريطانية إلى نيران متقاطعةٍ من مدافع رشاشةٍ من المنحدر الجنوبيّ للنبي صمويل ومن خربة البرج (1 كم جنوب النبي صمويل) ، وقد كان مصدر النيران من على جبل النبي صمويل من مواقع تبعد حوالي 50 مترٍ من خطوط القوات البريطانية حول المسجد.

علّق المؤرّخ البريطاني الرسميّ للحرب، “كيرل فالس”، في نهاية سرده ليوميّات القتال على النبي صمويل:”بقي النبي صمويل يقوم بدوره المهم الذي بدأ منذ أن بدأتْ معارك القدس في 17-11، وهو الآن يشبه المسلخ حيث تتناثر جثث الجنود والحيوانات المتراكمة من الاشتباكات المتتالية السابقة”.  [55] وتبعه “جون بويل” بالقول: “كان القتال في النبي صمويل الأكثر دمويةً في الحملة على فلسطين”.  [56]


(رسمٌ بيانيّ يظهر الارتفاع الحادّ  للقتلى البريطانيين في شهري تشرين الثاني وكانون الأول، تزامناً مع معارك النبي صمويل) [57]

أوقعت الهجمات العثمانية المضادّة على النبي صمويل 750 قتيلاً بريطانياً، إضافةً إلى 96 مفقوداً، شكّلت في مجملها نصف القوة المقاتلة المتوفّرة، و450 قتيلاً في الهجوم الفاشل على الجيب الذي انطلق من غرب النبي صمويل . [58]

تُظهر لوحة “جيمس مكبي”، [59] بتاريخ 18-12-1917 (بعد احتلال القدس بتسعة أيامٍ) بطارية مدفعيّةٍ بريطانيّة أثناء قصفها لمواقع المدفعيّة العثمانيّة التي كانت تقصف جبل النبي صمويل، ويبدو أنّ القصف المتبادل تزامن مع العمليات القتاليّة في خربة عدّاسا، 3 كم شرقيّ النبي صمويل، من 18 إلى 23 -12-1917، والتي أدّت إلى مقتل (53) قتيلاً من كتيبة المشاة الإيرلندية. [60]

في ظهيرة السابع والعشرين من كانون الأول 1917، بدأ الهجوم العثمانيّ المضادّ على المواقع البريطانية بهدف استعادة القدس، وتركّز في منطقة بيت حنينا: تلّ الفول ورأس الطويل والظَهرة، وكان يهدف إلى إنشاء خطّ جبهةٍ يمتدّ من تلّ الفول (قصر الملك حسين حالياً) عبر تلال بيت حنينا (الظَهرة والجبل) وصولاً إلى النبي صمويل، وانتهى الهجوم بالفشل.

بعد انتهاء العمليات العسكريّة البريطانية في فلسطين، حمّل “ألنبي” معه إلى لندن، من ضمن ما حمل من تذكارات الحرب في فلسطين، مدفعاً عثمانياً استولت عليه قوّاته من النبي صمويل، واختار الإنجليز أن يبنوا النصب التذكاريّ لقتلاهم على جبل المشارف بحجارةٍ اقتُلعت من جبل النبي صمويل.   

معركة جبل النبي صمويل : شواهد وآثار

لم تنقطع زياراتي للجبل ليلاً ونهاراً، صيفاً وشتاءً، عند شروق الشمس ومغيبها، عند اخضرار عشبه ويباسه، عند تفتّح أزهاره وعند ذبولها، وعند جريان عيونه وعند استحلابها آخر قطرات الماء من الصخر آخر الصيف. بما اكتسبته العين من دربةٍ في رحلة البحث عن ما دقّ وتوارى من المستحاثات والأحافير، بدأتُ انتبه لشظايا المعدن والرصاص المتوارية هنا وهناك بين صخور الجبل ونباته، صرتُ أجمعها ودفعتْني لأقرأ حولها، وإذا هنالك حقلٌ معرفيٌ واسع يُسمّى “علم آثار المعارك ” يبحث في الآثار والشواهد المادّية الباقية في ميدان المعارك السالفة منذ القدم حتى العصور الحديثة، وللحقل مؤلّفاته ودوريّاته ومواقعه ومجتمعه المعرفيّ. استهواني، فغصتُ فيه حتّى شغلني عن غيره من المعارف، والبحث فيه يُشبه عمل الباحث الجنائي في البحث عن الأدلة، مرهقٌ ولكنّه ممتع.

جمعتُ من أرض الجبل عشرات الأجسام المعدنية العسكرية خلال سنواتٍ طوال، يتراوح حجمها من أعشار السنتمتر إلى عشرات السنتمترات. ولأنّ الجبل لم تتوقّف معاركه الحديثة منذ مئة عامٍ (1917، 1948، 1967) فإنّ عملية تحديد الزمن الذي تعود إليه آثار المعارك عمليةٌ صعبة. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى كثافة آثار معمار الحرب على الجبل، الخنادق والتحصينات وآثار القذائف والرصاص على مبنى الجامع وما حوله وركام منازل القرية وغيرها.

(مدخلٌ لاستحكامٍ تحت الأرض يعود للحرب العالمية الأولى على السفح الغربي للجبل، خالد عودة الله ، نيسان 2019)

أعرض فيما يلي بعض الشواهد والآثار المعدنية لمعركة النبي صمويل خلال الحرب العالمية الأولى، كنتُ قد جمعتها خلال العشرين سنة الماضية من الجبل دون حفرٍ، خلا مساعدة صديقي حيوان الخلد في بعض الأحيان. بعضها أبقيته على حاله بدون تنظيفٍ، والبعض الأخر عالجته بمحلول ملح الليمون المُخفّف. والتصوير لابنتي مريم التي أبَتْ الالتزام بأصول التصوير العلمي العامودي الذي طلبتُه منها، وأضافتْ لمسةً جماليةً (زاوية التصوير والترتيب) على هذه الأجسام الباردة القاتلة.

