إنّ الجيش المحترف هو قبل كل شيء ردة فعل على فشل المؤسسة العسكرية الكلاسيكية في حروب جديدة، وهو أيضًا ذروة الحاجة إلى جيش عملياتي، أكثر أتمتًة وأقل اعتمادًا على الإنسان، بمعنى تشكيل جيش مرن وخفيف، سريع وأكثر سهولة في انتشاره أو اشتباكه في أكثر من موقع وبأكثر من قوة. بالطبع، يمكن تحقيق كلّ ذلك من خلال التكنولوجيات العالية، دون إغفال أن المعلومة والسرعة هما سلاحهما الأساسيان قبل الحديد والنار..

قبل حوالي 3500 عام قبل الميلاد، كانت منطقة ما بين النهرين قد بدأت تتشكل كأول حضارة مدنية في التاريخ، والتي تعرف اليوم بحقبة أوروك، وقد شهدت ولادة عدّة مدن، ومعها جيوشها.

في “مختصر تاريخ الحرب”، يقول المؤلفان ريتشارد جابريل وكارن ميتز أنّ سكان هذه المدن الأولى كأوروك وإريدو أظهروا مستوىً عاليًا من التعاون[1] وأقاموا حياةً مدنيةً، وقد تركوا ما يدلّنا على هذا التعاون إذ أنشأوا متاريسَ وجدرانًا وقنواتِ ريّ ومعابد، كما أنهم طوّروا نظامًا زراعيًا جديدًا أكثر فعاليةً، ما حرّر أعدادًا كبيرة من العمل في الأرض وسبّب ما يشبه اليوم الانفجار السكاني في مراكز المدن.

عَرفت هذه المدن الأولى، أيضًا، تنوعًا اجتماعيًا واقتصاديًا أسفر عن ظهور مراكز اجتماعية واقتصادية جديدة، عدا عن ظهور حرفيين وتجار وكهنة وبيروقراطيين، كما عرفنا لأول مرّة في تاريخ الإنسانية الجندي كمهنة[2].

يؤكّد صاحب كتاب “أوروك المدينة الأولى” على وجود هذه الجيوش فعلًا التي اعتمدت نظام الخدمة الإلزامية (corvée duty) لضمان استمراريتها[3]، أما دوين داوسون، صاحب الكتاب الأهم في تفصيل هذه الجيوش وطبيعة حروبها، يقدّر بأن “الحرب الكلاوزوفيتشية”[4] كانت ممكنة تقنيًا انطلاقًا من 3000 عام ق.م.

 وفي الواقع، عندما يتم استحضار المفهوم الكلاوزوفيتشي في الحرب، فنحن بصدد الحديث صراحة عن الحرب كفن وعلم، وضمنًا عن هيكلة الجيوش، فضلًا عن الاستراتيجية والتكتيكات العسكرية، وقبل أي شي، عن الجنود كعامل رئيسي فيها.

مما ذُكِر آنفًا، يُفهم أن ملامح الجيش كما نعرفه اليوم بدأت تتشكل في هذه اللحظات التاريخية الفارقة، وكما يتضح أن الجيش بات حقيقة تاريخية منذ تلك الحقبة، تمامًا كما هي الحرب منذ غابر الأزمان. وبالرغم من صعوبة وخطورة هذا المركز الاجتماعي والاقتصادي، إلا أن الأفراد لم يتوقفوا لحظة واحدة عن اختياره قدرًا لهم، وهذا ما يسمى في الأنثروبولوجيا “حدثًا أنثروبولوجيا يطلب منّا تفسيره!”.

في الحقيقة، لكي نكون أكثر دقة، فإنه وحتى وقت قريب جدًا، لم تحصل أية تغيرات ثورية بالقدر الذي تؤثر فيه على الفكرة الأساسية في وجود الجيش على مدار هذه القرون كلها، فكرة الانسان-الحرب، بمعنى أنّه منذ البداية، احتاجت الجيوش إلى العامل الإنساني كعامل ضروري في القيام بالحرب، وهذا بطبيعة الحال أحد التعريفات الواسعة جدًا للاستراتيجية العسكرية الكلاسيكية. لكن منذ زمن ليس ببعيد، بدأت هذه الفكرة الأساسية للجيش تتراجع أمام عدة عوامل نحتت بدورها مفهومًا جديدًا للجيش، يعرف كترجمة عربية رديئة له بالجيش المحترف أو المهني، والذي يجعل من ذاك الحدث الأنثروبولوجي حدثًا يطلب منا تفسيره أكثر من أي وقت مضى.

