يتناول محمد يونس مشروع “التشجير” الذي نفذته السلطات الاستعمارية في فلسطين، خاصة جبال القدس الغربية، كاستراتيجية للاستحواذ على الأرض وإخفاء معالم القرى المهجرة. فكانت هذه الأشجار الدخيلة على البيئة الشامية هي الحطب الذي ظلّ يشتعل عاماً بعد آخر. قراءة طيبة

(الصورة الرئيسية: ملصق للصندوق القومي اليهودي “ككال” نُشر في عام 1960)
توطئة

يتناول محمد يونس في هذا المقال مشروع “التشجير” الذي نفّذته السلطات الاستعماريّة في فلسطين، حيث عمدت إلى تشجير وتحريش مساحاتٍ واسعةٍ من البلاد، خاصةً في جبال القدس الغربيّة، كاستراتيجيّةٍ للاستحواذ على الأرض وإخفاء معالم القرى الفلسطينية المهجّرة. فاستخدمت أنواعاً من الأشجار دخيلةً على البيئة الشاميّة، وأقلّ قدرةً على التواؤم مع المناخ البيئي في البلاد. فكانت هذه الأشجار هي الحطب الذي ظلّ يشتعل عاماً بعد آخر، كما جرى في حرائق شهر آب الحالي التي التهمت آلاف الدونمات من الأشجار الحرجية، وكأنّها ردٌّ من الطبيعة الفلسطينية على محاولات المستعمِر تزييف معالم المشهد الطبيعي واستبداله بآخر غربيّ لا يتناسب والبيئة الفلسطينيّة، من أجل طمس القرى الفلسطينيّة المهجّرة وهويّتها العمرانية والطبيعيّة وإبادة آثار أهلها.

****

في صيف هذا العام 2021، شبّت عدّة حرائق في مناطق مختلفة من ريف القدس الغربيّ، بدأت مع ارتفاع درجات الحرارة في شهر أيار الماضي في مناطق مثل قالونيا وبيت ثول المهجّرتين، وسرعان ما سيطرت عليها سلطات الاحتلال. لاحقاً، ومع بداية شهر آب الحاليّ، اندلعت المزيد من الحرائق على التلّة الشماليّة من أراضي ساريس المهجّرة، وتسبّبت بتدمير مساحاتٍ من أشجار الصنوبر المحيطة بمستوطنتي “شورش” و”شوئيفا” المقامتين على أراضي القرية. وبعد حوالي أسبوعين، اندلع حريقٌ آخر في مستوطنة “بيت مائير” المقامة على أراضي قرية بيت محسير المهجّرة، غرب قرية ساريس، تضرّرت على إثره أجزاءٌ من المستوطنة ومساحاتٌ محدودةٌ من الأحراش.

وبينما كان يتمّ العمل على إخماد الحريق في بيت محسير، اندلع حريقٌ كبير فجأةً في قرية ساريس، هذه المرّة على التلّة الجنوبيّة من الجهة الغربيّة، وامتدّ ليصل إلى سفوح عرق الدواية ليشمل الوادي ويصلَ إلى أعالي تلال خربة العمور وبيت أم الميس.  خلّف الحريق سحابةً دخانيّةً ضخمةً غطّت سماء وسط القدس وجنوبها، بالإضافة إلى أجزاء من مناطق بيت لحم، قبل أن ينحسر ليلاً ويتجدّد في اليوم التالي ويصل إلى قرية صوبا المهجّرة. وعلى إثر ذلك، أُخلي آلاف المستوطنين من المنطقة، وأُغلقت طريق يافا- القدس لبضع ساعات. اندلعت أكثر من 100 بؤرة نيران، واستخدم العدو خلالها الطائرات والمروحيّات في محاولةٍ للسيطرة على الحرائق، كما أعلن عن طلبه للمساعدة الدوليّة في إخمادها.

وبحلول نهاية اليوم الثالث، كانت الحرائق قد التهمت حوالي ٢٥ ألف دونمٍ، جلّها من أشجار الصنوبريّات، لتصل إلى أراضي قريتي عين كارم وصطاف المهجّرتين. فاقت الحرائق الأخيرة تلك التي اندلعت في المنطقة ذاتها في أوائل شهر تمّوز عام 1995، فيما عُرف بـ “الحريق الأكبر”، والذي اشتعلت نيرانه في محيط قرية ساريس المهجّرة، وطالت ألسنتها نصف مستوطنة “شورش” وحوالي 20 ألف دونم.

