في وسط صحراء سيناء وبين تلك التّلال الرمليّة الجافة، وخلال معارك العثمانيين ضدّ الإنجليز في نهاية الحرب العالمية الأولى، عام 1916، وقف الضَابطُ الإنجليزيُّ وجنودُ كتيبته مندهشين أمام جثثٍ لجنودٍ عثمانيين. وكان سبب الدهشة أنهم اكتشفوا أنهم كانوا يقاتلون كلّ ذلك القتال ضدّ سرية استطلاع عثمانية “بسيطة”، من فيلق “الهجانة”، لا يتعدى عددهم عشرة جنود.

وَقَفَ الضَابطُ الإنجليزيُّ حينها وقفةَ احترامٍ لهؤلاء الجنودِ مُعترِفًا ببطولاتهم، ومُقدِّمًا لهم التّحية العسكريّة، تحيةً استحقوها بكلّ جدارةٍ لاستبسالِهِم وشجاعتِهِم المُستميتة التي قدّموها خلال المعركة رغم قلّة عددهم وعتادهم، وقد أَمَرَ الضابطُ جنودَه بأن يُقدِّموا التّحية كذلك لهؤلاء الأبطال.

من بين تلك الجثث المتناثرة، كان هناك جنديٌّ في ريعان شبابه ما زال يعارك الموت، بعد إصابته إصابةً بالغةً في الفخذ. كتب الله حينها لعبد السّلام صُبحي، ابن قرية بيت صفافا جنوب القدس، أن ينجو من إصابته ويعيش أمدًا طويلًا ليخبرنا بهذه الحكاية، وما حدث مع زملائه الجنود. أخبرنا عبد السّلام – رحمة الله عليه – حينها أن الفضلَ يعودُ لناقتِهِ الوفيّةِ التي عادت لوحدها إلى معسكر الكتيبة العثمانية، مُنذِرةً إياهم بما حصل، ولتكون دليلًا لهم على مكان أبطال السّرية الشَهداء.

وعيتُ وكبِرْتُ على حكايا أمّي جميلة التي لا تنتهي عن والدها المناضل، بطل قصتنا، عبد السّلام ابراهيم محمد صبحي. وحكايا أمّي لنا في طفولتنا لم تقتصرْ على  حكاية “جبينة والشاطر حسن” فحسب، بل كانت تسهب كثيرًا في الحديث عن سيرة والدها عبد السّلام. كانت تروي لنا تلك الحكايات وعيونُها شاردةٌ في اللامكان، بينما تشاركُ يداها في السّرد بحركاتٍ تفرضُها أحداثُ القصة، وملامحُ وجهِهَا ونبرةُ صوتها، التي تتغيّر حسب وتيرة أحداث القصة التي ترويها، كانت تُضفي على الحكاية بعضًا من عوامل التّشويق.

كنتْ أستمعُ لها وأنا تلك الفتاة الحالمة المتشوّقة لسماع قصص بطولات جدّها، ألتصقُ بأمّي منصتةً بكلِّ جوارحي فيكبُرُ فيّ ذلك الشّعورُ المتناقضُ بين الفخرِ والوجعِ، وأنا دائمةُ الطمعِ في الحصول على المزيد من قصص الشهداء والبطولة. وهنا سأسرد بعضًا مما تربيّنا عليه من قصص جدّي عبد السّلام وبطولاته، في محاولة لتسجيل قصص من ضحّوا بدمائهم لأجل فلسطين، وتذكير المجتمع بهم، وتعريف الناشئة ببطولات من سبقوهم.

حرفيٌّ ماهرٌ وعسكريٌّ فذّ

وُلِدَ المناضل عبد السّلام صبحي عام 1894م، وترعرع في قرية بيت صفافا، تلك القرية الوادعة الجميلة التي وصفها عبد الله التّل في مذكراته بـ “الدرع الجنوبيّ الحصين” لمدينة القدس. قُدِّر لعبد السّلام أن يعيش في زمنٍ صعبٍ، زمنٍ شهدت خلاله فلسطين الحروب والويلات والتنقلات بين سلطات ثلاث، من الحكم العثماني إلى الاستعمار البريطاني، فالاستعمار الصهيوني. وكان عبد السّلام من أبناء الوطن المخلصين الذين حاولوا جاهدين إنقاذ ما يمكن إنقاذه بكلّ إخلاص وتفانٍ، وقاتل وجاهد ضدّ البريطان والصهاينة.

