«إذا كُتب على  «إسرائيل» أن تبقى ميّتة، فاجعلوها ميّتةً على الدوام»
– «شمعون رافيدوفيتش»، مفكّر صهيوني ولد في ألمانيا [1]

لطالما كان القلق صفة متأصّلة في الهويّة الاستعماريّة، حيث تخفي النزعة الاستعلائيّة المبنيّة على فكرة التفوّق العرقيّ في ثناياها مخاوفَ، حقيقيّة كانت أم متخيّلة، من إمكانيّة تحرّر الشعوب الأصلانيّة من سطوة هذا التفوّق وقلب موازين القوى رأساً على عقب. يهدف هذا المقال إلى إبراز مفهوم القلق في الإطار الاستعماريّ في ثلاث حالات دراسيّة؛ جامايكا إبّان الاستعمار الإنجليزيّ عام 1865، الجزائر مع فرنسا ما بين  1954–1962، وفلسطين مع الحركة الصهيونيّة، في الفترة ما بعد السابع من أكتوبر ومعركة طوفان الأقصى.

على الرغم من تباعدها، تضيء لنا هذه النماذج على صور القوّة التي يريد الاستعمار إبرازها، والتي تَنتج، بالأساس، عن خوف وجوديّ وحالة ذعر تعتري المستوطن. ولعلّ عامل الزمن هنا متغيّر مهمّ؛ حيث يتيح التطوّر التكنولوجيّ مجالاً أوسع لملاحظة هذا القلق وتفكيكه، فتكشف نظرة سريعة على وسائل التواصل الاجتماعيّ عقب أيّ إطلاق للصواريخ على مدن فلسطين المحتلّة ردّة فعل المستوطنين المذعورين، وإن لم تكن مصدراً رصيناً للبحث في ظاهرة اجتماعيّة واسعة مثل هذه. يتجلّى أثر هذا القلق في مظاهر القوّة الوحشيّة التي يوظّفها المستعمِر للتنكيل بالمستعمَرين. فالغاية هنا توضيح هشاشة الهويّة الاستعماريّة أمام أدنى الضغوطات وكذلك أخطرها. بناءً على هذه التوزيعات الجغرافيّة والزمانيّة المختلفة، يمكن لمس تأثير مقاومة الشعوب المستعمَرة على قوى الاستعمار في سياساتها تجاههم، وتأثير الخطابات التي تشغل بها نفسها بصفتها مجتمعات استيطانيّة، والعالم بصفتها قوّىً عسكريّة وسياسيّة.

وإذ يتحاشى هذا المقال قولبة فلسطين في نماذج جامدة، فإنه يسعى لتحليل السمات الخاصّة التي تحملها الحركة الصهيونيّة، وكيانها في فلسطين، مقدّماً أمثلة على نزعة القلق التي رافقت المستوطن ونخبه الثقافيّة. يتناول المقال إشكاليّة تشبيه الصهيونيّة للمستقبل اليهوديّ-في حال تحرير فلسطين، بالمحرقة النازيّة. ويتناول أيضاً محاولات الصهيونيّة في نزع المحرقة من سياقها بصفتها تجلّياً للنزعة الاستعماريّة الفوقيّة والتي طبّقت -ولأوّل مرّة- على الأوروبيّين أنفسهم.

 

