في دراسةٍ موجزة للباحثة «كاثرين وولش»، تشير فيها إلى أطروحة البكالوريوس في الفلسفة لـ«رفائل جولين»، الذي سيُعرف لاحقاً بالقائد «ماركوس» من حركة الزباتيستا، جاء فيها:

«من الضروري الحديث عن الفلسفة كما لم تكُن فلسفة، أنْ تقلب الخطاب الفلسفي ضدّ نفسه، أن تغيّر الإشكاليات، أن تُحدث تغييراً سياسياً في النظرية، لتستطيع إدراك أشكال مختلفة وأخرى من الأفعال، وكيفية ممارسة فلسفةٍ مختلفة، أن تفتح إشكاليات من الممكن أن تنتج أشكالاً عملية ونظرية جديدة للأهداف، أن تتّخذ موقعاً سياسياً يتيح بناء استراتيجيةٍ أخرى، أعمال فلسفية أخرى، وأن تفتح فضاءات أخرى للإنتاج النظري». [1]

كانت أطروحة القائد «ماركوس» موجهةً في الأساس لمواجهة المعضلات التي فرضتها الماركسية-اللينينية على الفعل الثوري في المكسيك؛ الأولى لم تستطع أن تصف الواقع كما هو، بل ساهمت في تشويه الوعي، فالحركات اليسارية لم تستطِع أن ترى خارج عدسات النظرية الماركسية لتوصيف الرأسمالية والاستغلال الطبقي، وقامت بتنحية أيّة أطروحةٍ مشتقّة من التجربة العينية للمضطَهدين والتنظير المرافق لها. تُعلّق «وولش» على هذا الأمر بقولها إنّ التجربة العينية لم تكُن في حدّ ذاتها المشكلة بالنسبة لليسار، فالتجربة العينية «في الحقيقة هي مهمة من حيث أنّها تكشف الواقع المعاش الموسوم بالاضطهاد ومقاومته والمساعدة في التفكير في التغيير الاجتماعي والثورة». [2]. لكنّ ترجمة هذا الواقع من وجهة نظر الماركسية كان له دور في الاستخفاف بالذوات التي عانت من الجرح الاستعماري، والتعتيم عليها ونفيها، وجعلها غير مرئية، ممّا استدعى تحوّلاً في الفلسفة التي تتعاطى مع تجربة المضطهدين.

في هذا الإطار، كان التحوّل عندما واجهت الحركة الثورية في المكسيك واقعاً وتفكيراً مرتبطاً بالمجتمعات الأصلانية لم يستطيعوا تفسيره ضمن محدودية جيوسياسية الفكر الماركسي-اللينيني وإطاره المعرفي، ووفقاً لـ«ماركوس»: «ظنّنا أنّ الأمر سيان عندما نتحدث مع البروليتاريا، مع فلاح، مع عامل، أو طالب… ولكنّنا وجدنا أنفسنا في عالمٍ جديدٍ لا نملك حوله إجابات… إنّه من الصعب عندما تمتلك إطاراً نظرياً يبدو كما لو أنّه قادر على تفسير المجتمع بأكمله، ولكن عندما تذهب إلى مكان آخر وتكتشف أنّ إطارك النظري لا يفسر أيّ شيء نهائياً… لقد عانينا بحقّ في عملية إعادة التعلّم وإعادة النمذجة… كانت كما لو أنّ جميع عناصرنا المعرفية: الماركسية واللينينية والاشتراكية والثقافة الحضرية؛ كما لو أنّه تمّ تفكيكها. لقد جرّدونا من أسلحتنا وأعادوا تسليحنا مرّةً أخرى، ولكن هذه المرّة بشكل مختلف». [3]

يُمكن لنا تقصّي المفارقة والمعضلة التي تفرضها العلاقة ما بين المحلّي والعالمي في الاتجاهين، نظريةً وممارسةً، كما في أطروحة «ماركوس»، في السياق الفلسطيني أيضاً. ففيه، اشتبك المحلّي بالعالمي منذ البداية، إذ لم تقتصر المسألة الفلسطينية، ولاحقاً الثورة الفلسطينية الحديثة وما بعدها، على الحدود الوطنية في فاعليّتها؛ فقد حمل المشروع الصهيوني، كمشروع استعماري استيطاني، منذ بداياته أبعاداً عالميةً ضمن ما يُعرف بالمسألة اليهودية كمسألةٍ أوروبية المنشأ، وتشابكها مع الغرب في تطوّرها وصيرورتها. من هنا، اتّخذت مقاومة المشروع الصهيوني أبعاداً عربية وإسلامية وعالمية أيضاً، على الرغم من محاولة تياراتٍ في الحركة الوطنية الفلسطينية الحديث عمّا أطلق عليه القرار الفلسطيني المستقل إبّان الثورة الفلسطينية، ومأسسة هذه النظرة مع توقيع اتفاقية أوسلو ونشوء السلطة الفلسطينية، في محاولة شرعنة تيار الواقعية السياسية والمساومة الذي أدّى بدوره إلى سلب المسألة الفلسطينية عمقها العربي والإسلامي والأممي. 

ولعلّ من أبرز تمثّلات علاقة المحّلي بالعالمي على صعيد الابستمولوجيا والممارسة، قبل النكبة وخلالها، هي سيرة اثنين من المقاتلين في سبيل فلسطين، الأوّل ابنها البار عبد القادر الحسيني، والثاني المناضل الفلسطيني الأممي أنطون جميل سليم (أنطونيو التلحمي أو انطوان داوود أو أنطون الكولومبي، وللاسم قصته). ففي حالة الحسيني، وُلد الولادة الثانية خلال نضاله من أجل فلسطين، تخلّى فيها عن خلفيته العائلية ومكانته الطبقية والاجتماعية التقليدية في سبيل القضية الفلسطينية. وكما يقول فيصل درّاج في مقال له بأنّ صورة المثقف، المقاتل بالكلمة والبندقية، شهدت تجسيدها الفعلي والأكثر كمالاً في شخصية الحسيني. كانت بداية التقاء المحلّي بالعالمي معرفياً لديه هي عند ذهابه إلى الجامعة الأمريكية في بيروت لإكمال دراسته، حيث فصلته الجامعة بعد سنته الدراسية الأولى لما اتّسم به من كونه «وطنياً متطرّفاً»، لم يلتزم بالمناهج الدراسية المقرّرة ويكثر من الحديث عن الاستعمار. بعد فصله انضم إلى الجامعة الأمريكية في القاهرة، التي تخرج منها بشهادةٍ في العلوم فرع الكيمياء، وفي حفل تخرجه قام بتمزيق شهادته أمام الحفل قائلاً «أنا لستُ بحاجة إلى شهادة من معهدكم الاستعماري التبشيري»، إذ لم يعتقد الحسيني بحياد الجامعة على المستويين السياسي والأيديولوجي، لكنّه رأى أنّ في الجامعات الاستعمارية علوماً مفيدة يحتاجها التحرّر الوطني.

وفي الموقف الذي أعلنه الحسيني، يقول درّاج إنّه موقف فريد على ثلاثة مستويات: «تسخيف اللقب العلمي كأداة لزينة اجتماعية، تمسّكت به عائلات حسيبة تقليدية، كما لو كان اللقب امتداداً لهيبة العائلة أو ضرورةً لها. وثانياً، إقامة الفارق بين التحصيل العلمي العالي، المطلوب وطنياً، والتماس «وظيفة عالية» في أجهزة السلطة، بما يجعل من اللقب العلمي جسراً بين العائلة والسلطة… يتكشّف الأمر الثالث في التصوّر التحرّري للعالم، الذي يحدّد معنى الإنسان والوطن والعلم، حيث الإنسان قوة مقاتلة، والوطن الحرّ مرجع الوجود الإنساني السوي، والعلم طاقة محرّرة وأداة في معركة التحرير. بحث عبد القادر عن المعرفة ولم يبحث عن اللقب… ولهذا زهد بـ «الشهادة» واحتفظ بعلم «الكيمياء»، واستفاد منه في صناعة الألغام والمتفجرات… شغف عبد القادر في ترجمة معارفه الأكاديمية إلى مواضيع علمية-كفاحية في اختلاف عن «المتعلمين التقليديين»… حوّل فيه الخطاب النظري الى خطاب عملي، قوامه المعركة بالسلاح… سحب عبد القادر قيم المثقف من حيّز القراءة والكتابة إلى فضاء القضية الوطنية، محوّلاً المعرفة إلى سياسة والسياسة إلى قتال».

من هنا انطلق في تكوين جبهة عريضة من الوطنيين، من الفلاحين خصوصاً، الذي تقاسم معهم النضال والكفاح العملي، إذ قام بتجسير الفروق من خلال عقيدة الكفاح المسلّح ضد الصهيونية والاستعمار البريطاني على حدّ سواء، باعتبارهم الأعداء، على عكس النخب المتعلّمة للعائلات التقليدية التي تحتفظ بمكانتها في القيادة، ولم ترَ في الاستعمار البريطاني عدواً إلى جانب الحركة الصهيونية. وبهذا الفعل، جمع الحسيني بين العمل الذهني والعمل اليدوي، وما بين القتال والقيادة، وأزال الحدود الفاصلة بين العمل العفوي والعمل المنظم. ووفقاً لدراج، فقد استفاد من الحسّ الشعبي السليم وأفاده. استفاد منه من خلال «التعرف على طبائع الفلاحين ومزاجهم ولغتهم وإمكانياتهم وتصوّرهم للمعركة والوطن، وأفاد الفلاحين وهو ينظّم طاقاتهم ويقفز عن الفروق بين فئات المجتمع ويلتزم بالقضية الوطنية». هكذا ولدت صورة البطل في أذهان أهل البلاد عن الحسيني، فما يجعل من أحدهم بطلاً هو من يعترف الآخرون ببطولته، وذلك بالإقرار بأنه سار حراً إلى قضية جماعية عادلة، كما لو كان مسؤولاً عنها، ومتنازلاً عن سلامته الشخصية في سبيلها، ليخلُص دراج أنّ عبد القادر قد وُلد في عائلة حسيبة، وخرج منها قاصداً سواد الشعب. [4]  

أما أنطونيو التلحمي، من يُعرف بأنّه قاد عملية تفجير مقرّ الوكالة اليهودية في القدس قبل النكبة، قبل أن تخرج سيرته الذاتية بقلم سميح مسعود تحت عنوان «أنطونيو التلحمي..رفيق تشي جيفارا». ولد أنطونيو في كولومبيا لجدٍّ فلسطيني من بيت لحم هاجر إلى كولومبيا، وكان مقصده في حينها الولايات المتحدة الأمريكية. ولعلّ التركيز على جدّه جاء من كونه المصدر المعرفي الأول لأنطونيو حول جذوره العربية الفلسطينية، فلقد لعبت تقاليد الرواية الشفوية التي مارسها الجدّ ونقل فيها عصارة خبرته ومواقفه وتاريخه الذاتي والعام الخاص بفلسطين وكولومبيا لحفيده، قبل أن تتمأسس أهمية الرواية الشفوية في الحقول الأكاديمية، دوراً خاصاً في صياغة شخصية أنطونيو وآراءه وأفعاله اللاحقة، فقد كان يردّد على مسامعه دائماً “انقش في ذاكرتك أنك تنتمي إلى بيت لحم وفلسطين، وأنّ جذورك تمتدّ على اتّساع الدول العربية من أقصاها إلى أقصاها». [5]  

فجدّه، والراوي أنطونيو، قد أخبره عن أول تجربةٍ بالتفرقة الطبقية في حياته، واجهها في السفينة التي أقلّته في هجرته، نظراً لكون تذكرته من تذاكر الدرجة الرخيصة التي ارتبطت بنوع وجبات الطعام وأماكن المبيت على السفينة. ولاحقاً عن وعيه المكتسب بعد عمله في منجمٍ في كولومبيا، حيث شكّلت هذه التجربة وعيه حول العبودية الجديدة، وخصوصاً للسكان الأصليين والسكان المنحدرين من أصول أفريقية. وعلى الرغم من إلغاء العبودية بشكلٍ رسمي،  فقد تمّت ممارستها بأنماط جديدة، استحدثها رجال الأعمال وأصحاب المناجم، وتمثّلت في الأجور المنخفضة وظروف العمل الصعبة، في أقبيةٍ مظلمة تحت الأرض. 