عاش عبد السّلام طفولته وشبابه في بيت صفافا واحترف مهنة البناء والعمار، وزاولها بعد الحرب العالمية الأولى إبان الاستعمار البريطاني إلى أن بدأت الثورة، فانضم لصفوف جيش الجهاد المقدس. وكان عبد السّلام برفقة إخوانه الأربعة قد أسسوا شركةَ بناءٍ ماهرةً ذاع صيتُها في مدينة القدس وباقي المدن الفلسطينية، وأذكر كيف كانت أمّي تُشير بيدها مفتخرةً كلّما مررنا من شارع القدس-الخليل، أو من البقعة أو القطمون، وغيرها من الأحياء الواقعة غربيّ القدس، وتخبرني: “هذه البناية التي بناها والدي وأعمامي، وهذه الكلية، وهذه الكنيسة، إلخ”.

وعندما جُمِع شبابُ فلسطين للتجنيد الإجباري العثمانيّ، كان من بينهم عبد السّلام. أُرسل صاحبنا إلى دورةٍ عسكريّةٍ في الكلية العسكريّة في اسطنبول، وتخرّج بعدها من كلية “الجندرمة” في بيروت. وقد شارك المناضل عبد السّلام في عدة معارك مع الجيش العثماني ضدّ القوات البريطانية، وذلك تحت راية الملك فيصل الأول، وبرفقة فايز الإدريسي وحسين فخري الخالدي. وكانت آخر معركة شارك فيها عبد السّلام في صفوف العثمانيين تلك التي وصفناها أعلاه والتي هُزِموا فيها وتَكبدوا خسائر مرتفعة في الأرواح، ونجا فيها عبد السّلام ليكمل مسيرته في مقارعة الاستعمار.

نضاله خلال فترة الانتداب البريطاني

عندما وقعت فلسطين تحت سلطة الانتداب البريطاني، عُرِض على عبد السّلام أن يتجند في صفوف القوات البريطانية. وقد حاول البريطان بكل وسائلهم الخسيسة إغراء عبد السّلام كونه يمتلك الخبرة والتدريب العسكريّ اللازمين للتعاون معهم، على أن يقلدوه أعلى الرتب العسكريّة. كان المعروض عليه حينها أن ينتسب لشرطة الاستعمار البريطاني، أو ما يُسمّى قوّة الشّرطة الفلسطينية “Palestine Police Force”، وذلك تحت إمرة فايز الإدريسي الذي كان قائدًا عامًا لمنطقة القدس زمن الاستعمار البريطاني. لكن عبد السّلام رَفَضَ رَفْضَ الأحرار الشرفاء بأن يشارك في مثل هذه الخيانات المنمقة، فبَحَثَ عن مكانِهِ في صفوف المناضلين والثوار يقضّون مضاجع الإنجليز، وكان نصيبه السّجن.

شارك عبد السّلام في مقاومة سلطات الانتداب البريطاني مع غيره من الثوار. وقد كانت المستعمرات اليهودية والمواقع العسكرية البريطانية بالقرب من بيت صفافا من ضمن أهداف عبد السّلام وزملائه الثوار. فقرية بيت صفافا تحاذيها مستعمرة ميكور حاييم ومستعمرة رمات راحيل، كما أنها تقع على طريق القدس الخليل حيث كان الثوار يستهدفون القوافل العسكرية.

إضافة إلى ذلك، فقد كان بالقرب من بيت عبد السّلام معسكرٌ كبيرٌ للجيش البريطاني، وذلك على الحدود الشّرقية الشّمالية للقرية، وكان المعسكر يمتد من مستشفى بيت صفافا للأمراض السّارية وحتى حي البقعة، ويُدعى معسكر “العلمين”. وبالقرب من بيته كذلك، على بعد أقل من مئتي متر، كان هناك مصنعٌ للبلاط يملكه يهوديٌّ. وكانت تلك الأهداف كلّها عرضةً لهجوم الثوار الفلسطينيين، ومنهم عبد السّلام وأشقاؤه عبد الرحمن ومحمد وعبد القادر، وآخرون من أبناء بيت صفافا. وقد وقعت تلك المناوشات واستهداف هذه المواقع في فترة ثورة البراق عام 1929 وما بعدها.

