في سياق سباق التسلّح مع الاتحاد السوفييتي، اتخذت الحكومة الأمريكية عام 1958 عدة قرارات من بينها إنشاء وكالة وزارة الدفاع لشبكة البحوث المتقدمة – داربا (Defense Advanced Research Projects Agency)، وكان هدفها الرئيسي خلق تكنولوجيا المستقبل التي ستزيد بالضرورة من القدرات الدفاعية للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها. لم تعرف (داربا) منذ ذلك الوقت حدوداً، ميدانها كل المجالات، البحث في كل ما يمكن أن يستخدم لأغراض عسكرية، ثم تزويد مختلف مؤسسات وزارة الدفاع الأمريكية بنتائج بحثها.

“بمعنى أو بآخر، كل الحروب تحصل بين أذنيك” (مورينو 2006)

“باختصار، داربا تجعل المستقبل يحصل الآن. الصناعة، الصحّة العامة، المجتمع والثقافة، كلّ هذه الأمور تطوّرت بفضل تكنولوجيا هذه الوكالة. داربا تصنع، داربا تتحكم، وفي ساحة المعركة، داربا لا ترحم” (جاكوبسن 2015)

المكان: الاتحاد السوفيتي، كازاخستان، محطة بايكونور الفضائية. الزمان: الساعة الثامنة وثمان وعشرون دقيقة مساءً، الرابع من تشرين الأول عام 1957. المهمة: إطلاق أول قمر صناعي إلى الفضاء، سبوتنيك-1. الهدف: تزويد الأرض بمعلومات حول غلافها الجوّي. نجحت المهمة، وأنجز سبوتنيك-1 1440 دورة حول الأرض، قبل أن يسحبه الغلاف الجوي إلى الأرض ثانية في الرابع من كانون الثاني عام 1958 بسبب ارتفاعه المنخفض نسبياً[1].

كان هذا النجاح بمثابة صفعة قوية للولايات المتحدة الأمريكية التي كانت آنذاك في حرب سباق تسلّح مع الاتحاد السوفييتي، وللرد على ذلك، اتخذت الحكومة الأمريكية عدة قرارات من بينها إنشاء وكالة وزارة الدفاع لشبكة البحوث المتقدمة – داربا (Defense Advanced Research Projects Agency)، وكان هدفها الرئيسي خلق ثورات في الشؤون العسكرية وضمان استمرارية التفوّق التكنولوجي لدولتها على بقية دول العالم. باختصار أقيمت هذه الوكالة لئلا تؤخذ الولايات المتحدة الأمريكية غيلة-مفاجأةً مرة أخرى، من خلال قيامها هي بصنع المفاجآت لغيرها، ولهذا السبب، أطلق عليها بعض المعجبين مسمى “عقل البنتاغون”[2].

أنشئت داربا إذاً بقرار من الكونغرس الأمريكي عام 1958 بهدف خلق تكنولوجيا المستقبل التي ستزيد بالضرورة من القدرات الدفاعية للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها. لم تعرف منذ ذلك الوقت حدوداً، ميدانها كل المجالات، البحث في كل ما يمكن أن يستخدم لأغراض عسكرية، ثم تزويد مختلف مؤسسات وزارة الدفاع الأمريكية بنتائج بحثها.

المثير للاهتمام هو أن داربا لا تقوم بهذا العمل بنفسها، فالوكالة لا تتعدى كونها حلقة وصل بين من يعمل بكدّ داخل إحدى مختبرات جامعة فيرجينيا وبين الصاروخ ذاتي القيادة الذي ضرب للتوّ سوقاً شعبياً في عدن. هذا التعاون الوثيق بين الموهبة “المدنية” وبين الاستخدام العسكري لها، وانهيار الحدود بين الجانبين واحد من أهم الدروس التي سنتعلمها في هذا النصّ.

من أجل فهم أفضل لداربا، تقسم الوكالة إلى ستّة مكاتب وظيفتها اعتماد ومتابعة المشاريع. في كل مكتب عدد من “منسّقي المشاريع”، ويشرف كل منسّق بشكل مباشر على عدّة مشاريع، ويشترط أن يكون بالأساس خبيراً بمجالها. هؤلاء المنسقون هم عملياً حصان الوكالة، فهم من يختارون الأفكار الجديدة لتزكيتها وبعضهم يشارك في طرح تلك الأفكار كذلك. وبعد اعتماد الأفكار، يخاطر هؤلاء بسمعتهم العلمية في سبيل تحويلها إلى حقيقة، والمخاطرة هنا ليست ببعدها الأخلاقي، وإنما بالمعنى التجريبي، وهو أحد أهمّ الأسباب الأربع لنجاح داربا، هي: أولاً: غياب الحسّ البيروقراطي في داربا، انطلاقاً من قناعة لدى الوكالة بأن العمل من “الأسفل إلى الأعلى” يضمن حريّة أكبر للباحثين، وبالتالي فرصة الإبداع تكون أوفر[3].