(صحيفة الاتحاد، 3 تمّوز 1995، ص 3)

التشجير في خدمة الاستعمار

يعود أصل معظم [1] هذه الأحراش الى بداية القرن العشرين مع بدايات المشروع الاستيطاني في أرض فلسطين، حيث كثّفت الحركة الصهيونية، وعبر الصندوق القومي اليهودي (קרן קיימת לישראל)، جهودها لزراعة مختلف أنواع الأشجار وأصنافها، بغرض تحقيق إنتاجٍ زراعيٍّ فعّال للمستوطنات وتشغيل المستوطنين. اتّخذت هذه الجهود شكل التجربة؛ إذ كان يجري تجربة أصنافٍ مختلفةٍ في بيئاتٍ زراعيّةٍ متعدّدةٍ في فلسطين.

بالمقابل، كانت  السلطات  الاستعمارية البريطانية تشجّع الصهاينة على زراعة الصنوبريات، نظراً لنموها السريع وانتشارها في حوض البحر الأبيض المتوسط، الأمر الذي يزيد من نسبة نجاح زراعتها، وإمكانية استخدام أخشابها. نشطتْ زراعة الصنوبريات في عشرينيّات وثلاثينيّات القرن الماضي، وهي ذات الفترة التي نشطتْ فيها الهجرة اليهودية إلى بلادنا فلسطين.

استغلّ المستوطنون الصهاينة زراعة شجر الصنوبر بغرض ترسيم  حدود المستوطنات الجديدة لـ”حمايتها” من التوسّع الفلسطيني، من خلال زراعة مساحاتٍ كبيرةٍ نسبياً بها، واعتراف السلطات الاستعماريّة البريطانيّة بهذه الأراضي باعتبارها “محمياتٍ طبيعيةً”، من خلال قانون عام 1926 الذي يسعى لتحديد مناطق الغابات والمحميات الطبيعية.

كما دعمت الحركة الصهيونيّة والسلطات البريطانيّة تلك الاستراتيجية التشجيريّة لما تخلقه غابات الصنوبر من شعورٍ بتواجد الفرد/المستعمِر بمنطقةٍ أوروبيّةٍ من خلال الطبيعة الإيكولوجيّة للمنطقة. بعد حوالي عامٍ من العمل بذلك القانون، أعلنت السلطات الاستعماريّة البريطانيّة في فلسطين بابَ الواد منطقةَ غاباتٍ محميّة. ما يميّز هذا القانون وتطبيقه هو أن الحكومة البريطانية عندما أعلنت في الجريدة الرسمية عنه، لم تحدّد حدود الغاباتٍ بشكلٍ بيّنٍ، بل ووظّفت وصفاً لفظيّاً عاماً لحدود هذه الغابة من تسمياتٍ محليةٍ وعربية. قُدِّرت مساحة الأراضي المصادرة لصالح غابة باب الواد بحوالي ألفَيْ دونمٍ، دون وجود أيّ دلائلَ مساحيّةٍ أو علميةٍ واضحةٍ على طبيعة حدود هذه الغابة.

(مقارنة للمشهد "الطبيعي" لغابة باب الواد بين عامي 1927 و1945، الأرشيف الصهيوني)

علاوةً على ذلك، اتّخذ مشروع التشجير الاستعماري بُعداً قوميّاً ودينيّاً لدى الصهاينة، مستندين في ذلك إلى النصّ التوراتي. استهلّ الصندوق القومي اليهودي أحد منشوراته عن مشاريع التشجير بآيةٍ من العهد القديم، تحديداً من سفر إشعياء، تتحدّث عن عدّة أنواعٍ من الحرجيات، منها السرو والأرز، في إشارةٍ لرمزيّة الصنوبريات التوراتيّة:

((أَجْعَلُ فِي الْبَرِّيَّةِ الأَرْزَ وَالسَّنْطَ وَالآسَ وَشَجَرَةَ الزَّيْتِ. أَضَعُ فِي الْبَادِيَةِ السَّرْوَ وَالسِّنْدِيَانَ وَالشَّرْبِينَ مَعًا.)) – سفر إشعياء 41:19

الاستيطان والهندسة الإيكولوجية

لم يقف الفلسطينيون مكتوفي الأيدي أمام سياسات التشجير والاستحواذ على أراضي بلادهم؛ إذ عملوا في حينها على مقاومة زراعة هذه الأشجار بحرقها أو قطعها، لا لرمزيّتها الاستعماريّة فحسب، وإنّما لضررها على الفلاحين الفلسطينيين لما نتج عنها من ارتفاع حموضة تربة الأراضي الزراعيّة.

