تأتي ورقة الباحثة ميساء شقير لتتناول هذا التحوّل السياسيّ-المعرفيّ نقدياً، وذلك من ناحية فحصِ الأُسسِ والافتراضاتِ التي يقوم عليها هذا الحقل، وخاصةً مقولاته الأساسية: “منطق الإبادة”، و”الاستعمار الاستيطاني بُنية وليس حدثًا”، ومن ناحية الاستخدام السياسيّ لهذه المقولات، والبناء عليها لاقتراح “حلول” للقضية الفلسطينية.

توطئة

في سياق نقاشات ما يُعرٰف “بأزمة المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ”، تعالت العديُد من الأصواتِ داخل النخبة الأكاديميّة الفلسطينيّة تُنادي بضرورة- ما أُطلق عليها -“استعادة الإطار الكولونيالي الاستيطانيّ” كإطارٍ تحليليٍّ لفهم الحالة الاستعماريّة في فلسطين، وذلك بتأثير تطوّر حقل دراسات الاستعمار الاستيطانيّ كحقلٍ دراسيٍّ مستقلٍ داخل الدراسات الاستعماريّة.

من الواضح أنّ محاولةَ نزع الاستثنائية عن فلسطين ودمجها داخل هذا الحقل المعرفيّ “الوليد”، ليست بريئةً سياسيًا، بمعنى أنّ هناك اعتباراتٍ سياسيّةً للدفع نحو برنامجٍ “وطنيٍّ” يستندُ إلى القبول بالاستعمار الصّهيونيّ لفلسطين كواقع لا يُمكنُ تفكيكه، وبالتالي وفق هذه الرؤية يتحوّل “المشروعُ الوطنيّ الفلسطينيّ” إلى مشروعٍ يتصالح مع هذه الحقيقة ويعملُ تحت سقفها عبر اعتبارها مُسلّمة تحليلية.

ومن خلال تحليلِ خطابِ العديد من دُعاة هذا التحوّل نحو النموذج التفسيريّ لدراسات الاستعمار الاستيطانيّ، يبدو جليًّا أن الهدف الأساسي لهذا التحوّل هو الوصول إلى مثل هذه الاستنتاجات السياسيّة، متلفعةً بديباجاتٍ علميةٍ تحليليةٍ، وذلك بدليل ضحالة التّحليل والاعتماد على مقولاتٍ عامّةٍ من هذا الحقل دون تمحيصها أو التعامل معها نقدياً، في الوقت الذي يتم فيه استخدام شعار النقد وضرورته بشكلٍ مكثفٍ عند ذات هذه النخبة. باختصار، إذا كان نجاح الاستعمار الاستيطاني هو  وصول هذا  الاستعمار إلى مرحلة “ما بعد الاستعمار” (أي نهاية اعتباره استعماراً)، فإنّ هذا  بالضبط هو ما تدفع باتجاهه هذه الدراسات.

تأتي ورقة الباحثة ميساء شقير لتتناول هذا التحوّل السياسيّ-المعرفيّ نقدياً، وذلك من ناحية فحصِ الأُسسِ والافتراضاتِ التي يقوم عليها هذا الحقل، وخاصةً مقولاته الأساسية: “منطق الإبادة”، و”الاستعمار الاستيطاني بُنية وليس حدثًا”، ومن ناحية الاستخدام السياسيّ لهذه المقولات، والبناء عليها لاقتراح “حلول” للقضية الفلسطينية.
فريق التحرير.

مقدمة

برز في السنوات الأخيرة في حقل الأكاديميا استخدامٌ متزايدٌ لنموذجٍ إرشاديّ  تفسيري جديدٍ (أو متجدد) بهدف فهم ودراسة حالات الاستعمار الاستيطانيّ في دول مثل أستراليا ونيوزيلندا والولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني، وهو ما يُسمّى نموذج منطق الإبادة the logic of elimination paradigm، والذي طوّره بشكلٍ أساسيٍّ المؤرخ الأسترالي الأبيض باتريك وولفPatrick Wolfe .