ثانياً: البقاء ضمن كادر وظيفي صغير نسبياً، أي ما يعادل 120 منسقاً للمشاريع سنويا[4]. ثالثاً:حريّة المخاطرة في تجريب الفكرة الواحدة. في وثيقتها الاستراتيجية لتغيير العالم لعام 2013، أكدّت داربا على أن “التجربة والخطأ” هو منهجها من أجل الوصول لتأثيرات حقيقة على العالم[5]. كذلك يقول جوناثان مورينو، صاحب كتاب “حروب العقل”، أن حوالي 90٪ من أفكار الوكالة تفشل عند تجربتها، ويسوق على ذلك مثال “الفيل الميكانيكي” الذي كان يفترض أن يطوف الغابات الفيتنامية خلسة، لكن، بمجرد أن تنجح إحدى هذه الأفكار، ستترك أثراً استثنائياً[6].

وعلى أيّة حال، إن العالم كما نعيشه اليوم هو نتاج العشرة في المائة المتبقية من هذه الحسبة، بالمعنى الفعلي للكلمة. رابعاً: الميزانية الضخمة لداربا. بلغت ميزانية الوكالة في السنة الضريبية المنصرمة 2,972,693 مليار دولار، أما في السنة الضريبية الحالية فقد تمّ اعتماد 2,973,036 مليار  دولار[7]. في الحقيقة، هذه الأرقام ضخمة فعلاً في حال تمت مقارنتها بدول أخرى، ففي روسيا على سبيل المثال، حدد صندوق البحث العلمي مبلغ 97 مليون دولار كميزانية لوكالة البحوث المتقدمة (Фонд перспективных исследований) التي أنشئت عام 2012 لنفس هدف داربا[8]. أما داخل الولايات المتحدة الأمريكية، فلا تمثّل هذه الأرقام إلا واحد في المائة من إنفاق الدولة السنويّ على البحث والتطوير، فقد بلغت ميزانية المؤسسة الوطنية للعلوم 7.724 مليار دولار للسنة الضريبية الماضية، و31.3 مليار دولار للمؤسسة الوطنية للصحة في نفس السنة[9].

إنجازات “داربا”

تاريخياً، عرفت داربا من خلال إنجازين كبيرين لها. كان الإنجاز الأول أنها اكتشفت وطوّرت الانترنت الذي بدأ العمل عليه عام 1966 وتم الإعلان عنه رسميا عام 1972 تحت مسمى داربا-نت. أما الإنجاز الثاني فهو أنها اكتشفت وطوّرت نظام الجي-بي-إس العالمي لتحديد المواقع.

إلا أن صاحبة كتاب “دماغ البنتاغون”، آن جاكوبسون ترى بأن النظر إلى داربا بهذه الطريقة يشبه النظر إلى شركة آبل بأنها من صنع جهاز ماكينتوش- 512K، وتقول: “داربا تجعل المستقبل يحصل الآن. الصناعة، الصحّة العامة، المجتمع والثقافة، كلّ هذه الأمور تطوّرت بفضل تكنولوجيا هذه الوكالة. داربا تصنع، داربا تتحكم، وفي ساحة المعركة، داربا لا ترحم”[10].

داربا ليست بمؤسسة عادية إذاً، كذلك أثرها، فعندما تؤدي إحدى أبحاثها إلى ثورة تكنولوجية في مجال ما، يتجاوز أثر هذا البحث بشكل لا مفر منه هدفه الأساسي وحدوده الجيو-استرايتيجة. وبالعودة إلى أعمال Pastor-Satorras & Vespignani (2004)، يؤكد محمود درماز في أكثر من مناسبة على أن داربا-نت ونجاحات أخرى للوكالة، لم تزد وحسب من القدرات الدفاعية للولايات المتحدة الأمريكية، بل تجاوزت هذا الهدف لتدعم كذلك القطاع الاقتصادي في هذه الدولة وفي العالم بأسره[11]، وهو ما يفسّر جزءاً مهماً من هيمنة القيم الأمريكية على ماكينة العولمة.

من جهة ثانية، تقول جاكوبسون في كتاب “دماغ البنتاغون” أنه وبمجرد أن تكشف الوكالة عن سلاح جديد لها في أرض المعركة، فإن تكنولوجيا هذا السلاح تصبح مشاعاً، إذ يستحيل منع الشعوب الأخرى من نسخ نفس السلاح وبالتالي امتلاكه، أو تطويره وبالتالي امتلاك ما هو أفضل منه.