 

صمّامة (Fuse) قذيفة مدفعية ألمانية من طراز K.Z.14 (بدأ استخدامها في العام 1914)
وهي صمامةٌ قادحةٌ فورية، تركّب على القذائف الألمانية شديدة الانفجار من عيار 7.7 سم، يفجر المُشعِل الصاعق عند اصطدامه بالهدف، وجدتُه على السفح الشمالي الغربي للجبل.

قذيفة مدفعية متشظيّة (شرابنل) عيار 7.7 سم مضادّة للأفراد

استُخدمت قذائف (شرابنل) بكثافةٍ في معركة جبل النبي صمويل، والقذيفة من العيار القياسيّ الألمانيّ، وهي قذيفةٌ مدفعيةٌ مضادّةٌ للأفراد، تنفجر فوق الهدف بعشرات الأمتار ويُطلِق انفجارُها عشرات الكرات المعدنية الصغيرة نحو الجنود. وَجدتُ عشرات الكرات الرصاصية خلال سنوات تجوالي على الجبل في كلّ أجزائه، وكلّها من القطر القياسي 1.27 سم (5) مصنوعةٌ من الرصاص، ما عدا كرة واحدة مصنوعة من الحديد (7)، وقد لجأ الألمان إلى استخدام الحديد بدل الرصاص بسبب النقص في خام الرصاص أثناء الحرب.

تظهر في الصورة قذيفةٌ شبه كاملةٍ (1) وجدتُها على السفح الغربي، وشظيةٌ طوليةٌ (3) حواليّ نصف جسم القذيفة، وجدتُها على السفح الشمالي الغربيّ. يُمكن ملاحظة حزام الدوران النحاسي (4) المصمّم لكي تبدأ القذيفة بالدوران أثناء طيرانها نحو الهدف لكي تحافظ على مسارها المستقيم، والقرص المعدني (2) يثبّت فوق الشُحنة المتفجّرة لتوجيه طاقة الانفجار لدفع الكرات المعدنية، حيث تُزوّد بصمّامةٍ تأخيريةٍ (Delay Fuse) تحدّد المدّة الزمنية بالثواني لانفجارها فوق الهدف بعد إطلاقها. وعادةً ما يبقى جسم القذيفة على حاله بعد الانفجار وإطلاق الكرات المعدنية، ولا يتشظّى ويسقط سالماً على الأرض.

رصاصة ومشط بندقية “لي- انفيلد” الإنجليزية

رصاصة (1 و 2) من العيار القياسي 0.303 ( 7.7X56mm) للذخيرة البريطانية، العلامة (II) لبندقية المشاة الرئيسية في الجيش البريطاني “لي-انفيلد”، والرصاصات مدموغة (K 1915)، ومعناه أنّها من صناعة شركة (Kynoch & Co) البريطانية في العام 1915، وجدت في كروم القرية جنوب المسجد، ومشطٌ يتّسع لخمسة رصاصاتٍ لبندقية (لي-انفيلد) عثرتُ عليه على السفح الشرقي للجبل.

رصاص وظروف فارغة لبندقية “ماوزر” الألمانية والعثمانية الصنع

منذ الصغر وأنا أسمعُ رجال قريتنا يتغنون ببندقية “الموزر” في الأعراس: “حنتين الحنا الحنا …. ضرب الموزر يلبقلنا”.

الرصاصات والظروف ألمانية الصنع، عثرتُ على معظمها على السفح الشماليّ والشرقيّ للجبل، وجدتُ ثمانية ظروفٍ فارغةٍ دفعةً واحدةً خلف جدارٍ حجريٍّ يطلّ على قرية الجيب من النبي صمويل، كلّها من العيار القياسي لبندقية “ماوزر” الألمانية والعثمانية (7.92X57 mm)، من صناعة الشركات الألمانية: (Königliches Munitionsfabrik, Spandau, Munitionsfabrik Cassel, Casse Deutsche Waffen-u. Munitionsfabriken A.-G Württembergische Metallwarenfabrik, Geislinge).

وكما هو معهودٌ في الصناعة الألمانية من حيث الجودة والدقّة، يمتاز دمغ (ختم) الظرف بالوضوح ويُظهر شهر وسنة الصنع ونسبة النحاس في سبيكة الظرف. الصورة على اليسار: ظرف طلقة “ماوزر”، تظهر عليها الأرقام والأحرف التالية من اليمين: حرف (C)، وهو رمز الشركة المصنّعة (Munitionsfabrik Cassel)، وسنة وشهر الصنع: 3 – 1917، بالإضافة إلى (S67) التي تعني أنّ نسبة النحاس في السبيكة: 67% )

صاعق قنبلة القرص اليدوية الألمانية (Discus handgranate)

عَثرتُ على هذا الصاعق الصغير تحت شجرة زيتونٍ جنوبيّ جامع النبي صمويل، وهو صاعقٌ للقنبلة اليدويّة الألمانية المسمّاة بـ “السلحفاة” بسبب شكلها. جاء هذا الابتكار الألمانيّ في خضم حرب الخنادق في الحرب في العام 1915، ليحلّ مشكلة إعادة إلقاء الخصم القنابل اليدويّة التقليديّة، التي تنفجر بصاعقٍ توقيتيٍّ نحو راميها أو رميها بعيداً قبل انفجارها. ولهذا، صمّم الألمان قنبلة القرص اليدويّة، بحيث تنفجر فور اصطدامها بالأرض أو الهدف من خلال القوادح (الصواعق) الأربعة كما يُظهر الرسم التوضيحي أدناه. 

بعضٌ من مجموعتي من آثار وشواهد معارك الجبل منذ الحرب العالمية مروراً بالنكبة وحتّى النكسة 

دروس الجبل

“اللنبي”: الأسطورة والحقيقة

كان “أللنبي” يُسابق الزمن لاحتلال القدس تحت الضغط السياسي،”القدس على عيد الميلاد” وقدوم الشتاء، وقد شجّعته التقديرات الاستخباراتية البريطانية غير الدقيقة حول تدهور الروح المعنوية للجيش العثماني وعدم جدّيته في الدفاع عن القدس وغيرها من العوامل التي أشرنا إليها سابقاً. كلّ ذلك جعل “الثور “، اللقب الذي عُرف به “أللنبي” بين قوّاته، [61] يبدأ الهجوم على القدس بتهوّرٍ، وهو المعروف بالتأنّي والحسبان والإعداد اللوجستي الصبور لهجماته. خاصةً بعد أنْ صار يرى في قيادته للحملة على فلسطين فرصةً لإثبات ذاته بعد أدائه السيء في معركة “أراس” في فرنسا/نيسان 1917، والتي انتهت بـ 150 ألف قتيلٍ وجريحٍ من الحلفاء. والتي كان يرى أنّه عُوقب بنقله إلى فلسطين على أثرها.