يجادلُ هذا النموذجُ بأن نظريات ما بعد الاستعمار غيرُ قادرةٍ على فَهم واقعِ الاستعمار الأوروبيّ في دول مثل أستراليا أو الولايات المتحده الأمريكية، لأنها (أي نظريات ما بعد الاستعمار) لا تُدرِكُ أهميةَ عاملِ السّيطرة على الأرض في هذه الدول بالمقارنة مع حالات الاستعمار الحديث القائمة على الاستغلال الاقتصاديّ والعبودية.

بدا تأثيرُ هذا النموذج واضحًا في العديد من الأوساط والحقول الأكاديمية المختلفة حول العالم. أما التأثيرُ الذي يهّمنا في هذه الورقة فهو التأثيرُ الذي انعكس على دراسة الحالة الاستعمارية في فلسطين كاستعمارٍ استيطانيٍّ بالاستناد إلى فهم وولف له. فالحالة الاستعمارية في فلسطين كما سنرى، تحظى باهتمامٍ مُلفتٍ في هذا الحقل الجديد، ويظهرُ ذلك جلياً من خلال العدد المتزايد من ورشات العمل والمؤتمرات والحلقات الدراسية في جامعات بريطانية وأمريكية ومراكز أبحاث فلسطينية، والتي يقارب الباحثون المشاركون فيها (غالبهم فلسطينيون أو صهاينة يعرّفون أنفسهم بأنهم يساريون أو مناصرون للقضية الفلسطينية) الحالة الاستعمارية في فلسطين من منظور الاستعمار الاستيطانيّ، حسب تنظير وولف ومريديه، وبذلك يعتبر هؤلاء العدوّ الصّهيونيّ دولةَ استعمارٍ استيطانيٍّ تتبنى منطقَ الإبادة مثلها مثل أستراليا والولايات المتحدة الأمريكية.

يقول هذا النموذج باختصار ما يلي: الأرض أولًا والأرض أخيرًا. المستعمر المستوطن جاء ليبقى. الاستعمار الاستيطانيّ لا ينتهي في الزمان أو المكان، فهو استعمارٌ لا رجعةَ عنه، لا يمكنُهُ التراجعُ ولا تغييرُ طبيعتهِ التوسعيّة، لأنه قائمٌ على منطق الإبادة لأهل البلاد (بالمعنى الماديّ، والمعنويّ، والسياسيّ، والثقافيّ)، وبعد أن تتم الإبادة  يتم  السطو على هوية أهل البلاد واستدخالها في هوية المستوطن الجديدة. الاستعمار الاستيطانيّ بالاستناد إلى هذا النموذج هو معادلةٌ صفريّةٌ، ولا يَقبلُ القِسمةَ على اثنين Zero sum game and winner takes all.

لقد ساهم هذا الفهمُ لدول الاستعمار الاستيطانيّ في إنشاء الاستعمار الاستيطانيّ كحقلٍ دراسيٍّ مُستقلٍ، وتأسيسِ مجلةِ “دراسات الاستعمار الاستيطانيّ” التي نشرت عددها الأول في العام 2011. وفي هذا العمر ِالقصيرِ لهذه المجلة خُصِصت ثلاثةُ أعدادٍ منها للحديث عن الاستعمار الاستيطانيّ في فلسطين، وذلك بمشاركة باحثين فلسطينيين وصهاينة، بالإضافة إلى كتابات نظرية أساسية أخرى لباحثين مثل وولف وفيراتشيني (صاحب مبادرة إنشاء المجلة).

يدّعي هؤلاء الباحثون بأن هذا النموذج هو الأنسب لفهم الحالة الاستعمارية في فلسطين، وبالتالي فهو قادرٌ على تقديم الأساس المعرفيّ للحل السياسيّ المناسب للقضية الفلسطينية. من المهم الإشارة هنا، إلى أن سببَ الاهتمامِ بهذا النموذج لا يعودُ فقط  لنقده لدراسات ما بعد الاستعمار، فهذا النقد تناولَهُ بإسهابٍ وعمقٍ العديدُ من المفكرين العرب والمسلمين والمفكرين من دول أمريكا اللاتينية قبل ظهور هذا الإطار الجديد بعقود. وليس سبب الاهتمام هنا مقاربة المشروع الاستعماري في فلسطين كحالة استعمار استيطانيّ، فلقد تداول خطابُ منظمة التحرير الفلسطينية على سبيل المثال، في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، مفهوم الاستعمار الاستيطانيّ، هذا بالإضافة إلى دراساتٍ سابقةٍ لباحثين عرب وفلسطينيين اعتبروا العدوّ الصّهيونيّ مشروعًا أوروبياً استعمارياً استيطانياً[1].

