يوّفر التدفق الهائل للمعلومات للقادة الميدانيين الفرصة لاتخاذ قراراتهم بشكل لحظيّ وبمستوى أعلى من الدقة والسّرعة، الأمر الذي يتيح لهم تفوقاً هائلاً على العدوّ. ويمكن بهذا المنظار النظر إلى الجيوش والبنية العسكريّة المتفوقة والتي تشمل القدرات البريّة والجوّية والبحريّة التي يملكها الغرب، فقوة هذه البنية تستند بشكل كبير إلى توافر طرق تواصل فورية، وتدفق سريع وسلسل للمعلومات الدقيقة من ساحة المعركة إلى مراكز القيادة والتّحكم وبالعكس.

نشهدُ اليومَ تطورًا هائلاََ في تكنولوجيا الاتصال والتّواصل، بحيث أصبح نقلُ المعلوماتِ أكثرَ سرعةً وسهولةً، ويتم بشكلٍ لحظيٍّ ومباشرٍ عن طريق “الستالايت”، “والانترنت”، والألياف البصريّة، وغيرها من الأدوات التّكنولوجيّة. ولقد أدى هذا التّطور إلى تغيير عالمي في مختلف مجالات الحياة، الاجتماعية منها كتأثيره على العلاقات والنسيج المجتمعيّ، والاقتصادية كتأثيره على وسائل الإنتاج، وبطبيعة الحال كان لذلك التّأثير على طبيعة الحروب وأساليبها.

ومع تصاعد أهمية الشّبكة العنكبونية وتكنولوجيا الاتصال، ودورها المتعاظم الذي لا يمكن الاستغناء عنه في تنظيم عمل القطاعات المدنية من مواصلات عامّة، وشبكات الكهرباء والمياه، والمعاملات البنكية، ومختلف تفاصيل الحياة اليوميّة وصولا إلى التفاعلات الاجتماعية الإلكترونية، تعاظمت أهمية حروب المعلومات، واتسعت دائرة الدراسات الأكاديمية المعنيّة بهذا المجال. وبرزت هذه الأهمية بالذات في سياق الحروب غير التقليدية والمواجهات اللامتماثلة.

ويمكن القول إن الحاجة المعلوماتية المعقدة في الحروب كانت إحدى الركائز الأساسية في تطوّر تكنولوجيا المعلومات في الأساس، ومن ذلك أن “الانترنت” تطوّر في أقبية وزارة الدفاع الأمريكية، وأن خاصية الـ GPS المرتكزة على الأقمار الصّناعية بدأت في قطاع الصناعات العكسريّة الأمريكية.

عادةً ما يخرج التّطور التّكنولوجي المعلوماتي من رحم حاجة الجيوش لتطوير وسائل القتال والتواصل والتنظيم اللوجستي، خاصّة أن هذه الوسائل ذات أهمية جوهرية في خوض الحروب والانتصار فيها، إذ تعتمد القدرة على اتخاذ قرارت تكتيكية سريعة وبتنسيق عال في مسار المعارك وبالأساس على سرعة نقل المعلومة، وهذه القدرة هي إحدى أهم الأعمدة في تحديد قدرة الجيوش في التغلب على خصومها. ويحفل التّاريخ بأمثلة كثيرة لارتباط تطور تكنولوجيا التّواصل مع الحروب المتلاحقة،  بدءًا من استخدام البرقيات في الحرب الأهلية الأمريكية في أوساط القرن التّاسع عشر، مرورًا باستخدام الراديو والرادار في الحربين العالميتين الأولى والثّانية، ووصولا إلى الستالايت والإنترنت وغيرها في حروب اليوم.

يوّفر التدفق الهائل للمعلومات للقادة الميدانيين الفرصة لاتخاذ قراراتهم بشكل لحظيّ وبمستوى أعلى من الدقة والسّرعة، الأمر الذي يتيح لهم تفوقًا هائلا على العدوّ. ويمكن بهذا المنظار النظر إلى الجيوش والبنية العسكريّة المتفوقة والتي تشمل القدرات البريّة والجوّية والبحريّة التي يملكها الغرب، فقوة هذه البنية تستند بشكل كبير إلى توافر طرق تواصل فورية، وتدفق سريع وسلسل للمعلومات الدقيقة من ساحة المعركة إلى مراكز القيادة والتّحكم وبالعكس.

وفي ظل التفوق الجوّي وعصر المعلومات، تزايدت النقاشات حول طبيعية الحروب وأصبحت مفاهيم كـ “الثورة في الشّؤون العكسريّة” (Revolution in Military Affairs) هي الغالبة عند الحديث عن القوّة الأمريكية وقدرتها على التّحكم في الفضاء العملياتي، وارتباط هذا التّحكم أساسًا بالقدرة التّكنولوجية التي سهّلت من عمليات التحكم بالقوّة الجويّة.