أصبح معلومًا لدى الإنجليز أنّ عبد السّلام نشيطٌ ضدّ مصالحهم وجنودهم، فتعرض للاعتقال أكثر من مرة، وأصبح يتنقل من سجنٍ إلى آخر، فتارةً في سجن القشلة في القدس، وتارةً في سجن صرفند قرب الرملة. وفي كلّ مرة كانت تُمنع عنه الزيارة وتنقطع أخباره، فلا زوجة تدري عنه ولا أخ ولا أولاده الثمانية. وما أن يُنهي حكمه ويخرج من السّجن، حتى يعاود الانضمام إلى صفوف الثوار، فيعاد اعتقاله مرة أخرى.

حسب ما تروي العائلة، ارتأى عبد السّلام في إحدى هذه المرات بعد خروجه من سجن صرفند ألاّ يعود إلى بيته، وأن ينضم إلى صفوف الثوار، كي لا يُعرِّض أطفاله وزوجته لحملات المداهمة والترهيب المستمرة من قبل سلطات الانتداب، وحتى يضمن أن ينشط في الثورة بحريّة دون قيود. مع ذلك، كان عبد السّلام يتسلل بين الحين والآخر إلى بيت صفافا في جنح الليل، ليتفقد عائلته ويرى زوجته وأطفاله.

وفي إحدى ليالي عام 1933، وبينما كان في زيارة خفيّة لعائلته تفاجأ عبد السّلام بالقوات البريطانية تداهم البيت وتعتقله. نُقِل حينها إلى سجن عكا مع جماعة من مجاهدي الثورة، وصدر بحقّه حكم الإعدام. وتروي العائلة أنه خلال زيارة زوجته تمام أبو السعود له مع أبنائه لتوديعه قبل تنفيذ حكم الإعدام، رأى عبد السّلام ابنه صالح وقد همّ بالبكاء، فقال له: “لا تبكي يابا إنت رجل، عيب الرجال تبكي يا صالح”.

إلغاء حكم الإعدام والعودة للثورة

لا أعرف إن كان حظًّا عاثرًا أم سعيدًا ذلك الذي جلب السيدة تمام أبو السعود، من رفيديا شمالي نابلس، إلى بيت صفافا لتكون زوجةً لعبد السّلام. في فترة غيابه ونشاطه في الثورة، كانت تمام – أم داوود – الأب والأم والمعيل لتلك العائلة ذات الأطفال الثمانية، وكانت خير معينٍ لزوجها. لم تستسلم تمام لحكم الإعدام بحقّ عبد السّلام، وقررت أن تبحث عن أية وسيلة مهما كانت لإنقاذ حياته.

تذكرت تمام فجأة تذكُّرَ الغريق المتعلق بقشة ذلك المهندس المعماريّ الإنجليزيّ المدعوّ “كيثروغ” والذي عرفه عبد السّلام من خلال مهنة العمار معرفةً جيّدةً. كان “كيثروغ” في ذلك الحين ضابطًا كبيرًا في حكومة الاستعمار، وبيتُه الجميل في الحيّ الألمانيّ في البقعة ربما ما زال قائمًا إلى يومنا هذا. ذهبت إليه تمام أبو السعود في مقره مُصطحِبةً أبناءها الثمانية، وتقدمت بطلب استرحامٍ للعفوّ عن زوجها. وعدها “كيثروغ” حينها أن يعمل ما بوسعه لأجل إلغاء قرار الإعدام، وبالفعل أفرج عن عبد السّلام بشرط البقاء تحت “الإقامة الجبرية” في قريته بيت صفافا.

لكن عبد السّلام لم يستسلم، ولم يتخلَّ عن راية الجهاد لأجل فلسطين. تقول عائلته أن الإقامة الجبرية في تلك الفترة لم تكن شديدة، وأن القبضة العسكرية البريطانية لم تكن بالقدر الذي نعيشه اليوم، فكان عبد السّلام ينجح في الخروج من بيته بين الحين والآخر، حتى أنه عاد لصفوف الثورة، كما سنرى في السّطور اللاحقة.

قائد فصيل

فريق النجادة من بيت صفافا، مصدر الصورة: عائلة المناضل عبد السّلام صبحي

بدأ عبد السّلام مرحلة جديدة في مسيرته الجهادية إبان ثورة 1936، وبدأ ذلك في قرية دير غسانة حيث عُقِدَ مؤتمرٌ عامٌ في القرية عام 1938، والذي كان بمثابة مؤتمرِ مصالحةٍ وتنسيقٍ بين قيادات الثورة الفلسطينية، وانتهى بتشكيل مجلسٍ للثورة. حضر المؤتمر حينها 500 من الثوار وقيادات الفصائل، وكان من بينهم عبد السّلام صبحي الذي أوكلت إليه مهمةُ قيادة فصيل “النجادة” في قرية بيت صفافا و16 قرية من قرى القدس.