ويمكن  تلخيص العوامل التي تراجعت أمامها الفكرة الأساسية في تشكّل الجيوش تاريخيًا على النحو التالي، على أن نخوض في غمار تفاصيلها لاحقًا:

1- فشل المدرسة العسكرية الكلاسيكية في حسم حروب من نوع جديد، تُدعى عادة بحروب الغوار، الأنصار، العصابات[5] التي طوّر فيها أصحابها استراتيجياتهم الخاصة بهم وبأسلحتهم وعقائدهم القتالية، أو باختصار يمكن القول أنها مدرسة عسكرية كاملة متكاملة لمحاربة الجيوش النظامية والانتصار عليها، بدلًا من الهرب بعيدًا في الجبال والكهوف والصحارى.

هذا على المستوى الخاص. أما بشكل عام، فقد فشلت المدرسة العسكرية الكلاسيكية أيضًا في التحدي المفروض أزليًا على كل مدرسة عسكرية كتب عليها أن تحسم “ضبابية الحرب”، أو “ترويض الصدفة”، وهي أفكار عسكرية تقوم على استدخال كافة احتمالات الواقع ضمن مشروع معين مثل مشروع مكافحة لمقاومةٍ ما، ما يعني أنه حتى الفرص الكامنة (الخفية: مثل ما يُعرف بالذئاب المنفردة) تجري محاولة السيطرة عليها قبل فوات الأوان، أي قبل تبلورها كعمل فعلي في الميدان، أو حتى قبل تبلورها كفرصة أساسًا:

2- الآثار الاجتماعية والنفسية والسياسية والاقتصادية التي نجمت عن هذا الفشل العسكري. اجتماعيًا، بدأت النزعات اللاعسكرية بالظهور، وكذلك ما تعرف بـ” مجتمعات ما بعد البطولة”. نفسيا: ظهرت متلازمة كيس الجثة، وهكذا.

3- التطورات التكنولوجية والمعلوماتية التي بدأت باجتياح العالم منذ النصف الثاني من القرن العشرين.

الثورة في الشؤون العسكرية كتحصيل حاصل للعوامل الثلاثة السابقة. يقول خالد عودة الله في محاضرة “أتمتة منظومات الأسلحة ومستقبل الحروب الاستعمارية” إن الفكرة الأساس التي تقوم عليها هذه الثورة هي جعل الحرب نشاطًا بعيدًا عن الإنسان نفسه (الإنسان الغربي)، حيث إنّ هذا الهدف هو الهدف بعيد المدى لأتمتة منظومات الأسلحة والحروب وهو بكل الأحوال هدف قيد التحقق”[6]. إن جعل الحرب نشاطًا بعيدًا عن الإنسان، سواء كان المقصود بالإنسان هنا الجندي أو المؤسسة العسكرية أو الفرد أو المجتمع، لم يكن ممكنًا البتّة بإلغاء الحروب وتفكيك الجيوش، وإنما من خلال ما نقصد به في هذا النص بحرفنة الجيوش.

لا يوجد حتى الآن تعريف واضح أو نهائي للجيش المحترف، ربما يعود ذلك إلى المعنى المزدوج الذي تُحيل إليه كلمة “بروفيشنال” في اللغتين الإنجليزية والفرنسية في المقام الأول، فمن ناحية، هي الحرفة (Profession)، بمعنى المهنة (Career/Carrière)، العمل أو الوظيفة. ومن ناحية أخرى، هي الاحتراف (Professionality/Professionnalité)، بمعنى الجودة والكفاءة العالية في القيام بشيء ما، أو في بلوغ وتحقيق الأهداف المرسومة. لذلك، عندما نسمع أو نقرأ عبارة جيش بروفيشنال (Professional army/Armée prfessionnelle) يقفز هذان المعنيان فورًا الى أذهاننا بالرغم من أنّ العلاقة بينهما ليست سببية، فالمهنة لا تعني الكفاءة بالضرورة، والعكس صحيح.