ويستطرد أنطونيو بالقول إنّ ذاكرته «تضيء بصور كثيرة من أيام طفولتي، أجد واحدة منها بحجم كبير لجدي، تتّسع في ركنٍ مهمٍ من ذاكرتي، كنت أقتاتُ في الأماسي من حكاياه الطويلة عن أهله، وبيت لحم وفلسطين… كانت حكاياه سلسلة متصلة من المعلومات، يمزج فيها السياسي بالاجتماعي والجغرافي على مدى مساحاتٍ واسعة، يسردها بتسارع مستمر على إيقاع مؤثرات صوتية يخرجها بصوته الجهوري، تعلو وتهبط مع تراقص يديه بحركات يلوح بها في الهواء بلا انتهاء. أسمعني في حديثه حكايا كثيرة، كان يختارها بعنايةٍ فائقة، منها حديثه الدائم عن ويلات الإمبريالية، وضرورة النضال ضدّها أينما وجدت، خاصةً في فلسطين التي تتبدّل فيها الأحوال نحو الأسوأ، نتيجة المخططات البريطانية التي تنفذها لصالح المهاجرين اليهود… ومن الحكايا التي كان يردّدها كثيراً، حقوق الطبقة العاملة، وعضويته في نقابة عمالية مناوئة للنظام في كولومبيا، كان يتحدّث عن رفاقه أعضاء النقابة وفي مقدّمتهم ادوين (من السكان الأصليين)، ويخرج من جيبه بطاقة عضويته بلونها الأحمر، ويقول بثقة زائدة: «انظر، هذه البطاقة تثبت أنّي أنتمي إلى نقابة عمال سرية؛ ضدّ الرأسمالية واستغلال الإنسان للإنسان”…أريدك أن تحمل أفكاري، وأن تكون دوماً مع المظلومين، وتقف في وجه المستغلين والطغاة». [6]

لاحقاً، وعندما حان الوقت لاختيار حقله الدراسي في جامعة بوغوتا-كولومبيا، استشار جدّه الذي أشار إليه دون تردّد لدراسة علم التاريخ السياسي، والذي برّر اختياره من أجل فلسطين. كان لحياته الجامعية أن صلبت من عوده، التقى فيها العالمي بالمحلّي، من خلال طرح قضية فلسطين وارتباطها بقضايا كولومبيا وأمريكا الجنوبية، مركّزاً فيها نقاط التشابه والتقاطع بين المناضلين من أجل الحرية، واختيار الكفاح المسلّح والقوة كأداة في مواجهة حتمية ضدّ الاستعمار لأنه، وفقاً لأنطونيو، مخالف لكل النواميس الإنسانية ويجيز استعباد الإنسان للإنسان. مع تخرجه، تقدّم على وظيفة مدّرس في إحدى المدارس وحصل عليها، وذكّره جدّه بضرورة الاهتمام بأبناء الفقراء من الهنود والأفارقة، أي التضامن مع المحرومين والتحيز لهم لتبديل واقعهم جذرياً من خلال التعليم والمزيد من الوعي الثقافي. لذلك اتجه الى إعطاء دروس في التاريخ من خارج المناهج الرسمية المقرّرة، تحدث فيها عن السكان الأصليين لأمريكا الجنوبية وتاريخهم ونضالهم الطويل.

وما عزّز من شخصيته، انضمامه إلى الحزب الاشتراكي في كولومبيا، والبداية في كتابة مقالات ونشرها في صحف يسارية باسمٍ مستعار، كانت في إطار مواضيع متشعبة، «جسّدتُ فيها معتقداتي الفكرية المناقضة للرأسمالية، والهيمنة الأمريكية على دول أمريكا الجنوبية». ومن أهم ما ركز عليه: «شدّدت على ضرورة اهتمام الحركات الوطنية بالتجربة البوليفارية، وعلاقتها مع التجارب التحرّرية الأخرى على امتداد الوجود التاريخي الواسع لأمريكا الجنوبية، لمعرفة أبعادها ومكوناتها، ودراسة إمكانية الاستفادة من مجمل مساراتها النهضوية، وإنجازاتها في الزمن الراهن، على المستويين الفكري والعملي على حدّ سواء». من هنا، تعزّزت شخصيته ذات الميول الإنسانية المناهضة للظلم والاستبداد بخيوط يسارية تشترك وثقافته التي تشربها من جدّه. [7]

ومع اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، سافر أنطونيو بحثٍّ وتوجيه من جدّه للانضمام والمشاركة فيها، وهو ما حدث بالفعل، ووجد قادة فصائل ثورية دوراً لأنطونيو يتمثّل في إخفاء أصوله العربية (نظراً لعدم إتقانه اللغة)، والانضمام الى صفوف الشرطة للتجسس لصالح الثوار و إمدادهم بمعلوماتٍ تساعدهم في العمل الثوري. ومع انتهاء الثورة الى مآلات سلبية، عاد أنطونيو أدراجه إلى كولومبيا، ليعود في حروب النكبة وينضم الى الجهاد المقدّس، بذات الدور الذي ساعده في تنفيذ عمليته بنسف مباني الوكالة اليهودية عندما عمل سائقاً للقنصل الأمريكي في القدس، مستغلّاً هذه الصفة في تنفيذ العملية.

ساهمت هذه التجارب في إغناء منظور وآفاق أنطونيو المعرفية والعملياتية، وشارك هذا الأمر عند عودته إلى كولومبيا مع رفاقه في الحزب الاشتراكي، فيقول بهذا الصدد: «بعد نقاشات مطوّلة اخترنا المثالية الثورية لتمثّل شطراً هاماً من قناعاتنا الفكرية، ننقش على لوحاتها برامجنا النضالية التي نستمدّها من واقع الحياة وتعقيد سبلها، ونحدّد أهدافها على ضوء المشاكل التي يواجهها الناس من حولنا، للتصدّي لها في مجرى حياتنا اليومية… إنّ المثالية الثورية لا تلغي الواقعية، بل تمتزج معها في بؤرة واحدة، يختلط فيها الفكر مع الأحاسيس الإنسانية». وكان لهذا التحوّل أن تزامن مع تعارف أنطونيو وتشي جيفارا وكاسترو، وانضمام أنطونيو إلى نواة المقاتلين على قارب «غرانما» الذي اتجه من المكسيك الى كوبا برفقة ما يزيد عن الثمانين من المقاتلين. 

وهنا، لم تكن فلسطين غائبة عن الثورة الكوبية، فنظراً الى تاريخ أنطونيو وخبراته العسكرية، أن أوكل إليه فيديل كاسترو تدريب المقاتلين الجدد في حرب العصابات. وعقب انتصار الثورة أوكلت إليه مهام متعدّدة في كوبا ما بعد الثورة، ولكنّه اختار الانضمام إلى جيفارا في الإعداد للثورة العالمية التي كان يطمح تشي في إطلاق شرارتها ضدّ الإمبريالية الأمريكية، وكانت بؤرتهم اللاحقة هي بوليفيا. ولكن مع اندلاع العمل الفدائي الفلسطيني في ستينيّات القرن المنصرم، اختار أنطونيو بعد نقاشٍ مع جيفارا الذهاب إلى الأردن للانضمام للعمل الفدائي، وهو ما شجّعه عليه جيفارا مؤكداً على ضرورة الثورة العالمية ضدّ الظلم. ويقول عن انضمامه للفدائيين «استمرّت لقاءاتي مع كثير من الفدائيين في الأغوار، ومخيم الحسين في عمّان، كنت أشعر أنّ علاقتي بهم قائمة على وحدة الغايات والأهداف، وبعيدة كلّ البعد عن الألفاظ التنظيرية الرنانة التي لا تفيد العمل الفدائي بشيء، في مسارات قتالية جليّة واضح». [8]

تقول لنا تجربتا الحسيني والتلحمي النضالية إنّ تقاطع مسارات المحلّي والعالمي الفردية يمكن له التحوّل إلى ذاكرة وتجربة جماعية. فقد تنازل الحسيني عن الامتيازات الشخصية والرأسمال الاجتماعي والرمزي بلغتنا المعاصرة والمتأّتي من التعليم والانتماء الموروث، والذي ساهم في تشكيل البنية الاجتماعية للمجتمع الفلسطيني ما قبل النكبة، من حيث تزويد صاحبه بمنطق وشكل الوجاهة الاجتماعية، لصالح الانخراط في الخطّ النضالي للجماهير. أمّا التلحمي، فكان التقاء العالمي بالمحلّي في تجربته من خلال النضال الأممي الذي ساهمت في بلورته أحاديث جدّه عن ضرورة الالتزام بمظلومية المضطهدين في الأرض، خصوصاً في فلسطين، ليقوم بتشكيل مسارات اختياراته وخياراته بدءاً من التعليم الذي أثرى منظومته الفكرية والقيمية، مروراً بوظيفة التدريس التي تجاوز فيها الحدود الوظيفية، وليس انتهاءً بالانضمام الفعلي لساحات النضال في كل ّمن فلسطين وأمريكا الجنوبية التي صاغت رؤيته الإنسانية ببعض الملامح اليسارية، منطلقاً من متطلّبات الواقع والناس، وما جرى عليها من تقاطعات كتوظيف الخبرة القتالية التي اكتسبها التلحمي في فلسطين خلال ثورة 1936 وحرب النكبة في الثورة الكوبية.  

وبناء على ذلك، يأتي هذا التقديم لفحص تجربتين تجاوزتا الحدود الوطنية في الممارسة النضالية- التقى فيها المحلّي بالعالمي والعالمي بالمحلّي على مستوييْ النظرية والممارسة: الأولى هي عمل جهاز «المجال الخارجي» في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة الشهيد وديع حداد، والثانية هي حركة المقاطعة العالمية. ففي حين أنّ تجربة المجال الخارجي استندت إلى ما هو متجاوز للماركسية-اللينينية نظراً لقصورها في التعاطي مع حالة المسألة الفلسطينية وفقاً لوديع حداد وأطروحاته في عمله العسكري بالاستناد على عقلية «البراكسيس» (Praxis)، فإنّ التجربة الثانية تموضعت في إطار محاكاة النضال الجنوب أفريقي، أو ما سُمّيَ بلحظة جنوب افريقيا الفلسطينية وفقاً لعمر البرغوثي، أحد مؤسّسي الحركة، في محاولةٍ لتبيئة النموذج الجنوب الأفريقي فلسطينياً. انعكس ذلك أيضاً على الكيفية التي تمّ فيها بناء المعسكرات العابرة للحدود للأصدقاء والأعداء، وبزوغ مفهوم البطولة والبطل في التجربة الأولى كتجلٍّ محلّيّ لسردية وطنية عابرة للحدود، في مقابل ظهور «الناشط» (Activist) كتعبيرٍ عن زمنيّة ما بعد البطولة في الشرط الما بعد حداثي.


ما تحاول هذه المقالة طرحه هو فتح الاحتمالات على مصراعيها، بما فيها رفد التجربة الثانية بمكامن قوة التجربة الأولى، ومحاولة قراءة القصور الذي يعتري التجربة الثانية على ضوء التجربة الأولى. وبالاستناد إلى ما تمّ تقديمه من تجارب ماركوس والحسيني والتلحمي الشخصيّة، يتيح لنا هذا التقديم المجال أمام معرفة «أخرى» لتنبثق وممارسة «أخرى» أن تولد على ضوء التجربتين، لجعل من شعار «وراء العدو في كلّ مكان» أمراً واقعاً وبنّاء يرفد النضال الفلسطيني بممكناتٍ وآفاق «أخرى»، آخذين بعين الاعتبار في محاور المقارنة أنّ تجربة المجال الخارجي تجربة عسكريّة صاحَبها عنف ثوري، فيما حركة المقاطعة مقاومة مدنيّة لاعنفية.

عقل «البراكسيس»: إيجابية الواقع واستلاب النظرية المعمّد بدم كنفاني

في عام 1963، بدأت القضايا الفكرية تطرح بشدّة في حركة القوميين العرب، وارتفعت أصوات من الحركة توجّه سهامها إلى وديع حداد بأنّه لا يولي اهتماماً كافياً لهذه القضية. ووفقاً لهذا الطرح، كان لزاماً على حداد أن يثقف نفسه. بناءً عليه، وضعت قيادة الحركة برنامج تثقيفٍ ومطالعة لحداد، وطلبت منه تخفيف نشاطاته الأخرى باستثناء حضور الاجتماعات القيادية والاهتمام. ولهذا الغرض، خصّصت الحركة له شقةً في منطقة الحص ببيروت، ولكن بعد 20 يوماً من إقامته فيها، حوّلها إلى مخزنٍ للأسلحة، إذ كان يستعدّ عمليّاً لإطلاق الكفاح المسلح.