ويُعزى ذلك إلى أنّ الأوراق الإبريّة  المتساقطة من الصنوبريات على الأرض تؤثّر سلباً على نمو الأعشاب الأخرى، نظراً لارتفاع حامضيّة هذه الأشجار وحجبها لضوء الشمس عن النباتات والشجيرات التي تنمو أسفلها. ساهمَ هذا في  حرمان  رعاة الأغنام الفلسطينيين  من  المناطق المزروعة بهذه الأشجار؛ أي تلك المحيطة بالمستوطنات، حيث كان المستوطنون يستخدمون هذه الأشجار للاستيلاء على المناطق التي تنمو فيها، ثمّ استغلالها كحدودٍ للمستوطنات الناشئة، نظراً لنموها السريع كما ذكرنا آنفاً.

استمرّ الأمر لاحقاً بعد احتلال الضفة، ولا تزال هذه السياسة متّبعةً من أجل تدمير الأراضي الزراعيّة الفلسطينيّة المحيطة بالمستوطنات. يظهر الأمر جليّاً عند مستوطنة “عيلي” المقامة على أراضي اللبن الشرقية جنوب نابلس، والتي تنتشر في محيطها الغابات الحرجيّة. بدأت الصنوبريات بالانتشار بين أشجار الزيتون والبلوط بين مستوطنة “عيلي” والبؤرة الاستيطانيّة المقامة على التلّة الجنوبية المقابلة لها.

تركّزت أعمال التشجير الاستعماري هذه في المناطق الاستراتيجيّة، أو تلك التي يشعر فيها المستعمِر بعدم الأمان  لوجود مستوطناته بين عدة تجمعاتٍ سكانيّة فلسطينية. زرع الصندوق القومي اليهودي ملايين الأشجار في أنحاء فلسطين، تركّزت نسبةٌ كبيرة منها في مناطق حيفا وطبريا والقدس.

أمّا في القدس، فكان الأمر واضحاً في ريفها الغربيّ، وبالتحديد في محيط الطريق التاريخي العام الواصل بين القدس ويافا، حيث بدأ الاستعمار الاستيطاني بتطبيق قانون المحميّات الطبيعيّة على عدّة مناطق تمّ تحويلها لغاباتٍ حرجيّةٍ. استغلّ المستعمِر الصهيوني، بذلك، القوانين التخطيطيّة حول استخدام الأراضي، بدوافعَ استيطانيةٍ مموّهة بالحفاظ على البيئة وحماية الطبيعة، كما سيفعل ذلك لاحقاً بعد استحواذه على البلاد وزراعته القرى المهجرة بهذه الأشجار لإخفاء بقاياها العمرانيّة.

في إحدى الصور الجويّة لمنطقة قرية العنب (أبو غوش) لعام ١٩٤٨، تبرز مستوطنة “كريات عنڤيم” (أعلى يسار الصورة) بين غابتين في شمالها وجنوبها، تفصلها عن قرى أبو غوش وبيت نقوبا وقطنة، وهي من أوائل المستوطنات الزراعية (الكيبوتسات) في جبال فلسطين، وكانت قد أُنشئتْ عام 1919.  تزامناً مع ذلك، أُقيمت مستوطنة الخمسة (معاليه هحميشا) على الطرف الغربي من الغابة شمال أبو غوش. كما يظهر أيضاً قيام المستوطنين بزراعة غابةٍ بين بيت نقوبا وأبو غوش، لتمثّل اليوم حدّاً فاصلاً بين أبو غوش والمستوطنة المقامة على أنقاض بيت نقوبا، والتي تحمل بدورها ذات الاسم.