ولنأخذ مثال الطائرات بدون طيار (الدرون) التي بدأت داربا العمل عليها في ستينات القرن الماضي، فقد احتاجت الوكالة ثلاثة عقود لتسليح أول درون، ثم ظهرت بعد ذلك في أول ضربة عسكرية لها في تشرين الأول عام 2001 في أفغانستان. ولو اعتبرنا هذا التاريخ ذروة التفوّق العسكري الأمريكي على العالم، يكفي أن نتذكر أن الحديث اليوم عن الطائرات بدون طيار لا يكون دقيقاً ما لم يبدأ بسؤال “أي جيل منها؟”، هذا يعني أن هذا السلاح قد تطوّر أجيالاً بعد أول ظهور له، سواء على يد مخترعها الأصلي أو على يد أمم أخرى. ويكفي أن نتذكر أيضاً أنه بحلول 2014، أصبحت 78 أمة تمتلك طائرات بدون طيار عسكرية[12].

لو وضعنا تطوير الانترنت والجي-بي-إس والطائرات بدون طيار جانباً، لداربا أيضاً مشاريع أخرى كثيرة شكّلت منعطفاً هاماً في تاريخ البشرية المعاصر، أنظر مثلا: تكنولوجيا المؤتمرات المرئية (videoconference)، Aspen Movie Map وتم اختراعه عام 1979 ليكون بمثابة خرائط جوجل اليوم، ثم كل ما يمكن أن يُشمل تحت إطار خطة داربا لتغيير العالم[13]، أو، مشاريع سدّ الفجوة (fill the gap projects) بين البحث العلمي والاستخدام العسكري لتطبيقاته الحقيقية، مثل: صاروخ ساتورن (Saturn rocke)، الرادار الأرضي، التكنولوجيا الصامتة كالمقاتلة الصامتة (Stealth Fighter) وصاروخ البريديتوار (Predator missile)، حتى فأرة الحاسوب ومن ثم تزويدها بآلية الـ”click”[14] كان من تصميمها.

كما أن الوكالة تعمل حتى اليوم على تطوير أنظمة الإنسان الآلي والأطراف الصناعية، وهي أيضاً كلمة مفتاح في مشاريع “اندماج الآلة بالإنسان” أو ما يعرف بالسايبورغ المتوقع أن تغيّر جذرياً شكل وباراديغم العالم الذي نعيش فيه.

من الصعب عملياً عرض كلّ مشاريع داربا أو إنجازاتها مرّة واحدة، لسبب بسيط، وهو أن الوكالة توقّع سنوياً عقداً لخمس سنوات مع ما يراوح مئة وعشرين منسق مشاريع، كثير منهم يشرف على أكثر من مشروع في نفس الوقت. في العام الماضي مثلاً، بلغ كادر داربا مئتي موظف، منهم مئة منسق أشرفوا على مئتين وخمسين مشروعاً وألفيّ عقد بحثي مع جامعات ومؤسسات مختلفة[15].

بكلّ الأحوال، ما يهمني بشكل خاصّ هو العمل الذي قامت به الوكالة لتعزيز الإنسان-الجندي نفسه. بكلمات أخرى، العلم الذي يجعل من الجنود أكثر قوّة، يقظة، أسرع وذوي قدرة أطول على التحمّل في مواجهة فوضى المعركة، هكذا كما جاء على لسان مدير عام داربا توني تيتهر أمام أعضاء الكونغرس عام 2003 [16].

يمكن أيضاً أن يُقرأ هذا كانتباه متزايد من قبل وكالة داربا، كممثل عن الجيش الأمريكي، على العلوم الطبيعية البحتة، وبشكل خاص، البيولوجيا وعلم الأعصاب لتحقيق غايات عسكريّة. في الحقيقة، إن أهم درس تعلمته خلال قراءتي عن داربا هو أنّ العقيدة العسكرية (تبعاً لكيف نقوم بحروبنا، ولما نصنع جنودنا، ولكيف نفكّر العالم، وبالتالي، لكيف نضع أولوياتنا في البحث، إلخ.) مرتبطة جدلياً بالخصم (من هو عدوّي)، لكن كيف؟ قلت سابقاً بأن إنشاء داربا كان بسبب ولمواجهة الاتحاد السوفييتي، أو لما أطلق عليه العديد من الجنود الفرنسيين الذين قابلتهم (في بحث سابق) بـ “العدوّ الأحمر”.