لم تكُن عقلية حدّاد هذه وليدة تلك اللحظة، بل ضمن سياقٍ طويل في تشخيص الواقع وإرفاده بالممارسة العملية. فمنذ بدايات نشأة حركة القوميين العرب في خمسينيّات القرن المنصرم، سعى حدّاد جاهداً إلى عسكرتها وفقاً لبسام أبو شريف؛ أيّ تحويل الحركة إلى حركة نضالية مسلّحة تقاتل على كلّ الجبهات، ضدّ الإمبريالية والصهيونية الاستيطانية التوسّعية، واقترن اسم وديع حداد بـ «الجانب العملي/التقني للخطّ الكفاحي للحركة، وامتداداً، في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين». وممّا ساعد في هذا التوجّه هو انطلاق حروب مقاومة الاستعمار في كلٍّ من الجزائر واليمن، والتي كان لوديع حدّاد دور بارز في إسنادها من خلال حركة القوميين العرب نظراً لرؤيته بأنّها تمهّد لمعركة تحرير فلسطين. فكان مشروعه الكبير والأساسي الذي سعى إليه وبذل جهداً في سبيله وفقاً لأحد معاونيه، بهدف فتح آفاق جديدة للعمل، هو أهمية بناء حركة ثورية عربية يكون هو جناحها العسكري. [9]  

ولعل ما حفّز حدّاد أكثر هو الهزيمة التي مني بها العرب في حرب حزيران 1967، فنتيجة لتلك الهزيمة نضجت رؤيته لما هو ضروري في الرؤية السياسية واستراتيجية العنف الثوري. بالنسبة إليه، كان دور العمل المسلح الفلسطيني أولاً وأساساً هو «إقلاق راحة المحتلّ ومنعه من الاستقرار، إبقاءه محاصراً، وذلك عبر ضرب خطوط مواصلاتها واتصاله ببقية العالم». كان تصوّره هذا نابعاً من معرفةٍ حسّية وتجريبية بموازين القوى في المنطقة، فالكيان الصهيوني الاستيطاني التوسّعي مدعوم من الغرب مادياً ومعنوياً، ولمواجهة هذا الاصطفاف يجب أن يتمّ بناء جبهة عريضة تشتّت قوى العدو وتضربه في مفاصله الضعيفة، نظراً لكون قوى التحرّر ضعيفة ولا قدرة لها على المواجهات الكبرى. ووفقاً لبسام أبو شريف: «بكلام آخر، كان وديع يرى أنّ طليعة ثورية فلسطينية، متحالفة مع طلائع ثورية عربية وطلائع ثورية عالمية، هي أطراف الجبهة التي يجب أن تواجه وتتصدّى للقاعدة الأمامية المتمثّلة بالاستيطان الاستعماري الذي أقيم على أرض فلسطين، بدعم من القوى الامبريالية للحفاظ على مصالحها في الشرق الأوسط». [10]

من هنا، بنيت تجربة وديع حداد الطليعية واكتسبت خبرتها من خلال الممارسة وقراءة دقيقة للواقع بعيداً عن تجاذبات الأيديولوجيات والأطر النظرية الجامدة .فقد تبلورت رؤيته الفكرية والسياسية من صلب الواقع العربي والفلسطيني. كما رأى أنّ الماركسية متعذّرة التطبيق في السياق العربي والفلسطيني، فالأمة العربية أمة تُعاني من التخلّف والاستعمار والاستغلال، وواجبها أولاً التخلص من الاستعمار الاقتصادي والاستيطاني التوسّعي، ولن يتحقّق هذا الهدف الوطني على يد الطبقة العاملة، فلا طبقة عاملة لدينا لعدم وجود صناعة.

وعند سؤال هاني حدّاد عن والده، خصوصاً فيما يتعلّق بعدم استجابته للتنظير والجدالات الفكرية والسياسية الطويلة، أجاب: «كثيراً ما قيل عن والدي أنّه يغلّب الجانب العملاني والممارساتي على الجانب الفكري والإعلامي. أحبّ أن أوضح أنّه كان يؤكد دائماً على الوعي السياسي والمنطلقات الفكرية التي تحكم التطبيق. كان يستخدم تعبير الجغرافيا السياسية التي على المناضل أن يعرفها ليصوّب إلى الهدف». كما كان يدرك أهمية الإعلام في هذه المعركة أيضاً. وفي سؤال أحد العاملين مع حدّاد حول اتهام الأخير بكونه غير مثقف، أجاب بأنّ قراءاته كانت مختلفة «لم يكُن من أنصار قراءة الكتب للاستعراض. كانت قراءاته مربوطة تماماً بأهدافه وعمله». ولعلّ أبرز مثال على ذلك، هو ما شهده مؤتمر الجبهة الشعبية في آب من عام 1968 في جرش، والذي كان واضحاً فيه وجود تيار يغلّب الجانب الفكري والنظري على الجوانب الأخرى، ويقود هذا التيار نايف حواتمة. وكانت نقطة ارتكاز هذا التيار أنّه «لا يجوز إعلان الكفاح المسلّح قبل بناء الحزب الثوري الذي لم تنضج ظروف بنائه بعد»، أمّا وجهة وديع حداد فكانت أنّ «بناء الحزب يتمّ من خلال العمل اليومي وأنّ عملية المجابهة كفيلة بتصليب بناء الحزب». [11]  

يأتي توجّه حدّاد منسجماً في جزء مع ما خُطّ في كتيّبٍ صادر عن مجلة الهدف حول «الفكر العسكري للجبهة الشعبية»، عام 1970، والقول فيه بناءً على مقابلة مع أحد المسؤولين العسكريين في الجبهة: بأنّ «الظروف لم تكُن جاهزة تماماً للبدء بمقاومة منظّمة عميقة الجذور وبعيدة المدى. ظرف واحد من مجموع تلك الظروف كان جاهزاً فقط وهو ظرف وجود العدوان، ولم يمكن القول عند ذاك أن أوقفوا المقاومة ريثما تتّسم عملية إنضاج الظروف الموضوعية بصورة تقليدية ثم تبدأ المقاومة بعد ذلك، كلا، إن هذا غير ممكن، بل هو جريمة، لأنّ مبدأ الدفاع المشروع يحتّم الرد على العدوان فوراً وبكل الوسائل مهما كانت الظروف المحيطة. ولكنّ ذلك يعني أيضاً أنّ المقاومة، منذ بدئها وحتى الآن، تشكّل تطويراً لإنضاج الظروف، وخلق الظروف الملائمة لتطوير العمل». [12]  

  

ومن هذا الجواب، يمكن قراءة كيف صاغ وديع حدّاد تجربة المجال الخارجي في الجبهة الشعبية، وعلاقة المحلّي بالعالمي والعالمي بالمحلّي. فبينما كان تيار نايف حواتمة أحد نتائج إفرازات ما هو عالمي وانعكاساتها على النضال الفلسطيني، متأثّراً بتجربة اليسار العالمي في صراعاته البينية بين تياراته المختلفة، والتباينات بين رعاتها، وخصوصاً الصين والاتحاد السوفيتي واليسار الأوروبي؛ كان وديع حدّاد يصوغ تجربة الجبهة الشعبية وجهاز المجال الخارجي وفقاً للواقع ومتطلّباته بعيداً عن التنظيرات الأيديولوجية التي لا طائل منها. بعيد وصول تقارير حزبية داخلية عن أوضاع الحركة الثورية المتآكلة في أوروبا عقب فشل انتفاضة 1968، قال حدّاد إنّه «علينا أن نضع خطة عمل لندلّ الثوريين الأوروبيين على الطريق السليم، ولنخلق منهم تحالفاً دولياً للقتال ضدّ معسكر الأعداء. يجب أن ندلّهم، لا أن يدلّونا. هم ضائعون، أما نحن فأقدامنا ثابتة تعرف طريقها». [13]  

من حركة القوميين العرب إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أخذ حداد موقفاً حازماً تجاه كلّ ما يمكن أن يمزق ويفتّت الحركة القومية العربية وضرب حركة التحرّر الوطني. فنتيجة التجاذبات الفكرية أو الاستلاب النظري الذي مارسته بعض الأطراف أن دفع غسان كنفاني ثمنها حياته. إذ يشير أحد أعوان حداد أنّه «والجدير ذكره أنّ إجراءات أمنيّة خاصّة كانت تلي تنفيذ عمليات نوعيّة كعملية مطار اللد، حيث كان يصار إلى وضع خطّة أمنية لإقامة وتحرّك الكوادر الأساسية للجبهة الشعبية حينها مثل الدكتور جورج حبش وغيره. وفي هذه العملية بالذات طلب الدكتور وديع حداد من الشهيد غسان كنفاني (وكان حينها الناطق الرسمي باسم الجبهة وأحد أبرز مفكريها وقد وضع تحت أضواء الإعلام بصورة خاصة) أن يغيّر مكان إقامته وسيارته مع تأمين التسهيلات اللازمة لذلك. إلا أن كنفاني تردّد خوفاً من المزايدات التي قد تصفه بـ «البرجوازي».  

هذا لم يعنِ وقوع حدّاد فريسة للواقع ومتطلّباته، فما عرف وقيل عن حداد إنّه كان شخصية فريدة من حيث أنّه لا يعترف بوجود المستحيل، وأنّ المستحيل كان ممكناً وهو ما شكّل نقطة قوّته. كما كان له دور طليعي ومميّز وسم تجربته في المجال الخارجيّ من خلال كسر قواعد اللعبة في الصراع العربي «الإسرائيلي». ما «ميّز تجربة الدكتور وديع حداد أولاً وأخيراً هو أسلوب كسر قواعد اللعبة التي تقوم عليها قضية الصراع بين الشعب الفلسطيني وأعدائه…حاول وبذكاء شديد كسر قواعد ومحدّدات الصراع التي حاول خصوم الشعب الفلسطيني فرضها على هذا الشعب وإجباره على إدارة الصراع ضمن محدّدات كانت جميعها وللأسف الشديد في غير مصلحته… لقد رأى الدكتور وديع حداد أنّ من حقّ الضحية أن تختار أسلوب المواجهة بالطريقة التي تريدها هي والتي تكون في مصلحتها هي. لقد رفض أن يكون الحكم هو نفسه الخصم، وأكّد أن من حق الضحية أن تختار أسلوب مواجهتها وتحديد موقع ومكان وتوقيت المواجهة، وكما تراه هي مناسباً».

ومن أبرز ما أرسته ممارسة وديع حداد والمجال الخارجي، هو القدرة على ردّ آراء يمكن الإطلاق عليها بآراء الاستلاب النظري التي كانت تتشبّث بالنصوص الماركسية-اللينينية لدحض ونقض عمل المجال الخارجي وعملياته الحيوية، أو الاستعانة بكلّيّة التجارب الثورية في أماكن أخرى من العالم دون القدرة على تبيئتها ممّا جعلها قاصرةً عن التعامل مع الواقع. ففي كتيّب الجبهة الشعبية والعمليات الخارجية الصادر عن «الهدف»، جاء فيه بنود للردّ على مقال في مجلة «الحرية» التابعة للجبهة الديمقراطية، والتي تناولت نقداً لعمليات المجال الخارجي من خلال الاستعانة بنصوص لينينية وبكلّيّة التجربة الفيتنامية. ففي الحالة الأولى، يشير الكتيّب إلى أنه «وفي نوع مكشوف عن التحريف المتعمد مضت «الحرية» تسجّل مقطعاً من كتابات لينين وراء مقطع من كتابات لينين، تستعير من خلالها موقفه إزاء أحداث معينة، مختلفة كلياً عن موضوع العمليات الخارجية لتصف من خلالها موقفاً ماركسياً مزعوماً من مسألة العمل الخارجي». وفي مكان آخر، يتناول الكتيّب النقد الموجه للعمليات الخارجية بناءً على دروس مستقاة من الثورة الفيتنامية ونقده القائم على «وإذا كان لا بدّ من التشبّه بالثورة الفيتنامية فإنّ درسها الأول هو تحريضها الفعلي والواقعي على اعتناق مبدأ التكيّف مع الظروف الموضوعية للمعركة ولمعطياتها ولطبيعة العدو وأدواته». [14]   

انطلاقاً من هذه النقطة الأخيرة، أنّ من حق الضحية اختيار أسلوب مواجهتها، والتكيّف مع الظروف الموضوعية للمعركة ولمعطياتها ولطبيعة العدو، يُمكن القياس على تجربة حركة المقاطعة  الـ (BDS) اليوم من خلال كتابات أحد أعضائها المؤسّسين عمر البرغوثي. بدايةً، يشير البرغوثي الى الظروف التي استدعت إلى تشكيل حركة المقاطعة، فيقول إنّها بدأت مع تراجع القضية الفلسطينية وزخمها نتيجة تشكّل نظام ٍعالميّ جديد أحادي القطبية على الصعيد الدولي، كما شكّل انتهاء إنهاء الانتفاضة الأولى الذي وسمه البرغوثي بأنّه «سابق لأوانه»، نتيجة إطلاق مسارات التسوية في مدريد وأوسلو؛ نقطة تحوّلٍ في مضمون القضية. ويستطرد البرغوثي في الحديث عن دور الأمم المتحدة السلبي وبضغطٍ من الولايات المتحدة الأمريكية في إبطال اعتبار الصهيونية حركة عنصرية، ممّا ساهم في عملية إعادة تأهيل وإدماج «إسرائيل» في المجتمع الدولي. وما عزّز هذا الإدماج، هو الاعتراف بـ «إسرائيل» من قبل منظمة التحرير الفلسطينية، اذ شكّل هذا الاعتراف تحوّلاً بارزاً في صورة «إسرائيل» من اعتبارها «دولة استعمارية حصرية لليهود وإقصائية إلى دولة طبيعية متورّطة في نزاع شكلي على الأرض». كما واكب هذه التغيّرات تغيراتٌ في الذات الفلسطينية؛ أصبحت منظمة التحرير جسماً كهلاً وعبئاً على الفلسطينيين أكثر من كونها بيتاً يجمعهم، وتعيش في «فوضى شاملة منذ سنوات». والسلطة الفلسطينية وفقاً للبرغوثي لا يُمكن لها تبنّي استراتيجية مقاومة لاعنفية خارج حدود ولايتها في الأراضي المحتلّة عام 1967 الفلسطينية.