(صورة جويّة تعود لعام 1948 التقطتها العصابات الصهيونية، تظهر فيها قريتا أبو غوش وبيت نقوبا ومستوطنة "كريات عنڤيم")

تُظهر الصور الجويّة الغابةَ جسماً دخيلاً على الطبيعة الفلسطينيّة، يختلف فيها المشهد الطبيعي عمّا عرفه أهل البلاد في القرون الأخيرة. فالمحاصيل التقليديّة ليست بتلك الكثافة، ولا ينتج عنها غاباتٌ تشكّل سدّاً طبيعيّاً كهذا. نلاحظ هذا الاختلاف في الخرائط البريطانيّة للمنطقة، حيث تظهر محاصيل العنب والزيتون والبلوط والحمضيّات وبعض الحرجيات مقابل الغابات التي تحيط بالمستوطنة.

(خريطة تعود لعام 1937 لمنطقة أبو غوش، يظهر فيها اختلاف طبيعة الأراضي المزروعة في القرى الفلسطينية من الزيتون والعنب والبساتين عن تلك المحيطة بمستوطنة "كريات عنڤيم" من حرجيّات)

 

(مستوطنة "كريات عنڤيم" عام 1945، أرشيف "الكيرن كييمت" )

يتعدّى مشروع التشجير الاستعماريّ فكرة زراعة الحرجيّات بشكلٍ عشوائيٍّ، فالتجارب الزراعيّة التي خاضت غمارَها الحركة الصهيونية منذ بداية القرن العشرين في فلسطين، منحتها خبرةً كافيةً عن طبيعة أصناف الحرجيات التي تصلح لكلّ منطقة في البلاد الفلسطينيّة ذات التنوع البيئي الواسع. ويبدو أنّ الحرجيات التي تنمو في البلدات الفلسطينية منذ قرونٍ، تختلف عن تلك التي اعتمدتها الحركة الصهيونية، لعدم انتشارها في أوروبا.

وفي حين نجحت معها أصناف وفشلت أخرى، برزت على وجهٍ خاصٍ الصنوبريات التي تنمو بكثرةٍ  في المناطق الشرقيّة من حوض البحر المتوسط، مثل تركيا وبلاد الشام. في هذا الصدد، يبرز الصنوبر الحلبي بمختلف أصنافه (اسمه العلمي Pinus halepensis)، والذي ينتشر في مناطق شمال غرب أفريقيا وجنوب أوروبا، وهو ذو أوراقٍ إبريةٍ، ولا ينبت مجدداً إذا احترق أو قُطع، ويحتاج إلى زراعته من جديدٍ بمساعدة الأسمدة.

(بيت نقوبا المهجّرة، 1 آب 2021)

عموماً، لم يقتصر الأمر على الصندوق القومي اليهودي فقط في عمليات التشجير الاستعماري، بل شاركته أيضاً جمعية الاستعمار اليهودي لفلسطين (Palestine Jewish Colonization Association)، بالإضافة إلى حكومة الاستعمار البريطانية في فلسطين، وجهاتٍ صهيونيةٍ خاصةٍ أخرى.

وبحسب الصندوق القومي اليهودي، فإنّه بحلول عام 1948، زرعت تلك الجهات حوالي 80 ألف دونمٍ من فلسطين، زرعت نصفهم الحكومة الاستعمارية البريطانية في مناطق مختلف أنحاء فلسطين، مثل حيفا وطبريا وقيسارية وبئر السبع والقدس. وهذا العدد قليلٌ نسبياً مقارنةً بما بذلته هذه الجهات الاستعمارية من محاولاتٍ مستمرةٍ في التشجير؛ إذ ألحقت أعمال المقاومة الفلسطينية من حرقٍ وقطعٍ لهذه الأشجار خسارةً كبيرةً لعمليات التشجير الاستعماري.

(المحميات الطبيعية و"أراضي الدولة" في وسط فلسطين حسب التصنيف الاستعماري البريطاني في عام 1937)

لاحقاً، قلّل المستوطنون من زراعة الحرجيات الإبرية داخل المستوطنات واكتفوا بزراعتها في محيطها والمناطق المُزمع استيطانها. فيما استمرّوا بزراعة أصناف الحرجيات شامية الموطن، نظراً لقلة حامضيّتها مقارنةً بغيرها من الأصناف التي قاموا بزراعتها، ما يتيح لهم زراعة محاصيل وأشجارٍ أخرى دون الحاجة  لمعالجة التربة. كما زرع المستوطنون الصهاينة أشجار البلوط الفلسطيني والزيتون وغيرها من الأشجار التي زرعها الفلسطينيون على مدى قرون، كما  ينشط المستوطنون في زراعة العنب بكثرةٍ في جبال القدس، بغرض إنتاج النبيذ.