وذلك لم تختف وكالة داربا بمجرد انهيار “النظام الشيوعي” بين عاميّ 1990-1991، لأن الحرب كما هي لم تختف بعد، وإنما، كما قلت في نصّ سابق عن الثورة في الشؤون العسكرية، وبالتحديد، في البعد العقائدي لها، بيئة النظام الأمني العالمي هي التي تغيّرت.

وهنا نذكر أن الحرب على الإرهاب هي المثال الأكثر صراحة على عقيدة عسكرية جديدة تمت فيها إعادة تعريف العدوّ من تقليدي، ثقيل، بيروقراطي، متوقّع إلخ. (حداثي)، إلى عدوّ لا متكافئ، معولم، مرن، غير متوقع، إلخ. (ما بعد حداثي)، تماماً كفايروس في الهواء يصعب كشفه ومكافحته بنفس أدوات العقيدة العسكرية التقليدية.

والحرب على الإرهاب هي حرب بيولوجية بامتياز، يتم فيها استحداث أدوات جديدة متنوعة، أكثرها إثارةً للانتباه “طابعات الدماغ” في المطارات التي تستطيع أن تكشف “النوايا العدائية” لدى الأفراد من خلال قراءة لغة أجسادهم وما تبعثه من رسائل حسيّة يمكن فكّ شيفرتها عن بعد[17]. ولهذا السبب أيضاً، أعلنت داربا عام 2002 عن برنامجها الجديد “من البيولوجيا إلى التطبيق العسكري” (Applications of Biology to Defense Applications) بميزانية 77.773 مليون دولار[18]. وقد شمل البرنامج مشاريع عديدة نستطيع بقراءة عناوينها فقط أن نلمس أثر تغيّر تعريف العدوّ لدى داربا على طبيعة عملها، أبرز هذه المشاريع:

Continuous Assisted Performance (CAP), Metabolic Dominance (MD), Persistance in Combat (PiC), Metabolic Engineering (ME).

إذن، لو كان سؤال “من هو عدوّي” سؤالاً استفهامياً، لكانت الإجابة، “أنا عدوّي”!

في كتابه “حروب العقل”، يُلخص جوناثان مورينو هذا البرنامج وجهود داربا الجديدة في سبيل تعزيز القدرات الجسدية والعقلية-العاطفية للجنود في ستة عشر نقطة أهمها:

“بيولوجيا الحفاظ على أداء المقاتلين ضمن الحدّ الفعّال، بيولوجيا الحدّ أو للتقليل من آثار الإصابة بعد المعركة وكذلك للتعافي السريع بعد الإصابة، بيولوجيا الحفاظ على الصحة العامة للقوات المنتشرة في الميدان، أنظمة محاكاة بيولوجية، تقنيات جديدة للتقليل من العبء اللوجستي أثناء معالجة المصابين في الميدان، تطبيقات عصبية لأدوات جديدة في فهم وتوقع سلوك الأفراد والجماعات إلخ. (أنظر في الحاشية[19]).

أمثلة عمليّة: تكنولوجيا اندماج الإنسان والآلة

الجندي السايبورغ ليس عنواناً لفيلم جون ستيد فقط، وإنما مجموعة الأبحاث العلمية والتطورات التكنولوجية التي بدأتها داربا في مجال اتصال/ربط/تواصل/تداخل/اندماج (من الآن وصاعداً سأعتمد كلمة اندماج كترجمة عربية لأنها برآيي الأكثر تعبيراً عن جوهر هذا المجال) الدماغ-الحاسوب (brain–computer interfaces (BCI)) منذ عام  1970 أيضاً. لكن، ما هو اندماج الدماغ-الحاسوب، وما هي جذوره التاريخية؟

هو بداية نظام إشارات يلعب دور الوسيط بين الدماغ والحاسوب، أما دافع داربا للاهتمام به فهو الأمل في القدرة على إعادة ضبط الوظائف العصبية والسلوكية للإنسان بعد الأزمة، وتحسين نوعيّة التدريب والأداء العسكري[20]. المرة الأولى التي ظهر فيها هذا البرنامج لم تكن عن طريق داربا، بل كانت عام 1964 على يدّ الباحث التجريبي غراي والتر الذي أظهر إمكانية التحكّم بـ”بروجيكتر” عن طريق إشارة électro-encéphalogramme non-invasive تمّ تسجيلها مسبقاً أثناء نشاط حقيقي لدماغ أحد الأشخاص[21].