في هذا السياق الطويل، تبلورت حركة المقاطعة وأهدافها الثلاث التي نشأت لتحقيقها، وهي إنهاء ثلاثة أشكالٍ من الظلم الذي ينتهك القانون الدولي والحقوق الفلسطينية: أوّلها، إنهاء احتلال واستعمار كافة الأراضي العربية (التي تمّ احتلالها في عام 1967)، وتفكيك الجدار وإزالته. ثانيها، الاعتراف بالحقوق الأساسية للمواطنين العرب-الفلسطينيين في «إسرائيل» وحقهم في المساواة الكاملة. ثالثها، احترام، والدفاع عن، والترويج لحقوق اللاجئين الفلسطينيين في العودة لبيوتهم وممتلكاتهم كما هو منصوص عليه في قرار الأمم المتحدة 194.

تضمّنت هذه الأهداف تحقيق عدّة أمورٍ على عدّة مستويات، أوّلها، تجاوز أطروحة «ماركس» فيما يتعلق بتقاليد المقاربات التاريخية. ففي معرض حديثه عن «كومونة باريس»، قال إنّ الثوريين «يستحضرون بقلق أشباح الماضي لخدمتهم، فيستعيروا منها أسماء وشعارات للمعركة… في سبيل تقديم هذا المشهد الجديد في تاريخ العالم في زيٍّ يكرّم الزمن واللغة… ولكنّ إيقاظ الموتى يمكن تبريره فقط عندما يخدم هدف تمجيد النضال والصراعات الجديدة، وليس لمحاكاة القديم، من أجل تكبير المهمة في المخيلة لا النكوص من حلولها في الواقع، كلّه بغرض إيجاد روحٍ جديدة للثورة لا جعل شبحها يمشي مرة أخرى». [15]  

وفقاً للأهداف التي رسمتها، وبالتركيز على مبدأ الحساسية تجاه السياقات للنضال من أجل تحقيق هذه الأهداف، استطاعت حركة المقاطعة تجاوز فخّ أطروحة ماركس. إذ أنّ «حساسية السياقات هو مبدأ أساسي لحركة المقاطعة، والتي تأخذها بأهمية قيادة حركة المقاطعة في اللجنة الوطنية للمقاطعة. فحركة المقاطعة ليست أيديولوجيا أو تُدار من قبل حزبٍ سياسيّ؛ فهي حركة واسعة تضمّ فيها جماعات وأفراد ذوي خلفيات أيديولوجية وسياسية متنوعة، والتي تجتمع على احترام القانون الدولي والتطبيق الأخلاقي المتّسق مع حقوق الإنسان فيما يتعلق بمسألة فلسطين». كما ويشدّد البرغوثي على المستوى العملياتي، فيقول إنّه بعيد القبول بالمبادئ التي تنصّ عليها حركة المقاطعة، على الناشطين وحركات التضامن «أن يختاروا أهدافهم والتكتيكات التي تناسبهم وتناسب بيئتهم السياسية والاقتصادية، فالمبدأ الناظم للعمل هو مبدأ يأخذ بحساسيات السياقات التي يتمّ فيها تخطيط وتنفيذ حملات المقاطعة». ولا تقتصرّ حركة المقاطعة على الدعوة للمقاطعة فحسب، بل تستدعي مقاربةً مبنيةً على الحقوق التي تتناول الحقوق الأساسية لفئات الشعب الفلسطيني الأساسية، وهي: إنهاء الاحتلال وإنهاء الأبارتهايد وإنهاء الإنكار لحقوق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، وهذه الأهداف في مجملها تؤسّس متطلّبات الحدّ الأدنى لتحقيق العدالة وتحقيق حقّ تقرير المصير غير قابل للتصرف. [16]  

والمنظور الذي يتمّ فيه التعامل مع الحقوق الإنسانية للفلسطينيين على اختلاف أماكن تواجدهم، هو حديث عن حقوق الإنسان التي لا تدخل في الإطار الليبرالي الضيّق لها، بل هنالك تشديد على منظومة حقوق الإنسان الأوسع من الحريات والحقوق الليبرالية، كالحديث عن الحقّ في تقرير المصير ومناهضة الاستعمار. وهو ما أعطى حركة المقاطعة نقطة قوة، فهي استطاعت بذلك أن تجمع بين ظهرانيها من يؤمنون بمشاريع سياسيّة مختلفة كحلّ الدولة الواحدة وحلّ الدولتين، ومن يدعم النضال المسلّح والسلميّ، في سبيل تحرير فلسطين التاريخية كاملة أو لإنشاء دولة فلسطينية جنباً إلى جنب مع «إسرائيل»، ومن له خلفيات أيديولوجيّة مختلفة، فهنالك اليساريين والليبراليين والقوميين والإسلاميين.

من هنا، يستنتج عمرو سعد الدين في مؤلّفه عن حركة المقاطعة، أنّ الحركة ساهمت بصورةٍ كبيرة في إحداث انزياحيْن في أوساط حركة التضامن العالمية، الأوّل قاد إلى توسيع الرواية الفلسطينية كي تستند إلى النكبة وتشمل كلّ فئات الشعب الفلسطيني، إذ سعت هذه الحركة لمناهضة المشروع الصهيوني بأركانه الاستعمارية الأساسية. أمّا الانزياح الثاني فهو متمركز حول الانتقال من الإطار التحرّري الفلسطيني المبني على النموذج التحرّري الجزائري الذي ساد فترتي الستينيّات والسبعينيّات، بما هو حركة تحرّر وطنية ضدّ الاستعمار استناداً إلى الكفاح المسلح أساساً، إلى نموذج مناهضة الفصل العنصري (الأبارتهايد) والمطالبة بالمساواة كما في جنوب افريقيا، وبالاعتماد أساساً على المقاومة السلمية. 

ويؤكّد سعد الدين على مساعي حركة المقاطعة لتأطير صدى النضالات الفلسطينية في الخارج وتعزيزها، بالإضافة إلى «المساهمة في الدفع بقناعةٍ بدأت تتشكّل في العالم بأنّ «إسرائيل» هي دولة فصل عنصري (أبارتهايد). وأصرّت على رواية النكبة وما تعنيه من تأثير المشروع الاستعماري الإسرائيلي في الشعب الفلسطيني بفئاته المتعددة… بهذا، أدّت حركة المقاطعة دور المترجم المساعد بتصرّف والوسيط الفعّال بين النضالات الفلسطينية ومبادرات مقاطعة في العالم، إذ خرجت المبادرات استكمالاً للنضالات الفلسطينية في الداخل. إذن، الحركة مساعد فعّال في الترجمة بتصرّف من النضال الفلسطيني إلى المقاطعة العالمية». [17]

ولكن من منظور علاقة المحلّي بالعالمي (سواءً من الشمال أو الجنوب) والعالمي بالمحلّي، وعلاقة النظرية بالممارسة، لماذا كان استدعاء أنموذج الأبارتهايد الجنوب إفريقي ضمن مقولة إنّ «لحظتنا الجنوب أفريقية فلسطينياً قد حانت»، وضمن تضمين فكرة استلهام التجربة الجنوب أفريقية في نداء المقاطعة الصادر عام 2005؟  ولعلّ الإجابة عن هذا السؤال تأتي من إجابةٍ على سؤالٍ آخر وُجِّه للبرغوثي، وهو: لماذا تشخّص «إسرائيل» كدولة أبارتهايد، وكيف هي مشابهة أو تختلف عن الأبارتهايد في جنوب أفريقيا؟ وكانت اجابته بأنّ: «النقطة الأكثر أهمية أنّآ لسنا مجبرين لإثبات أن إسرائيل مطابقة للأبارتهايد في جنوب أفريقيا لكي نحظى بوصف أبارتهايد. فالأبارتهايد هي جريمة عامة وفقاً للأمم المتحدة، حيث يوجد معايير معيّنة يمكن أن تنطبق أو لا تنطبق على حالة معينة، ولذلك نحكم على وضع بأنّه عنصرية ممأسسة في دولة بناء على خصائصه… نسخة إسرائيل من الأبارتهايد أكثر تعقيداً من حالة جنوب افريقيا، فهو شكل متطور منها».  [18]

وفي معرض ردّه على النقاشات التي تحيل إلى رفض الأنالوجيا بين «إسرائيل» وأبارتهايد جنوب أفريقيا، نظراً لاعتبار الاضطهاد الإسرائيلي أكثر فداحةً من أيّ بردايغم آخر؛ فإنّه يشير إلى أنّ نظام الأبارتهايد ليس علامةً مسجّلةً في جنوب افريقيا، ولا يجب أن يحدث تطابق مع نظام جنوب إفريقيا للأبارتهايد لإطلاق الوصف على نظامٍ ما، على الرغم من أنّ جذب انتباه العالم للأنظمة العنصرية تمّ من خلال نموذج جنوب أفريقيا، إلا أنّ تأكيد البرغوثي يأتي من أنّ الأمم المتحدة اعترفت بالأبارتهايد كجريمة مع تعريفٍ أممي. ورغم كل التشابهات بحسب البرغوثي، ففي نظره لا يوجد نظاما اضطهاد متماثلين.

كما ويؤكّد البرغوثي على أنّه في حركة المقاطعة «نستمدّ إلهامنا وتجربتنا أساساً من التاريخ الفلسطيني الطويل والغني للمقاومة اللاعنفية أو المدنية. فعلى مدار مئة عام، تاريخنا فيه جذور خصبة للمقاومة المدنية ضدّ غزو الاستعمار الاستيطاني لفلسطين. فقد قاومنا بشكل أساسي مقاومة مدنية، وليس مقاومة مسلحة، وذلك ضدّ الأسطورة التي تقول إنّ المقاومة الفلسطينية تقتصر على المقاومة المسلحة. الفلسطينيون من جميع شرائح المجتمع قاوموا مقاومة شعبية اجتماعية وسياسية وثقافية وفنية، كالإضرابات والمظاهرات ومقاطعة دفع الضرائب وتنظيم اتحادات النساء والتجارة… غالبية شعبنا مارسوا مقاومة غير عنيفة حتى قبل استلهام غاندي وكنج ومانديلا». [19]

بناءً عليه، كان الادّعاء بأنّه تمّ تبني حملة المقاطعة بشبه إجماع من قبل الفلسطينيين داخل فلسطين التاريخية وفي الشتات، حيث لعبت حركة المقاطعة دوراً في تذكير العالم بأنّ الشعب الفلسطيني يتضمّن اللاجئين الذين تمّ تهجيرهم من وطنهم – من قبل الميليشيات الصهيونية ولاحقاً دولة «إسرائيل»- خلال نكبة عام 1948 وحتّى يومنا هذا، وكذلك يتضمن الفلسطينيين من حملة الجنسية «الإسرائيلية» الذين بقوا على أرضهم ويعيشون الآن تحت نظام تمييزٍ عنصريّ مقنن. ونتيجة لذلك، يخلُص البرغوثي إلى أنّ «نداء المقاطعة أوّل وثيقة سياسية فلسطينية شعبية منذ عقود تعيد التأكيد على الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني الاصلاني بكافة فئاته».