كان عبد السّلام قائدًا ومدربًا عسكريًا لعناصر الفصائل الذين انتسبوا لها، والذين كان أغلبهم يجهلون استعمال الأسلحة والخدع العسكرية ومواجهة العدو. ولكن للأسف قلّة السلاح ورداءة نوعيته والخيانات والتخاذلات حالت دون النصر. في تلك السنوات العصيبة من الثورة الفلسطينية الكبرى شارك عبد السّلام في عدة معارك منها معركة ساريس وجبع ومعركة الخضر عام 1936 التي استشهد فيها القائد البطل سعيد العاص.

وشارك عبد السّلام خلال مسيرة الجهاد المقدس في معركة “بني نعيم”، قضاء الخليل، عام 1939 التي تكبد بها المناضلون خسائر فادحة لقلة العدد والعتاد، وخلالها أصيب رفيقه القائد عبد القادر الحسيني، ومعركة حوسان، قضاء بيت لحم، ومعركة خربة أم الروس، شرق بيت نتيف قضاء الخليل، والتي استشهد فيها رفيقه القائد أحمد جابر الحوباني، أبو الوليد، من بلدة بيت عطاب.

معارك 1948

بعد ثورة عام 1936-1939 قرر عبد السّلام العودة للعمل في البناء والمقاولات حتى يريحَ زوجتَه من العمل في قصر عائلة العمري، وليتفرغ لأبنائه الذين أصبحوا شباباً خلال سنوات غيابه المتقطعة والطويلة، حتى العام 1947 حيث أرسل في طلبه القائد المناضل عبد القادر الحسيني في مقر قيادته في بيرزيت، طالبًا منه تنظيم شباب بيت صفافا للمشاركة في الدفاع عن فلسطين في وجه الهجمات الصهيونية.

ولقد ثبتت قرية “بيت صفافا” بفضل أبنائها وأهلها، وقد سطروا أجمل آيات الصمود والذود عن حدودها مدركين أنها كالشوكة في حلق المستوطنات الصهيونية التي تحيطه كـ”مكور حاييم” و”رمات راحيل”. وقد أبلى المناضلون كأمثال عبد السّلام صبحي ورفاقه كعبدالله العمري، وذيب حماد، ومحمد إبراهيم الحمد، وصالح إسماعيل، وموسى صبحي، ومحمد سليم، ومحمد علي عبد ربه، بالإضافة إلى عارف نعمان عثمان، وياسين محمود يوسف سلمان، ومحمود الشيخ جابر العمري، وإبراهيم الشيخ جابر العمري، وسليم عبد الرحمن، وموسى عيسى الدولة، وغيرهم كثيرون بلاءً حسناً في قتال الصهاينة.

وعند وصول مقاتلي “القوات المصرية والسودانية” في 2/5/1948 بقيادة البطل أحمد عبد العزيز تعاونوا مع مناضلي بيت صفافا واقتسموا وإياهم خطوط الدفاع، فقويت بذلك الاستحكامات الأمامية، وحفرت الخنادق، وأصبحت بيت صفافا أكثر قوّة لصدّ هجمات الأعداء. وبفضل المقاومة الشرسة لم تسقط بيت صفافا في يد العصابات الصهيونية إبان معارك 1948، على الرغم من سيطرة الأخيرة على القرى والأحياء الفلسطينية المجاورة كالمالحة والقطمون والطالبية وغيرها. إلا ان اتفاقية الهدنة عام 1949 قضت بتسليم جزء من أراضي بيت صفافا، وبذلك أصبح القسم الشماليّ من القرية تحت حكم الاحتلال، بينما بقي القسم الآخر تحت حكم الأردن حتى عام 1967.

جراحٌ واستشهاد رفيق نضال وفقدان زوجة وفية

عند اشتداد حدّة المناوشات مع اليهود على أطراف بيت صفافا أصيب عبد السّلام بانفجار قنبلة بتاريخ 13/2/1948 وفقد إحدى عينيه، وأصيب بشظايا في جميع أنحاء جسمه بقيت علاماتها إلى آخر حياته. في تلك المعركة ارتقى المناضل محمود جابر العمري شهيدًا، وأُصيب المناضل إبراهيم الحاج مصطفى اسماعيل من قرية الولجة المجاورة، وأصيب أيضًا المناضل جمعة عبد جمعة من بيت صفافا .