جامايكا: التضخيم ونظرية المؤامرة


في عام 1865، تظاهر مئات الأشخاص في بلدة خليج مورانت أمام مبنى محكمة بلدتهم بسبب قضيّة رفضوا حكم القضاء الاستعماريّ فيها. وسط ظروف اقتصاديّة صعبة انتشر فيها الفقر والمجاعة، اتّهمت المحكمة رجلاً أسود بالتعدّي على أراضٍ مملوكة لمستعمِر أبيض، عندما استخدم الرجل أرضاً زراعيّة مهجورة آنذاك، فعقدت المحكمة جلسة لإدانته وإصدار حكم بعقابه. تجمّع المتظاهرون أمام أعين الجيش البريطانيّ الذي ظلّ مراقباً للمظاهرة لفترة. بعدها قرّر الجيش فضّها بالحديد والنار، وأطلقت القوّات النار على المتظاهرين، فما كان منهم إلّا أن يهاجموا الجيش بالعصيّ والمناجل. على إثر هذا، قُتِل رئيس القضاة في المحكمة مع بعض موظّفيها وأحرقت المحكمة. عندها، أعلن الحاكم العسكريّ البريطانيّ لجمايكا آنذاك، «إدوارد آير»، قانون الأحكام العرفيّة؛ حيث أعلن منع التجوّل ووضع شرق جزيرة جامايكا تحت الحكم العسكريّ المباشر. انتشرت شائعات عديدة حول حادثة المحكمة، حيث أشيع بأنّ المتظاهرين قاموا بقطع الألسنة ونزع العيون واستخراج الأدمغة من الجماجم المفتوحة. ونشر الإعلام الاستعماريّ قصّصاً عن تشفّي المتظاهرين بأعمالهم، وغنائهم المزامير لمباركة أفعالهم. [2] بدورها استغلّت الصحافة الإنجليزيّة الحدث للدعاية بأنّ لا حلّ لـ«شخصيّة الأسود»، فهو في نظرهم دائم العنف والهمجيّة.

دارت نقاشات بين رحى المستعمِرين، بين المؤمنين منهم باستحقاق شعب جامايكا بعض الحقوق المدنيّة الذين جادلوا بمبالغة الإعلام في وصف وحشيّة هبّة خليج مورانت، وبين أولئك الذين استغلوا الهبّة للترويج لفكرة عدم استحقاق شعب جامايكا للمعاملة «الرقيقة»، وفرض رؤيتهم لسبل التعامل معه. وبين مؤيّد ومعارض للأحكام العرفيّة في لندن، تمخّضت تلك النقاشات عن لجنة بحث معادية لإجراءات الحاكم العسكريّ للجزيرة سمّيت بلجنة جامايكا. أثبتت نتائج البحث أنّ الادّعاءات حول قلع العيون وسحق الجماجم واستئصال الأدمغة، وغناء المزمور لا صحّة لها. واتّضح أنّها نسج من الخيال الاستعماريّ، لتبرير تمرير الأحكام العرفيّة وقتل أكبر عدد من السكّان الأصليّين في تلك الفترة. [3] ألقى الحاكم العسكري بدوره اللوم على الكنيسة المعمدانيّة، المؤلّفة في أغلبها من البيض المستعمِرين، والتي ارتأت رفع مكانة سكان جامايكا الأصليين في الجزيرة، فسعت لدعم حقّهم في التصويت في الانتخابات وناصرت قضيّة إزالة نظام الرقّ قانونيّاً، خوفاً من أيّ ثورة تطيح بالحكم القائم. [4]

نظراً لموقعهم الطبقيّ؛ كونهم منتفعين من نظام الرقّ القائم، اجتمعت كافة القوى الدينيّة والسياسيّة البيضاء في جامايكا على هدف إبقاء الحكم الاستعماريّ على الجزيرة. من جهة، تغاضى الحاكم العسكري «آير» عن غضب شعب جامايكا في الجزيرة وإحباطهم نتيجة الفارق الطبقيّ بينهم وبين ملّاك الأراضي البيض الذين يستعبدونهم، وأعرض عن تجسير هوّة الفارق الطبقيّ الاستعماريّ في الجزيرة. اصطدم هذا الأسلوب برؤية الكنيسة المعمدانيّة، التي فضّلت الجزرة على العصا ورفع المستوى الاجتماعيّ للسكان الأصليّين، أسلوباً لإخضاعهم. لكنّ كلا التوجّهين انطلقا من قلق متأصّل من إمكانيّة ثورة السكّان على الحكم الاستعماريّ البريطانيّ. الأمر الذي تجلّى في تعامل كافّة أطياف المستوطنين مع تلك الهبّة، حيث المعارضون للأحكام العرفيّة والمجازر من البريطانيّين كانوا يخافون من انتقال تلك الإجراءات إلى عقر دارهم في المركز الاستعماريّ، والمؤيّدون لها برّروا ذلك بناءً على نظريّة التفوّق العرقيّ. وبينما كانت هناك فئة قليلة من البيض المتديّنين في الجزيرة، لم يصل دعمهم للسكّان الأصليّين حدّ معارضة الحكم الاستعماريّ في الجزيرة.