إنّ سببَ الاهتمامِ في هذا النموذج هو الادعاءُ بأنّهُ الأشملُ والأكثرُ ملاءمةً لفهمِ الحالةِ الاستعماريّةِ في فلسطين وسياسات وممارسات المشروع الاستعماريّ في فلسطين، والادعاءُ بأنه بناءً على ذلك قادرٌ على تقديم اقتراحاتٍ وحلولٍ لإنهاء الاستعمار الاستيطانيّ في فلسطين، إضافةً إلى قدرته على الإسهام في صياغة أجندةِ تَحرّرٍ وطنيّ وقراءة ماضي وحاضر ومستقبل فلسطين. 

على سبيل المثال في كتاب “Global Palestine”، يرحّب الباحث Collins بما يسمّيه “settler colonial turn”؛ أي انعطافة الاستعمار الاستيطانيّ. ويقول كولينز في كتابه بأن هذا النموذج يساعد على تجاوز “الفهم التقليديّ” للحالة الاستعمارية في فلسطين على أنها حالة استثنائية ولا مثيل لها، ويتحدى الطرح الذي يرى الاستعمار في فلسطين كحالة صراع إثنيّ. ترحيب Collins  بهذا النموذج لقي صداه أيضاً عند العديد من الباحثين الفلسطينيين كما سيوّضح الجزءُ الثانيّ من هذه الورقة،  فعلى سبيل المثال، قال عمر سلامنكا وآخرون خلال مؤتمرٍ عقد في لندن في عام 2011 بعنوان “الماضي هو الحاضر: الاستعمار الاستيطانيّ في فلسطين”[2]، إنّ استخدام نموذج منطق الإبادة مهمٌ وضروريٌّ (تحليليًّا وسياسيَّا) لأنه يُمكَننا من مقارنة الحالة الاستعمارية في فلسطين بحالاتٍ أخرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية أو أستراليا أو جنوب إفريقيا.

دعا هذا المؤتمر حينها إلى استعادة نموذج الاستعمار الاستيطانيّ لدراسة فلسطين والتأكيد على “حقيقة” أن الفلسطينيين “سكانٌ أصليون”. ودعا المؤتمر كذلك إلى تعزيز جهود التضامن المشترك مع “السكان الأصليين” حول العالم، والتأكيد على أن المشروع الصّهيونيّ في فلسطين هو مشروعُ استعمارٍ استيطانيٍّ يتعامل مع الوجود الفلسطيني على أرض فلسطين من خلال عددٍ لا يُحصى من إجراءات الضّبط والسّيطرة والإبادة (Collins 2011, Salamanca, Qato et al. 2012).

من المهم الإشارة هنا إلى أنني أتفق في هذه الورقة مع وولف على أهمية عامل السيطرة على الأرض لضمان استمرارية المشروع الاستيطانيّ، فالتوّسع والعنف من أجل السيطرة على الأرض هما صفتان أساسيتان في المشاريع الاستيطانيّة لأنها ببساطة مسألة بقاء أو زوال. السيطرة على الأرض في حالات الاستعمار الاستيطانيّ لا تعني (فقط) السيطرة العسكرية، بل تعني أن على الأرض أن تحمل وجهَ وصفات المستوطن. بكلمات أخرىـ هذا يعني أن فلسطين يجب أن تصبح “إسرائيل”، والقدس “أورشليم” على سبيل المثال.

وهذا لا يعني (فقط) بأن المقصود هنا بأن فلسطين تصبح “إسرائيل” في عيون المستعمِر، بل المقصود هنا بأن يراها أهلها كذلك من خلال عيون المستعمِر. إنَ ما تستهدِفُهُ دولةُ الاستعمار الاستيطانيّ هي علاقةُ أهل الأرض بأرضهم، سواءً كان ذلك بالمعنى الماديّ – في المكان والزمان- (الوجود والعيش فيها، والتنقل والحركة على الأرض) أو بالمعنى المعنويّ (الانتماء إلى الأرض).