لتجاوز هذا التوتر الذي نشأ للتوّ، محاولين في الوقت ذاته أن نتبنّى تعريفًا خاصًا بالجيش المحترف، سننطلق هنا من فرضية مفادها أن حرفنة الجيوش ببعديها الاثنين هي تتويجٌ لعقود طويلة من التحولات التاريخية الاجتماعية والعسكرية والتكنولوجية التي خلّفتها الحروب، وذلك بالرجوع إلى تعريف غاستون بوتول في الحرب[7]، وبالتالي لتحولات في فكرة ومفهوم الحرب.

هذه العملية التاريخية (processus) تُعرف في الأدبيات العسكرية بالثورة في الشؤون العسكرية (Revolution in Military Affairs : RAM) التي حملت معها تغييرات عنيفة في فكرة الجيش. في هذا السياق، سنعتبر أيضاً وبشكل مؤقت أن حرفنة الجيوش هي تتويج آخر للظروف التاريخية الخاصة التي عبَر منها كل جيش على حدة، غالباً وليس بالضرورة أن يتم التعرّف عليها بإلغاء الخدمة الإلزامية في الحالة المعنّية.

عطفًا على ما سبق، يتضّح أن الجيش المحترف عملية تاريخية وليس صفقة جاهزة (fait accompli)، إذ نستحضر بهذه العملية بعدين اثنين على المستويين الداخلي والخارجي، فالبعد الأول داخلي-خارجي صدّرت فيه العوامل الثلاث السابقة على مستوى عالمي، أمّا الثاني فهو خارجي- داخلي يتمثّل في تطبيق هذه التغييرات على المستوى المحلي، مع التأكيد مرة أخرى على خصوصية الزمان والمكان في الحالة المستوردة.

ويبدو هنا أنّ ثورة العصر الحجري الجديد (Neolithic) مثال جيد جداً لتوضيح كيف يعمل هذان البعدان، نظراً لتوفر نفس آلية الظهور والانتشار، فالثورة النيوليتيكية التي ظهرت قبل 12000 عام ق.م في المنطقة الناطوفية حملت معها اختراعات كانت مصيرية في مسار البشرية، كاستيطان المناطق والاستقرار فيها، واختراع الزراعة والفخار وتدجين أولى الحيوانات، لتنتشر بعد ذلك في مناطق أخرى في العالم على فترات زمنية متفاوتة، وفقاً لجاهزية جماعة كل منطقة والمنطقة ذاتها لهكذا تغيرات[8].

حرفنة الجيوش عملية تاريخية، لكن من أين نبدأ؟

في الأول من تشرين الثاني من عام 1911، قام الملازم الإيطالي جوليو جافوتي (Giulio Gavotti : 1882-1939) بأول عملية قصف جوي من طائرة في التاريخ، كان قد أرسل حينها في مهمة خاصة فوق سماء ليبيا. وبشكل أكثر دقة، فوق واحتيّ تاجوراء وعين زهرة بالقرب من طرابلس، وكان الهدف عبارة عن مجموعة من الثوار العرب الذين لمحهم جافوتي في مهمة استطلاع سابقة قرر فيها أن يكونوا أول هدف جوي له.

كانت تجربة جديدة بالفعل، لم يكن لدى أحد في المؤسسة العسكرية الايطالية آنذاك أدنى فكرة عن كيفية التصرف-التنفيذ من الجو، لكن أجمع الكلّ حينها على أن “دخول الطائرة هيكيلية الجيش الداخلية سيكون له نتائج مهمة في مراقبة تحركات العدوّ ومناوراته”. حقيقةً،  كانت توقعاتهم متواضعة، إذ لم يتوقعّوا  أن تحدث هذه العملية قفزة كبيرة في مسارات الحروب ومستقبلها، كما نراها الآن.