من هذه الأرضية، نلاحظ قيام حركة المقاطعة بتحويرٍ نظريّ مهم على أنالوجيا الأبارتهايد من خلال تبيئة الأنموذج بما يتّسق مع خصوصية القضية الفلسطينية. فمن أهداف الحركة القائمة هو الدفع باتجاه استعادة الحقوق الفلسطينية للفلسطينيين في كافة أماكن تواجدهم، متجاوزاً المساواة بمفهومها الليبرالي بالاستناد إلى تحقيق العدالة كمبدأٍ أساسيّ من مبادئ الحركة. ولكن من أحد أوجه قصور هذه التبيئة هو الحديث عن العدالة بمعناها النسبي لا المطلق، وهي تكلفة الانتقال من أنموذج الجزائر الذي شكّل فيه رحيل المستعمِرين والمستوطنين جميعهم من الجزائر، إلى أنموذج الجنوب أفريقي الذي استدعى العدالة النسبية كتلك التي نالتها الأغلبية في جنوب أفريقيا بعد تقويض نظام الأبارتهايد، والتي قامت على التعايش بين مختلف مكونات المجتمع الجنوب أفريقي، بما فيهم من أغلبية متستعمَرة وأقلية مستعمِرة.

والسبب وراء المطالبة بالعدالة النسبية على طريقة جنوب افريقيا وفقاً للبرغوثي، هو أنّ تطبيق نموذج الجزائر في السياق الفلسطيني يحمل في طياته ظلماً جديداً وتأبيداً للصراع. ولعلّه لهذا السبب بالتحديد، أو في أحد أوجهه، لا تتّخذ حركة المقاطعة موقفاً مؤيداً أو معارضاً للمشاريع السياسية المختلفة والتي تتراوح ما بين حلّ الدولة الواحدة وحلّ الدولتين، بل تقف على الحياد في النقاشات الدائرة حولها. إذ تعتمد حركة المقاطعة على وتتبنّى مقاربة الحقوق (Rights-based approach)، وليس مقاربة الحلول (Solution-based approach)، وذلك على الرغم من الموقف الشخصي لعمر البرغوثي ودعمه لخيار الدولة الواحدة الديمقراطية والعلمانية. [20]

بناءً عليه، سيكون النقد الموجّه لاستعارة الأبارتهايد في فلسطين [21] محقّاً وله وجاهته حين لا نأخذ بعين الاعتبار ما جرى عليها من تبيئة في السياق الفلسطيني على يد حركة المقاطعة، فالاستعارة التي لا تضرب جذورها عميقاً في الأرض الفلسطينية وسرديّتها الوطنية لا يمكن لها أن تعيش. لكن هذا ليس الحال في حركة المقاطعة التي وظّفت أنالوجيا الأبارتهايد ضمن البيئة الفلسطينية. فعمر البرغوثي على سبيل المثال وفي معرض تبريره للمقاومة غير العنيفة فلسطينياً التي تنتهجها وتدعو إليها حركة المقاطعة (على حساب المقاومة المسلّحة التي اعتبر العلاقة التي تربطها بالفصائل علاقة إدمان لا تأخذ بعين الاعتبار المتغيرات الطارئة)، كان على إدراك كامل بالنفور من دعوات المقاومة السلمية، وهذا وفقاً إليه ناتج عن سببين، «الأول، أنّ أغلب الداعين إلى اللاعنف يدعمون الحدّ الأدنى من الحقوق الفلسطينية، وعادةً ما يستثنون أو يقومون بتمييع حقوق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة والتعويض وهي حقوق معترف بها دولياً. أمّا السبب الثاني، أنّ الحملات اللاعنفية الفلسطينية غالباً ما كانت تموَّل، إن لم تكُن موجّهة، من خلال منظماتٍ غربيّة وحكومات أو ما شابهها، والتي جميعها تمتلك أجندة سياسية تتضارب مع الأجندة الوطنية الفلسطينية المعلن عنها، خصوصاً فيما يتعلّق بحق العودة». فكان «هذا الارتباط العميق بين اللاعنف والبرنامج السياسي في حدّه الأدنى جعل من اللاعنف موضوع ريبة وموضع نفور بين الفلسطينيين، خصوصاً أنّ المقاومة المسلحة ارتبطت ببرنامج الحدّ الأقصى السياسي». [22]  

من هنا، يُمكن فهم برنامج الحدّ الأقصى الذي تبنّته حركة المقاطعة، وفي صلبه تطبيق حقّ العودة والتعويض للاجئين الفلسطينيين؛ كدليل على القراءة الشاملة للمسألة الفلسطينية وإرفادها بعناصر من أنالوجيا الأبارتهايد قادرة على محاكاتها ضمن السياق الفلسطيني. إلا أنّ هذا التبني بدوره قد خلق معضلته الخاصة؛ فتحت عنوان التماسك الأخلاقي في مواجهة التأثير الاستراتيجي، يطرح البرغوثي إشكاليّة عملياتية لدى حركة المقاطعة في سعيها لتحقيق «توازن ذهبي» بين التماسك الأخلاقي والتأثير الاستراتيجي. فـ «التمسك بحقوق جميع الفلسطينيين كما هو منصوص عليها في القانون الدولي، والالتزام بنضال متناسق أخلاقياً وجامع وتقاطعيّ ومناهض للعنصرية، لا يعدّ كافياً لتحقيق أهداف الحركة: الحرية والعدالة والمساواة. معاً، تقوم حركة المقاطعة بتنظيم حملات استراتيجية، حساسة للسياقات، يمكن كسبها، تدريجية ومستدامة لتحقيق هذه الأهداف». وأن تكون «ثورياً لا يعني رفع أكثر الشعارات راديكالية والتي لا يمكن تطبيقها، ونتيجة لذلك تمتلك فرصاً ضئيلة للمساهمة في عملية فعالة تستهدف إنهاء واقع الاضطهاد. ما هو ثوري حقيقة، وأخلاقيا كذلك، رفع شعار مبدئي ومتماسك أخلاقياً يفضي إلى فعل على الأرض يقود إلى عدالة حقيقية وانعتاق».

   

وبذلك، يعدّ البرغوثي رفع سقف المطالب عالياً بما لا يتناسب والواقع سيجعل من فعالية النضال تقترب من الصفر، وسيتحوّل رافعو السقف إلى هامشييّن يعيشون في «فقاعتهم الثورية». في المقابل، يناقش البرغوثي إذا ما كانت الأهداف استجابة لمتطّلبات برغماتيّة استدعتها الظروف الحالية، دون الأخذ بعين الاعتبار المبادئ الناظمة لعمل حركة المقاطعة وأهدافها طويلة الأمد، سيتمّ المخاطرة بتلك الأهداف تحت وطأة قوى الاضطهاد المهيمنة. [23] في هذا الإطار، يمكن القول إنّ عقل البراكسيس والمراوحة ذهاباً وإياباً بين النظرية والواقع لدى حركة المقاطعة قد قام بتخليق بيئة تستجيب لمتطلّبات المرحلة، دون الوقوع فريسة لهشاشتها وهشاشة أهدافها، ومن هنا تنبع أهمية التحوير الذي طال أنالوجيا الأبارتهايد لديها، لنفي المشروع الصهيوني وأُسسه على أرض فلسطين وخارجها من خلال التأكيد على الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني. 

وأمّا عن مدى قدرة هذا النموذج على تحقيق أهدافه بالطرق السلمية فهذا مبحث آخر، فالطريق الثالث الذي خطّته حركة المقاطعة يتجاوز المفاوضات كطريقٍ وحيد وحصريّ لتحصيل الحقوق، وهو ما أثبت فشله، فكانت الدعوة إلى ضرورة تجاوزه لما فيه انعكاس سلبي على تراكم الفعل النضالي الفلسطيني؛ في الوقت الذي كانت فيه القيادة الفلسطينية تعطي أولوية خلال مرحلة أوسلو لإنشاء علاقات بالدول، أولت حركة المقاطعة اهتماماً بالغاً ببناء صلاتٍ بالحركات القاعدية حول العالم. 

في المقابل، تجاوز الطريق الثالث للمقاطعة الانخراط في العمل التنظيمي السياسي، وذهب باتجاه العمل الاحتجاجي الشعبي أو المدني المسيّس، فكان تشكّلها نتيجة افتقاد الفئات المشكّلة لها للتعبير السياسي المستقلّ في أجواء الانتفاضة الثانية، وخصوصاً في الطريق التي خطّته التنظيمات الفلسطينية والقائم على الاعتماد بدرجةٍ عاليةٍ على العنف، والذي يرى فيه عمر البرغوثي عملاً نخبوياً. فتحت عنوان «أشكال المقاومة»، يتساءل البرغوثي عن «أشكال المقاومة الفاعلة والقادرة على مواجهة ميزان القوى المحلّي والإقليمي والدولي الذي يميل بشكلٍ كبير إلى صالح أعدائنا، ويتساءل كذلك عمّا إذا كانت المقاومة تخصصاً تمارسه فئة دون غيرها من فئات الشعب، أم هو واجب الجميع كلّ بحسب قدرته، وهل تعريف المقاومة وتحديد آلياتها حكر على أحد؟ وإذا كان الجواب لا، فلا بدّ إذن، من أن نعتبر المقاومة، بالضرورة، مسؤولية جمعية وفردية، وهي متعدّدة الأشكال بحسب السياق وبحسب من يمارسها». 

غير أنّه وجّه نقداً للمقاومة المسلحة باعتبارها عملاً نخبوياً، على الرغم من أنّه حق مكفول بحسب الأعراف الدولية، وذلك بناءً على المتغيّرات الدولية والتي من وجهة نظره ما عادت تسمح بالمقاومة المسلّحة بالمفهوم الاستراتيجي، حيث فقدت جدواها ودورها التراكمي في نضال الشعب الفلسطيني. من هنا، يدعو البرغوثي إلى المقاومة التي تحقّق المردود الأقصى من الناحية السياسية، والتي تتصاحب مع مبدئية أخلاقية، كما هي المقاومة المدنية وفي مقدمتها حملات المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات. فالأخيرة، تجبر إسرائيل «على المواجهة في صراع هي الأضعف فيها بكلّ تأكيد، إذ أنّها تحيّد أغلبية عناصر قوتها وجبروتها التي كثيراً ما قهرتنا بها في ساحات المواجهة التقليدية». [24]

معسكرات الأعداء والأصدقاء بين تجربتين

إبّان هزيمة حزيران 1967، وعطفاً على عقل البراكسيس، وخروجاً عن النظريات المعرفية الجيوسياسية المعولمة لصالح حساسية السياقات المحلّية وخصوصيتها، رفض وديع حداد أن يشتمل معسكر الأعداء على ما سُمّي بالبرجوازية الصغيرة -نظام جمال عبد الناصر كمثال- وكان ردّه في حينها على نايف حواتمة أنّنا نخوض معركة تحرّرٍ وطني لا ثورة الطبقة العاملة. هذا التوجّه لدى حداد انعكس على تعاطيه مع تحديد معسكرات الأصدقاء والأعداء للثورة الفلسطينية وطريقة عمل المجال الخارجي.