ما قام به والتر بالتحديد هو: أولاً، تثبيت أقطاب كهربائية على المناطق الرئيسية للدماغ. ثانياً، طلب الباحث من صاحب الدماغ أن يقوم بتغيير الشريحة في “البروجيكتر” من خلال الضغط على رزّ ما من أجل تسجيل نشاط الدماغ أثناء قيامه بهذا الأمر. ثالثاً، قام بإضافة هذه الإشارة العصبية إلى إعدادات “البروجيكتر”. وأخيراً، قام بتوصيل نظام الأقطاب الكهربائية بالـ”بروجيكتر” بحيث تتغير الشريحة تلقائياً عندما يتوافق نشاط الدماغ، أي تفكير الشخص الموصول بالـ”بروجيكتر”، مع الإشارة العصبية المسجلّة فيه، وقد نجح ذلك بالفعل، وكانت هذه هي المرة الأولى تاريخياً يتحقق فيها مفهوم التحكّم عن بعد[22].

بعد خمس سنوات من هذا النجاح وبناء عليه، اكتشف ابيرهارد فيتز أنه بمكافأة بعض الرئيسيات غير البشرية لجعلهم أكثر يقظة، جنباً إلى جنب مع توثيق ردود الفعل السمعية أو البصرية على مستوى إطلاق الخلايا العصبية في القشرة الحركية في الدماغ، أن هذه الخلايا يمكن تحسينها جراحياً لزيادة مستوى انطلاقها من 50% إلى 500%[23].

ومن ثم في العام 1971 ظهر مصطلح “اندماج الدماغ-الحاسوب” )(brain-computer interface (BCI) على يد جاك فيدال الذي وضع أيضاً خطة بحث تجريبية متكاملة لإدماج الانسان بالحاسوب[24].

لم تنتبه داربا إلى هذا الحقل الواعد إلا عام 1974، السنة التي أعلنت فيها تدشين برنامج « Close-Coupled Man/Machine Systems »، عرف أيضاً باسم « Biocybernetics » الذي اعتمدت داربا فيه هذه النجاحات السابقة ووسّعت فكرة إمكانية اندماج الدماغ بالآلة إلى إمكانية التحكم بحالات عصبيّة حيوية كاليقظة، التعب، المشاعر، اتخاذ القرارات، الإدراك بشكل عام وقدرات أخرى عقلية. في عام 2002، ذهبت الوكالة رسمياً إلى أبعد من ذلك وأعلنت عن برنامجها الخاص باندماج الدماغ-الآلة ((Brain Machine Interface (BMI) وشمل البرنامج عدّة مشاريع أكثرها أهمية وتعقيداً مشروع “تعزيز الإدراك” (Augmented Cognition) ويعرف اختصاراً بالـ “AugCog”[25].

تقوم فلسفة “تعزيز الإدراك” أو “الإدراك المعزّز” على فكرة بسيطة، بينما تتطوّر التكنولوجيا من حولنا بجنون، تبقى القدرات الإدراكية البشرية على نفس التردد، لذلك، يجب التدّخل من أجل ترجيح كفة الميزان لصالح الإنسان، ولتسهيل تعامله مع الآلة. تقنياً، “تعزيز الإدراك” هو تكنولوجيا تهدف إلى تحسين اندماج الدماغ بالآلة من خلال ضبط أنظمة المعلومات لديه بما يتناسب مع حدود قدرات المستخدم[26]، بكلمات أخرى، مراقبة ومتابعة وقياس الحالات العقلية للجندي على سبيل المثال، ثم معالجة هذه البيانات واستغلالها في تحسين بيئة المستخدم وضبطها بما يناسب حالة المستخدم في لحظة ما. النتيجة بحسب ديلان شمورو وايمي كروز يفترض أن تكون أداءاً أفضل في الظروف الصعبة وبعدد أقل من الأفراد[27].

البروتوكول التجريبي للإدراك المعزز ينقسم إلى مرحلتين رئيستين: أولاً، القيام بمسح امبريقي لقدرات الفرد النفس-فيزيائية المختلفة من أجل تحديد طبيعة ومستوى التغيرات في النشاط الذهني أثناء القيام بأمر ما في الوقت الحقيقي. ثانياً، القيام بتجربة اندماج ميكانيكي (Technical Integration Experiment (TIE)) يتم فيها خلط أكثر من حالة نفس-فيزيائية جنباً إلى جنب مع مراقبة التغيرات التي تطرأ على النشاط الذهني عند الانتقال من أمر إلى آخر[28]. الهدف من هذا في النهاية هو الحصول على قدرة دماغية مثاليّة في بيئة مثاليّة. وبكلمات أكثر أصالة، وصفت داربا هذا المشروع كما يلي:

“سيقوم برنامج تعزيز الإدراك بتعزيز قدرة الإنسان-الحاسوب على إدارة المعلومات من خلال تعزيز القدرة الإدراكية للدماغ في ظروف خارجية مجهدة ومتنوعة. وبشكل خاص، سيطوّر البرنامج التقنيات اللازمة لقياس وتتبع الحالات النفس-فيزيائية في الوقت الحقيقي لحدوثها. وذلك لأن الحياة العسكرية غالباً ما تضع الجندي في وضع معقد بين الإنسان والآلة فلا يستطيع تجاوز الظروف القاسية التي يواجهها. التكنولوجيا قيد التطوير في برنامج تعزيز الإدراك ستوفر القدرة على مضاعفة القدرات التشغيلية للجندي-الآلة، وستدعم كذلك إمكانية القيام بمهام عديدة وكبيرة بأقل عدد ممكن من الأشخاص”[29].