أورثته تجربة معركة “أراس” حساسيةً عاليةً للخسائر البشرية ونفوراً من المغامرات. وكما في أدائه الباهر في معركة بئر السبع التي كسرت الخطّ الدفاعي العثماني، أراد “أللنبي” أن يحسم معركة القدس بمناورةٍ التفافيةٍ سريعةٍ تهدف إلى إحراز النصر بدون خسائر كبيرةٍ، وذلك بالمناورة الهادفة إلى السيطرة على موقعٍ جغرافيٍّ يهدّد قوات الخصم بالوقوع تحت الحصار، كما حصل في معركة غزّة الثالثة عندما انسحب العثمانيون من المدينة خشية الوقوع تحت الحصار بالالتفاف عليهم من وراء خطّ دفاعهم من جهة الشرق. وهي ذات المناورة الهجومية التي فشل في تنفيذها في الهجوم الأوّل على القدس عند جبل النبي صمويل. 

عادةً ما يُصوَّر “اللنبي” في الأدبيات العسكرية البريطانية التقليدية بالأسطورة القياديّة الخارقة وبالعظمة التي تليق بـ “محرّر القدس”، ويتمّ اختزال الحملة على فلسطين بعبقريته، حيث تظهر حملته على فلسطين من مبتداها إلى منتهاها وكأنّها سارت في مسارٍ خطّيٍّ محسوب، وكانت الوقائع الميدانية تنفيذاً دقيقاً لما أراده، وخططٌ بلا تعرّجاتٍ ولا انتكاسات كانتكاسته الكبرى عند النبي صمويل. وهنا علينا أن نتذكر بأنّ حملة “ألنبي” على فلسطين كانت حملةً دعائيةً كبرى (بروباغاندا)، أرادها “لويد جورج” أن تكون الصورة النقيضة للجبهة الغربيّة، حيث الخسائر البشرية الفادحة ثمناً لأمتارٍ من التقدّم على الأرض في حرب الخنادق.  

وفي المسعى الحثيث لأسطرة “أللنبي”، تمّت عملية محوٍ لإنجازات الجنرال “موراي”، القائد السابق للحملة. ففي معركة بئر السبع، صانعة مجد “أللنبي” الأوّل، تشير الدراسات الناقدة لتاريخ الحملة بأنّ ضبّاط هيئة أركان الجنرال “موراي” هم من كانوا قد وضعوا خطّة الهجوم على بئر السبع بدل غزة، قبل عزله واستبداله بـ “أللنبي” في حزيران 1917.

ولا يُمكن أيضاً التقليل من الدور الحاسم للجنرال “موراي” بتأسيس البنية التحتية لخطوط الإمداد وسكّة الحديد وأنبوب نقل المياه من نهر النيل، ودور الحظّ والصدفة في رسم مساراتٍ جديدةٍ في ميدان القتال. والمثال الأهم هنا هو حملة تفجير الجسور ونسف سكّة الحديد العثمانية من عسلوج إلى عوجا الحفير، والتي انطلقت كعمليةٍ تكتيكيةٍ لرفع معنويات الجنود الإنجليز العالقين في الخنادق في مواجهة العثمانيّين على خط بئر السبع – غزة؛ هذه العملية التي انتبه البريطانيون خلال تنفيذها إلى مبالغة التقديرات الاستخباراتيّة في عدد القوات العثمانيّة في بئر السبع، وبالتالي أنضجت الخيار الشرقيّ للهجوم على بئر السبع بدل غزة.

ودعونا لا ننسى أنّ “أللنبي” بدأ عملياته العسكرية بعشرة فرقٍ، بينما كانت قوات سلفه “موراي” مكوّنةً من سبعة. والطفرة في عديد بطاريات المدفعية، ودخول سلاح الطيران بقوةٍ مع بدء حملته، ومن ثمّ كسر احتكار الجوّ من قبل الطيران الألماني، وغيرها من العوامل الحاسمة في تحديد نتائج الميدان وحساباته. استند “اللنبي” إلى قوّة الإمبراطورية بإمكانياتها الهائلة البشرية والتقنية، قال له “لويد جورج”:أُطلب تعطَ، المهم: رأس القدس قبل عيد الميلاد .

يقول المؤرّخ العسكريّ البريطاني “كيرل فالس”: بالنظر إلى حقيقة أنّ نسبة عدد قوات “اللنبي” إلى القوّات العثمانية كانت أكثر من 2 إلى 1 في سلاح المشاة، و 8 إلى 1 في سلاح الخيّالة، فإنّ إنجازاته في فلسطين لا تبدو استثنائية”.  [62]


(جنودٌ عثمانيون من سلاح المشاة بالقرب من النبي صمويل) [63]

تغييب الجيش العثماني من الميدان

الصورة النمطية السائدة للجيش العثماني في حرب فلسطين؛ جيشٌ متخلّفٌ، مجنّدوه هاربون من الخدمة، ومنسحبٌ دائماً ولا يصمد في مواجهة. هذه الصورة المبثوثة في الأدبيات العسكرية والتاريخية عموماً، ساهمت في تعزيزها الأدبيات القومية العربية، و”البروباغاندا” البريطانية، وهيمنة المصادر الأجنبية لكتابة التاريخ العسكري.