وقد مكث عبد السّلام في المستشفى قرابة ثلاثة أشهر، وخلال إقامته في المستشفى وقعت معركة القسطل دون أن يشارك فيها، وفُجِع بارتقاء رفيقه وقائده “عبد القادر الحسيني” شهيدًا، وحُرِم من المشاركة في وداعه وتشييعه.

انتهت حرب الـ48 وسقط الجزء الشماليّ من بلدتنا بيت صفافا، وبقي عبد السّلام في القسم الذي يقع تحت الحكم الصّهيوني على حدود خط الهدنة والشريط الذي يقسم قريته إلى نصفين، نصفٌ مع الحكومة الأردنية ونصفٌ مع حكومة الكيان الصهيوني. توفيت تمام أبو السعود زوجة عبد السلام الوفية عام 1950، فكانت أول حالة وفاة في القرية بعد احتلال الجزء الشمالي منها فدفنها في حاكورة البيت أمام الشريط لعدم وجود مقبرة في القسم المحتل إلى أن نقلوا رفاتها قبل ثمانية أعوام لمقبرة القرية.

وقد كانت تمام تشارك زوجها في المناوبات العسكريّة في الاستحكامات حول قرية بيت صفافا، ليتسنى لزوجها أخذ قسط من الراحة حين كان يتفقدها في عتمة الليالي، يقبّل أبناءه وهم نيام، وبعد أن تحضر له طعام العشاء، تتلثم بالحطّة الفلسطينية وتحمل البندقية وتقول له:” ارتاحلك شوي يا عبد السّلام ليشقشق ظو الصبح”. وتروي أميّ أنها كانت – أي جدتي – في إحدى ليالي رمضان قد حضّرت القطايف وأتت بها إلى المناضلين في جيش الجهاد المقدس.

بعد وفاة زوجته وحالته الصحية الصعبة عمل عبد السّلام آذنًا في مدرسة القرية القريبة من بيته، إلى أن قرر الاحتلال عام 1953 إبعاده وعائلته إلى القسم الأردني من القرية تاركاً بيته وقبر زوجته هناك. وكان هذا الإبعاد على إثر نشاطات ابنه البكر داوود وكتاباته السياسية المنددة بعملاء الاحتلال ولمحاولته كشف خياناتهم، فهذا الشبل من ذاك الأسد، تعددت وسائل الجهاد والهدف واحدٌ، فإن كان الأب حمل البندقية فهذا ابنه حمل سلاح القلم والكلمة.

وقد كان داوود عبد السّلام ينشر كتاباته ومقالاته في الصحف ويعلقها على الشريط المشؤوم الذي يقسم القرية، وفي شوارع القرية نفسها – الجزء الواقع منها تحت حكم الاحتلال- فاضحاً العملاء، إلى أن فاض بهم الكيل، فقرروا إبعاد عبد السّلام وعائلته كعقابٍ جماعيٍ لعلهم يسكتون القلم الحر. وقد آثر داوود بعد انتقالهم للقسم الأردني أن يهاجر إلى الكويت كأمثال أبناء جيله من شباب فلسطين الذين سافروا للبحث عن فرص العلم والعمل في دول الخليج.

رغم أن البطل عبد السّلام مكث أغلب حياته مجاهدًا مرابطًا في ساحات الوغى ولم يكن في جسده شبرٌ إلا وفيه آثار جُرْحٍ أو ثقوب رصاصٍ أو علامات شظايا، ورغم أنه فقدَ عينه وجزءاً من فخذه، وكم تمنى أن ينال الشهادة كصحبه الذين سبقوه، إلا أنه مات على فراش المرض بتاريخ 19/1/1958 أثناء فترة إبعاده التي فُرِضَت عليه.

إن عبد السّلام وأمثاله من شرفاء هذا الشعب هم ثمار هذه الأرض الطيبة، وإن هذه التربة الطاهرة التي أنجبت هؤلاء الأبطال  تستحق منا كل الغالي والنفيس فلا نامت أعين الجبناء .

———————–

*مصدر معلومات المادة من والدتي جميلة عبد السّلام صبحي وإخوانها نهاد وحلوة وصالح صبحي، ومن جيل النكبة ابن أخ المناضل عبد السّلام السيد خليل صبحي.
*ماجدة صبحي: مهتمة بالتاريخ الفلسطيني والثقافة الشعبية، وهي حفيدة المجاهد عبد السلام صبحي.