يفكّك كتاب فلسطين المحدودة: النيوليبرالية والوطنية في الأراضي المحتلة، للباحث توفيق حداد، مضامين التشوّهات الاجتماعية والاقتصادية التي حلّت على المجتمع الفلسطيني منذ اتفاقيات أوسلو، وهو ما يُطلق عليه الكاتب “الإبادة الاجتماعية” (Haddad, 2016:12). يبدو كتاب “فلسطين المحدودة” إذن أقرب لتأريخ الفاعلين على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، والتحالفات التي طغت على البنى الاجتماعية والسياسية الفلسطينية عقب توقيع اتفاقيات أوسلو.

إنّ العلاقة التي تجمع ما بين السلطة السياسية ورأس المال، بما في ذلك مخرجاتها وتشابكاتها، هي علاقة متجذرة نظرياً وعملياً؛ وتعدّ هذه العلاقة من أهم الركائز التي تشكّل الأنظمة السياسية، وأحد أركان بقائها، لما تمثله من مصالح ترتبط بها شرائح اجتماعية واسعة، خاصّة الطبقة الرأسمالية ومصالحها القائمة على ديمومة النظام السياسي.

يفكّك كتاب فلسطين المحدودة: النيوليبرالية والوطنية في الأراضي المحتلة، للباحث توفيق حداد، مضامين التشوّهات الاجتماعية والاقتصادية التي حلّت على المجتمع الفلسطيني منذ اتفاقيات أوسلو، وهو ما يُطلق عليه الكاتب “الإبادة الاجتماعية” (Haddad, 2016:12). يبدو كتاب “فلسطين المحدودة” إذن أقرب لتأريخ الفاعلين على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، والتحالفات التي طغت على البنى الاجتماعية والسياسية الفلسطينية عقب توقيع اتفاقيات أوسلو.

يصف حداد “فلسطين المحدودة” بأنّها الهدف العملي للمانح الغربي والمؤسسات المالية العالمية، التي صاغت ومأسست صعود “فلسطين المحدودة” من خلال مجموعة من التدخلات تحت مسوغات مثل التنمية وتحقيق السلام وبناء الدولة؛ يقول حداد: “يعمل هذا الكيان (السلطة الفلسطينية) كشركة مساهمة محدودة تتضمن مستثمرين دوليين وإقليميين ومحليين من نوع أو آخر”.

ينطلق الكتاب من سؤال: ما هي طبيعية المجتمع الفلسطيني في الأراضي المحتلة عام 1967؟ وكيف تمّت عملية التحوّل الاجتماعي والاقتصادي الجذرية فيه؟ وما هي المنطلقات التي تمّت صياغتها في أروقة صنّاع القرار من مؤسسات مالية دولية (البنك الدولي تحديداً)، وعلى أيّ أسس مفاهيمية وسياساتيّة استندت تلك التوجهات؟

يندرج كتاب حداد ضمن قائمة مجموع الكتب والدراسات النقدية التي تناولت التغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي طالت المجتمع الفلسطيني منذ الانتفاضة الأولى. يشكّل الكتاب إضافة نوعية لتلك الأدبيات لما يتضمنه من تحليل واسع للأوراق الداخلية، والتقارير المتعددة التي خرجت من المؤسسات المالية العالمية والمانحين والمؤسسات المرتبطة بالسلطة الفلسطينية.

ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أجزاء رئيسية في تسلسل منطقي ومعالجة مفاهيمية نظرية وتطبيقية شاملة لتدخلات ثالوث الفاعلين: المانح، ورأس المال الفلسطيني الجشع، والسلطة الفلسطينية.

يتناول القسم الأول الأبعاد المفاهيمية والنظرية التي شكّلت دليلاً إرشادياً في عملية بناء وتشكيل سلطة سياسية فلسطينية، فضلاً عن العوامل السياسية، سواء على الصعيد الفلسطيني أو الصهيوني، التي أدّت إلى انبثاق سلطة حكم محليّ في الضفة الغربية وقطاع غزة.

بينما يتناول القسم الثاني المعنون “بناء السلام” المراحل والصراعات التي تخللت تطبيق تلك النظريات والمفاهيم المنبثقة عن التوجهات النيوليبرالية، مثل “بناء السلام” و”حلّ النزاع”.