قاتلت القوّات البريطانية مدعومةً بخطوط إمدادٍ مهولة القدرة برّاً وبحراً، ترتكز على قدرات الإمبراطورية البريطانية غير المحدودة، في حين قاتل العثمانيون في فلسطين في ظلّ عجزٍ دائمٍ في الإمدادات والمقاتلين والذخائر [64] والمؤن، وفي ظلّ حصارٍ بحريٍّ وقطع خطوط الإمداد شرقيّ الأردن. وبالنظر إلى هذه الظروف القاهرة، كان الأداء العسكريّ العثمانيّ أداءً استثنائياً، وتجلّت في كثيرٍ من معاركه العبقريّة العسكريّة لقادته الذين نجحوا في تنفيذ مناورة انسحابٍ قتاليٍّ لمسافة 90 كم، والتي عادةً ما تتفكّك الجيوش وتنهار تحت ضغطٍ مثل هذه المناورة الكبرى. قاتل الآلاف من المقاتلين العثمانيّين، على الأقل حتّى صيف 1918، حتّى الطلقة الأخيرة، في مقابل الصورة النمطية لآلاف الجنود الهاربين من الخدمة.

وهنا أيضاً، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الهاربين من الخدمة كانت أعدادهم تتوافق مع التركيبة “الإثنية للجيش”، على النقيض من الصورة التي تقدّمها الأدبيات وبعض المذكّرات العربية التي تُسيء للمقاتلين والشهداء العرب أكثر ممّا تسيء للأتراك، وبالطبع لا ننسى هنا دور المؤرّخين القوميّين الأتراك في رسم صورةٍ مشوّهةٍ للمُقاتل العربيّ كطاعنٍ في الظهر وخائن. دون أن يعني السابق رسم صورةٍ مثاليةٍ للجيش العثماني في فلسطين، بتكوينه المرّكب إثنياً، وإشكالياته البنيويّة الناشئة عن التخلّف الاقتصاديّ والسياسيّ، وإنّما الإشارة بوضوحٍ إلى الوجه الآخر المغيّب من التاريخ. [65]

الأخوة الأعداء: الألمان والأتراك

يُورِد عمر البرغوثي وخليل طوطح في كتابهما “تاريخ فلسطين” أنّ التوتر بسبب التمايز في المأكل والملبس والتفضيل في المعاملة ما بين الجنود والضبّاط الأتراك والألمان وصل إلى حدّ أن قام الأتراك بإنشاء جمعيةٍ سرّيةٍ في بئر السبع لمقاومة النفوذ الألماني في الجيش العثماني، حتى كبحوا جماحهم وخفّفوا من غلوائهم. كانت تركيا الطرف الأضعف في التحالف العسكري الألماني – العثماني، دون أن يعني هذا بالطبع أنّ العثمانيين كانوا خاضعين للطرف الألمانيّ دون مفاوضةٍ ومناورة. وكان لهذه العلاقة المتوتّرة تبعاتٌ بعيدة المدى على الوضع الميداني في فلسطين، من ناحية هيمنة الألمان على قيادة هيئة الأركان، التي يقف على رأسها ” فلكينهاين”، بينهم 7 ضبّاطٍ أتراك من أصل 69 ضابطاً. هذا بالإضافة إلى حاجز اللغة، وما يضيع عادةً في الترجمة.

كان الضباط الأتراك، كما مصطفى كمال (لاحقاً أتاتورك)، متبرّمين من هذه الهيمنة، فقد احتجّ في رسالةٍ احتجاجيةٍ في في 20 أيلول 1917 من هيمنة الفكر العسكري العملياتيّ الألمانيّ، وتهميش الفكر العسكري التركي، فالخطط العسكرية الألمانية في فلسطين لا تراعي الثقافة والروح العسكرية التركية التي تُظهر قدراتها الاستثنائية في الحرب الدفاعية، وأنّ الحملات الهجومية الألمانية ستؤدّي إلى كارثةٍ على الجبهة الفلسطينية. وكان يرى أنّ العثمانيين لن يستطيعوا كسر التفوّق اللوجستي (الإمدادي ) البريطانيّ، وبالتالي عليهم الاقتصاد الشديد في القوّة باتباع استراتيجيةٍ دفاعية. وقد وصل الأمر بمصطفى كمال باشا أنْ قدّم استقالته من قيادة الجيش السابع، وعاد للقتال في الأناضول. وفي الهجوم البريطاني الأخير لاحتلال القدس، كان فؤاد باشا الألباني، قائد الفيلق العشرين، قد احتجّ على الهجمات المضادّة التي أمر بها “فلكناهين”، من حيث كونها كلّفت الجيش العثماني خسائر فادحةً بدون جدوى، ووصل به الأمر أن تمرّد على أوامر “فالكنهاين” التي تنص على الدفاع عن القدس حتى النهاية، وسحب قوّاته من المدينة ليلة 7- 12-1917 حفاظاً عليها من التدمير الذي رآه حتمياً بسبب موازين القوى.  [66]   

خرائط الغزو

بدأت عملية رسم خرائط عسكريةٍ بريطانيةٍ لفلسطين منذ العام 1841، ووصلت ذروتها بخرائط صندوق استكشاف فلسطين التي صدرت في العام 1880، التي اعتُمد عليها في الحملة على فلسطين. [67] مع بداية الهجوم على القدس، تحوّل ميدان القتال من صحراوي – ساحلي منبسطٍ بسيط التضاريس إلى الميدان الجبليّ شديد التعقيد في جبال القدس، حينها بدأت تظهر عيوب خرائط صندوق استكشاف فلسطين.

كان العيب الأكثر تكراراً في هذه الخرائط، كما تورد مذكّرات الجنود وتواريخ الحملة، هو الطرق؛ بينما أشارت إلى وجود طرقٍ تظهر موسومةً بـ “طريق روماني”، صُدم الجنود في الميدان بأنّ هذه الطرق لم تكُن سوى مسارب وعرة للماعز، لا يقدر عليها سوى أهل البلاد المعتادين على دروبها، وأنّها لا تصلح في كثيرٍ من الأحيان حتّى للخيول، فضلاً عن الجمال وعربات المدافع. وفي حال كانت تصلح للسير، كان الجنود يُضطرون للمشي في نصف طابور (واحداً تلو الآخر)، ممّا أبطأ عملية التقدّم وجعل القوات البريطانية التي امتدّت طوابير جنودها إلى كيلومتراتٍ هدفاً سهلا للقنّاصة العثمانيين.