الجزائر: حرب التحرير والتخبّط الفرنسي في سحقها


أتت حرب التحرير الجزائريّة بضغط سياسيّ وعسكريّ على المستعمِر الفرنسيّ على نحو غير مسبوق. قام المستعمِر بما قام به من محاولات لسحقها أشهرها كانت في معركة الجزائر (1956–1957)، والتي تشبه إلى حدّ كبير تعامل الاحتلال مع المقاومة وحصاره للمطارَدين فيما يسمّى الضفّة الغربيّة. حيث تحاصر قوّات الاستعمار خلايا ومجموعات المقاومة بعمليّات اقتحام عنيفة للحيّز الحضريّ الذي يحويهم وترتكب فيه المجازر- في القصبة في حالة الجزائر، وفي المخيّم والبلدة القديمة في حالة الضفّة الغربيّة. عام 1959 قرّرت المخابرات الفرنسيّة ضرب شبكات نقل السلاح إلى الجزائر، دون جذب أعين العالم إلى أساليبها في ذلك. وعليه، أنشأت الحكومة الفرنسيّة منظّمة «اليد الحمراء» الإرهابيّة لهذا الهدف، و«كان جلّ أعضائها من ذوي السوابق الجنائيّة ورجالات المخابرات الفرنسيّة، وحظيت المنظّمة بدعم سخيّ من مكتب المخابرات الفرنسيّة». [5] سمّيت المنظّمة كذلك في إشارة رمزيّة ليد فاطمة؛ الطلسم المنتشر في منطقة المغرب العربيّ، والذي يعتبره الموروث الشعبيّ الجزائريّ (والعربيّ) إشارة لجلب الحظّ ودرء الحسد. [6] ترامت عمليّات الاغتيال؛ مرّة في ألمانيا الغربيّة، وأخرى في بلجيكا وسويسرا. ولم تكتفِ المخابرات الفرنسيّة بضرب القادة الذين كانوا ينسّقون عمليّات تهريب الأسلحة، بل اغتالت أيضاً أشهر النشطاء الجزائريّين الداعمين للثورة الجزائريّة في أوروبا بسبب قدرة هذه الشخصيّات على التحشيد وجمع الأموال للثورة الجزائريّة في الخارج. نتيجةً لهذه الاغتيالات المتواصلة، تواصلت جبهة التحرير الجزائريّة مع المعسكر الشرقيّ -الاتّحاد السوفيتي والصين- لإيجاد شبكة بديلة لإمداد الثورة بالسلاح بعيدة عن عيون المخابرات الفرنسيّة. لم تمتلك فرنسا آنذاك سبلاً لاختراق دول المعسكر الشرقيّ، فحلّت اليد الحمراء في أعقاب تطوّر شبكات جديدة للأسلحة، ونجحت المقاومة الجزائريّة بذلك في طيّ صفحة «اليد الحمراء».

ما انطوت صفحة «اليد الحمراء»، حتّى فُتِحَت صفحة جديدة للإرهاب الفرنسيّ؛ «منظّمة الجيش السرّي» المختصرة بـ(OAS). تألّفت المنظّمة في جلّها من الضبّاط وملّاك الأراضي الفرنسيّين في الجزائر، الذين هلعوا لتشكيل هذه المنظّمة خوفاً من ضياع امتيازاتهم الطبقيّة الاستعماريّة في أتون نيران حرب التحرير الجزائريّة. [7] اغتال «الجيش السرّي» عديداً من رموز السلطة الاستعماريّة الفرنسيّة في الجزائر، والتي رأى أنّها تسلّم الجزائر للجزائريّين على طبق من ذهب. أشهر تلك العمليّات كانت محاولة فاشلة لاغتيال وزير الثقافة الفرنسيّ «أندريه مالرو»، وأخرى ناجحة اغتالت مفوّض الشرطة الاستعماريّة في الجزائر، «روجر جافوري». لم يسلم الجزائريّون من الجيش السرّي أيضاً حيث نفّذ عدّة عمليّات إرهابيّة استهدفت المدنيّين الجزائريّين. سعت المنظّمة إلى تخريب المفاوضات الجارية بين جبهة التحرير الجزائريّة والحكومة الفرنسيّة حول استقلال الجزائر، وحظيت بدعم كبير من زعيم إسبانيا الفاشيّ «فرانشيسكو فرانكو». قاومت جبهة التحرير منظّمة الجيش السرّي بموازاة حملاتها ضدّ قوّات الاستعمار الفرنسيّ الرسميّة، وانتهت المنظّمة وحملاتها الإرهابيّة مع تحرير الجزائر وعودة المستوطن الفرنسيّ بكافّة وجوهه إلى المركز الاستعماريّ.