ما لا أتفق معه في هذا النموذج هو الفرضيات المؤسسة له فيما يتعلق “بأبدية الدولة الاستعمارية” وأبدية بقاء المستوطن الذي لا ينوي العودة واستحالة التحرر من الاستعمار الاستيطانيّ. فقد لا يَضيرُ وولف أو غيره التنظير للإبادة ولأبدية “إسرائيل” أو بقاء المستوطن، ففي نهاية الأمر هو مستوطنٌ يعيش على أرضٍ – أستراليا – تم الاستيلاءُ عليها من خلال منطق الإبادة الذي طوّره، لكن بالنسبة لي كباحثة فلسطينية، فإن قبول هذه الأفكار والتسليم بأبدية البقاء الاستعماريّ في فلسطين هو إشكاليةٌ أخلاقيّةٌ وسياسيّةٌ ومعرفيّةٌ، كما سأوّضح هذا في الورقة التي بين أيدينا.

من المهم التأكيد بأن “إسرائيل” هي مشروعٌ استعماريٌّ أوروبيٌّ استيطانيٌّ وامتدادٌ للتوسع الإمبرياليّ الأوروبيّ الذي بدأ قبل 500 عام. فالحالة الاستعمارية في فلسطين كما كتب جمال حمدان هي “عودٌ على بدء”؛ أي أن الرجل الأبيض لم يكتشف فلسطين كما “اكتشف” جزر الكناري أو المكسيك على سبيل المثال. فالرجل الأبيض يَعرفُنا ونَعرِفُه، من أيام الرّوم، ومرورًا بالحملات الصّليبية، وانتهاءً “بإسرائيل”، التي وصفها جمال حمدان بالحملة الصّليبية التاسعة[3]. فالمشروع الاستعماريّ الأوروبيّ الاستيطانيّ في فلسطين مشروعٌ وظيفيٌّ يؤدي دورًا ووظيفةً مُوّكلةً له كما شرح عبد الوهاب المسيري.

“عودٌ على بدء” تعني أن المواجهة مع هذا المشروع هي جولةٌ جديدةٌ مع المستعمر الأوروبيّ الذي نعرفه ويعرفنا. فبعد هزيمة الصليبيين في معركة حطين (1187 ميلادي) إنكفأت أوروبا على نفسها، وسَعَت لإيجاد التمويل لدعم حملة أخرى لتعود إلى القدس. فبعد سقوط غرناطة وموافقة الملكة إيزابيل والملك فرناند على تمويل رحلة كريستوفر كولمومبوس، كان الأخير يهدف إلى تمويل حملة صليبية من أجل تحرير القدس من “الكفرة”. بهذا المعنى “إسرائيل” هي “عود على بدء”، فلقد عاد المستعمر الأوروبيّ إلى بلادنا مرة أخرى بعد ثلاثة قرون من الغياب.

تناقشُ هذه الورقةُ بشكلٍ نقديٍّ كيف قرأ هذا النموذجُ الجديدُ – منطق الإبادة- الاستعمار الاستيطانيّ في فلسطين، وما هي الحلول التي قدّمها لحلِّ “النزاع” القائم في فلسطين”. أدّعي في هذه الورقة بأن استخدام نموذج منطق الإبادة في الحالة الفلسطينية لا يتجاهل فقط التاريخَ الطويلَ والمستمرَ حتى هذه اللحظة للمقاومة الفلسطينية (لافتراضه هزيمة الفلسطيني وأبدية “إسرائيل”)، إنما أدّعي كذلك بأن هذا النموذج يتضمنُ مخاطرَ سياسيّةً وأخلاقيّةً قد تؤدي إلى تعزيز المشروع الاستعماريّ الاستيطانيّ في فلسطين من خلال تعزيز سرديات الإبادة واستحالة التحرير.

سيتم ترتيب النقاش في هذه الورقة كالتّالي:

أولًا: شرح نموذج منطق الإبادة وفرضياته التأسيسية كما طوّره باترك وولف وغيره.