من الصعب عملياً معرفة المستوى الحقيقي الذي وصلت إليه داربا في برنامج تعزيز الإدراك، خصوصاً عندما تكون المشاعر موضوع الحديث، والتي تعمل الوكالة بالشراكة مع مركز ماساشوستس للتكنولوجيا (MIT Media Lab) على تطوير أجهزة استشعار خوارزمية تستطيع التعرّف على الحالات الانفعالية حال وصولها. إلا أن مورينو يؤكد بأنه لا يمكن حتى الآن تقييم هذه الحالات والتعامل معها بشكل فعّال. المشكلة الأخرى التي ترافق تكنولوجيا تعزيز الإدراك، هي أنها تزوّد الجنود بما لا طاقة لهم به من معلومات وبدون تنسيق مع حالتهم النفس-فيزيائية كما افترض أن تكون هذه هي فلسفة البرنامج، الخوذة القتالية “Helmet Mounted Cueing System” على سبيل المثال، تظهر أمام الطيارين رسائل من لوحات التحكم في الطائرة وفي مركز القيادة بدون الأخذ بعين الاعتبار حالة الجندي النفسيّة[30].

بكل الأحوال، هذه عينة بسيطة من أعمال داربا في مجال الانسان السايبورغ، وهي عينة صغيرة مقارنة بالمجال ككلّ، وسنرى في الجزء الثاني تطبيقات أخرى قامت مؤسسات متنوعة غير داربا بالعمل عليها، مثل: اللباس العسكري الحرباة (Tenues caméléon)، منظومة Land Warrior ونظيرها Félin في فرنسا، مشاريع الخوذة العسكرية المتقدمة، برنامج الهياكل الخارجية للجنود (exoskeleton) وغيرها. تكنولوجيا طبيّة وغذائية

التعب، أو بالأحرى، الأخطاء الناجمة عن التعب تعتبرها جيوش اليوم “نيران صديقة” تسبب الموت والفوضى كما يسببها العدوّ. عام ٢٠٠٣، قام طياريّن أمريكيين عن طريق الخطأ بقتل أربعة جنود كنديين وجرح ثمانية آخرون. أثناء المحاكمة، أظهر محامي هؤلاء الجنديين وثائق تثبت تعاطي عملاؤهم الديكسيدرين (Dexedrine) قبل الحادث، يعرف أيضاً بـ “go pill أو speed” وكان الجيش نفسه هو من يزوّد جنوده بهذه العقاقير كالأمفيتامين أيضاً (Amphétamine) كي تبقيهم في حالة تأهب مدة ٣٠ ساعة من المهام[31]. بعد هذه الحادثة، قرر الجيش الأمريكي مباشرة البحث عن بديل معقول.

في الحقيقة، الممارسات الغذائية والطبيّة للبقاء يقظاً متأهباً ولمحاربة النعاس والكسل وجدت على طول مدار التاريخ. حراس سور الصين العظيم كانوا يمضغون عشبة تحتوي على الإفيدرين، محاربو الإنكا كانوا يمضغون أوراق الكوكا، الضباط البافاريين أعطوا جنودهم الكوكائين، المقاتلين اليمنيين يمضغون حتى الآن عشبة القات، العديد من جنود الحرب العالمية الأولى تعاطوا الأمفيتامين، الجنود الفرنسيون في حرب الخليج الأولى والجنود الأمريكيون في حرب الخليج الثانية تعاطوا المودافينيل (Modafinil) [32]. بالإضافة إلى الكميات ضخمة من الكافيين التي تستهلكها الجيوش حول العالم. وأقوم حالياً بتجربة مع مجموعة من الجنود الفرنسيين لمعرفة أثر مضغ “العلكة” على أدائهم في الجيش.

صادقت عليه هيئة الغذاء والعقاقير الأمريكية (FDA) عام ١٩٨٨، المودافينيل كان البديل الأكثر ملائمة ليحلّ محل الديكسيدرين، يعرف أيضاً بـ “Provigil” وتم تطويره لعلاج حالات نوبات النعاس اللاارادية (narcolepsie) والأمراض المصاحبة لاضطرابات النوم كالباركينسون والزهايمر، وغيره. من خلال زيادته لمعدل السيروتونين في الدماغ.