ومن أبرز الأمثلة على ذلك حرب الخليج الأولى، التي استطاعت فيها القوات الأمريكية التّغلب على القوات العراقية بخسائر قليلة، ليتم نسب الفضل في هذا الانتصار إلى القوّة النابعة من التّطور في تكنولوجيا الاتصال لدى الأمريكان. ومن ثمّ أتت حرب البلقان لتؤكد صحة المقولة حيث لم يقتل في العمليات العكسريّة الأمريكية جندي أمريكي واحد، بفضل الاعتماد التامَ على القوة الجوّية المرتبطة أساسًا بالثّورة التكنولوجية.

ولم يعد الجيشُ اليوم مكوّنًا، كما الجيوش التّقليدية، من سلاح البحر والبر والجو فقط، بل أصبحت هناك وحدات جديدة تتواءم مع هذا التطور التّكنولوجي. فمثلا تتصاعد في الوقت الراهن أهمية وحدات السايبر (Cyber)، والتي تقوم بعدة عمليات أهمّها حماية المرافق العامّة والمدنية من هجوم إلكتروني عدائي يعطل عملَها، أو من عملٍ تخريبي افتراضي يضرب قلب الدولة وأجهزتها دون الحاجة لإطلاق رصاصةٍ واحدةٍ.

ويفترض من تلك الوحدات تطوير قدرات هجوميّة إلكترونية تستطيع شلّ قدرات الخصم. وهنا تظهر أن أهمية استحداث وحدات مختصة في حماية المنظومة المعلوماتية المرتبطة بأجهزة الاتصال، هي أهمية متعلقة بصيرورة الحياة اليومية، خاصّة لدى المجتمعات الغربيّة التي ترتبط تفاصيل حياتها بهذه الأنظمة والتعقيد التكنولوجي.

وبتأثير ذلك كثرت الأفلام والمسلسلات التي ترسم معالم حروب إلكترونية معبرة عن القلق والهاجس عند المجتمعات الغربيّة، كان أحدثها (Mr. Robot) الذي يتناول قصة شاب يتورط مع مجموعة من “الهاكرز” أو مخترقي أنظمة المعلومات في ملحمة لمحو ديون جميع البشر من خلال اختراق البيانات البنكية لتلك الديون.

ومع تزايد الاحتفاء في أروقة الجيوش الغربيّة بنجاعة عملياتها العسكريّة منذ حرب الخليج بفضل التكنولوجيا، ازدادت في المقابل النقاشات حول الاعتمادية الهائلة على تكنلوجيا المعلومات في خوض الحروب. ففي الوجه الآخر لهذه النجاعة هناك إمكانيةٌ لتحوّل هذا التفوق التكنولوجي إلى اعتمادية سلبية قد تشكل ضعفًا بنيويًا، معرضةً بذلك العمليات العكسريّة لخطرٍ حقيقي، خاصّة أن التكنولوجيا أصبحت متاحة أيضًا للخصوم. فقد أدّت ثورة المعلومات وانتقالها إلى الحيز المدني إلى ارتفاع إمكانية وقوع هجمات إفتراضية عليها، ما لذلك من تبعات خطيرة على البنى المدنية والعكسريّة للدول الغربيّة، وهي هجمات تصنف ضمن “حرب المعلومات”.

وعندما نتحدث عن حرب المعلومات فنحن نتحدث عن مفهوم جامع لا يقتصر على الحروب الافتراضية أو حروب السايبر، بل يشمل كذلك على سبيل المثال قيام الجيش الصّهيوني بإلقاء بيانات كتلك التي يلقيها على قطاع غزة كجزء من الحرب النّفسيّة، ويطالب من خلالها بإخلاء السّكان. كما يشمل مفهوم حرب المعلومات وسائل الاعلام ومنها وسائل التّواصل الاجتماعي وما تنشره من مواد. أي أن حرب المعلومات هي “مجموع الأفعال المتخذة في مساندة الأهداف المنشودة من العمليات العكسريّة، والتي تؤثر في منظومة المعلومات أو في طبيعة ونوعية المعلومات لدى العدوّ، أو تلك العمليات التي تختص بالدفاع عن منظومة المعلومات وبيئة المعلومات التي تمتلكها أنت”.