ولّد الخوف من تسلّح المقاومة، وبالتالي نجاح ثورتها حافزاً لدى الدولة الفرنسيّة لتشكيل منظّمة هي، وبألطف التعبيرات، تشكيلة من المجرمين الساديّين، والتي قامت بالعمليّات الإرهابيّة التي ذكرناها سابقاً. ولعلّ أهم ما ورد هو تشكيل «منظّمة الجيش السرّي» التي تمخّضت عن البون بين مشاعر المستوطنين الفرنسيّين في الجزائر ودوائر صناعة القرار في باريس، والتي وصلت حدّ النزاع الدامي فيما بينهم. فالقلق الأوّل قد كان لدى صنّاع القرار، ولكن القلق الثاني قد أصاب مُلّاك الأراضي والضبّاط المستوطنين للجزائر والذي جعلهم يتّخذون أقسى أنواع الإرهاب أملاً في إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء، ولم تحقّق تلك العمليّات مبتغاهم، على الرغم ممّا بلغت من وحشيّة.


فلسطين قبل طوفان الأقصى


عندما انتهت حرب النكبة بتهجير جلّ فلسطينيّي السهل الساحليّ والجليل وجنوب فلسطين انتشى الكيان الصهيونيّ بانتصاره، لكّنه اعتبر وجود مئة وسبعين ألف فلسطينيّ في هذا الكيان خطراً وجوديّاً. حيث عبّر رئيس أركان جيش الاحتلال آنذاك، «يغائيل يادين»، عن قلقه حيال وجود العرب على مصير الصهيونيّة، قائلاً «[إنّ وجود] أقلّية عربيّة في وسطنا يعتبر خطراً في وقت السِلم كما في وقت الحرب». [8] كان هذا القلق سمة عدد كبير من القادة العسكريّين والسياسيّين في الكيان الصهيونيّ. وعبّر رئيس وزراء الكيان الأوّل، «ديفيد بن غوريون»، عن قلقه إزاء عدم الاهتمام باستيطان النقب قائلاً «إذا لم تصمد الصحراء فلن تصمد تل أبيب». [9]

الاستيطان في النقب.. الدفاع عن «تل أبيب»

كأيّ مشروع استيطانيّ، يحمل المشروع الصهيونيّ هاجساً دائماً من العرب حتّى وإن كانوا غير مسلّحين. يحتّم العامل الديمغرافيّ هنا على صنّاع القرار الصهاينة التوجّس من الوجود الماديّ لأيّ عربيٍّ كان، وما خطط الترانسفير التي وضعت لتهجير ما تبقى من الفلسطينيّين إلّا مثال على هذا الهاجس الذي يشكّل لبنة المستعمرة، مثل «خطّة الخُلد» والتي هدفت لتهجير سكّان المثلّث (من مجدّو شمالاً، حتّى كفر قاسم جنوباً) من خلال أيّ حرب مع الدول العربيّة. [10] وفي هذه، نرى في صمود أهل المثلّث وبقائهم على أرضهم فشلاً لهذا المشروع. يمكن تفسير سياسة الترانسفير المتأصّلة في الفكر الصهيونيّ من خلال منظورين متكاملين؛ الأوّل وهو منظور التفوّق العرقيّ، حيث يُعتبَر اليهوديّ -وخاصّةً الأوروبيّ- ذا منزلة إنسانيّة أعلى من العربيّ. وبسبب أوروبيّة هذا المشروع، حظي الكيان الصهيونيّ بدعمٍ سخيّ من أميركا وأوروبا الغربيّة بصفته ثكنة استعماريّة تقف سدّاً منيعاً ضدّ أيّ نهضةٍ عربيّة. أمّا المنظور الثاني، فهو الخوف الديموغرافيّ، والذي يتغذّى ويتكامل بالاستعلائيّة الاستعماريّة التي تتأصّل في الصهيونيّة بصفتها امتداداً للمشروع الاستعماريّ الغربيّ.