وفي كتيّب عن الجبهة الشعبية والعمليات الخارجية، يوضح الأسباب التي اختارت فيها الجبهة العمليات الخارجية، وذلك كان بناء أولاً على تحديد طبيعة العدو الذي نجابهه وممّ يتكون، فمن خلال معرفة العدو يمكن ضربه ضرباتٍ استراتيجية بغضّ النظر عن موقعه الجغرافي. ويوضّح أحد القادة العسكريين في الجبهة الشعبية لمجلة الهدف، بأنّ عمليات الجبهة في الخارج منطلقة من «الخطة السياسية الأساسية التي تعتمدها الجبهة في تقييم العدو ومعسكره. هنالك أسباب اقتصادية ونفسية، تدعو إلى ضرب الأهداف في الخارج. ولكن من الناحية العسكرية: هناك مبدأ في حرب العصابات يؤكّد دائماً، ويطالب بضرورة ضرب العدو في المكان الذي يمكن فيه ضربه، وفي الوقت والأسلوب اللذين يحققان ذلك، بأقصى ما يمكن من العنف، لأنّ العنف هو المبدأ الأساسي في الحرب». [25]

وتحت عنوان «من هم أعداؤنا؟»، يناقش كتيّب الجبهة الشعبية والعمليات الخارجية بأنّ تحديد معسكر العدو أمر أساسيّ لنجاح أيّ ثورة، وتحديد المعسكرات هي دلالة على الرؤية الثورية الواضحة، التي تتضمّن تقييم الخصم ومعرفة حقيقته معرفةً تامةً من خلال التحليل العلمي العميق لمعسكر الخصم وخصائصه، وذلك لأنّ طبيعة العدو تحدّد طبيعة المواجهة. من هذا التحليل، يخلُص الكتيّب إلى أنّ معسكر الخصم ليس «إسرائيل وحدها وإنّما هو إسرائيل والحركة الصهيونية العالمية والإمبريالية العالمية والرجعية العربية». وللتخصيص أكثر، وبناءً على الاستراتيجية العسكرية للجبهة الشعبية، انطلق التحليل في تفصيل الركائز التي يقوم عليها العدو الصهيوني، وهي الركيزة الاقتصادية والعنصر البشري والمؤسسة العسكرية، ممّا يؤدي إلى ضرب هذه الركائز أو إحداها إلى استنزاف العدو كمقدّمةٍ للانتصار عليه.

من هنا، استخلص وديع حداد دروساً وعِبراً متعلّقة بالأيديولوجيات الناظمة للفعل النضالي على المستوى الفلسطيني والعالمي، إذ سعى إلى بلورة فعلٍ نضاليّ وأيديولوجيا للمقاومة خاصّة بالمحرومين والمضطهدين والمستعمَرين من شعوب العالم تتقاطع مع النضال ضدّ الصهيونية والإمبريالية العالمية، فسعى إلى ابتكار تنظيمه القتاليّ الخاص لمواجهة العدو. وكما ما تمّ إيضاحه في الجزء الأول من المقال، فإنّ وديع حداد سعى إلى بناء جبهةٍ عريضةٍ تشتّت قوى العدو وتضربه في مفاصله الضعيفة، نظراً لكون قوى التحرّر ضعيفة ولا قدر لها على المواجهات الكبرى. [26]

وكما أوضح بسام أبو شريف، «استوعب الدكتور وديع حداد، بعقله العلمي وقدرته على الرؤية الشفافة، أن لا سبيل أمام الفلسطينيين سوى مراكمة عمليات الدفاع عن النفس ومقاومة من نهبوا أرضهم وطردوهم من بيوتهم، كي يتحول هذا التراكم إلى تغيّر نوعي، يشمل الميزان على الأرض، والرأي العام العالمي. كان عليه أن يجد المعادلة المناسبة: إذ كان الهدف واضحاً، إنما يتطلّب اختيار السبل والوسائل للوصول إليه، أيّ سبل ووسائل إحداث التراكم الكمي في مقاومة العدو، والدفاع عن النفس. وبينما حار الثوريون الأوروبيون في الإجابة عن سؤال «ما العمل؟»، اختط وديع حداد تكتيكاً يسهل عليه عملية التراكم… فآلة العدو الضخمة والمعقدة والمتقدّمة تكنولوجيا لا يمكن مواجهتها والانتصار عليها بأدواتٍ شبيهة، لكن من الممكن إحداث خللٍ فيها من خلال براغيها أو مفاصلها أو تيارها الكهربائي. أيّ أن توجيه ضرباتٍ الى نقاط ضعف هذا العدو الظالم والمعتدي والمغتصب أرض شعب آمن، سوف يربك آلته العدوانية الضخمة. بما أنّ هذه الآلة ممتدة الأذرع ومتناهية الأطراف، فلا شكّ سوف تطال عملية ضرب مناطق الضعف ذراعاً، أو قدماً، أو مفصلاً في بقعة أخرى من العالم المتّحد ضدّ الأنظمة الرأسمالية الظالمة والصهيونية الدموية التوسعية. كان هذا الوضع في نهاية عام 1968، وهكذا تبلور شعار «وراء العدو في كل مكان». و«في كل مكان»، كانت تعني ملاحقة العدو في أكثر من مكان وبمشاركة تحالفاتٍ ثوريةٍ دولية. فـ «إسرائيل» هي طفل الرأسمالية الظالمة المدلّل، لأنّ مصالحها تقتضي ذلك». [27]  

وبذلك، أقام الجهاز الخارجي علاقاتٍ وثيقة مع منظّمات ومجموعات ثورية كانت تعتقد بأنّ المعركة واحدة على مستوى العالم، وإن كانت لكلّ بلد أوضاعه وخصوصياته. فدراسة الواقع وتطوّراته قاد حدّاد إلى فكرة ضرورة تشتيت التركيز «الإسرائيلي» من خلال توسيع رقعة المعركة، والتحالف مع قوىً مستعدّة للقتال ضدّ «إسرائيل» في الساحات الأوسع من الأرض المحتلّة، أيّ في منطقة الشرق الأوسط والعالم. ولذلك، كان استنتاجه بأنّ توسيع الرقعة الجغرافية للمعركة يتطلّب التحالف مع منظّماتٍ عالميّة مقتنعة بضرورة التصدّي لـ «إسرائيل»، لأنّها إفراز من إفرازات الإمبريالية على شكل استعمار استيطاني، وبحيث يولد وعي عالميّ للحقوق الفلسطينية، على رأسها حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير.

ولتحقيق ذلك، قام وديع حداد بوضع خطّة العمل لإقامة هذا الحلف الدولي. إذ عمل بدايةً على استبدال العلاقة السياسية والإعلامية مع المنظّمات الثورية في العالم ببرنامج عملٍ يشمل الكفاح المسلّح أو العنف الثوري. واستند حدّاد في بلورة هذه العلاقة إلى الاتفاق على بلورة أرضيّةٍ سياسيّة صلبة قبل الشروع في التعاون وفق برنامجٍ محدّد. إذ يقوم حدّاد وجهاز المجال الخارجي بتدريب وتأهيل التنظيمات الحليفة من أجل ترجمة البرنامج إلى خطواتٍ عملية، والتأهيل المقصود هنا لا يقتصر على الجانب العسكري فقط، بل أيضاً التأهيل الأيديولوجي والنفسي والسياسي وفقاً للمعركة التي يخوضها كلّ شعب ومتطلباتها.

بمعنى أنّ العلاقة بين المحلّي والعالمي مقادة من جانب ما هو محلّي وضروراته وتأثيراته التي تأخذ صداها عالمياً، فمثلاً ارتأت التنظيمات الثورية التي تجاوزت فشل انتفاضة 1968 الأوروبية الانضمام إلى حركات التحرّر الوطني للتصدّي لأنظمتها الرأسمالية، فكان دافعها الأساسي قائماً على فكرة أن تحقيق أهداف حركات التحرّر سوف يضعف الأنظمة الإمبريالية، ممّا سيتيح الفرصة لتراكماتٍ ثوريّة تؤدي إلى انهيارها تحت وطأة أزمتها. 

من هنا، ووفقاً لبسام أبو شريف، «تطابقت الأهداف مركزياً، فمن ناحية، أراد الفلسطينيون حلفاء دوليين يعملون معهم على ضرب مصالح إسرائيل، وهي مصالح إمبريالية. ومن ناحية أخرى، أراد الثوريون الدوليون الانخراط في كفاح ثوري مسلّح ضد مصالح الإمبريالية من خلال حركات التحرّر الوطني. ذلك كان الأساس الموضوعي للتحالف الذي أنشأه الدكتور وديع حداد… كان كلّ تنظيم يعلم أنه ضمن تحالف واسع، يستند إلى الأساس نفسه، وله البرنامج العام نفسه. كان جزءاً من التحالف ومستقلّاً عن التنظيمات الأخرى، أيّ لكل تنظيم صلة بالمركز، من دون أن يعرف التنظيم الآخر. عندها أطلق وديع حداد شعار «وراء العدو في كل مكان»، وفتحت صفحة جديدة في تاريخ الكفاح المسلح، صفحة سطرها تحالف ثوري فلسطيني وأممية ثورية صغيرة». [28]

ينقلنا هذا الى تجربة حركة المقاطعة، والتي لا يمكن فهمها دون أن نفهم أبعادها العالمية، بحسب الباحث عمرو سعد الدين. تحت عنوان فرعي موسوم «المنطق وراء حركة مقاومة لاعنفية معولمة»، يستحضر عمر البرغوثي في دراسةٍ له بداية مقولة مارتن لوثر كنج بأنّ «الظلم في أي مكان هو تهديد للعدالة في كل مكان»، وبأنّنا «محاصرون في شبكة لا مفرّ منها من التبادلية». هذه التبادلية يؤكد البرغوثي، لا تتّضح أهميتها أكثر من أي وقت مضى كما هو الحال اليوم، فأنظمة الاضطهاد في عصرنا تجد شريان حياتها من خلال التواطؤ الواعي من قبل أنظمة اضطهاد أخرى، سواءً أكانت تلك دولاً أو شركات أو حتى مؤسسات. بناءً عليه، يشدّد البرغوثي على أنّ الاضطهاد العالمي يستلزم بطبيعته مقاومة أممية، من هنا أتت حركة المقاطعة الفلسطينية لتحصيل الحقوق الفلسطيني من خلال سعيها إلى الإضرار بالشرايين التي تمدّ نظام الاضطهاد الإسرائيلي الاستعماري بالحياة، وقد اعتبرها خطوة أساسية نحو تأمين الحقوق الفلسطينية تحت ظلّ القانون الدولي. 

هذه المقاومة، وفقاً للبرغوثي، نابعة من الفهم العميق والأكثر علمية وواقعية لمصادر القوة لدى الفلسطينيين من جهة و«إسرائيل» من جهة أخرى، إلى جانب مصادر الضعف عند كليهما، والتوجه إلى التأثير على عالمٍ يصفه البرغوثي بأنّه ليس لنا، كي يصبح لنا ولجميع المضطهدين في الأرض مثلنا. كما أنّ هذا النمط من المقاومة قائم على ما أسماه البرغوثي في مكانٍ آخر بإعادة التقييم النقدي للإطار المفاهيمي بما يتضمّنه من تصوّرات واستراتيجيات للمقاومة، والقدرة على تحويلها إلى برنامجٍ تقدّمي يربط النضال الفلسطيني مع الحركات الاجتماعية الأممية (International Social Movement). فالتفوق الأخلاقي الفلسطيني يشكّل عامل قوةٍ مهم وأساسي في مواجهة مكامن قوة إسرائيل العسكرية والاقتصادية، ضمن بردايغم الحقّ في مواجهة القوة. وبناءً عليه، عدّ أكثر الاستراتيجيات فعالية وأخلاقية هي حملات المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، التي تمتلك حساسية تجاه السياقات، وتتّسم بأنّها متدرجة ومتنوعة. واعتبر أنّ الساحة المركزية لها هي الغرب -دون إغفال بقية العالم- الذي يمتلك مقاليد السياسة والاقتصاد الدوليين، والذي لعب تاريخياً دور المتروبول للمشروع الاستيطاني الاستعماري الصهيوني، ودوراً حاسماً في تأبيد الهيمنة الاستعمارية الإسرائيلية والأبارتهايد، حيث أصبحت التخوم المهمة للغرب في حربه الإمبريالية ضدّ باقي الإنسانية، كما كان الحال مع نظام جنوب أفريقيا سابقاً.

وللتفصيل أكثر، يناقش البرغوثي كيف تُبنى عملية التضامن بشكلٍ عام، والعوامل التي تولد أشكال تضامنٍ مختلفة مع المجتمعات المضطهدة. أولها، مصدرها أخلاقي مناهض للظلم. ثانيها، نابع من الأيديولوجيا التي ترى في النضال التحرّري في كلّ مكان كمساهمة في هزيمة الإمبريالية. ثالثها، الحسّ بالمسؤولية، أو الالتزام بالوقوف مع المضطهدين في حال إدراك تواطؤ الدولة أو المؤسسة الخاصة بالفرد في الاضطهاد. رابعها، فهم أنّ هذا الاضطهاد البعيد ليس فقط مدعوماً من دولة أو مؤسسة الفرد بل هو متقاطع ومرتبط عضوياً بالاضطهاد المحلّي الذي يعيشه.