يعتقد مورينو أن تركيبة هذا العقار غير مفهومة حتى اليوم، صحيح أن بعض الأبحاث في مجال “التجربة العمياء” أظهرت أن المودافينيل يستطيع أن يبقي بعض الأفراد بدون نوم مدة ثمانين ساعة. إلا أن الأهم من هذا هو، معرفة ما إذا كان بإمكان هذا العقار أن يحل محلّ النوم الطبيعي أم لا؟ الجنود بكلّ الأحوال في موضع لا يحسدون عليه، من جهة، لا ينبغي لهم أن يبالغوا في تقدير قدراتهم الأدائية، ومن جهة أخرى، جهاز المناعة العصبية النفسية لديهم يمكن أن يتلف بسبب نقص النوم على المستوى البعيد[33].

لكن بلا شكّ، لم تغب هذه القضية عن بال داربا، ففي عام 2003، وقّعت الوكالة عقداً بقيمة 280,000 دولار (ثم  941, 101دولار في نفس السنة، 720,000 في 2004، و مليون و520 ألف في 2005، ومليون و580 ألف في 2006)  [34]مع جامعة Northwestern لبرنامج مكافحة الأرق (Preventing Sleep Deprivation) الذي تطلّع حينها إلى منع حدوث تناقص أدائي على المستوى العقلي عند الحرمان من القسط الكافي من النوم أو عدم النوم إطلاقاً.

قد يبدو هدفاً بعيد المنال، إلا أن الإجابة جاءت من تجربة أجريت في جامعة Wake Forest قام فيها الباحث بإعطاء مجموعة من القردة (المكاك الريسوسي) تعاني من الأرق المستمرّ جرعة صغيرة من الأمفاكين (Ampakine)، والأخير عقار يستخدم عادة في علاج العته والانفصام من خلال تعزيز القدرات العقلية للمصاب في حال تم وصفه مع مضادات للذهان. كانت النتائج مذهلة، ففي حالة الأرق، تناقص الأداء العقلي للقردة ما بين 15 إلى 25٪، وكانت ردود أفعالهم أبطأ مرتين من الحالة الطبيعية. أما عندما أخذوا جرعة واحدة من الأمفاكين (CX717)، اختفى هذا العجز بشكل كامل[35].

في النهاية، بينما تدّعي الشركة المصنّعة لـ CX717 بأن حوالي ستين شخصاً يعانون من اضطرابات في النوم قد تحسّنت ذاكرتهم وانتباههم بعد تعاطيهم الأمفاكين، هناك دراسة تجريبية عن آثار الأمفاكين على الأداء ويقظة الأفراد قام بها وينيستين وآخرون عام 2007 وصلت إلى نتيجة مفادها أن ثلاثة جرعات من الـ CX717 لم تكن كافية لحدوث أي تحسّن يذكر على أداء الأفراد ويقظتهم، وأنه ربما، لو تم زيادة الجرعات إلى أكثر من ثلاث، يمكن الحصول على نتيجة إيجابية، لكن، زيادة نسبة الجرعات يعني زيادة المخاطر المحتملة[36].

إذن، بالرغم من نجاح التجربة الأولى في جامعة Northwestern، يبقى الأمفاكين وتطبيقات غذائية وطبية تجريبية موضع السؤال، خصوصاً عندما يكون الإنسان ذاته موضوع التجربة. لكن بلا أدنى شكّ، هذه الجرأة في التجربة والخطأ هي الأساس الذي قامت عليه داربا لضمان استمرار تفوّق دولتها على بقية دول العالم، وهو فقط ما يجعل من المستقبل شيئاً يحصل الآن.

هنا يكمن اللغز الذي خبأه التاريخ وسار عليه، وهنا كلمة السرّ لفهمه، وإنّ أية مجهود للمساهمة في هذا المجال، مهما كان متواضعاً، سيضيف إلى هذه الماكينة مسننتين، واحدة لمستقبل شعبه، وأخرى للبشرية. ولم أبالغ حين قلت ذات مرة لصديقي أني أؤمن بأن الفأس الذي يحفر خندقاً في غزة يضيف برغيّاً إلى المركبة التي ستسافر بنا إلى أعماق هذا الكون.