في أبريل من العام 1956، قُتل الجندي الصهيوني «روعي روتبيرغ» في عمليّة فدائيّة، حيث أطلق شبّان عبروا من قطاع غزّة النار على حصان الجنديّ، ومن ثمّ صفّوه وسحبوا جثّته إلى القطاع. بعد أيّام معدودة، سلّم الشبّان جثّته بتدخّل من الأمم المتّحدة. الأهمّ من العمليّة ذاتها كان خطاب رئيس الأركان العامّة «موشيه دايان» في تأبين الجنديّ، والذي صقل الوعي الصهيونيّ المتحفّز للقتال آنذاك، فقال: «دعونا اليوم نتمعّن في أنفسنا جيّداً. نحن جيل الاستيطان، وإذا كان هناك سبب لفولاذ الخوذة وسبطانة البندقيّة، فذاك لأنّنا لن نستطيع أن نزرع شجرة وأن نبني بيتاً لأنفسنا […] هذا هو خيارنا الوحيد؛ أن نكون مسلّحين ومتأهّبين ولا يملؤنا إلّا الشظف والصرامة. وإلّا فإن السيف سيسقط من ساعدنا وحياتنا ستنتهي». [11] يعبّر هذا النزر اليسير من الخطاب الشهير عن قلق واضح من سقوط السيف. ويعبّر هذا القلق بالضرورة عن ضعف بنيويّ في أحيان كثيرة -حيث الفكرة حول ضرورة حمل السلاح لم تأتِ من فراغ، ولها جذورها المادّية في الكيان من بعد النكبة؛ من عمليّات تسلّل الفدائيّين من قطاع غزّة وضربهم البنى التحتيّة الصهيونيّة، ومن صعود نجم الكفاح المسلّح تحت إطار فصائل منظّمة التحرير الفلسطينيّة، ومن ثمّ من صعود حركتي حماس والجهاد الإسلاميّ بصفتهم البدائل الثوريّة بعد هزيمة أوسلو وما تبعها من تجديد عقيدة السيف عند الصهاينة. لكنّ هذا الخطاب في المقابل، يحوّل القلق إلى عامل قوّة لا يستهان به، فمن يربط مصيره الوجوديّ كإنسان بمصير مشروعه السياسيّ، يستميت للدفاع عنه ويحاول دائماً إحياء عقيدة القتال في مجتمعه. 

ميّزت هذه القوّة المشروع الصهيونيّ عن سائر المشاريع الاستعماريّة، والتي ذكرنا بعضها في معرض هذا المقال. تباعاً لمنطق «دايان»، يستمرّ هذا الخطاب الذي يحتّم على الكيان رفع السيف دوماً حتّى اليوم، دونما خطابات «دايان» المنمّقة. إلّا أنّ القيادة السياسيّة والعسكريّة اليوم، لم تعد تؤطّر خطاباتها بنظرة شموليّة لمآلات المشروع الصهيونيّ؛ أي لم تعد تتطرّق لكيفيّة التعامل مع هذا الكمّ من العرب بعيداً عن السيف، كما فعل «دايان» في سياسة الجسور المفتوحة. وعدم وجود هذا العامل بالذات هو سرّ ترهّل القيادة السياسيّة في الكيان في نظر المجتمع الاستيطانيّ والتي لا تتعدّى خطاباتها محاولة تمرير «النصر المطلق» عبر الإبادة التامّة فيما بعد السابع من أكتوبر، وفكرة «إدارة الصراع» الفاشلة التي سبقت السابع من أكتوبر. حيث نرى في الأولى سياسات متخبّطة تتأرجح ما بين محاولات جسّ نبض كفاءة السلطة الفلسطينيّة في «ضبط» قطاع غزّة وكبح جماح مقاومتها عبر ملفّ المساعدات، وما بين النموذج العشائريّ المستقلّ الشبيه بنظام روابط القرى البائد. فالتخبّط هنا سيّد الموقف، والخطاب الصهيونيّ لا يملك الاستراتيجيّة السياسيّة المناسبة للتعامل مع قطاع غزّة بالتوازي مع حملة الإبادة القائمة.