الأستاذ في معهد سينس بو ليون في فرنسا، توماس هبلر، وصف العملية بدقة شديدة في كتابه “قصف الناس: جوليو دويه وتأسيس استراتيجية سلاح الطيران 1884-1939”:

“وصل جافوتي إلى القاعدة الجويّة مبكرًا كعادته، وكانت طائرته ال(Etrich Taube) جاهزة للإقلاع. بحذر شديد، بدأ بتحميل الطائرة بثلاثة قنابل عيار 1.500ج كل واحدة في صندوق خاص بها، وقنبلة رابعة وضعها في جيب معطفه. ثم حمّل طائرته بصندوق آخر يحتوي على الصواعق. شغّل المحرك، وأقلع متسلقًا إلى ارتفاع 700م فوق سطح المتوسط، ثم أخذ اتجاه القارة الأفريقية. قبلها بأيام، قام جافوتي بمهمة استطلاعية راقب فيها ما يقارب 2000 مقاتل عربي كانوا قد تجمعوا في واحة عين زهرة، وقرّر حينها بأن تكون هذه الواحة الصغيرة أول هدف جوّي سيقوم بقصفه.

في رسالة لوالده، وصف جافوتي ما حصل في الأول من نوفمبر 1911 في سماء ليبيا. أمسك بيد مقود الطائرة، وبالأخرى أخرج قنبلة من الصناديق الثلاثة، ووضعها على ركبتيه. بدّل يديه على المقود، ثم أخرج صاعقًا وألصقه بالقنبلة، وتجهّز للعملية. نظر للأسفل، عين زهرة تقع على مسافة كيلو متر واحد، كان باستطاعته أن يرى بوضوح خيم البدو في المنطقة المقصودة. وعندما أصبح فوق الهدف مباشرة، أخذ قنبلته بيده اليمنى، سحب الزناد بأسنانه وألقاها خارج الطائرة… بعد لحظات قليلة، شاهد غيمة سوداء تصعد من الأرض. وبعد إلقاء كافة القنابل بحوزته، عاد سعيدًا إلى قاعدته الجويّة”[9].

لم تدرك دلالات هذه العملية فورا آنذاك، لكنها غيرت بالتأكيد نظرة الجيوش إلى أنفسها، وشكّلت تحولًا راديكاليًا ليس في التاريخ العسكري فحسب، بل في التاريخ الإنساني ككل. يرى كل من هؤلاء المتخصصين في موضوع الثورة في الشؤون العسكرية (Gray 2002, Sloan 2002, 2008, Metz and Kievit, 1995) أنه كان علينا أن ننتظر ثمانينيات القرن الماضي لكي ينتبه السوفييت إلى هذه التطورات التكنولوجية وقدرتها على إحداث تغييرات كبيرة في الشؤون العسكرية، ويكون الأمريكان أول من استغلها على أرض الواقع.

دعونا نستعيد الآن خطّنا الرئيسي في هذا المقال. إن ما نريد قوله هو أننا لن نستطيع فهم هذه الأحداث بمعزل عن فشل المدرسة العسكرية الكلاسيكية في حسم شكل جديد من الحروب والآثار المختلفة المترتبة على هذا الفشل الذي جاءت مهمة جافوتي كمحاولة أولى لتجاوزه، معلنة بذلك بداية ثورة كبيرة في الشؤون العسكرية.

إن تعريفات عدّة قد أعطيت للثورة في الشؤون العسكرية. بالنسبة لـ كليفورد روجرز مثلا، هي “تغيّر جذري في الطريقة التي نقوم ونكسب بها الحرب، تغيّر يمكن الإشارة إليه بالبساطة التي يستطيع فيها الجيش النظامي أن ينتصر على جيوش غير نظاميّة”. في حين ترى إلينور سلوان أن هذا التعريف يبقى غامضًا ما لم يتم تزويده بتفاصيل أكثر، ثم تقترح لنا تعريف بنيامين لامبيث الباحث في مؤسسة راند “الابنة غير الشرعية” للجيش الأمريكي. يقول لامبيث: “إن الثورة في الشؤون العسكرية هي بداية تغيّر رئيسي في طبيعة الحرب، حُمل على أكتاف تطبيقات تكنولوجية إبداعية، جمعت أيضًا بين تغييرات جذرية في العقيدة العسكرية، وتغييرات أخرى مهمة في المفاهيم العملياتية والتنظيمية للجيش، ويدخل كل هذا في إطار تحوير أساسي في صفة وقيادة العمليات العسكرية”[10]، وهو ذات التعريف الذي أعطاه رئيس وحدة تقديرات المواقف  في مكتب سكريتارية وزارة الدفاع الأمريكية آندرو مارشال[11].