شكل رقم (1): برنامج مكافحة الأرق – داربا[37]

darpa

تابع/ي القراءة: داربا: صناعة المستقبل (2)

******

الهوامش:
[1] McCorry, Wendy, Sputnik’s Fifty Year Legacy, Astronotes, October 2007, pp. 1-3.
[2]Jacobsen, Annie, The Pentagon’s Brain, Back Bay Books, New York, 2015, pp. 5-7.
[3] Durmaz, Mahmut, Defense technology development : does every country need an organization like DARPA ?, Innovation 18 : 1, 2016, p. 3.
[4] Annie Jacobsen, op.cit., p. 6.
[5] Driving Technological Surprise : DARPA’s Mission in a Changing World, April 2013, p. 2.
[6] Jonathan D. Moreno, Maind Wars : Brain research and national defense, Dana Press, New York, 2006, p. 12.
[7] Department of Defense, Fiscal Year (FY) 2017 President’s Budget Submission, February 2016, Vol 1, p. v. Department of Defense, Fiscal Year (FY) 2017 President’s Budget Submission, February 2015, Vol 1, p. v. [8] Mahmut Durmaz, op.cit., p.7.
[9] Ibid., p. 4.
[10] Annie Jacobsen, op.cit., p. 8.
[11] Mahmut Durmaz, op.cit., p. 2-5.
[12] Annie Jacobsen, op.cit., p. 9.
[13] Driving Technological Surprise: DARPA’s Mission in a Changing World, 2013 : http://www.defenseinnovationmarketplace.mil/resources/DARPAStrategicPlan.pdf.
[14] Jonathan D. Moreno, op.cit., p. 12.
[15] Mahmut Durmaz, op.cit., p. 4.
[16] Jonathan D. Moreno, op.cit., p. 11.
[17] Ibid., p. 76.
[18] Department of Defense, Fiscal Year (FY) 2005 Budget Estimates, February 2004, p. 5.
[19] « Biological approaches for maintaining the warfighter’s performance, capabilities and medical survival in the face of harsh battlefield conditions ; Biological approaches for minimizing the after-effects of battle injuries, including neurotrauma from penetrating and non-penetrating injuries as well as faster recuperation from battlefield injury and wounds ; Approaches for maintaining the general health of deployed troops ; Bio-inspired systems ; Biomolecular motors and devices ; Biological approaches to the growth of materials and devices ; Understanding the human effects of non-lethal weapons ; Micro/nano-scale technologies for non-invasive assessment of 
health (e.g., vital Signs, blood chemistry) ; Technologies to enable remote interrogation and control of biological systems at the system/organ/tissue/cellular/molecular scales ; Investigation of the interactions between physical forces, material and biology (e.g., interface of biology with magnetics) ; Novel mathematical and computational approaches to characterizing and simulating complex biological processes ; New technologies to drastically reduce the logistics burden of medical treatment in the field ; Advanced signal processing techniques for the decoding of neural signs in real time, specically those associated with operationally relevant cognitive events, including target reduction, errors, and other decision-making processes ; Novel interfaces and sensor designs for interacting with the central (cortical and subcortical structures) and peripheral nervous systems, with a particular emphasis on non-invasive and/or noncontact approaches ; New approaches for understanding and predicting the behavior of individuals and groups, especially those that elucidate the neurobiological basis of behavior and decision making ; and Technologies to engineer field medical therapies at the point of care, such as production of multiple drugs from a single pro-drug, or to adapt therapies for wide variations in body mass, metabolism, or physiologic stress. ». Jonathan D. Moreno, op.cit., pp. 12-13
[20] Miranda et al, DARPA-funded efforts in the development of novel brain–computer interface technologies, Journal of Neuroscience Methods, 244, 2015, p. 52.
[21] Graimann et al., 2010. Cité dans : Ibid., p. 53.
[22] Graimann et al., Brain–Computer Interfaces, The Frontiers Collection, Springer-Verlag, Berlin, 2010, p. 2.
[23] Fetz, 1969. Cité dans : Robbin A. Miranda et al., op.cit.
[24] Vidal, 1973. Cité dans : Ibid.
[25] Ibid.
[26] St. John et al., Overview of the DARPA Augmented Cognition Technical Integration Experiment, International Journal of Human-Computer Interaction, 17 : 2, 2004, p. 131.
[27] Jonathan D. Moreno, op.cit., p. 51.
[28] Mark St. John, op.cit., p. 132.
[29] Jonathan D. Moreno, op.cit., p. 52.
[30] Ibid.
[31] Ibid., pp. 114-115.
[32] Ibid., p. 116.
[33] Ibid., pp. 115-116.
[34] DARPA’s website : http://www.dod.mil/pubs/foi/Reading_Room/DARPA/.
[35] Jonathan D. Moreno, op.cit., p. 118.
[36] Wesensten et al, Ampakine (CX717) Effects on Performance and Alertness During Simulated Night Shift Work, Aviation, Space, and Environmental Medicine, 78 : 10, 2007, p. 943.
[37] DARPA’s website, op.cit.