الحرب قاطرة التاريخ – تروتسكي

في مقالة نشرت عام 2006 في مجلة القوات المسلحة، كتب روبرت سكيلز، الميجر-جنرال الأمريكي المتقاعد، والقائد الأعلى ونائب رئيس حقل العقيدة العسكرية في الكلية الحربيّة الأمريكية؛ حول تطوّر الحرب وعلاقاتها بالعلوم، متتبعًا خطى المؤرخ “الان بيرخين” وفكرته حول تحقيب تطور الحرب، وجاء في المقال: “الحرب العالمية الأولى كانت حرب الكيميائيين، حيث شكّلت التطبيقات الجديدة للكيمياء والهندسة الكيميائية المحرّك الأساسي للأفضلية الاستراتيجية في ساحة المعركة… والحرب العالمية الثانية كانت حرب الفيزيائيين. وبإعادة صياغة مقولة تشيرشل، فإن القنبلة الذرية أنهت الصراع، ولكنّ تسخير المجال الكهرومغناطيسي في شكل اللاسلكي والرادار، هو الذي ساهم في كسب الحرب لصالح الحلفاء. والحرب الباردة (الحرب العالمية الثالثة) كانت حرب باحثي المعلومات، كانت فيها المعلومات الاستخباراتية ومعرفة العدو والقدرة على استغلال تلك المعلومات والمعرفة سببًا في هزيمة الولايات المتحدة الامريكية للاتحاد السوفيتي بتكلفة بشرية قليلة نسبيًا. وللانتصار في الحرب العالمية الرابعة (الحرب على أفغانستان والعراق)، يجب على المؤسسة العسكرية أن تكون على دراية ثقافية بشكل كاف لتنجح في بيئة غريبة. فالنصر سيتحدد في إطار الإمساك بالعناصر الثقافية – النفسية بدلًا من الأراضي الجغرافية المرتفعة. فالفهم وإدراك الغير ستكون أسلحة مُهمّة في الحرب”.

وعلى الرغم من أن التحقيب المذكور أعلاه يتسم بالصرامة التأريخية، وإلى حدّ ما بعدم الدقة، حيث يعتمد بشكل عام على الخصائص العامة لطبيعة كل حرب، والتي من الممكن أن تتداخل وتتقاطع التطورات في كل واحدة منها بشكل مجتمع، إلّا أنّ الغرض من هذه الفكرة يعكس العلاقة المحاكة بدقة ما بين الحرب من جهة، والمعرفة العلمية بشقيها الطبيعية والإنسانية الاجتماعية من جهة أخرى، والتي وصفها سكيلز بالزواج النابع من الضرورة، ورغم ذلك فقد لاقى نجاحًا”.

الفرضية الأساسية التي بنى عليها كل من سكيلز وبيرخن مقولتهم حول علاقة الحرب بالعلوم، هو توظيف وإدماج الحرب للتطورات الحاصلة بالعلوم، لا اعتبار الحرب هي المؤسسة لكل هذه التطورات والمحدد الأساسي لمساراتها وأشكالها التطورية. ولعلّ الغرض من ذلك بالنسبة لسكيلز نابع من التوتّر الشكلي الحاصل ما بين الدوائر العسكرية والدوائر الأكاديمية الأمريكية، حول طبيعة المعرفة وتوظيفاتها وأهدافها، خصوصًا بعد الغزو الأمريكي لأفغانستان والعراق، ومحاولة سكيلز تجاوز هذا التوتّر لغرض ترميم الهزيمة التي مُنيت بها الولايات المتحدة، ورسم ملامح خطّة هيمنة أكثر قدرة على قراءة الواقع ومتغيّراته، حيث أصر في موقع آخر أن تستفيد المؤسسة العسكرية الأمريكية من التجارب السابقة للامبراطوريات الأوروبية بقوله: “الجيش البريطاني قد أسّس عادة نقل ضباط لامعين إلى أنحاء المعمورة لكي يتعمدّوا في ثقافات الامبراطورية البريطانية، ولكي يؤسسوا أواصر حميمية مع الملوك من مصر إلى مالايا. أسماء لامعة مثل تشارلز جوردن (المعروف بجوردون الصيني، جوردن باشا، وجوردون الخرطوم) وثوماس لورانس (لورانس العرب)، تشهد بحكمة مثل هذه العادة… وفي قلب منهج الحروب المستقبلية المتمحورة حول “الثقافة” سيكون هناك كوارد من المستطلعين على درجة جيدة من التعليم، وولع باللغات، وارتياح للأماكن الغريبة والبعيدة. هؤلاء الجنود يجب أن يعطوا الوقت لينغمسوا في ثقافة واحدة… يجب عليهم أن يذهبوا إلى الدراسات العليا وينضموا إلى تخصصات ضرورية لفهم السلوك الإنساني والثقافة الانثروبولوجية”.

على الجهة المقابلة من رؤية سكيلز، واعتباره المعرفة سابقة على الحرب، ناقش ادوارد سعيد فكرة أنّ المعرفة حول الشرق لا يمكن لها أن تكون بريئة أو موضوعية؛ لأنها نتاج ذوات راسخة ومتشكّلة بفعل التاريخ الاستعماري وعلاقاته، حيث اعتبر أن “الاستشراق” كحقل معرفي هو بالأساس مشروع استعماري تزامن مع الحركة الاستعمارية الاوروبية للشرق، وأن حقولًا معرفية أخرى كعلم اللغة، التاريخ، الانثروبولوجيا، الفلسفة، والاركيولوجيا والأدب الإنجليزي تم مأسستها ورعايتها من قبل الحركة الاستعمارية ومن أجلها. ولهذا السبب، رأى ادوارد سعيد أن الأمر لا يقتصر على الاستشراق بكونه نمطًا غربيًّا من إنتاج المعرفة حول من ليسوا أوروبيين   استدامة الهيمنة، بل يطال مجمل الانتاج المعرفي الغربي. معطياً “الخطاب” النصّي الأولوية على الحركة الاستعمارية ذاتها، حينما أشار إلى “أنّ النصّ الذي يزعم أنه يحتوي على معرفة بشيء واقع…لا تكتفي هذه النصوص بتشكيل المعرفة، بل أيضًا تعمل على تشكيل الواقع الذي تصفه”. وبناءً على المقدمات السابقة، ستحاول هذه السلسلة من المقالات استكشاف العلاقة ما بين المعرفة والحركة الاستعمارية، منطلقة من اعتبار الحروب الاستعمارية ذاتها هي الإطار التي تولّدت عنه تلك المعارف وتطورت فيه، ومقدِّمة في الوقت ذاته تأريخًا مغايرًا للحرب والمعرفة والغرب، مبتدِئةً بالحروب الصليبية، مرورًا بتشكّل “النظام العالمي” الاستعماري، وانتقال مركز ثقله من القارة العجوز (أوروبا) إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وما رافقها من تطورات على صعيد الانتاج المعرفي، وانتهاءً بما بات يعرف بنظام التضاريس البشرية الذي طُوِّر بعد الغزو الأمريكي للعراق وأفغانستان.

تابع/ي القراءة: إضاءات على المعرفة الغربيّة والحروب الاستعمارية (2)