انطلاقاً من هذا التعريف، يمكننا الآن أن نستعرض الثورة في الشؤون العسكرية تحت ثلاثة أبعاد رئيسية لها:

البعد التقني[12]

 لاحظنا وسنلاحظ في أي تعريف للثورة في الشؤون العسكرية بأن أول ما يشار إليه فيه هو التطورات التكنولوجية التي آلت فيما بعد إلى تغييرات تقنية في كيفية القيام بالمعارك، وقد اعتمدت نصوص الحاشية الثانية عشرة تطوير منظومات الذخيرة دقيقة التوجيه (precision-guided munition : PGMs) والتي أعلن عنها رسمياً في حرب الخليج الأولى بإطلاق أول صاروخ توماهوك-كروز الموجّه بنظام الجي بي إس، والقادر على إصابة هدفه الواقع على بعد آلاف الكيلومترات.

لكن في الحقيقة، تعود بدايات هذه المنظومة التقنية إلى الحرب الأمريكية في فيتنام، في حين حملت في ذلك الوقت اسم “Igloo-White project : 1968-1973” والذي لم يكن آنذاك تدشينًا للأسلحة الذكية فحسب، وإنما حلم بأتمتة كاملة للمعركة بواسطة منظومات التحكم عن بعد، أو ما تطلق عليه المصادر الأولى بالمنظومات (منظومات السلاح) غير المأهولة (unmanned vehicle systems : UVS)[13].

تحطّم هذا المشروع الحلم على عتبات المقاومة الفيتنامية حينها، إلا أنه فتح الباب لانفجار تكنولوجي-تقني في الشؤون العسكرية فيما بعد، بدءاً بتطوير قدرات قوى الجيش العملياتية (projection capacities) باستحداث خط إنتاج جديد لما يعرف بلوحات التحكم الخفية (furtive platformes) أو التكنولوجيا الصامتة (stealth technologies) مثل طائرة إف-117 (stealthy F-117 fighter aircraft) والقاذفة الشبح بي-2 (stealthy B-2 bombers) والمحاربة المتفوقة (F-22 air-superiority fighter) كأبرز نماذج لهذه التكنولوجيا الجديدة.

وفي الوقت نفسه، ساهم دخول الأقمار الصناعية مجال التطبيق العملي في تعزيز مكانة الآيرونيف (aéronefs) والطائرات غير المأهولة أو ما تعرف بالدرونز (الطائرات بدون طيار) التي تستطيع أن تراقب وتتحكم افتراضياً بما يحدث على أرض المعركة، وهي ما صاغت بدورها مفهومًا جديدًا للحروب، تُعرف بحروب الشبكة أو العقيدة المتشابكة (joint doctrine).

يعتقد كثيرون أن هذا البعد للثورة في الشؤون العسكرية يمكن اختصاره بـ “C4ISR”، وهو اختصار يرمز إلى مجموعة من المهام العملياتية الخاصة بالجيش المحترف، أو بحروب الجيل السادس فما فوق:

C4 : Command, Control, Communication, Computers (أمر، تحكم، تواصل، حواسيب)

I : Intelligence  (استخبارات)

S : Surveillance (مراقبة)

R : Reconnaissance (استطلاع)

البعد العقائدي 

دفعت الثورة في الشؤون العسكرية بالجيوش خطوة كبيرة إلى الأمام، فقد ساهمت أولًا في الانتقال من جيوش ثقيلة وكثيفة، بطيئة ومحدودة الحركة، إلى جيوش مرنة سهلة الانتشار وقادرة على الاشتباك في أكثر من معركة، وبأكثر من قوّة في نفس الوقت، بعيداً عن الوطن وضد أفراد وجماعات من المتمردين لا دول. ولتحقيق ذلك فعلاً، وجب العمل على مستويين رئيسين:

الأول: تغيير طبيعة بيئة الأمن العالمي، كأن العالم أصبح كلّه داخل حدود مفهوم الأمن القومي الأمريكي على سبيل المثال[14]. في الواقع، تعدّى التطبيق الأمريكي لهذا البعد حدود فكرة الجغرافيا الواحدة-المفتوحة، وأدخل الأمريكيون عنصر الزمن عليه، بحيث أصبحنا نسمع ونرى ما يعرف اليوم بالحروب الدائمة، فالطائرات بدون طيار الأمريكية تجوب العالم ليلًا نهارًا، تراقب وتتحكم، وتنتظر “كبسة زرّ” من إحدى القواعد العسكرية هنا أو هناك، لتنهي حياة شخص ما.