أما في القسم الثالث، فيلقي حداد الضوء على أثر التجربة الفلسطينية تلك في بداياتها، أيّ سنوات ما قبل الانتفاضة الثانية، على إعادة صياغة برنامج اقتصادي-اجتماعي، تحت قيادة رئيس الوزراء السابق سلام فياض، يندرج تحت مظلة “بناء الدولة”، عقب انتهاء الانتفاضة الثانية ونشوء انقسام سياسي وإداري في الرحم السياسي الفلسطيني ما بين قطاع غزة والضفة الغربية.

فكك حداد أسس التبعية الاقتصادية التي يعاني منها الاقتصاد الفلسطيني في علاقته مع الاقتصاد الصهيوني، معللاً أنّها لم تكن فقط نتاج الإجراءات الاستعمارية من هدم البنى التحتية والاستيطان وإغلاق الحواجز العسكرية وخلق المعازل الفلسطينية، أو اتفاقات مثل ملحق باريس الاقتصادي فحسب، بلّ هي أيضاً نتاج سلطة فلسطينية ونخبة اقتصادية تماهت مع الاشتراطات السياسية للمانح الغربي تحديداً، ليصبح وجود تلك النخبة واستمرارها مرتبطاً بعلاقة تطبيعية-تبعية اقتصادية وسياسية مع القوة الاستعمارية.

بذلك يأتي كتاب فلسطين المحدودة ليبني على ما سبقه من أدبيات، مثل كتاب فلسطين للبيع للكاتب خليل نخلة، ونماذج تحليلية نقدية لمفاهيم التنمية وبرامج المانحين الدارجة في السياق الفلسطيني عمل عليها أمثال صبحي سمور، ورجا خالدي، وسامية البطمة وعلاء الترتير وإبراهيم شقاقي وآدم هنية وليلى فرسخ ضمن مجموعة أوسع من الباحثين.

 إنّ كتاب “فلسطين المحدودة” هو امتداد لنضج نظرية نقدية متوجسة من الخطاب الاقتصادي المرتبط بأركان السلطة السياسية والمانحين، والذي يتجسد (أي الخطاب) في الفصل ما بين السياسي والاقتصادي و”شرعنة” العلاقة الاقتصادية مع المستعمر تحت مظلة نيوليبرالية. فكما توضح ليلى فرسخ في مقال تناول تاريخ الأدبيات النقدية الاقتصادية وتحولاتها في السياق الفلسطيني، “في نظرهم، إنّ الأجندة النيوليبرالية عملت على استيعاب الاحتلال بدلاً من تقوّيضه، من خلال توسيع نطاق المراقبة وإسكات المعارضة على حساب تعزيز المؤسسات الديموقراطية والخاضعة للمساءلة”. (Farskh, 2016:65).

هذا لا يعني أنّ حداد لا يعي أهمية الدور الذي تلعبه القوة الاستعمارية الاستيطانية (إسرائيل) في تحديد أولويات “التنمية” الاقتصادية المزعومة في السياق الفلسطيني. فكما يوضح حداد فإنّ “التحكم الإسرائيلي بمعظم مناحي التنمية الاقتصادية الفلسطينية… قد عنى أنّ الترتيبات التنموية والمؤسساتية الفلسطينية تخضع لمرحتلين من التصفية (two filters)، تسبق قدرة الفلسطيني على توظيف أيّ من الأدوات السياستية المتاحة لديه” (Haddad, 2016:260)؛ وكأنّ الاقتصاد السياسي هنا يلعب دوراً رافداً لسياسة عسكرية استعمارية تستند على مكافحة التمرد، لتلتقي الهيمنة القسرية من خلال استخدام القوة العسكرية مع الهيمنة الأيدولوجية الاقتصادية النابعة من نخبة حاكمة منتفعة في ثنائية مترابطة ومتداخلة (أي مرحلة التصفية الأولى هي ما تريده وترضاه “إسرائيل”، والمرحلة الثانية هي ما يريده ويرضاه المانح).

وما يُقلق حداد ليس فقط مضامين التحالف ما بين أوجه النخبة الفلسطينية السياسية والاقتصادية وبين المؤسسات العالمية المالية، بما في ذلك التجاذبات والتحولات التي تخللت العلاقة بين الطرفين، بل أيضاً عوامل تَشكُّل القوة في سياق استعماري، من خلال ربط حركة رأس المال بالبنى السياسية، وعملية بناء أسس أيديولوجية لاستمرار حالة التطبيع الاقتصادي مع الحركة الاستعمارية الاستيطانية.