الموجة الثانية من التشجير الاستعماري

بعد حرب النكبة واحتلال فلسطين، وقّعت وزارة الزراعة الصهيونية عام 1959 اتفاقيةً مع الصندوق القومي اليهودي لتسليمه مهام رعاية الغابات والتشجير، بهدف تسريع وتيرة عمليات التشجير، ومضاعفة المساحات المزروعة في جبال فلسطين وصحرائها. انطوت هذه المسألة، أيضاً، على رغبةٍ صهيونيّةٍ في توفير فرصِ عملٍ للمستوطنين القادمين من موجات الهجرة الجديدة خلال خمسينيات القرن الماضي. كما كان المشروع مدفوعاً بالحيلولة دون انجراف التربة وخلق مساحاتٍ زراعيةٍ لمحاصيل أخرى، وكمصدّاتٍ للرياح، فضلاً عن استخداماتٍ تجاريّةٍ أخرى لخشب الصنوبر.

وخلال العقد الأول بعد نكبة فلسطين، زُرع ما يقارب الـ200 ألف دونمٍ من الغابات، خاصةً في مناطق القدس ومحيطها، لتصبح بمثابة الغابات الرئيسيّة في البلاد لاحقاً. بحلول سبعينيّات القرن الماضي، كان قد زُرع حوالي نصف مليون دونمٍ من أراضي فلسطين بالحرجيّات الصنوبرية، خاصةً في منطقة وسط البلاد، في الريف الممتدّ من القدس حتى اللد.

(ملصق نشره الصندوق القومي اليهودي "ككال" في خمسينيّات القرن الماضي، مصوّراً به منطقة القدس، وتظهر فيه المدينة كمنطقة أوروبية خالصة بأشجار الصنوبر)

بذا، تشكّلتْ مساحاتٌ واسعةٌ لما سُميتْ بصحراء الصنوبر، وهي صحراء بالنسبة للتمدّد العمراني الفلسطيني. استخدم العدوّ الصهيوني ذات الأسلوب في الضفة بعد احتلالها، بغية مصادرة الأراضي لصالح بناء المستوطنات، أو اتخاذها احتياطيّاً مستقبليّاً للتمدّد الاستيطاني.

("صحراء الصنوبر" غرب باب الواد، 1 تمّوز 2021)

ومنذ منتصف السبعينيّات، انخفضتْ وتيرة التشجير الاستعماري، نظراً لاحتلال كلّ فلسطين، والعمل بالقوانين العسكريّة الصهيونيّة التي تتيح مصادرة الأراضي دون الحاجة إلى حججٍ بيئية. مع ذلك، تمّت زراعة ما يقارب 400 ألف دونمٍ، بما يشمل المساحات التي احتُرقت أو جرى استغلالها، مثل حريق عام 1995، منخرطين بذلك في تجديدها للأسباب التي ذكرناها مسبقاً.

أمّا حالياً، فيدّعي الصندوق القومي اليهودي قيامه بزراعة مليون دونمٍ من الأراضي بحوالي 230 مليون شجرةٍ، واستكمال الزراعة سنوياً بمعدل 20 ألف دونمٍ. يعمل الصندوق على تشجير المناطق المحاذية للبلدات الفلسطينية في الجليل، للحدّ من التوسع العمراني في أراضيهم، وسلبها لصالح المستوطنات.

كما يفعل الأمر نفسه في البادية الفلسطينية، حيث كثّف من مشاريع تشجير الأراضي الصحراويّة بحجّة منع التصحر. لكنّ عمليات التشجير هذه تنتشر حول القرى والتجمّعات البدويّة الفلسطينيّة، خاصةً في مناطق شمال بئر السبع ومحيطه، للتضييق على التجمّعات البدويّة غير المُعترف بها أصلاً.

تُعرِّف السلطات الصهيونيّة المناطق البدوية باعتبارها محمياتٍ طبيعيةً، بغرض تبرير تهجير البدو ونقلهم إلى مدنٍ مجهّزة ومقيدة التوسع، وتحقيق إبادةٍ ممنهجةٍ للبداوة الفلسطينية. كما تسعى إلى التضييق على عمليات رعيهم للحيوانات، فلا يبقى العشب والأعلاف في المناطق المجاورة، نظراً لتحويلها إلى غاباتٍ حرجيةٍ، والحرجيات التي يزرعها الصندوق القومي اليهودي في الصحراء ذات طبيعةٍ شوكيّةٍ بطبيعة الحال.