وازدادت الأمور سوءاً مع هطول الأمطار بالانزلاقات على الصخور والغوص في الوحل؛ “كنا نسير ونحن نلعن راسمي الخرائط بسبب تسميتهم هذه المسارب المغطاة بالصخور طرقاً على الخرائط”. [68] وأثناء معاناة الإنجليز في السير في دروب جبال القدس، تنبّهوا إلى كفاءة الحمير في هذه المهمَة خلال مشاهدتهم لتنقّلات القرويّين في الجبال، فقاموا باستيراد آلافٍ مؤلّفةٍ من الحمير من مصر، وأصبحوا يكيلون للحمير المديح؛ هذه الحيوانات “المثابرة الصبورة وقليلة الأكل ومتطلّبات العناية”. 

لم تنحصر إشكالية الخرائط في تحديد الطرق، وإنما أيضاً بعدم دقتها في تحديد الارتفاعات وغياب خطوط “الكونتور”، مع العيوب العديدة لخرائط صندوق فلسطين، إلا أنه تمّ الاعتماد عليها في تحديد نقاطٍ مرجعيةٍ في رسم الخرائط بالاستناد إلى التصوير الجويّ؛ هذه التقنية الوليدة التي كانت فلسطين موقعاً مهمّاً لتطوّرها في العالم خلال الحرب العالميّة.

نهايات وبدايات

وداعاً للإمبروطورية وأحلامها

” ثلاثة كتائب، ثلاثة كتائبٍ فقط، عجزنا عن توفيرها لنجدة الجنود الأتراك الذين كانوا ينزفون دفاعاً عن القدس في خنادق النبي صمويل، لكنّنا في السنة ذاتها تمكّنا من إرسال 20 ألف تركيٍّ مهدوري القيمة للقتال في “غاليسيا” [69] وأطعمنا الأسقربوط فيالق من أبناء الأناضول وكذلك لصحراء المدينة ( المدينة المنورة) التي كانت قد انفصلت عن الوطن الأم. دخلتُ إلى غرفة القائد ذات صباحٍ، وقد تورّمت عيناه من البكاء:

لقد سقطت القدس بيد الأنجليز، منذ الآن أولئك الذين سيهبطون من جبل النبي صمويل نحو مساجد القدس وكنائسها سوف يتذكرون اليوم الأخير للأتراك فيها،
من الآن وصاعداً، لن نفكّر إلا في اسطنبول والأناضول، وداعاً للإمبراطورية وأحلامها”. [70]

(فالح رفقي أتاي، جبل الزيتون)


(على تلّ الفول، جنديّ عثمانيّ سقط شهيداً وبيده قنبلة يدوية في الهجوم العثمانيّ المضادّ لاسترداد القدس، 27 كانون الأول 1917)

دروب الجبل القاتلة

بعد دخوله “فاتحاََ” إلى القدس بخمسة أيامٍ، في 16 كانون الأوّل 1917، أرسل “أللنبي” برقيّته الأولى بعد “النصر” إلى وزارة الحرب، تطرّق فيها لفشل الهجوم الأوّل على القدس عند جبل النبي صمويل:
على الرغم من أنّ القوّات لم تصِل إلى هدفها (الهجوم الأوّل على القدس)، إلا أنّها حقّقت إنجازاتٍ لا يُمكن التقليل من قيمتها، فنادراً ما استطاعت الجيوش الغازية أن تعبر الممرّات الجبلية الضيّقة من الساحل إلى هضبة يهودا، ونادراً أيضاً ما استطاعت هذه الجيوش أن تنجو من الإبادة”. [71] 

بلاد الكمائن والمتاريس والمفاجآت

حمل “أللنبي” كتاب الجغرافيا التاريخية للأرض المقدّسة (1894)، [72] لـ “جورج آدم سميث”، دليلاً ميدانياً في حملته على فلسطين، يقول “سميث” في وصفه لجبال القدس ومسالكها الوعرة: هنا تتعاضد تفاصيل المكان لتمنح أهل البلاد قليلي العدد كلّ الوسائل لمواجهة الجيوش الجرارة، إنّها بلاد الكمائن والمتاريس والمفاجآت، تحرم الجيوش من حيّز المناورة والقتال، وفي المقابل تمنح المدافعين القدرة على الاختفاء”. [73]

في الطبعة الـ 25 لكتاب الجغرافيا التاريخية للأرض المقّدسة (1931)، أضاف “سميث” وقائع حملة “أللنبي” على فلسطين إلى جغرافيا فلسطين التاريخية.

نيسان الجبل، 1948

في ليلة الـ 22 من نيسان، تحرّكت قوةٌ من “البلماخ” من قرية العنب (أبو غوش) لاحتلال جبل النبي صمويل. وفي أثناء صعودها ليلاً نحو الجبل، اكتشفها مجاهدو جيش الجهاد المقدّس وجيش الإنقاذ الذين كانوا متمركزين على الجبل غربيّ الجامع، وفُتحت عليهم النار لاحقاً من جهة بدّو، لتنتهي المغامرة الصهيونية لاحتلال الجبل بـ 43 (وقِيل 44) قتيلاً، بينهم قائد القوة الصهيونية المهاجِمة. وعادةً ما يُشير المؤّرخون العسكريون الصهاينة في معرض تحليلهم لـ “كارثة النبي صمويل” بأنّ قادة “الهاجاناة” لم يتعلّموا من الدرس الذي تعلّمه “اللنبي” بالنار في العام 1917 على جبل النبي صمويل أثناء محاولته احتلال القدس “عبر المحور الشماليّ”. 

(جنود صهاينة فوق المدرعات في طريقهم من النبي صمويل إلى بيت حنينا، 6 حزيران 1967)

حزيران الجبل، 1967

في حرب حزيران العام 1967، رفض أحد رجال قريتنا النزوح عن القرية، وظلّ ينتظر قدوم الجيش العراقي محرّراً من جهة جبل النبي صمويل. ذات يوم، بدأ موكبٌ من المدرّعات يهبط سفح الجبل نحو قريتنا، فركض الرجل فرحاً لاستقباله عند الوادي الغربي، وشلح كوفيته وأخذ يرقص في الطريق أمام المدرّعات “العراقية”.