الثاني: وجب أيضًا تحضير الجنود نفسًا وجسدًا لهذا الشكل الجديد من الحروب. (سنكتفي هنا بالجانب النفسي، ونرى الجانب الجسدي في البعد الثالث). يستخدم العساكر في هذا الصدد مفهوم “عقدنة الجنود” (endoctriner les soldats) للإشارة إلى مجموعة من الأفكار والمعلومات المعتمدة من قبل المؤسسة العسكرية كخطة عمل بالنظر إلى طبيعة الصراع الدائر الخاصة في كل حقبة تاريخية، وهي عبارة عن خطوط عريضة لرسم أسس تفكير قوى الجيش في مواضع المعركة المختلفة[15].

البعد التنظيمي

أمام هذه الأفراد والجماعات المتمردة والتطورات التكنولوجية، فضلًا عن الحاجة إلى جيش أقلّ كلفة، وإلى جندي أكثر تخصصًا ومرونة في التنقل بين أوضاع جسدية ونفسية مختلفة، برزت الحاجة الماسّة إلى وحدات قتالية أصغر، لكن أكثر تأهيلًا، ما أفرز جنودًا مدربين بعناية ومستعدين للاشتباك بعيدًا عن وطنهم الأمّ.

في هذا الصدد، يقول الكولونيل ميشيل غويا في شهادته “تحت النار” أن من يتم صناعتهم من وراء تلك المسألة هم رجال عاديون ليقوموا بأشياء غير عادية، باعتبار الموت فرضيّة العمل الأولى والأخيرة، وهذا ليس عبثاً:

“المعركة ليست ظاهرة عادية، وإنما حدثٌ خارقٌ للعادة، والأفراد المشاركون فيها لا يقومون بها بطريقة معتدلة. كشيء يمزّق قوانين الفيزياء النيوتونية بجاذبيته القوية، الاقتراب المباشر من الموت والخوف الذي ينتجه يشوّهان الأفراد ويدفعان بتصرفاتهم إلى أقصاها. توزيع الأدوار لا يخضع حينها لقوانين الاحتمال الطبيعي، والتي غالباً ما يكون فيها كل الأفراد متشابهين، وإنما  لقانون القوّة، هناك، بين السحق والتسامي، كثير يقوم بالقليل وقليل يقوم بالكثير. هناك، حيث القليل من الوسائل، والكثير من التطرّف”[16].

عودٌ على بدء، نعتقد بالرجوع إلى مصدرنا السابق، أنّ القاسم المشترك بين هذه الأبعاد الثلاثة للثورة في الشؤون العسكرية هو الحاجة إلى “جعل الحرب نشاطًا بعيدًا عن الإنسان نفسه”، وكما أشرنا سابقاً، سواء كان المقصود بالإنسان هنا الجندي ذاته، أو المجتمع ككل، لم يكن هذا ممكنا بإلغاء حروب هذا المجتمع وتفكيك جيوشه، وإنما بهذا الانتقال الذي وفّرته كافة العوامل السابقة مجتمعة، من جيش كلاسيكي، ثقيل إلى جيش أكثر مهنيّة وأقلّ كلفة.

تأسيسًا على ما سبق، يبدو جليًّا أن الجيش المحترف هو قبل كل شيء ردة فعل على فشل المؤسسة العسكرية الكلاسيكية في حروب جديدة، وهو أيضًا ذروة الحاجة إلى جيش عملياتي، أكثر أتمتًة وأقل اعتمادًا على الإنسان، بمعنى تشكيل جيش مرن وخفيف، سريع وأكثر سهولة في انتشاره أو اشتباكه في أكثر من موقع وبأكثر من قوة. بالطبع، يمكن تحقيق كلّ ذلك من خلال التكنولوجيات العالية، ووحداته وجنوده الأكثر تأهيلًا جسديًا ونفسيًا لهذا الشكل الجديد من الحروب، دون إغفال أن المعلومة والسرعة هما سلاحهما الأساسيان قبل الحديد والنار، ودون إغفال أيضًا  أنّه جيش في عملية تبلور مستمرة، إذ أن محطته النهائية المتوقعة هي الأتمتة الكاملة، أي الحصول والتصرف في الوقت الحقيقي وبعيدًا ما أمكن عن الإنسان.