وفي ملف الضفّة الغربية، يمكن رؤية تصاعد خطاب اليمين الصهيونيّ على حساب الخطاب الليبراليّ الذي اعتادته «إسرائيل» وتوزيع السلاح على مستوطني الضفّة لتشكيل الميليشيات، وازدياد الهجمات الاستيطانيّة بعد أيّ عمليّة مقاومة، كتجلٍّ خالصٍ لذعر المستوطن ومحاولته لفرض سيطرته على الفلسطينيّ. فتلك الأفعال، من زاوية أخرى، تعبّر عن فهم لطبيعة حربهم معنا: فهي حربهم ضدّ الفلسطينيّين كما هي حرب الفلسطينيّين ضدّهم. يصبح هذا القلق أمراً طبيعيّاً في المخيال الصهيونيّ إذا قسناها بوحشيّة ردودهم على أفعال المقاومة الفلسطينيّة في حربها ضدّهم. وفي سياق أوسلو، انتقل هذا الذعر إلى نخب فلسطينيّة تخشى خسارة الريع الذي تضخّه لها «إسرائيل» ودول الثالوث الاستعماريّ (أميركا، اليابان، وأوروبا)، بوصف الباحث الماركسيّ المصريّ سمير أمين [12].

أرجع بعض الباحثين الصهاينة إشكاليّة القلق الوجوديّ في الكيان الصهيونيّ -كحالة اجتماعيّة متأصّلة في المخيال الجمعيّ الصهيونيّ- إلى ما يسمّى بـ«نظريّة السيطرة على الخوف» [13]. تقول النظريّة بأنّ الخوف الوجوديّ يعتري البشر أجمعين، بناءً على اعتقادهم الضمنيّ بحتميّة زوال الحياة. حيث تلقي هذه المعضلة بظلالها على البشر، فيهيمن الخوف على تصرّفاتهم فتتّسم بالقلق وتترجم إلى محاولة -بائسة أو ناجعة- لخلق معنىً للحياة. في محاضرته «نهاية «إسرائيل»: متلازمة القلق الوجوديّ في المشروع الصهيونيّ الوجوديّ» يوضّح الأستاذ خالد عودة الله أنّ بعض القضايا الهامشيّة مثل حوادث السير أصبحت في المخيال الصهيونيّ خطراً وجوديّاً، [14] فهذه الإشكاليّة تتعدّى سياقات هذه التأويلات التي ارتأت بأنّ الوجود المادّي لأهل الأرض هو تهديد للمشروع الاستعماريّ. وانعكست هذه التأويلات على خطاب النخب الفلسطينيّة الحاكمة ما بعد أوسلو، المستفيدة من الوضع القائم. فنرى فيه تبريراً سخيفاً لعدم بلورتها مشروعاً فلسطينيّاً تحرّرياً شاملاً للجغرافيا السياسيّة، بتشويه معنى الصمود وحصره في الوجود على الأرض دون تأسيس أيّ قواعد اجتماعيّة أو تنظيميّة تعزّز هذا البقاء وتدعمه وتجعله إيجابيّاً. 