ثانيًا: إنطلاقًا من مشاركة شخصيّة في بعض اللقاءات الأكاديمية في السنوات الأخيرة، وبالاستناد إلى مراجعة أدبيات هذا النموذج، سأقوم بعرض وتحليل كيف يقرأ هذا النموذج الحالة الاستعمارية في فلسطين، وما هي المنطلقات والمرجعيات الأساسية لهذه القراءة. كما سأعرض أهم القضايا والأسئلة التي يناقشها هذا الحقل، والحلول التي يقترحها.

ثالثاً: ستُقدِّم هذه الورقة نقاشاً نقدياً لهذا النموذج بالاستناد إلى دراسات نقدية له طوّرها مفكرون من أهل البلاد في أستراليا وغيرها (وهي انتقادات تغيب عن العديد من الباحثين الفلسطينيين المتحمسين لهذا الحقل الجديد).

أولًا: الاستعمار الاستيطانيّ ومنطق الإبادة:

الاستعمار الاستيطانيّ هو أحد أشكال التوّسع الاستعماريّ الأوروبيّ الذي بدأ مع ما يُسمّى “اكتشاف العالم الجديد” من قبل الصهيوني الأول كريستوفر كولومبوس في تشرين الأول من عام 1492، أي قبل الاستعمار الحديث بثلاثة قرون على الأقل. تقوم فكرة الاستعمار الاستيطانيّ على انتقال أفراد وجماعات من أوروبا (عادةً من المنبوذين وغير المرغوب فيهم) إلى الأراضي الجديدة “المكتشفة”، والتي يتم التعامل معها على أنها أرض “فارغة” و”بكر” من أجل نهب مواردها وخيراتها بدايةً، ثم الاستيطان والاستقرار فيها لاحقاً.

لا تناقشُ هذه الورقة الاستعمار الاستيطانيّ بحدِّ ذاته، فلقد كتب العديد من المفكرين والفلاسفة خاصةّ من دول الجنوب (مثل: إدواردو غاليانو، والتر مجنالو، تزفيتان تودوروف، أنيبال كوينو وغيرهم) عن عقلية وجذور وعنصرية هذا “الاكتشاف” وما تلاه من إبادة الملايين من أهل البلاد، وحضاراتهم، وثقافاتهم، وكيف أدّى نهب الفضة والذهب إلى ظهور قوى الاستعمار الحديث (بريطانيا وفرنسا بشكلٍ خاصّ) والذي عاد إلى العالم العربي في نهاية القرن التاسع عشر، بعد قرون من تراكم رأس المال وخبرات الإبادة التي أسهمت في تأسيس ما يسمى اليوم بالحضارة الأوروبيّة.

مع بداية التسعينات، تعالت الأصوات لدى العديد من المفكرين في الأوساط الأكاديمية في شمال القارة الأمريكية حول محدودية نظرية ما بعد الاستعمار لقراءة وفهم المشاريع الاستعمارية التي ظهرت مع “اكتشاف العالم الجديد”، أي قبل الاستعمار الحديث (موضوع نظريات ما بعد الاستعمار). يميّز نموذج منطق الإبادة ما بين الاستعمار الاستيطانيّ من جهة والأنواع الأخرى من الاستعمار والإبادات العرقية والمجازر وانتهاكات حقوق الإنسان من جهةٍ أخرى.

الفكرة الرئيسية لهذا النموذج هي اختلاف الاستعمار الاستيطانيّ عن أنواع الاستعمار الأوروبيّ الأخرى (كاستعمار بريطانيا للهند مثلاً). ففي النهاية عاد المستعمر البريطانيّ من الهند إلى بلده الأمّ، بينما المستعمر الأبيض في أستراليا أو الولايات المتحدة الأمريكية لم يعد. فالاستعمار الأوروبيّ في الهند أو بعض دول القارة الإفريقية على سبيل المثال هو استعمارٌ قائمٌ على الاستغلال الاقتصاديّ والعبودية. بينما الاستعمار الأوروبيّ في العالم الجديد لا يهدف (فقط) إلى الاستغلال الاقتصادي، بل يهدف كذلك إلى السيطرة على الأرض، لأنّه ينوي البقاء.