وفي حال حركة المقاطعة، فهي تركز على العاملين الأخيرين في بناء حركة التضامن العالمية، بالاستناد على ما يطلق عليه التقاطعية بين القضايا (Intersectionality)، وهو وفقا للبرغوثي «مصطلح طوّرته الحركة النسوية السوداء في الولايات المتحدة الأمريكية، وأصبح بشكلٍ سريع مكوناً لا غنى عنه للنضال الفعال من أجل العدالة للمجتمعات المضطهَدة». فحركة المقاطعة تمتلك وتعمل على تأسيس شبكاتٍ متقاطعة مع حركات أخرى هدفها تحقيق العدالة ومواجهة الاضطهاد خصوصاً في الولايات المتحدة الامريكية وأوروبا. وتُعدّ التقاطعية العالمية مكوناً لا غنى عنه في أيّ حركة مقاومةٍ محلّية بالعموم، وهي كذلك بالنسبة لحركة المقاطعة باعتبارها جزءاً أساسياً من تكوينها، فطبيعتها الجامعة والتقدمية ساهمت في تغذية «روابط للتضامن المتبادل مع حركات تدافع عن حقوق اللاجئين، والمهاجرين والسود والنساء والعمال والأمم الأصلانية ومجتمعات المثلية والأقليات الدينية والعرقية». [29]

وبذلك، يؤطّر البرغوثي انتماء حركة المقاطعة في إطار بردايغم حديث قيد التطوّر للمقاومة المعولمة والتضامن الإنساني، إذ يرى أنّه يتمّ الاعتراف فيها بشكلٍ متزايد على أنّها شريك مهم في الموجة العالمية التقدمية التي تقاتل من أجل العدالة الأصلانية والعرقية والاقتصادية والجندرية والاجتماعية والبيئية، جنباً إلى جنب مع حركات العدالة البيئية والجندرية وحركة حياة السود مهمة في الولايات المتحدة الأمريكية. ففي «التحالف الهمجي بين الرأسمالية في الغرب مع الإخضاع الاستعماري العنصري والإقصائي الإسرائيلي، فإنّ حركة المقاطعة العالمية ضد إسرائيل لا تمثّل فقط مقاومة مدنية لاعنفية تقدمية ومناهضة للعنصرية ومعقدة ومستدامة واخلاقية، بل فرصة حقيقية لأن تكون المحفز السياسي وملاذاً ومرتكزاً لحركة أممية ناشطة قادرة على إعادة التأكيد على حقوق جميع البشر وخصوصاً فيما يتعلق بالحرية والمساواة والكرامة وحق الشعوب بتقرير المصير».

وترى حركة المقاطعة النضال المشترك مع حركة حياة السود مهمة وحركات السكان الأصليين والمجتمعات الملونة الأخرى في الولايات المتحدة الامريكية نابعة من تجربة الفلسطينيين كشعب أصلاني، إذ تشترك المؤسسة الأمريكية بصلات تاريخية وأيديولوجية مع إسرائيل، فكلاهما أنظمة استعمار استيطاني قائمة على تفوق المستعمِرين وتجريد المستعمَرين من إنسانيتهم. ومن هذه الخلفية، يرى البرغوثي أنّ محاربة العسكرة والعنصرية الممأسسة وسياسات الشرطة الوحشية محلّياً في الولايات المتحدة الأمريكية لتحقيق العدالة والمساواة، متّصل بشكلٍ عميق مع إنهاء أو تقليص دور الإمبراطورية الأمريكية في الخارج. فقد دعت حركة المقاطعة إلى مقاطعة شركاتٍ أميركية محدّدة بسبب تواطؤها مع «إسرائيل»، لكنها لم تدعُ حتى الآن إلى مقاطعة شركات أمريكية نتيجة تواطؤها مع الإدارة الأمريكية والدولة الامريكية راعية «إسرائيل». [30]

هذا يحيلنا إلى أنّ الفارق بين التجربتين في بنائهما لمعسكرات الأصدقاء والأعداء قائم على الأرضية التي اختارتها كلّ تجربةٍ لبناء تحالفاتها. فالتجربة الأولى، المجال الخارجي، قد بنت وأسّست تحالفاتها من موقع حركة تحرّر وطني، انتقل فيها الزخم من المحلّي للعالميّ، واستطاعت من خلالها فرض رؤيتها للصراع والحلول المطلوبة، وقامت بالمساهمة الفعّالة في صياغة الأجندة الثورية للمنظّمات الثورية العالمية التي شاركتها أسس الصراع. في حين أنّ حركة المقاطعة تموضع نفسها في إطار حركات التغيير الاجتماعي وشركائها في ذات الحقل، فدورها مقتصر على المناصرة والتضامن دون المشاركة في تعميق الرؤى التي تقوم عليها هذه الحركات، والممارسة الواجب تطويرها لتواكب قضايا العدالة والمساواة. ولعلّ أبرز دليل على هذا القصور، هو توجّه الناشطين العالميين لحركة المقاطعة بالسؤال «أين المؤتمر الوطني الأفريقي» الخاص بكم؟ 

ولعلّ السبب الكامن وراء هذا القصور هو أنه في التيار الرئيسي للنظرية السياسية المعاصرة، يتمّ تداول حقول الثقافة والإثنية واللغة حصراً، وليس على العنصرية والاستعمار. وتعتبر سياسات الهوية والاختلاف المركز في هذا التيار، وهو دلالة على الانتقال من المشاريع والسرديات الكبرى للحداثة، إلى السرديات والمشاريع المتذرّرة والمتمحّورة حول سياسات الاختلاف والهوية في الحداثة المتأخرة أو ما بعد الحداثة. فالنظرية الليبرالية حول سياسات الهوية/الاختلاف تشوّش على دور السلطة والقوة في كيفية إنتاجها وتنظيمها وضبطها، وذلك من خلال إعادة اختراع الأمة بنسيان الماضي، وتصور الأمة من جديد على أنّها مبنية على أجساد الذوات المتعدّدة ثقافياً. فصور فسيفساء التعدّدية تغطي على الغزو والحروب والإقصاء. وفي العموم، فإنّ نظريات التعدّدية الثقافية الليبرالية لا تواجه صراحة التواريخ والمشاكل المستمرة للاستعمار والعبودية والتمييز، حيث يتمّ تجاهل هذه القضايا من خلال مصطلح التنوع (Diversity)، إذ أنّه في ظاهره يبدو محايداً، إلا أنّه من خلاله يتمّ النظر إلى الاختلاف الثقافي كخاصيةٍ تأسيسيّة للهوية القومية في الديمقراطيات الغربية الليبرالية، وضمن منطق الوحدة داخل التنوّع الشكلي الذي لا يسائل جذور المظالم على اختلافها.

وهذا يقودنا إلى موقف حركة المقاطعة من أنّها لا تستهدف الأفراد بل المؤسسات التمثيلية، « فهوية أحدهم/ن كما تؤيد الحركة، لا يجب أن تقلّل من أو تقيّد وتحصر استحقاق أحدهم/ن لحقوقهم. إذ أن حركة المقاطعة تستهدف التواطؤ لا الهوية». على عكس نظرة المجال الخارجي واعتبار العنصر البشري من إحدى ركائز النظام الصهيوني، وأنّ باستهدافه فإنّه استهداف لصميم النظام الصهيوني بهدف استنزافه من العنصر البشري المكوّن له والذي لا يمكن تعويضه. غير أنّه من الضرورة الإشارة إلى أنّ المرونة التي تبديها حركة المقاطعة نابعةً من كونها حركة معولمة، وقراءتها للواقع بأنّ بعض حلفائها ليسوا على وفاقٍ تام مع رؤية حركة المقاطعة. من هذا الباب فالحركة تعدّهم حلفاء لا شركاء استراتيجيّين، ولكي يتحولوا إلى الأخيرين يجب عليهم أن يوافقوا على الحقوق الشاملة التي تدعو حركة المقاطعة للنضال من أجلها. فقوة الجذب التي تقوم عليها حركة المقاطعة، هو ما تطلق عليه تجذّرها في مبادئ أممية حول حقوق الانسان والقانون الدولي، والتي تلقى آذاناً صاغية ورواجاً لدى الليبرالية كما التقدّميين وأصحاب الخلفيات الأيديولوجية المتنوعة. كما أنّها نابعة من تفهّمها لحساسيّة السياقات، فهي تأخذ بعين الاعتبار ظروف شركائها والواقع السياسي والقدرة التنظيمية والتكتيكات المناسبة للقيام بحملات المقاطعة. من هنا، كان ربط النضال المحلّي بالنضال العالمي لتعرية وكشف تواطؤ أجهزة الاضطهاد المشترك للمجتمعات، يتحوّل خلالها التضامن من فعل خارجي للعطاء إلى مكوّن أساسي للنضال الداخلي كذلك ضد عدو مشترك. [31]

زمنية صناعة البطولة وزمنية سياسة ما بعد البطولة

في كتابها «أبطال وشهداء فلسطين: سياسات تخليد الذكرى الوطنية»، تشير لاله خليلي إلى وجود ثلاثة خطابات لتلك السياسات، أوّلها خطاب وسردية البطولة التي ارتبطت بالثورة الفلسطينية وانتهت بخروج قوات الثورة من لبنان على إثر الغزو «الإسرائيلي». في هذا الخطاب الذي بلورته حركات التحرّر في ستينيّات وسبعينيّات القرن العشرين تتحدّث عن شعوب العالم من خلال مفرداتٍ ثوريّة، والسعي إلى إحداث تغييراتٍ ثوريّة على المجتمع والسياسة، تحوّل فيها الفلسطيني السلبي تجاه واقعه إلى فاعلٍ أساسيّ في بلورة مصيره وأخذ زمام المبادرة. إذ تمثّل لحظات الانحدار واليأس المؤقتة ضمن هذا الخطاب فتقاً في التاريخ الوطني الثوري، وتعمد لحظات البطولة إلى كسر قيود الإذلال التاريخي، وتعدّ لحظات البطولة والتضحية لحظاتٍ مولّدة للحياة والفعالية الذاتية (Agency)، وتساهم في تشكيل الهوية الجمعية، وذلك لأنّ سردية البطولة القائمة على الكفاح المسلّح تصرّ على تفسير جميع أحداث الماضي غائيّاً كما لو أنّها تطوّر ملحميّ للشجاعة الثورية. من هنا كان استحضار التاريخ النضالي للشعب الفلسطيني ما قبل النكبة، واعتبار الثورة المعاصرة للفدائيين استمراراً لذلك التاريخ، إذ أضحى الفدائي الحيّ بطلاً، والفدائي الميت شهيداً، وكلاهما يشكّلان بنيوياً سردية البطولة. [32]

ينطبق حديث خليلي على تجربة المجال الخارجي كنموذجٍ لفعل وتخليق البطولة. فمثلاً يقول غسان شربل إنّه تلقى اتصالاً هاتفياً في الوقت الذي كان يعدّ فيه كتابه، وكان مضمون الاتصال أنّه ينشغل بكارلوس وينسى من جعله «نجماً»، والقصد هنا وديع حداد ودوره في صناعة كارلوس كمقاتل. وللتخصيص أكثر، يعرّج بسام أبو شريف على مفهمة صناعة البطولة في جهاز المجال الخارجي، فوفقاً للأخير، لطالما رأى وديع حداد أنّ شخصية البطل مهمة لجميع الناس، فهي «تأسر ألبابهم وتجذبهم لمتابعة الأحداث». ولم يقتصر دور حداد على صناعة كارلوس فقط، بل على مدار عقود عمد إلى عمليات خلق أبطال أثاروا مخيّلة الناس وشدّوا أنظارهم إلى القضايا التي يقاتلون من أجلها، وخصوصاً طرح قضية الشعب الفلسطيني التي تمثّل قضية الحق والحرية والعدالة.