يعمل الصندوق القومي اليهودي كلّ عدة سنوات، بالتعاون مع جهاتٍ صهيونيّةٍ أخرى، على إعداد مخططاتٍ زراعيّةٍ لإصلاح الغابات وتشجير مساحاتٍ جديدةٍ. يُعتبر مخطط “تاما ٢٢” (תמ”א 22) أبرز هذه المخططات حالياً، [2] وهو مخططٌ “قُطرٌّي” يشمل جميع فلسطين تقريباً والجولان المحتل، والذي بموجبه مثلاً، صادر الاحتلال آلاف الدونمات من أراضي البلدات الفلسطينية داخل الأراضي المحتلة عام 1948.

(مخطط "تاما 22")

في هذا السياق، صادرتْ السلطات الاستعماريّة الصهيونيّة حوالي ألفي دونمٍ ضمن مشروع مُخططٍ لتشجير ستة آلاف دونمٍ من أراضي وادي عارة، وتحويلها الى غابات، ليدمّر فرص توحيد التخطيط الحضري في المشاريع الهيكلية بين أم الفحم وبلدات وادي عارة. تستغلّ السلطات، بذلك، غياب مخططاتٍ هيكليّةٍ نهائيّةٍ للبلدات الفلسطينية، وعدم منحها التراخيص لمنازلَ قائمةٍ خارج المخططات الهيكلية القديمة التي أُعدّت خلال الثمانينيات، وهي نفسها المناطق التي أعلنتها السلطات كمناطق غاباتٍ ومحمياتٍ طبيعيّةٍ، وأصدرت أوامر هدمٍ للمباني الواقعة داخل حدودها.

(صنوبر حلبي في أراضي قرية ساريس، آب 2021)

خاتمة

بعد الحريق الأخير، علّق المتحدّث باسم الصندوق القومي اليهودي في إحدى الصحف العبرية، [3] عن توجّههم إلى البدء بعمليات التشجير في الأراضي التي احتُرقت، مُبدياً عدم قدرتهم على انتظار “الطبيعة لتقوم بعملها خاصةً بمساحاتٍ واسعة مثل هذه”. يستبطن هذا التصريح تجربتهم الفاشلة في جبال الكرمل التي احتُرقتْ عام 2010؛ إذ لم تنبت أشجار الصنوبر لوحدها بسرعة، ما استدعاهم لاحقاً للعمل على تشجيرها، وحتى الآن لم يتعدَّ طولها المترين.

ويمكن القول إنّ الأمر حدث سابقاً بعد حريق عام 1995، فلم تنبت الحرجيات لوحدها كما توقعوا، فقاموا بزراعتها ولم تتحول الى أحراشٍ إلا في السنوات العشر الأخيرة بعد زراعة عدة أصنافٍ من الصنوبريات في نفس المنطقة، قبل أن تحترق مجدداً في آب من هذا العام.

نرى فيما يلي مقارنة لمنطقة خربة الزعتر شمال غرب ساريس المهجرة، بين العامين 2005 و2019، وهي المنطقة ذاتها التي احتُرقت في عام 1995، وكذلك في الأول من آب الجاري. يُلاحظ كيف تحولت المنطقة إلى مساحاتٍ حرجية بعد أن فشلت عملية نمو الحرجيّات بشكلٍ طبيعي، ما اضطرّ السلطات الصهيونية إلى زراعة بذورها أو شتلاتٍ صغيرة. كما زُرعت المنطقة بكروم العنب، علماً بأنّها كانت تُزرع بالزيتون والبلوط قبل حرب النكبة.

في الختام، لم يغيّر احتلال العصابات الصهيونيّة للبلاد وتأسيس دولة الكيان الحجج المستخدمة في عمليات الاستيلاء المتواصلة على الأراضي؛ فعملية التهويد عبر التشجير مستمرّةٌ، إمّا لـ “تغريب” المشهد الطبيعي الفلسطيني وشطب السمات العربية الفلسطينية كجزء من شطب هوية المكان وتاريخه، أو لأغراض عسكريّةٍ لحماية المستوطنات من عمليات المقاومة الفلسطينيّة؛ وذلك بسبب صعوبة الحركة في الغابات والأحراش الكثيفة على عكس كروم الزيتون، مثلاً، المتباعدة شجراته عن بعضها البعض.