يعني ذلك أن العلاقة ما بين المستعمر المستوطن وبين أهل البلاد في دول مثل أستراليا ودولة العدوّ الصّهيونيّ لا تقوم على استغلال العمالة الرخيصة لأهل البلاد (حتى وإن تم ذلك في ظروف معينة فهو استغلالٌ مؤقتٌ)، فمجرد وجود أهل البلاد على الأرض هو إشكالية بالنسبة للمستعمِر يجب التعامل معها بالإبادة. والإبادة بالنسبة للمستعمر لا تقتصر على الإبادة الجسدية (وهي ضرورية) بل تشمل أيضًا الإبادة بالمعنى السياسيّ والثقافيّ والمعرفيّ والحضاريّ والإنسانيّ. فالوصول إلى الأرض والاستيلاء عليها، بالنسبة للمستعمرات الاستيطانيّة هو الهدف الأول والأخير. الأرض في الاستعمار الاستيطانيّ ليست مطلوبةً فقط من أجل المنفعة الاقتصادية، بل هي ضروريةٌ كذلك من أجل الزراعة، والزراعة هنا تعني البقاء والاستيطان. يؤكد وولف في فهمه لتطور ظاهرة الاستعمار الاستيطانيّ بأن إبادة أهل البلاد ليست بسبب لونهم، أو دينهم أو عرقهم، أو انتمائهم السياسيّ بل بسبب وجودهم على الأرض.

في هذا السّياق، فإنّ وجودَ أهلِ البلاد على أرضهم معيقٌ لاكتمال مشروع الاستعمار الاستيطانيّ، ومن هنا تأتي أهمية الإبادة كما يخبرنا وولف. في عام 1994 نشر وولف مقالًا[4] قدّم فيه مفهومَ منطق  الإبادة لفهم الاستعمار الاستيطانيّ في أستراليا من خلال تتبع مسار ما يسمّيه “التخوم” أو “الثغور” في أستراليا.[5] يجادل وولف بأن الاستعمار الاستيطانيّ بدأ بوصول التخوم الأفراد individual frontiers (من لا يملكون أراضي في أوروبا، الباحثون عن الذهب، السماسرة، اللصوص، المجرمون، إلخ) إلى الأراضي التي يتم تصوريها على أنها “بكر” و”فارغة”. من بعد هذا الوصول وولف يحدد ثلاث مراحل لتطور التخوم:

أولًا: المواجهة confrontation: وهي دمويّة وعنيفة بطبيعة الحال حيث تم قتل الملايين من أهل البلاد. هذه المرحلة حسب وولف قصيرة وسريعة (في أستراليا استمرت من 7-10 سنوات)، وتهدف إلى الإبادة الجسدية بشكل أساسيّ لأكبر عددٍ ممكنٍ من أهل البلاد والسيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي. في مرحلة المواجهة في أستراليا، انقرضت (بالمعنى الحرفيّ للكلمة) العديد من الشعوب، فمن لم يمت بالبارود مات من الجوع والبرد في العراء.

ثانيًا: بعد القضاء على أكبر عدد ممكن من أهل البلاد،  تبدأ المرحلة الثانية التي يسمّيها وولف carceration، حيث يتم تجميع من تبقى على قيد الحياة من أهل البلاد ووضعهم في مراكز إيواء خاصّة بهم تتم إدارتها من قبل الحكومة الاستعمارية والمبشرين. هذه المرحلة والتي قد تبدو “إنسانية” أو أقل عنفًا، لم تكن أقل إبادة من سابقتها. فهذه المرحلة استهدفت أهل البلاد  كمجتمع، من خلال برامج عديدة مثل خطف الأطفال، وفرض ثقافة ودين الأبيض، وهي السياسات التي هدفت إلى قتل “الهندي” وإبقاء “الرجل” في داخله من خلال “تحويله إلى المسيحية” أو “تحضيره”. هذه المرحلة مؤقتة، حسب ما يخبرنا وولف، إذ “تفقد فعاليتها” في لحظة إغلاق التخوم وانتهاء المعارك، أي هزيمة أهل البلاد.