ويمكن تقسيم طبيعية العمليات المندرجة تحت حرب المعلومات إلى أربعة أقسام: الحرب النّفسيّة، وعمليات ضدّ البنى التّحتيّة من خلال شبكات الاتصال، والخداع والتّخفي، والحروب الإلكترونية. أي أن حرب المعلومات هو مصطلح يتضمن مساحة واسعة من العمليات المختلفة التي قد تتخذ أشكالا مختلفة، منها “التعتيم العكسريّ” في الإعلام على قضايا عملياتية، وضرب البنى التّحتيّة من خلال الاختراق الإفتراضي للأجهزة المشغلة، أو لربما الاختراق الافتراضي – البشري (أي ربما شارك فيه عامل بشري عميل)، كما يرجح أنه حصل في الضّربة الإلكترونية الأمريكية لأجهزة الطّرد النّووية الإيرانية من خلال جرثومة أو دودة افتراضية في أوائل العام 2011 سميت بـ Stuxnet. وإلى يومنا هذه تبقى عملية Stuxnet والعمليات التي استهدفت جورجيا في حربها مع روسيا هي الأكثر تعقيدًا في سياق حروب السايبر. وبالطبع أتى رد إيران سريعًا من خلال استهداف مصالح أمريكية وصهيونية كاستهداف شركة أرامكو في الخليج.

وفي سياق الحروب اللامتماثلة تشكّل اعتمادية الدول والبنى العكسريّة للقوى الغربيّة على أنظمة المعلومات الحديثة في خوض حروبها ضعفًا يمكن للطرف المقابل استغلاله في مضاعفة قوته وقدرته على التأثير العسكري. إن أية ضربة إلكترونية أو نفسية أو ضربة للبنى التحتية المدنية أو العسكرية من قبل الطرف “الأضعف” – الذي غالبًا ما يعتمد حرب العصابات- سيكون تأثيرها على الجيوش التقليدية مضاعفًا. في المقابل لن يجدي ردّ القوّة العسكرية التقليدية لأنه لن يحقق النتائج ذاتها.

والمثال على ذلك واضحٌ في حالة المقاومة في غزة والعدوّ الصّهيوني، إذ أن المقاومة في غزة لا تعتمد أساسا على أنظمة المعلومات الحديثة، بل تعتمد على أساليب الكرّ والفرّ وغيرها من تكتيكات حروب العصابات أو البنى العكسريّة الهجينة، وبالتّالي فإن الضربات الإلكترونية أو ضربات البنى التحتية لن تؤثر فيها بنفس الدرجة، لأن الحياة في غزة لا تعتمد على “أنظمة المعلومات” في صيرورة الحياة اليومية، عدا عن انعدام “الحياة الطبيعية”.

وظّفت المقاومة أدوات مختلفة في سياق هذه الحروب، منها اختراق كاميرات المراقبة الصهيونية، والطائرات دون طيار والتي تم الكشف عنها بعد اعتقال مجد عويضة بداية العام الحالي. وقد استطاعت المقاومة اختراق كاميرات المراقبة الصهيونية التابعة للجيش، كما تبين بعد نشرها لمواد تظهر فيها إحداثيات عملية وحدة الضفادع في القاعدة العسكرية الصهوينية شمال قطاع غزة (قاعدة كوسوفيم). وفي أحدث حلقات هذه الحرب الخفية أعلنت شركة خاصة صهيونية، تعنى بالأمن الإلكتروني، عن كشفها لفيروس استهدف مؤسسات أمنية وعسكرية وديبلوماسية وأجهزة حساسة في الدولة الصهيونية، وادعت أن أصل الهجوم كان من غزة.

يُشكِّلُ هذا الفضاء البعدَ الرابعَ في العمليات العسكرية: الأرض، والبحر، والجوّ، والرابع: فضاء السايبر والمعلومات. في هذا السياق، تكمن أفضلية نسبية للفاعلين من غير الدول (non-state actors) حيث أن اعتمادها على أنظمة المعلومات في سياق القيادة والتحكم في إطار العمليات العسكرية او في الابعاد المدنية أقل بكثير من دول تعتمد بشكل أساسي على تلك الأنظمة في إدارة حروبها وبنيتها المدنية وفي تمكين حركة رأس المال والتجارة.

في الختام لا بدّ من العمل على مواكبة التطورات التقنية في المجالات المتعددة خصوصا في أنظمة المعلومات واستخدماتها العسكرية “والبوليسيّة”، بالإضافة إلى خلق ثقافة معرفيّة اجتماعيّة عامة، فيما يتعلق بفهم السياق العام للحروب المعاصرة وقفزاتها التقنيّة ومن ضمنها حروب المعلومات، وذلك على الأقل للحدّ من قدرة العدو على استخدام “المقدرة التقنية” سلاحا أساسيا في حربه النفسية.