نظّمت دائرة سليمان الحلبي للدراسات الاستعماريّة والتّحرر المعرفي – الجامعة الشعبيّة محاضرة ًبعنوان: “لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية: من المسيح المستعمِر إلى المسيح الثائر”، قدّمها لنا قسام معدي. 

نظّمت دائرة سليمان الحلبي للدراسات الاستعماريّة والتّحرر المعرفي – الجامعة الشعبيّة
محاضرة ًبعنوان: “لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية: من المسيح المستعمر إلى المسيح الثائر”، قدّمها لنا قسام معدي. 
بإمكانكم الاستماع للمحاضرة من هنا: 


عندما حطّت أولى سفن كريستوف كولومبوس على سواحل جزيرة “جواناهاني”، في مياه الكاريبي، في 12 تشرين الأول 1492، أُطلق عليها اسم “سان سلفادور”؛ أي “المخلّص الأقدس”، تيمُّنًا بالسيد المسيح؛ ذلك أنه رأى في وصوله إلى يابسة القارة التي كانت ستُدعى فيما بعد “أمريكا” خلاصاً إلهيّاً من يأس أشهرٍ طويلةٍ من الإبحار المضني. كان اكتشاف “العالم الجديد” بكل ثرواته، بالنسبة لأوروبا، خلاصاً أخرج أوروبا من يأس قرونٍ طويلةٍ من الانحسار بين عملاق الشرق الإسلامي وبين حافة “نهاية العالم”، وبين الظل الثقيل لقرونها المظلمة وعجزها الاقتصادي، وحاجتها الهوسيّة إلى الذهب.

وحين رست سفينة “سانتا ماريا” الإسبانية، التي يعني اسمها “القديسة مريم”، على رمال الأرض التي اعتقد “كولومبوس” أنّها الهند، نزل منها ثلاثةُ رجالٍ أولًا. “كولومبوس”، مدير الحملة، معلّقاً من حزامه كيسَ نقودٍ من هبات الملكة “إيزابيل” لتمويل مشروعه، وضابطٌ إسبانيٌّ يعلّق من حزامه السيف المكلَّف بفرض سلطة الملك “فرديناند”، وكاهنٌ كاثوليكيٌّ، يحمل صليباً من ذهب، مكلَّفٌ بمباركة الحملة باسم الله والمسيح.

ومنذ تلك اللحظات الأولى للاستعمار الأوروبي، كان السيف والمال والصليب ركائز السلطة الاستعمارية في أمريكا اللاتينية. باسم هذا التحالف الثلاثي، تمّت إبادة الشعوب الأصلية، وهدم حضاراتها، ونهب ثرواتها والقضاء على ثقافاتها، واستعباد المتبقين من أبنائها، وتنصيرهم بالقوة. وتحت ظلّه، نمت وتطوّرت المجتمعات الجديدة في القارّة، والتي ورثت ذات التركيبة السلطوية بعد استقلالها من الهيمنة الاستعمارية. فكانت الكاثوليكية مصدراً من مصادر شرعية الأنظمة المحافظة، وأنظمتها الاستغلالية، وارتباطاتها بالاستعمار الجديد، القادم من الشمال.

بعد أكثر من أربعة قرونٍ على حملة “كولومبوس” الأولى، في أواسط عام 1965، وقف كاهنٌ كاثوليكيٌّ شابٌّ يُدعى “كاميلو تورّيس ريستريبو”، في مكانٍ ما من جبال كولومبيا، بثوب كهنوته، قبل لحظاتٍ من استبداله ببدلةٍ عسكريةٍ، أمام كاميرا “جيش التحرير الوطني”؛ وهو تنظيمٌ ثوريٌ متأثرٌ بأفكار الثورة الكوبية، مُعلناً أنّه “يمارس كهنوته من خلال مشاركته في خوض الثورة في كولومبيا، من أجل محبة القريب”.

“محبة القريب” مفهومٌ إنجيليٌّ بامتياز، مُقتبسٌ من شفاه يسوع المسيح نفسه. كانت هذه أول مرّةٍ تُقتبس فيها تعاليم المسيح في خطابٍ ثوريٍّ في تاريخ أمريكا اللاتينية كلّه، لكن تلك لم تكن سوى البداية. فقد عرفت أمريكا اللاتينية في السنوات والعقود اللاحقة صعوداً لحركة تحرُّرٍ من قلب الكنيسة الكاثوليكية، كان أثرها التاريخي ليس أقلّ من تحويل المسيحية، المتجذّرة في ثقافة شعوب القارة، إلى عنصرٍ ثوريٍّ ساهم بقوةٍ في بناء تجارب التحرّر للبلدان اللاتينية، من جواتيمالا إلى الأرجنتين. حركةٌ عُرفت فيما بعد باسم “لاهوت التحرير” لم تنتج مسيحيةً خاصةً بأمريكا اللاتينية، فحسب، بل تحولت إلى ركنٍ أساسيٍّ في عملية التحرر المعرفي وبناء الهوية المقاومة لأمريكا اللاتينية، إلى يومنا هذا.

أخرجت هذه العمليةُ المسيحيةَ من قبضة السلطة المهيمنة التي وقعت فيها الكنيسة منذ أن حوَّلها الإمبراطور “قسطنطين” إلى الدين الرسمي لإمبراطوريته في القرن الرابع الميلادي، وفتحت الطريق أمام إمكانياتٍ تحرريةٍ جديدةٍ وديناميكيةٍ، لكنها عمليةٌ استلزمت استعادة الإرث الديني وفكّ شيفرته، وإعادة صياغته بلغة الشعوب الباحثة عن تحرُّرها. عمليةُ تحريرٍ للإرث، والثقافة، والمعرفة، سطَّرت خطوةً مهمةً على طريق التحرّر الاجتماعي والسياسي لشعوب القارة اللاتينية، لتكون تجربةً غنيةً في التاريخ التحرري للإنسانية جمعاء.