حسبه الجنود الصهاينة فرِحاً بهم فرموا له حبّة برتقالٍ مكافأةً له على حسن الاستقبال، حينها عرف أنّهم يهودٌ قادمون من جهة يافا، فعاد إلى القرية يجرّ انكساره.

كانون ثاني الجبل، 2014

ذات مساءٍ شلّعته رياح كانون الثاني العاصفة، كنتُ بين أهالي قرية النبي صمويل في خيمتهم التي أقاموها على الجبل احتجاجاً على مصادرة أراضيهم وإغلاق الجامع بحجّة الترميم. كنّا قلّةً قليلةً قبل أن تجتاح الخيمة فرقةٌ كبيرةٌ من “نشطاء السلام” الصهاينة، حاملين طبولاً قرعوها تعبيراً عن تضامنهم مع أهل القرية. ضاقت الخيمة بأهل البلاد فغادرتُها.. وقفتُ أمام مئذنة جامع النبي صمويل، فبدت لي كأنّي أراها لأوّل مرّةٍ:
ما أقساك أيّها التاريخ، ما أقساك! 

(القدس المحتلّة، 18-12-2020)

خريطة القرى والبلدات التي ورد ذكرها في سرد وقائع معركة جبل النبي صمويل.

*****

لقراءة وتحميل المادة على هيئة (PDF)، من هنا

هوامش ومصادر:

[1] Luke McKernan (1993) “The supreme moment of the war”: ‘General Allenby’s entry into Jerusalem’, Historical Journal of Film, Radio and Television, 13:2, 169-180
[2] رمان، محمد سعيد و قطينة، بسام سامي. سِجل منتخبو المجلس الإسلامي الأعلى في القدس وقراها 1925. القدس: مؤسسة إحياء التراث والبحوث الإسلامية، 2010. ص 276.
[3] Kedar, Benjamin Z. The changing land: Between the Jordan and the sea: Aerial photographs from 1917 to the present. Wayne State University Press, 1999.P 110.
[4] American Colony . Photo Department, photographer. Environs of Jerusalem. Mizpah Nebi Samwil / American Colony, Jerusalem. Nebi Samwil Israel Nebi Samwil. Israel, None. [Between 1898 and 1914] Photograph. https://www.loc.gov/item/2019698155/. 
[5] يرى الراحل مصطفى مراد الدباغ في “بلادنا فلسطين” أنّ المقصود بحصني الجيب حصنا بيت عور التحتا وبيت عور الفوقا.
[6] Forey, Alan J. “The Order of Mountjoy.” Speculum 46, no. 2 (1971): 250-266.ا
[7] McBey,James.”Nebi Samwil: The first sight of Jerusalem”: “https://www.iwm.org.uk/collections/item/object/18135″(Accessed: 18-12-2020) 
[8] Gullet,Henrey.. The Official History of Australia in the War of 1914-1918… Vol. 11. Angus & Robertson Limited, 1923. 
[9] Punch, or The London Charivari. V153, December 19, 1917؛ وممّا يجدُر الإشارة إليه أنّ الصليبيّين في الحملة الثالثة كانوا يطلقون اسم ”الترك“ على المسلمين في حروبهم في الأرض المقدّسة.
[10] James E. Kitchen (2010) ‘Khaki crusaders’: crusading rhetoric and the British Imperial soldier during the Egypt and Palestine campaigns, 1916–18, First World War Studies, 1:2, 141-160
[11] الاسم الرسميّ للقوات البريطانية في الحرب على فلسطين هو “قوات الحملة المصرية” أو “قوات التجريدة المصرية” (Egyptian Expeditionary Force)، كونها انطلقت من مصر للدفاع عن قناة السويس بالحملة على القوات العثمانية في سيناء وفلسطين. وهنا لا بدّ من التنبيه إلى الخطأ الشنيع في تأويل صفة “المصرية” في اسم الحملة بالقول إنّ جنودها كانوا مصريّين تحت قيادةٍ إنجليزية، فلا تُعرف مشاركةٌ مصريةٌ ذات قيمةٍ في الحملة سوى لـ “فيلق العمّال المصري”، المكوّن من آلاف الفلاحين الذين أجبرهم الجوع والشدّة على العمل في جيش “ألنبي” في أعمال شاقّةٍ تحت ظروفٍ أقرب إلى السخرة (رصف الطرق ومدّ سكك الحديد وبناء الجسور وسوق الجِمال المحمّلة بالإمدادات)، ولقي الكثير منهم حتفهم بأمراض الكوليرا والتيفوئيد والانفلونزا وسوء التغذية لا في الأعمال القتالية.
[12] حول سياسات الجهاد في الحرب العالمية الأولى، يُنظر: Zürcher, Erik-Jan. Jihad and Islam in World War I. Leiden University Press, 2016؛ Rogan, Eugene. The Fall of the Ottomans: The Great War in the Middle East Basic Books, 2015.
[13] Bar-Yosef, Eitan. “The last Crusade? British Propaganda and the Palestine campaign, 1917–18.” Journal of Contemporary History 36, no. 1 (2001): 87-109.
[14] مصدر سابق.
[15] حول مشاهدات الجنود البريطانيين في فلسطين ورؤيتهم لأهلها و للمستوطنين الصهاينة يُنظر: Woodfin, Edward. Camp and Combat on the Sinai and Palestine Front: The Experience of the British Empire Soldier, 1916-18. Springer, 2012.
[16] Bar-Yosef, Eitan. The Holy Land in English culture 1799-1917: Palestine and the question of Orientalism. Clarendon Press, 2005.P. 11.
[17] معركة رمانة، (روماني بالإنجليزية)، شمال سيناء على ساحل المتوسط، وقّعت في 4 آب 1916 مع نهاية الحملة الثانية على قناة السويس.
[18] Egyptian Expeditionary Forces.
[19] Rogan, Eugene. The Fall of the Ottomans: The Great War in the Middle East. Basic Books, 2015.P 349.
[20] المقصود بالجبهة الشرقية في هذا السياق هو القتال في فلسطين والعراق، بينما تعني الجبهة الغربية القتال في فرنسا وبلجيكا.
[21] للمزيد حول الصراع بين الشرقيّين (دعاة أهمية القتال على الجبهة الشرقية) والغربيّين (دعاة أولوية القتال على الجبهة الغربية) و”لويد جورج” والجنرالات، يُنظر: Woodward, David R. Lloyd George and the generals. Routledge, 2004.
[22] أُنشئت مجموعة جيوش “يلدريم” (الصاعقة) بهدف استرداد بغداد من يد الانجليز، وعُيّن “إريك فون فالكنهاين”، رئيس هيئة أركان الجيش الألماني السابق، قائداً للمجموعة. بعد تردّد القيادة العثمانية ونقاشاتٍ حول أولوية توجيه الجهد القتاليّ وخطورة الجبهات، أُرسلت جيوش “يلدريم” إلى فلسطين ابتداءً من شهر أيلول 1917.
[23] حول إشكاليات الوضع اللوجستيّ في فلسطين وتأثيرها على نتائج الحرب، يُنظر: Berelovich, Eyal, and Ruth Kark. “The Missing Element in Palestine: Infrastructure and Logistics during the First World War.” First World War Studies 8, no. 2-3 (2017): 153-172.
[24] Morison, John Lyle. “Allenby’s First Attempt on Jerusalem: A Chapter in Scottish Military History.” Queen’s Quarterly 27 (1919): 180.p 10.
[25] Military Operations in Egypt and Palestine: From June 1917 to the End of the War: Part II (History of the Great War Based on Official Documents) (Official History of the Great War) p 209.
[26] FALLS, Cyril Bentham, and Archibald Frank BECKE. History of the Great War Based on Official Documents. Military Operations, Egypt & Palestine: from June 1917 to the End of the War. HM Stationery Office, 1930. p 193
[27] مصدر سابق، ص 198.
[28] יוסי צ’רני ועזרא פימנטל(ערכים). ירושלים במלחמת העולם הראשונה : הכנס השנתי העשירי, העמותה למורשת מלחמת העולם הראשונה בארץ ישראל. ירושלים: אריאל 2012. ע 25.
[29] יגאל שפי, ירושלים במלחמת העולם הראשונה: מבט צבאי. רושלים במלחמת העולם הראשונה : הכנס השנתי העשירי, העמותה למורשת מלחמת העולם הראשונה בארץ ישראל, ורך/כים: יוסי צ’רני ועזרא פימנטל, ירושלים:הוצאת ספרים אריאל, 2012. ע 13-15.
[30] قدس شريف وجوارله قدس تحكيماتنى كوستر خريطه در، الطبعة العسكرية 1337هـ، مكتبة أتاتورك الأرشيف الرقمي: http://ataturkkitapligi.ibb.gov.tr، الخريطة كاملة في الملاحق.
[31] Rawlinson, Hugh George. Outram’s Rifles: A History of the 4th Battalion, 6th Rajputana Rifles. London, Oxford University Press, 1933.P 138-140
[32] Grainger, John D. The battle for Palestine 1917. Boydell Press, 2006. P 191.
[33] Bacon, Alban FL. The Wanderings of a Temporary Warrior: A Territorial Officer’s Narrative of Service (and Sport) in Three Continents. Witherby, 1922.p 102
[34] Woodward, David R. Hell in the Holy Land: World War I in the Middle East. University Press of Kentucky, 2006.
[35] Erickson, Edward J. Palestine: The Ottoman Campaigns of, 1914–1918 (pp. 182-183). Pen & Sword Books. Kindle Edition
[36] الحالة الأقرب هي غزة، ولكنّها كانت قد أُخليت من السكان قبل بدء العمليات، والتي جرت على تخومها.
[37] أرشيف مشروع تاريخ اسكتلندا الحربي في جامعة أدنبره: (https://www.edinburghs-war.ed.ac.uk/sites/default/files/NebySamwil_1.pdf ( 2-10-2020)
