في صبيحة الأحد 9 تشرين الأول، فتح الشهيد مصباح أبو صبيح النار من بندقية إم 16، على تَجمُع للمستوطنين عند محطة “القطار الخفيف” على أرض السَمار في القدس، ومن ثمّ اشتبك في الشيخ جراح مع وحدة خاصة طاردته، موقعاً قتيلين وعدداً من الجرحى ليرتقي بعدها شهيداً.

تأتي هذه العملية النوعية في الوقت الذي بدا فيه لمنظومة الأمن الصهيونية أنها قد استطاعت احتواء سلسلة العمليات الفدائية المستمرة منذ عام ونيّف، ضمن الحد الأدنى الذي يمكن التعايش معه (ما يُسمّيه الصهاينة تخفيض ارتفاع ألسنة اللهب). فقد اعتمدت منظومة الأمن الصهيونية على استخدام وتوظيف رزمة متنوعة ومتناسقة من الأدوات القمعية المباشرة وغير المباشرة؛ الإعدامات الميدانية، الاعتقالات، هدم البيوت، التمثيل بجثامين الشهداء من خلال حجزها لأشهر، إغلاق منافذ القرى والبلدات المصنفة “كعدائية”، وحرمان أهلها من الحصول على تصاريح للعمل، مصادرة وِرش الحدادة والخراطة وغيرها من الإجراءات “العقابية”. وصولاً إلى استخدام مكثّف للحرب النفسية؛ اقتحام البيوت ليلاً وتهديد ساكنيها، تعليق صور الأطفال ملقي الحجارة على أعمدة الكهرباء وتهديدهم وذويهم، الاستدعاءات المكثفة لمقابلة ضباط المناطق في الشين بيت”.

كذلك قامت هذه المنظومة بتعزيز شبكات المراقبة والرصد كان آخرها تشغيل منظومة لكاميرات المراقبة على طول شارع 443 “موديعين”، والذي يشكل محوراً دائماً للاشتباك، وتحصين محطات الحافلات والقطارت بالأعمدة الحديديّة والمكعبات الاسمنتية، وشق طرق التفافيّة لتجنيب المستوطنين المرور بالقرب من نقاط التماس كالطريق الالتفافي على مفرق “غوش عتصيون”. كل ذلك بالتزامن مع قيام “منظومة التنسيق الأمني” بدورها المكمّل والحيوي بصفتها عنصراً أساسياً في منظومة الأمن الصهيونية.

وعمدت منظومة الأمن الصهيونية إلى صناعة مجموعة من العناوين من مثل: “المحرّض”، “صانع الكارلو”، “المُموّل للنشاطات الإرهابيّة” و”التجمّع الخارج عن القانون” في سعيها المحموم واليائس لإيجاد عناوين يمكن استهدافها بآلتها القمعية، بعد أن ضاق المجتمع الصهيوني ذرعاً بمقولة صعوبة التعامل الأمني مع العمليات الفرديّة التي يُنفذها “الذئب الوحيد”، والتي قدمتها المنظومة الأمنيّة تبريراً لعجزها.

كل ذلك في الوقت الذي وصل فيه التطبيع مع العدو إلى مستويات قياسية إقليمياً وفلسطينياً، تجلّت في المشاركة في جنازة “شمعون بيريز”، ومبادرات علنية للتطبيع المجتمعي من قبل بعض المُنتفعين في القدس؛ كالصلوات المشتركة ومسابقات “الشيش البيش” بين الصهاينة والعرب، بالتناغم مع محاولات إبراز وصناعة “قيادات” وممثلين للمجتمع المحلي متواطئة مع العدو.

في هذا السياق المُركَب أتت عملية الشهيد مصباح أبو صبيح مُحملةً بالعديد من الدلالات:

أولاً: بالرغم من الضربات المكثفة الموجهة لقوى المجتمع الفلسطيني الحيّة، لا زال هذا المجتمع قادراً على المقاومة والدفاع عن نفسه بلحمه الحيّ، وضرب العدوّ وإيلامه في عمقه. خاصة في فترة الأعياد اليهوديّة، التي طالما كان على الفلسطينيين أن يدفعوا من قوت عيّالهم ومن حريتهم في الحركة ومن أرواحهم ثمن تَمتُع المُستعمِرين بأعيادهم هانئين.

وذلك في الوقت الذي يتوّلى فيه قيادةَ المنظومة الأمنية مَن لا يمكن المزاودة عليه داخلياَ (نتانياهو – ليبرمان)، تُثبت الوقائع يومياً عجز هذه القيادة عن الوفاء بتعهداتها لجُمهورها بالأمن والهدوء. في ضوء هذا العجز، يتضح أنّ جُلّ ما أنجزته التيارات “اليمينيّة” يتمثل في إنتاجها المزيد من التناقضات الداخلية بين المُستعمِرين، والمزيد من الصراع الهويّاتي.

ثانياً: فشل الركيزة الأساسيّة في مكافحة التمرد الصهيونية في فلسطين المتمثلة في جهاز الاعتقال والحجز، بالقيام بوظيفتها التأديبية الرادعة.

ثالثاً: في سياق الصراعات التاريخية الطويلة كالحالة الفلسطينية، أكثر من 133 عاماً من الصراع مع الاستيطان الصهيوني في فلسطين، لا تتحدد قيمة عمليات المقاومة بالنظر إلى نتائجها المباشرة فقط، وإنما أساساً بقدرتها على تحدي وخلخلة بُنى السيطرة والهيمنة القائمة، وصيانة الهويّة الوطنية من التآكل ومِن تَحولها إلى هويّة شكليّة، أو رمزيّة فارغة.

وذلك بالنظر إلى سعي أجهزة الهيمنة والسيطرة الصهيونية إلى إنجاز الإبادة السياسيّة للفلسطينيين، أي تحويلهم الى رعايا مُستعمَرين خاضعين وخانعين، بعد أن فشل المشروع الصهيوني في إبادة وتهجير أهل البلاد جسديّاً.

رابعاً: في الوقت الذي تتمتع  فيه “إسرائيل” بأفضل أوقاتها إقليمياً، للأسباب متعددة أهمها؛ انشغال الأمّة واستهلاك طاقاتها في حروب التدمير الذاتي، “فإسرائيل” اليوم إمّا عدو “مؤجل” أو حليفا استراتيجي عند البعض، تأتي عمليات المقاومة في فلسطين لتضرب “إسرائيل” في خاصرتها الرخوة، وبأدوات بسيطة حوّلتها إرادة القتال إلى مُعادلة لخوض الصراع، مُتحررة إلى حدِّ ما من الاشتراطات الإقليمية والجيواستراتيجية .

في الختام نقول:

بعد مرور 78 عاماً على خطاب جابوتنسكي، صاحب نظرية الجدار الحديدي، الذي عَنونه بـ “إمّا أنْ نحتلَ الجبلَ أو أنْ نموت”، نجح الصهاينة في احتلال الجبل ولكنهم عجزوا عن تحويله إلى بيت آمن من الموت.