أمّا التشجير الاستعماري، كمفهوم، فيُمكن اعتباره جزءاً من مفهوم الإبادة الإيكولوجية؛ أيّ الإبادة عبر الممارسات البيئية. فالمستعمِر الذي حرص في البداية على الانخراط في النموذج البيئي الأصليّ للبلاد، والانسجام معه من خلال محاولاته لزراعة الزيتون في بدايات الاستيطان الصهيوني، من أجل الاستقرار، توجّه في وقتٍ لاحق – ومع تراجع مكانة الزراعة في الاقتصاد الصهيوني- إلى الأشجار الأوروبية من أجل تأمين الرضا والشعور بالراحة النفسية الناجمة عن الانسجام مع المحيط البيئي، وإبادة السمات البيئية الخاصة بأهل البلاد. واليوم، يعود المستعمِر إلى زراعة الزيتون  مجدداً، [4] بتعديلاتٍ زراعيةٍ تجعله مشابهاً لذلك الزيتون المزروع في جنوب أوروبا، كجزءٍ من السطو على هوية أهل البلاد البيئية، واستدخالها في هوية المستوطن، لتحلّ محلّه.

ويُمكن رؤية الموضوع أيضاً في عمليات تشجير المدن والبلدات الفلسطينية بالأشجار الحرجيّة كجزءٍ من السمات الجماليّة للحدائق والمتنزهات، لتذويت مفهوم التشجير الاستعماري وتطبيعه في المشهد الحضري الفلسطيني الحالي، نظراً لاعتماد عمليات التخطيط الفلسطينية حالياً على المعايير الأوروبية، إمّا من خلال تبني نماذج أوروبية بشكلٍ مباشر، أو بسبب الاعتماد على التشريعات التخطيطية المنقولة عن الأنظمة الصهيونية والبريطانية في البلاد. مثلما حصل في مشروع مدينة روابي المبنية على أراضٍ “صودرت” من أهاليها شمال رام الله، فزُرعت أشجار الصنوبر في أنحاء المدينة، خاصةً في محيط مدرّج الاحتفالات، لإضفاء الطابع الأوروبي والغربي على المكان كسمةٍ من سمات “الحداثة” لمدينةٍ بُنيت على أراضٍ كانت تُزرع بالزيتون والبلوط.

وحول ما ظهر بعد الحرائق الأخيرة من مدرّجاتٍ زراعيةٍ في جبال القدس، فهي تذكيرٌ بالأنماط الزراعية التي استخدمها الفلسطيني قديماً لحماية الأراضي الجبلية المنحدرة من انجراف التربة، واستغلال أوسع مساحةٍ ممكنةٍ من الأراضي لزراعة الأشجار المثمرة. فلو أنّه عرف الحرجيّات منذ القدم، لما عمد إلى بناء مثل هذه المدرّجات، والتي تشير بعض الدراسات إلى كونها أُنشئت منذ أكثر من ألف عامٍ على الأقل. وما زالت هذه المدرّجات اليوم ظاهرةً في ريف القدس الجنوبيّ داخل الضفة، مثل بتّير ووادي المخرور غرب بيت لحم.

****

الهوامش:

[1] اُنظر عارف العارف، المفصل في تاريخ القدس، ص 444. عمل إبراهيم باشا خلال حكمه للبلاد في النصف الأول من القرن التاسع عشر على إدخال أنواع جديدةٍ من المحاصيل الزراعية، فاستورد البذور من أوروبا وحاول زراعتها في مختلف أنحاء فلسطين.
[2] ملف مخطّط “تاما 22” على موقع الصندوق القومي اليهودي “الكيرن كييمت”؛ رابط.  
[3] تقرير نُشر بالإنجليزية بتاريخ 17/8/2021؛ رابط.  
[4] يعمل العدو الصهيوني على زراعة أصناف مختلفةٍ من الزيتون الأوروبي (Olea Europaea)، اُنظر دليل الأشجار التي يزرعها الصندوق القومي اليهودي؛ رابط