ثالثاً: ما بعد التخوم، تبدأ المرحلة الثالثة assimilation أي استيعاب أهل البلاد وتذويبهم في المجتمع الأبيض، وتحويلهم إلى أفراد ومواطنين. هذه المراحل لا تستهدف أهل البلاد كأفراد أو كأجساد فقط، بل تستهدفهم كمجتمع وثقافة ومؤسسات. عندما يتحول أهل البلاد على سبيل المثال إلى مواطنين أمريكيين، فهذا يعني أن ملكية الأرض ستصبح فردية، أي يمكن أن يبيعها المواطن الجديد – ابن البلاد – للرجل الأبيض كفردٍ يمارس حقّه فيما يملك.

طوّر وولف لاحقاً مفهومه هذا في العديد من الدراسات، من أهمها وأكثرها اقتباساً (settler colonialism and the elimination of the native 2006)  والتي قدّم فيها بشكلٍ مفصلٍ مفهومَ منطق الإبادة بالاستناد إلى دراسة ثلاث حالات للاستعمار الاستيطانيّ، وهي أستراليا، والولايات المتحدة الأمريكية، ودولة العدوّ الصّهيونيّ.

يخلص وولف بأن منطق الإبادة في الاستعمار الاستيطانيّ ليس قضيةً طارئةً أو مؤقتةً، بل هو شيءٌ جوهريٌّ وأساسيٌّ لبُنية هذا المشروع الذي لا يمكن أن يتم بدونه. تعني مركزية الأرض ومنطق الإبادة أن العلاقة ما بين المستعمِر والمستعمَر في حالات الاستعمار الاستيطانيّ مختلفة. لا يريد المستعمِر المستوطن السيطرة على أهل البلاد، فهو يريد ببساطة محوهم وإزالتهم من الوجود. فالعلاقة مختلفة، فهي لا تهدف إلى الاستغلال، هذا لا يعني أن الاستعمار الاستيطانيّ يخلو من الاستغلال، فهو قد يكون خياراً “عقلانياً” في بعض الحالات، لكن الهدف الأول والأخير ليس الاستغلال بل الإبادة.

ومن أجل أن يبقى المستعمِر المستوطن، على أهل البلاد أن يختفوا، ليس أقل من ذلك. تترافق عمليات الإبادة هذه بتصوير أهل الأرض على أنهم بدوّ رحل، لا علاقة تربطهم بالأرض (حتى في الحالات التي كان فيها هؤلاء مزارعين) وذلك لتسهيل عملية إبادتهم. إنّ السبب الرئيسي لهذه الإبادة بكل مراحلها كما ذكر سابقاً هو الأرض، والعلاقة ما بين الأرض وأهلها هي الهدف لهذا المنطق، فهي علاقة يجب قطعها وتشويهها بمعنى المكان والزمان والوعي.

يُجادل وولف بأن الاستعمار الاستيطانيّ ليس حدثاً يقعُ لمرةٍ واحدةٍ وينتهي في الزمان والمكان، بل هو بنيةٌ مستمرةٌ تعمل بمنطق الإبادة وعقلية التخوم وتمتد من الماضي إلى الحاضر وتستمر إلى المستقبل. الاستعمار الاستيطانيّ لا ينتهي، بل أكثر من ذلك، إن إنتهاءهُ غيرُ قابلٍ حتى للتخيل، ومنطق الإبادة لا يتوقف إلا باختفاء التخوم، وذلك لا يعني عودة المستعمرين إلى أوطانهم الأم (فهم لا ينوون العودة)، بل يعني انتهاء عملية الاقتحام والسيطرة التامة على الأرض والإبادة الشاملة لأهل البلاد (بالمعنى الماديّ والسياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ)، عندها ينتهي الاستعمار الاستيطانيّ، أي ينتهي اعتبارُه استعماراً.

الجزء الثاني من هذه الورقة، سيعرض ويناقش كيف يقرأ هذا النموذج الحالة الاستعمارية في فلسطين، وكيف يسعى إلى تقديم حلول وصياغة أجندة تحرر وطنيّ باستخدام مفردات “الإبادة” و”المحو” و”الإزالة”.

يتبع.. 