وكان المفتاح لصناعة الأبطال بالنسبة لوديع هو ما حاول إشاعته في بيئته النضالية، فوفقاً لابنه «هناك تعبير أخلاقي جداً كان يستخدمه كتعبيرٍ عمليّ وهو جزء أساسيّ من القدرة على الأداء في المحيط النضاليّ الذي كان يتصوّر أنّنا يجب أن نعيش فيه، ينطلق من أخلاقيّة نكران الذات. لعلّ هذه المسألة بالذات من أول المفاتيح لفهم شخصيته. كان يعيش حالة نكران الذات هذه ويسعى إلى إشاعتها في نفوس من هم حوله، بالممارسة لا بالكلام». ولعلّ هذا ما دفعه لمساءلة كارلوس بقسوة عقب عملية احتجاز أوبك، إذ وبخه قائلا «أنت منفّذ ولست نجماً سينمائياً. لا مكان لدي لممثلي السينما ونجوم السينما. لدي مكان للأبطال الذين يضحون في سبيل قضايا التحرّر والحرية، لا لمن يغريهم المال… المال لا يصنع ثورة، والثورة التي يقودها رجال أبطال هي التي تصنع المال وتنتزع الحرية ». حيث كان من أساسيات العمل في المجال الخارجي هو الاستعداد لمصائر محتملة بالسجن أو الاستشهاد. [33]

على العتبة الأخرى، تقف تجربة حركة المقاطعة، والادعاء هنا أنّها قائمة على خطابات وسرديات الصمود من جهة وكون الفلسطينيين ضحايا من جهة أخرى. ففي هذه الخطابات التي تبلورت في الشتات الفلسطيني نتيجةً للانحدار الذي طال المشروع الوطني، وخصوصاً عقب توقيع اتفاقية أوسلو، ودور مؤسسات المجتمع المدني المستجد في حينه كفاعلين سياسيين يوجهون خطابهم إلى جمهور دولي، بهدف تحصيل دعمٍ ماديّ ومعنوي؛ تم فيها التغاضي عن الصور الملحمية للبطولة لصالح صور تستثير المشاعر والتعاطف، سالبةً من الفلسطيني قدرته على الفعالية والفعل التي صنعتها سردية البطولة مجازاً وواقعاً. كما أدّت هذه الخطابات التي تصاعدت مع تصاعد خطاب حقوق الإنسان عالمياً، الى نزع السياسة من الأحداث والمعاناة، وتصويرها كما لو أنها ناجمة عن أحداث طبيعية وتراكم لكوارث، توظّف فيها المعاناة التاريخية لشرعنة الادّعاءات في سياق جمهورٍ دولي. وكما يشير الأستاذ في دراسات الفلسفة والثقافة في جامعة بيرزيت عبد الرحيم الشيخ في دراسته تحولات البطولة في الخطاب الثقافي الفلسطيني؛ فقد تمّ تفكيك البطل وتحويله إلى «إنسان طبيعي» في ظروف وحياة غير طبيعية، وجرت عملية التفكيك بين ثلاثة أحداث، الأول والثاني، توقيع اتفاقية أوسلو وتعديل الميثاق الوطني، اللذان أجهضا البطل العسكري في خيار الكفاح المسلح، بينما في لحظة عام 2003، حاولت تغييب فكرة البطل بشكلٍ نهائي، إذ أن القراءة السائدة للانتفاضة الثانية قد اعتبرتها المسمار الأخير في نعش الكفاح المسلح، ولم تكتفِ بتفكيك البطل العسكري، بل وصلت إلى تفكيك فكرة البطولة/القضية ذاتها.  

بناءً عليه ووفقاً للشيخ، لم تُولد عملية تفكيك البطل العسكري والثقافي في فراغ، وإنّما بزغت في مرحلة تحوّلٍ نوعيّ في فلسطين باتجاه تبني أنماط استهلاكٍ نيوليبرالية على الصعُد كافة، حيث أعلن فيها عن وفاة وولادة؛ وفاة خيار الكفاح المسلح لصالح المقاومة السلمية، وولادة تيار ثقافي نيوليبرالي لا يدعو إلى «أنسنة البطل»، بل إلى صناعة إنسان فلسطيني محكوم بقيم الليبرالية الجديدة. ولعلّ أبرز تجليات هذا الموت والولادة هو الاستعاضة في حركة المقاطعة عن صناعة البطولة بتوظيف الرساميل المعنوية والمادّية والرمزية، وهيمنة عقلية الناشط (Activist) على الفاعلين. فوفقاً للباحث عمرو سعد الدين، فإنّ هذه الرساميل امتلكت وتمتلك من القوة الاجتماعية لدى الأوساط المدنية والأكاديمية، ما أهّلها بتوظيفها مع خبراتها وعاداتها في بناء حركة المقاطعة لها وزنها، وتعزيز العلاقات العابرة للحدود الوطنية. تلاقت هذه الظروف مع ما بات يعرف لدى عددٍ من الباحثين بأنّ الغرب قد دخل عصر ما بعد البطولة، أيّ أن العقد الاجتماعي بين الدولة الحديثة ومواطنيها قد تآكل، خصوصا فيما يتعلق بالاستعداد للتضحية والموت في ساحة المعركة من أجل القضايا الوطنية. وتعاظم النفور من سقوط الخسائر البشرية والعزوف عن المخاطرة، وتفكيك قدرة المجتمعات الغربية على استثمار الموت في صناعة المعنى أو رعاية القيم السياسية، فأصبح يُنظر إلى الموت كهباء ومضيعة للحياة، تحوّل فيها الفرد الميت في ساحة المعركة من بطل إلى ضحية. وما عجّل في ظهور شَرطيّة ما بعد البطولة في المجتمعات الغربية هي الدخول في شَرطيّة ما بعد الحداثة، إذ أُعلن عن موت السرديات الكبرى. [34]

وللدلالة أكثر على هذا التوصيف، يمكن قراءة استحضار عمر البرغوثي لإدوارد سعيد نصّيّاً حول الثمن الذي يجب أن يدفعه المثقف في الدفاع عن أفكاره، بما يملكه من رساميل معنوية ورمزية يمكن توظيفها في دعم قضيةٍ عادلة كقضية فلسطين، وحتى لا يبقى في خانة الصامتين، ليقول الحقيقة في مواجهة السلطة، في مقابل سرديّة البطولة التي تؤكّد على التضحية بالنفس إما للسجن أو الموت. إذ يقول إدوارد سعيد: «لا يوجد ما هو أكثر استهجاناً في عقلي أكثر من عادات الفكر لدى المثقف، تلك العادات التي تستدعي تجنّب اتخاذ موقفٍ صعب ومبدئي والذي يدرك صاحبه أنّه الأمر الصحيح لاتّخاذه لكنّه يختار أن لا يتخذه. فلا يريد أن يظهر بمظهرٍ سياسي للغاية، والخوف من الظهور كمثيرٍ للجدل، فهناك حاجة لديه للحصول على القبول من مديره أو السلطة، وعليه أن يُبقي على سمعته كموضوعي ومتّزن ومعتدل، فأمله أنْ يتمّ استدعائه للاستشارة أو أن يُوضع في لجنةٍ اعتباريّة مرموقة، أملاً منه في أن يُمنح درجة تشريفية أو جائزة كبيرة. بالنسبة للمثقف، إنّ عادات العقل هذه فاسدة ومُفسدة بامتياز… شخصياً فقد واجهتها في أكثر القضايا عصرية وإلحاحاً، قضية فلسطين، حيث الخوف من الحديث عنها باعتبارها أكثر القضايا التي تستحق العدالة يتمّ تجاهلها…». [35] من هنا، فإنّ مقاربة زمنية صناعة البطولة بزمنيّة سياسة ما بعد البطولة بين تجربتين، تعني التنقّل والمراوحة ما بين مقولتين، الأولى، «تعيس هو البلد الذي ليس فيه أبطال»، والثانية، «تعيس هو البلد الذي يحتاج إلى أبطال». [36]  

خاتمة: تواريخ محلّية وتصاميم عالمية أم تصاميم محلّية وتواريخ عالمية أم سؤال الفاعلية؟

استعرض هذا المقال تجربتين للعمل الوطني عابرة للحدود، والتحوّلات التي طرأت على شعاره ناظم لها ألا وهو وراء العدو في كلّ مكان. التجربة الأولى متمثلةً في تجربة المجال الخارجي التي أدارها وديع حداد، كان فيها علاقة المحلّي بالعالمي تنطلق من مضامين وضرورات ورؤى محلّية تصيغ فيها السياقات العالمية من موقع حركة تحرّر وطني، ساهمت في تشكيل المشهد العالمي من خلال الخبرات والتجارب الفلسطينية، ناسجةً من خلالها علاقاتٍ مع حركات ثورية على امتداد العالم، اشتركت معها في النضال ضدّ الإمبريالية والرأسمالية ووليدتها «إسرائيل».  ففي هذه التجربة تمّ تجاوز الأطر النظرية الجيوسياسية العالمية (الماركسية-اللينينية) لصالح الواقع وضروراته، وعدم الركون الى التشبّث بمقولاتٍ لا تلقى لها صدى على الأرض، ومن خلال هذا التجاوز تمّ بناء معسكرات الأصدقاء والأعداء باعتبارها ضرورةً ثوريّةً من خلال الانطلاق من تشخيص العدو وامتداداته العالمية. كما أنّ هذه التجربة اعتمدت على تخليق الأبطال حيث تحول فيها البطل، الفدائي الحيّ، أم الشهيد (الفدائي الميت)، إلى عنصر ومكوّن أساسي من مكوّنات السردية الوطنية، وأصبحت فيه هذه السردية تصميماً محلّياً وجد له مساره العالمي.

أمّا في تجربة حركة المقاطعة، فكان الاعتماد أكثر على تبيئة أنموذج النضال الجنوب افريقي ليتناسب والسياق الفلسطيني. فقد اعتمدت لحظة فلسطين الجنوب أفريقية، كما أُطلق عليها، على تاريخٍ غنيّ للمقاومة الشعبية غير العنفية للفلسطينيين على مدار قرن من الزمان. وعلى الرغم من هذه التبيئة، فقد كانت علاقة المحلّي بالعالمي تميل لصالح الأخيرة، على الرغم من تأصيل النضال ضمن التاريخ المحّلي. فعلى مستوى الممارسة، كان التركيز على حساسية السياقات العالمية في إنشاء وبلورة حملات المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، تمّ فيها الانضمام إلى حركات التغيير الاجتماعي العالمية وعولمة الحقوق الفلسطينية. هذه العولمة انعكست على الأسس التي تمّ فيها بناء معسكرات الأصدقاء والأعداء. فموضعة حركة المقاطعة نفسها بنفس مستوى حركات التغيير الاجتماعي العالمية، ضمن منطق سياسات الاختلاف والهوية الغربي، وكيفية اشتغال النضال في أطر وزمن معولم، جعلها تنزع عن نفسها سمة النضال على شاكلة حركات التحرّر الوطني، حيث افتقدت إلى برنامجٍ سياسيّ وحامل طليعيّ لمظلومّيتها، ودفعها لتقبّل بفكرة العدالة النسبية كثمنٍ لهذا الانتقال، وما ارتبط بهذا الانتقال أيضاً من اعتبار العنصر البشري لـ «إسرائيل» ليس موضع العداوة بل ما يمثّله هذا العنصر. كما أنّ العمل ضمن زمنٍ معولم استدعى الانتقال من زمنيّة صناعة البطولة إلى زمنيّة سياسة ما بعد البطولة، والاعتماد على عقلية وموقع الناشط بكلّ ما يحمله من توظيف لرساميل رمزية ومعنوية ومادية وشبكات عابرة للحدود الوطنية، تمّ خلالها أيضاً استبدال سردية البطولة الوطنية بسردية الصمود والضحية، وما لها من أثر في تحييد الفلسطينيين كفاعلين ممسكين بمصيرهم بأيديهم، على الرغم ممّا تجنيه هذه السردية من قبولٍ عالميّ.

على اختلاف التجربتين، يبقى سؤال الراهن اليوم هو سؤال الفاعلية، وأيّ الطرق هي التي تقود إلى إنجاز عدالة وحرية ناجزة للشعب الفلسطيني على اختلاف أماكن تواجده، وربما تشكّل إعادة قراءة محاور هذه الدراسة، أيّ عقلية البراكسيس، ومعسكرات الأعداء والأصدقاء بين تجربتين، وزمنية البطولة وسياسة ما بعد البطولة، مدخلاً في بناء حركةٍ وطنيّة تستطيع الارتكاز على إرثٍ طويل وممتدّ من المقاومة بكافة أشكالها بهدف المزاوجة بينها، وبناء تصنيفاتٍ للأعداء والأصدقاء بناءً على تشخيصٍ علميّ وقراءة دقيقة للواقع. ولعلّنا نجد في مقولة المنظّر العسكري الصيني الشهير «صن تزو» في مؤلّفه فن الحرب مدخلاً تأسيسياً آخر، حيث يقول أنه «إذا ما عرفت العدو وعرفت نفسك، لا حاجة لك للخوف من نتائج مئة معركة. وإذا ما عرفت نفسك دون معرفة العدو، فلكلّ نصرٍ تكتسبه ستعاني مقابله من هزيمة. وإذا لم تعرف العدو ولم تعرف نفسك ستخضع للهزيمة في كل معركة». [37]