*****

الهوامش:

[1]  التعاون ظاهرة انسانية تُدرس بكثافة في الآنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية ومؤخرا في الآنثروبولوجيا الإدراكية، أوسع تعريف لها بحسب الباحثة الأمريكية مارغريت ميد هو “العمل معا في سبيل هدف مشترك”،Mead (2002).
[2] Richard A. Gabriel et Karen S. Metz, 1992, « A Short History of War : The Evolution of Warfare and Weapons », Chapter 1 : The Origines of War :هنا
[3] Mario Liverani, « Uruk : The First City », Equinox Publishing Ltd, 2006, p. 51.
[4]  أنظر نص: “مقدمة في دراسات الحرب، الجزء الثالث: الحرب ظاهرة تاريخية”، هنا.
[5]  أنظر كتاب: غيفارا، مبادئ حرب الغوار، هنا
[6]  أنظر: خالد عودة الله، أتمتة منظومات الأسلحة ومستقبل الحروب الاستعمارية، الجزء الأول، دق. 30، هنا
[7]  أنظر نص: مقدمة في دراسات الحرب، الجزء الثاني، هنا. 
[8]  هناك أيضاً محاولات نظرية أخذت الثورة في الشؤون العسكرية امتداداً لثورة العصر الحجري الجديد، أنظر: آلفن توفلر، البعد الثالث، 1980. 
[9] Thomas Hippler, Bombing the People : Giulio Douhet and the Foundations of Air-Power Strategy, 1884-1939, 2013. 
[10] Cited in : Elinor C Sloan, The Revolution in Military Affairs : Implications for Canada and NATO, McGill-Queen’s University Presse, 2002, P. 3. 
[11] McKitrick J., Blackwell J., Littlepage F., Kraus G., Blanchfield R., Hill D., « The Battlefield of the Future” – 21st Century Warfare Issues », Air University, 1993, P.65.
[12]  انظر بشكل أساسي:
Anthony Finn et Steve Scheding, « Developements and Challengs for Auotonomus Unmanned Vehicles », Springer – Verlag Berlin Heidelberg, 2010.
« Unmanned Systems integrated Roadmap : FY 2013-2038 », V.S Departement of Defense, approved for open publication, reference number : 14-S-0553.
Elinor Sloan, Military Transformation and Modern Warfare: A Reference Handbook, 2008.
Elinor Sloan, The Revolution in Military Affairs : Implications for Canada and NATO, McGill-Queen’s University Press, 2002.

[13]  مصدر سابق. 
[14]  تعدّ حروب مكافحة التمرد (Counter-Insurgency : COIN) أولى بشائر هذا التغيير، وتقوم فكرة هذه الحروب على الجمع بين وسائل عسكرية وسياسية واقتصادية ونفسية ومدنية لحكومة من أجل هزيمة جماعة متمردة. الجديد في هذه الحروب هو أنها اعتمدت تعريفًا جديدًا  للنصر أو الهزيمة معياره “كسب الأفئدة والعقول”، بحيث يتوجّب على كل الوسائل التي ذكرت آنفاً أن تكسب ودّ ودعم الحاضنة الاجتماعية لأي جماعة متمردة، من أجل عزلها عنها ومن ثمّ الانفراد بها. هناك مقولة قديمة لأحد العساكر الفرنساويين تُستحضر دوما في أدبيات مكافحة التمرد، يقول فيها: “اذا أردت أن تقتل البعوض، جفّف المستنقع”. يبدو أنّ المؤسسة العسكرية الغربية استفادت كثيرا من منهجية دراسات أو علم الحرب (انظر هنا) في تطوير استراتيجية مكافحة التمرد. الحرب على الإرهاب (Gloal War On Terror : GWOT) مثال حديث على تغيير بيئة الأمن العالمي أيضًا. 
[15] Elinor Sloan, op. cit., 2008, pp. 6-7. 
[16]Michel Goya, Sous le Feu, Tallandier, 2014, P. 23.