وهنا تكمن نقطة ضعف الكتاب، فعلى الرغم من أهمية التحليل الذي يتضمنه للأدوات المستخدمة في صياغة بنى اجتماعية واقتصادية فلسطينية تتماهى وتتناغم مع البنية الاستعمارية، إلّا أنّ الكتاب يرتكز أساساً على فهم دور القوى الخارجية في هندسة سلطة حكم ذاتي فلسطينية، دون التطرق الشامل للعوامل الداخلية لصعود هكذا بنية على الصعيد الفلسطيني.

يرى حداد أنّ السلطة امتدادٌ واضحٌ لروابط القرى وغيرها من مشاريع استشراقية صهيونية تمّ إفشالها من قبل منظمة التحرير وقوى وطنية في حينها، حيث سعت تلك المحاولات الصهيونية المتتابعة إلى تخفيف الاحتكاك المباشر ما بين قوى الأمن والجيش الصهيوني والمجتمع الفلسطيني، مع الحفاظ على الهيمنة والسيطرة على الأرض.

من هنا، شكّلت اتفاقيات أوسلو أساساً لحلّ التناقض الظاهر المتمثل في استكمال المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية، والتخلص من العبء الذي يشكله الحكم المباشر في قطاع الخدمات والأمن. وعلى الرغم مما ورد، إلّا أنّ التحليل الذي يُقدّمه حداد لا يتضمن، إلّا فيما ندر، العوامل التاريخية المتعلقة ببنية منظمة التحرير الفلسطينية ومسارها، والتي أدّت إلى التقاء تلك المدارس الاستشراقية مع مشاريع الكيانية الفلسطينية.

منذ اللحظة الأولى، صارعت حركة فتح، وغيرها من الحركات السياسية الفلسطينية، لإرساء موقعها السياسي بين أنظمة عربية توجست من بزوغ “كيانيّة” فلسطينية، ومن تداعيات تلك الكيانيّة على دور تلك الأنظمة الوظيفي في السياق الإقليمي. في ثنايا كتاب “الكفاح المسلح والبحث عن الدولة: الحركة الوطنية الفلسطينية 1949 -1993″، والذي يتحدث عن مدى محورية ومركزية الدور الذي لعبه الكفاح المسلح في عملية تشكّل الحركة الوطنية الفلسطينية وأطرها السياسية والبيروقراطية، يعلل يزيد صايغ ذلك بالقول: “وفّر الكفاح المسلح البنية التحتية السياسية والديناميكية التنظيمية لتطوير الهوية الفلسطينية وتشكيل مؤسسات بيروقراطية تتّسم بطابع “دولاتي”، ونخبة بيروقراطية، أو نواة للحكومة” (Sayigh 1999: 8).

من غير المستغرب إذاً أن يؤدّي غياب الكفاح المسلح، عقب إعلان الاستقلال في الجزائر، إلى صعود قيادات داخل منظمة التحرير، رأت في تشكيل كيانية ولو محدودة -“فلسطين المحدودة”- ثمرةَ ثورة سياسية بدأت في عام ١٩٦٥؛ فكان لمعظم أفراد طاقم المفاوضات الفلسطيني وقيادات السلطة في بدايات تشكّلها باعٌ طويلٌ في بناء المؤسسات البيروقراطية داخل منظمة التحرير وتوفير التمويل السياسي للثورة.

من جهة أخرى، يكمن الخلل الثاني في الكتاب في قبول الكاتب حدود الـ٦٧ كمنطلق أساسي لتحليل التدخلات الاستعمارية والدوليّة في الاقتصاد الفلسطيني، ويغيب عنه تحليل أثر مركزية الكيانية الفلسطينية، وانبثاق السلطة الفلسطينية عن منظمة التحرير، على مخيمات اللجوء في الشتات وعلى فلسطينيي الداخل.

وهنا يكمن خلل هائل في سياق النظرة الفلسطينية، حتى عند المدارس النقدية المتوجسة من التحولات الاجتماعية والاقتصادية في السياق الفلسطيني، في الإجابة عن أسئلة محورية مثل: ما هي حدود الاقتصاد الفلسطيني؟ أين يبدأ وأين ينتهي؟ ناهيك عن دور الاقتصاد غير الرسمي (الأسود) في خلق مجالات واسعة من الشبكات الاجتماعية والاقتصادية، على هامش التحالفات الاقتصادية النخبوية التي عادة ما تتناولها المدرسة النقدية، والتي ينتمي حداد لها؛ إضافة إلى بعض الأخطاء الشكلية البسيطة مثل إضفاء منصب رئيس بلدية البيرة لعزمي الشعيبي، وهو منصب لم يتبوّأه.