[38] يوميات خليل السكاكيني: يوميات، رسائل، تأملات، الكتاب الثاني: النهضة الأرثوذكسية، الحرب العظمى،النفي إلى دمشق ) 1914 – 1918 (. تحرير أكرم مسلم. رام الله: مركز خليل السكاكيني الثقافي؛ مؤسسة الدراسات المقدسية، 2004 ص 179. تظهر في يوميّات السكاكيني أخبار القصف والقتال في النبي صمويل بوتيرةٍ يوميةٍ منذ يوم الأربعاء 21/11/1917 وحتّى الثلاثاء 4/12/1917 عندما نُفي السكاكيني إلى دمشق.
[39] لعبتْ المدافع الرشاشة الخفيفة من طراز “لويس” دوراً مهماً في المراحل الأولى من القتال في جبال القدس. حملها المشاة معهم لخفة وزنها، بينما تعذّر نقل مدافع الميدان ومدافع “فيكرز” الآلية بالنظر إلى وعورة الطرق، حول مدفع “لويس: الرشاش، يُنظر:Grant, Neil. The Lewis Gun. Bloomsbury Publishing, 2014.
[40] حروب الحدود الشمالية الغربية في الهند (1849-1914): سلسلةٌ من الحروب الاستعمارية البريطانية، خاضها الإنجليز وجنود مستعمراتهم في الهند ضدّ قبائل البشتون لتأمين الحدود وقمع القبائل “المتمردة “. حول حروب الحدود الشمالية الغربية للهند واستدخال تكتيكات القتال في الجبال في الجيش الإنجليزي، يُنظر: Moreman, T. R. “The British and Indian Armies and North‐West Frontier Warfare, 1849–1914.” The Journal of Imperial and Commonwealth History 20, no. 1 (1992): 35-64.
[41] Lock, Henry Osmond. With the British Army in the Holy Land. R. Scott, 1919.P 77.
[42] يوميات خليل السكاكيني: يوميات، رسائل، تأملات، الكتاب الثاني: النهضة الأرثوذكسية، الحرب العظمى،النفي إلى دمشق ) 1914 – 1918 (. تحرير أكرم مسلم. رام الله: مركز خليل السكاكيني الثقافي؛ مؤسسة الدراسات المقدسية، 2004 ص 182.
[43] بحسب الرواية الرسمية البريطانية ورواية خليل السكاكيني.
[44] New Zealand Herald,Volume LIV, Issue 16713, 4 December 1917.
[45] 1. Banerjee J. Jihad and Counter-jihad in Germany. Jadavpur Journal of International Relations. 2014;18(2):103-136. doi:10.1177/0973598415569933
[46] صورة الجامع العمري من Rogan, Eugene. The Fall of the Ottomans: The Great War in the Middle East. Basic Books, 2015.p346، أمّا صورة أنقاض جامع النبي صمويل، فمن مجموعة “ماتسون”:  American Colony . Photo Department, photographer. War views of Neby Samuel Mizpah. Ruined mosque, distant view. Nebi Samwil Israel Nebi Samwil, 1917. [or 1918] Photograph. https://www.loc.gov/item/2019695923/.
[47] Halevy, Dotan. “The Rear Side of the Front: Gaza and Its People in World War I.” Journal of Levantine Studies 5, no. 1 (2015): 35-57.
[48] أطلق على الوحدات العسكرية الألمانية التي أرسلت للقتال مع الجيش العثماني اسم “فيلق آسيا”، ووحدات باشا 1 وباشا 2.
[49] قاسميّة، خيرية. مذكرات فوزي القاوقجي 1890-1988، ط2. دمشق: دار النمير،1995. ص 49-51 .
[50] FALLS, Cyril Bentham, and Archibald Frank BECKE. History of the Great War Based on Official Documents. Military Operations, Egypt & Palestine: from June 1917 to the End of the War. HM Stationery Office, 1930.
[51] קידר, בנימין זאב, מילנר, משה, and סלומון, יהודה. מבט ועוד מבט על ארץ-ישראל : תצלומי אוויר מימי מלחמת העולם הראשונה, מול תצלומים בני זמננו. 1991. 120
[52] نيران توجّه للهدف من اتجاهين على الأقلّ، ويتقاطع مسار رميها.
[53] Woodyatt, Nigel Gresley, and Cyril Nelson Barclay, eds. The Regimental History of the 3rd Queen Alexandra’s Own Gurkha Rifles. J. Ray, 1951. P. 197.
[54] American Colony . Photo Department, John D Whiting, Lewis Larsson, and G. Eric Matson, photographer. World War I and the British Mandate in Palestine. Israel West Bank Damascus Jordan Palestine Syria Jerusalem, None. [Between 1917 and 1926] Photograph. https://www.loc.gov/item/2007675259/.
[55] FALLS, Cyril Bentham, and Archibald Frank BECKE. History of the Great War Based on Official Documents. Military Operations, Egypt & Palestine: from June 1917 to the End of the War. HM Stationery Office, 1930. P 249
[56] Powell, John. Haig’s Tower of Strength: General Sir Edward Bulfin—Ireland’s Forgotten General. Pen and Sword, 2018.
[57] Woodfin, Edward. Camp and Combat on the Sinai and Palestine Front: The Experience of the British Empire Soldier, 1916-18. Springer, 2012. P 157
[58] FALLS, Cyril Bentham, and Archibald Frank BECKE. History of the Great War Based on Official Documents. Military Operations, Egypt & Palestine: from June 1917 to the End of the War. HM Stationery Office, 1930.P 204-206
[59] Imperial War Museum, Nebi Samwil. (A British Battery In Action: the ancient Mizpah, stormed by the 234th Brigade. A field battery is engaging the Turkish batteries, which are shelling Mizpah); www.iwm.org.uk/collections/item/object/17993″
[60] https://www.londonirishrifles.com/index.php/regimental-history/roll-of-honour/ 
[61] عُرف “ألنبي” بين قوّاته بـ “الثور” بسبب هيئته الصلبة وهيجانه أثناء توبيخه مرؤوسيه، وكان إذا ما بدأ جولةً تفقّديةً لقواته، حذّر الضباط بعضهم بعضاً بكلمة السرّ: “الثور فالت”.
[62] Falls, Cyril. The Great War. Vol. 209. Capricorn Books, 1961.p 326.
[63] American Colony . Photo Department, John D Whiting, Lewis Larsson, and G. Eric Matson, photographer. World War I in Palestine and the Sinai. Turkey Israel West Bank Egypt Gaza Strip Palestine Jerusalem Sinai, None. [Between 1914 and 1917] Photograph. https://www.loc.gov/item/2007675298/.
[64] للمزيد حول مشكلة الإمدادات العثمانية، كما تظهر في الموجودات الأثرية في النبي صمويل: פרץ, אסף. הלוגיסטיקה העות’מאנית בראי הממצא מנבי סמואל. קתדרה,166. ירושלים: יד יצחק בן צבי,2018.
[65] حول الفعالية القتالية للجيش العثماني بالاعتماد على مصادر عثمانية، يُنظر:Erickson, Edward J. Ottoman army effectiveness in World War I: a comparative study. No. 26. Routledge, 2007.
[66] لمراجعةٍ مكثّفة للعلاقة المتوتّرة داخل الجيش العثماني بين الأتراك والألمان، وأثرها على أداء الجيش العثماني في فلسطين، يُنظرالفصل الخامس من : Uyar, Mesut, and Edward J. Erickson. A Military History of the Ottomans: From Osman to Ataturk: From Osman to Ataturk. ABC-CLIO, 2009.
[67] Collier, Peter, and Rob Inkpen. “Mapping Palestine and Mesopotamia in the first world war.” The Cartographic Journal 38, no. 2 (2001): 143-154.
[68] مرجع سابق، ص 12. 
[69] “غاليسيا”: منطقة تاريخية وجغرافية شرق أوروبا.
[70] أتاي، فالح رفقي. زيتون داجي، أسطنبول: ميليت بكانليجي. ط4، 1997، ص 112.
[71] Buchan, J. (19151919). Nelson’s History of the war. London: T. Nelson. P 283 .
[72] [73] Smith, George Adam. The Historical Geography of the Holy Land: Especially in Relation to the History of Israel and of the Early Church. Hodder and Stoughton, 1894.p, 282.