—————————–

الهوامش:
[1] (عبد الوهاب المسيري، جمال حمدان، فايز صايغ، منير العكش، أبو اللغد وأبو اللبن).
[2] تم نشر عدد من الأوراق التي قدمت في هذا المؤتمر في عدد خاص لدراسات الاستعمار الاستيطانيّ.
[3] يقارن جمال حمدان بين الغزو الصليبي والذي اعتبره استعمارًا استيطانياً وبين الغزو المغولي، فيقول: “فابتداءً إذا قلنا الصليبيات والمغوليات فقد قلنا جغرافيا زحف أوروبا وآسيا، وحضارياً خروج الزراع المستقرين والرعاة الرحل، واستراتيجياً قوى البحر والبر مباشرة، وأيديولوجيا الاستعمار الديني والوثني على الترتيب. وإذا كان طوفان المغوليات المدمر يمثل حل الرعاة التقليدي لمشكلة ضغط السكان، فكذلك كان الخروج الصليبي على الأرجح هو الحل الأوروبيّ لمشكلة الانفجار السكاني بها في ظل الإقطاع والدين. وكما كان الأول مدفوعًا على الأرجح بموجات الجفاف المناخي في قلب آسيا الميت، كان الثاني مدفوعًا بالجفاف الحضاري الذي أصاب النظام الإقطاعي وكشف عقمه حين بدأ خطر جرثومة البورجوازية البازغة في المدن الجديدة يهدده بعد نحو ألف سنة من الاستقرار الزراعي الجامد”. ويضيف حمدان بأن الحملات الصليبية هي استعمار استيطاني بالأساس، (على عكس الغزو المغولي الذي كان غزواً ذكورياً)، فالاستعمار الصليبي، كان مجتمعاً منقولاً مزروعاً بالكامل من الذكور والإناث والكبار والصغار. أي أن الغزو الصليبي هو الأقرب لفهم “إسرائيل”،  ففي دراسه لزياد عسلي منشورة في فصلية الدراسات العربية، شتاء 1992 بعنوان “الدراسات الصهيونية لحملة الحروب الصليبية”، يتطرق الكاتب إلى الحضور البارز للأكاديميين الصهيونيين (داخل وخارج فلسطين) في دراسة الحروب الصليبية و”جمعية دراسىة الحروب الصليبية والشرق اللاتيني”  Society for the Study of the Crusades and the Latin East. ينقل الكاتب بأن أحد أهم أسباب هذا الاهتمام  هو الفزع من المقاربة ما بين المشروع الصهيوني والحملات الصليبية (فالصليبيون رحلوا و نحن لن نرحل – يقول أحد المؤرخين الصهيونيين-) لذلك من باب أخذ العبر والاستفادة من دروس الماضي. 
[4] عنوان المقال: Nation and MiscegeNation: Discursive Continuity in the Post-Mabo Era 
[5]  الـ Frontier  والذي تمكن ترجمته بالعربية إلى التخوم أو الحدود، وهو مصطلح قدّمه  المؤرخ Frederick Jackson Turner  أول مرة في ورقة بعنوان “أهمية التخوم في التاريخ الأمريكي”، وذلك في اجتماع لجمعية التاريخ الأمريكي والذي عقد عام 1893 في شيكاغو. الجزء الثاني من هذه الورقة سيتطرق لمفهوم التخوم في الحالة الصهيونية.
مراجع اعتمدت عليها هذه الورقة:
حمدان، (1983). استراتيجية الاستعمار والتحرير. بيروت، دار الشروق.
المسيري، (2002) . الجماعات الوظيفية اليهودية: نموذج تفسيري جديد. القاهرة. دار الشروق.
Abu-Lughod, I. (1975). Settler regimes in Africa and the Arab world: The illusion of endurance. Wilmette, Ill: Medina Univ. Press Internat. 
Collins, J. (2011). Global Palestine, Hurst Publishers 
Salamanca, O. J., et al. (2012). “Past is present: Settler colonialism in Palestine.” settler colonial studies 2(1): 1-8. 
Sayegh, F. A. (1967). Zionist colonialism in Palestine. Cairo: Permanent Secretariat of the Afro-Asian Peoples’ Solidarity Organization. 
Wolfe,  P. (1994) . Nation and MiscegeNation: Discursive Continuity in the Post-Mabo Era.Social,  Analysis: The International Journal of Social and Cultural Practice No. 36 (October 1994), pp. 93-152.