كتاب “فلسطين المحدودة” للكاتب توفيق حداد، كتاب ذو أهمية في فهم الصراعات والتجاذبات بين أوجه التحالف السياسي المشكِّل والممكِّن للسلطة الوطنية الفلسطينية وسياستها الاقتصادية. تنبع أهميته من التحليل المنهجي والشامل لوثائق وتقارير داخلية صدرت عن المؤسسات المالية العالمية والمانحين، بالإضافة إلى التقارير الصادرة عن السلطة الفلسطينية وبعض المؤثرين من شركات ومؤسسات تابعة لما يسمى القطاع الخاص الفلسطيني.

ويشمل البحث مقابلات مع فاعلين وقيادات في المجالات الاقتصادية والسياسية والمؤسساتية الدولية والمحلية، مما يضيف للبحث قدرة أكبر على فهم المسار السياسي لصعود وتشكل “فلسطين المحدودة”؛ والتي استند صعودها إلى عوامل ذاتية فلسطينية، وأخرى نابعة من تداخلات خارجية ساهمت في تشكّل نخب سياسية واقتصادية على حساب تيارات سياسية واجتماعية أخرى، ضمن هندسية متعمّدة من قبل المؤسسات المالية العالمية والمانحين. قامت التدخلات الخارجية تلك على بنية أيديولوجية ومفاهيمية نيوليبرالية، شكلت واقعاً يقوم على أسس اقتصادية- زبائنية وريّعية ساهمت في رفع نخب فلسطينية، تشكل اليوم أبرز أسس بقاء وديمومة النظام السياسي الفلسطيني الحالي.

يبقى السؤال: هل تشكل العوامل والقوى الواردة أعلاه أسساً لبقاء الحالة الفلسطينية في الضفة الغربية على ما هي عليه؟  فالنخب السياسية تعاني من عدة إشكاليات متزامنة، مرتبطة بضعف التمويل لفلسطين المحدودة في ظل صراعات سياسية تعصف بالمنطقة وضغوط متزايدة على المانحين واللاعبين الأساسين، وصراع سياسي داخلي على وراثة السلطة السياسية، ورأس مال جشع ومنتفع. فضلاً عن التحديات النابعة من تيارات سياسية وحركات مقاومة من خارج منظمة التحرير، أم أنّ الهبّة الفلسطينية التي انطلقت في تشرين الأول 2015 هي أحد بواكير صعود بنى اجتماعية واقتصادية مادية مضادة لهيمنة أوجه السلطة السياسية الحالية؟

باختصار، يخطّ حداد بحثاً يرى في الأيديولوجيا “الوطنية” السائدة والمنبثقة عن النخبة السياسية والاقتصادية الفلسطينية امتداداً للاستعمار، ويشكل الاستعمار وتلك الأيديولوجيا “اللاوطنية” – إن صح التعبير- واجهة للرأسمالية المحلية والعالمية. إنّ قدرة “فلسطين المحدودة” على الاستمرار في ظل العوامل المذكورة أعلاه مرتبط أساساً بقدرة المجتمع الفلسطيني، الذي تُمارَس عليه أعقدُ أنواع عمليات التأديب الاقتصادي والسياسي والعسكري، على إنتاج أيدولوجيات ومفاهيم بديلة، وهو ما بدأت ملامحه الأولى تتشكل في الهبة الأخيرة وفي الحركات الاجتماعية التي تكللت بإضرابات المعلمين، وصولاً للحملة التي تشكلت رفضاً لقانون الضمان الاجتماعي.

=====================

المراجع

Farskh, Leila. 2016. Palestinian Economic Development: Paradigm Shifts Since the First Intifada. Journal of Palestine Studies Vol. XLV, No. 2
Ḥaddad, Taufiq. 2016. Palestine Ltd.: Neoliberalism and Nationalism in the Occupied Territory. 1st ed. London: I.B. Tauris Co.
Sayigh, Yazid. 1999. Armed Struggle and the Search for State. 1st ed. Oxford: Oxford University Press.