بالعودة إلى النقطة الرئيسيّة، نجد الخوف أصبح ثيمة تلاحق المستوطن الصهيونيّ في كافّة نواحي الحياة. فمن خلال هذا المثال البسيط السابق نلاحظ عيوب نظريّة «السيطرة على الخوف»، حيث لا تشكّل حوادث السير، عادةً، خطراً وجوديّاً على جماعة من البشر. وهنا نشدّد على أنّ الخوف في السياق الصهيونيّ لا يمكن «عولمته» بمفاهيم وسياقاتٍ صلدة، حيث له سماته الخاصّة التي تميّزه عن جميع الحالات التي نوقشت أعلاه-جامايكا والجزائر. إلّا أنّ تلك النماذج تثري النقاش حول فلسطين وتربطها ببنية عابرة للجغرافيا والزمان دون أن تنزع عنها هذه الخصوصيّة الذاتيّة الكامنة في تحوّرات المشروع الصهيونيّ.


فلسطين بعد طوفان الأقصى


اعتمدت الصهيونيّة مقولة «هعام كولو تسافا»، [15] والتي تعني بالعبريّة «الشعب أجمعه هو الجيش»، لكي تعبّر عن ارتباط وثيق بين العسكرة وبقاء المجتمع الاستيطانيّ الصهيونيّ. هنا يمكن ملاحظة تآكل مفهوم «جيش الشعب» الذي استخدمه «ديفيد بن غوريون» خلال النكبة وفيما بعد. وهناك محاولات صهيونيّة للخروج من هذا المنطق منذ التسعينيّات حتّى اليوم، من خلال تخليص الجيش من أعباء إدارة بعض الحواجز بالاستعاضة عنه بالشركات الأمنيّة الخاصّة، والتي لا يمكن تمييزها عن الجيش. وقد ناقشت الدوائر الأمنيّة الصهيونيّة اقتراحات عدّة حول تقليص فترة الخدمة العسكريّة وعدد الاحتياط. وعلى الرغم من هذه التغييرات والاقتراحات، ظلّت العسكرة الواسعة أساساً لعقليّة المجتمع الاستعماريّ في فلسطين. وعلى الرغم من مطالبات فئاتٍ واسعة من المستوطنين بإعفائهم من الخدمة الإلزاميّة، ذلك في خضمّ صعود العولمة وتآكل مفهوم الشعب المقاتل عند الأجيال الجديدة لأسباب قد نعزوها إلى تحييد الدول العربيّة عن مشهد المقاومة، وتكبيل القيادة الفلسطينيّة بإطار أوسلو.

يمكن القول إنّ عمليّة السابع من أكتوبر ضربت مفهوم «جيش الشعب» في أساسه، حيث أجهزت «كتائب القسّام» على فرقة غزّة في جيش العدوّ، ولم يحكم الجيش قبضته على ما يسمّى منطقة غلاف غزّة كلّياً إلّا بعد أيّام من العمليّة. علاوة على ذلك، هشّم طوفان الأقصى «الجدار الحديديّ»، المجازيّ والحقيقيّ، الذي بنته الصهيونيّة بينها وبين العرب، عندما دمّرت المقاومة الجدار الفاصل وعبرت إلى «كيبوتسيم» (مستوطنات) «الناحال» وأحرزت انتصاراً عسكريّاً فيها. فمن أكبر منجزات السابع من أكتوبر-وطوفان الأقصى عموماً- تأكيد أهليّة العربيّ للقتال، تلك التي رفض الكيان الصهيونيّ الاعتراف بها حتّى اللحظة؛ حيث يحاول تصوير عبور السابع من أكتوبر على أنّه من إشراف إيران وحزب الله على مجريات العمليّة مباشرة.

لتخفيف وطأة هذه الهزيمة العسكريّة، نشر العدوّ أكاذيب عن مقاتلي المقاومة تستغلّ الصور النمطيّة للعربيّ، مثل قطع رؤوس الأطفال واغتصاب المستوطِنات، فكشفت الحملة الإعلاميّة قلق «إسرائيل» من الخطر الحقيقيّ الذي واجهته في السابع من أكتوبر. وهنا يمكن ملاحظة شقّي الأكاذيب العالميّ والمحلّي؛ عالميّاً، تبرّر تلك الأكاذيب العدوان على قطاع غزّة. وداخليّاً، تخفّف القلق الوجوديّ الذي اعترى المستوطن في السابع من أكتوبر وما بعده، بتغليف عمل عسكريّ بحت بصورة مجزرة تفوق المخيال البشريّ و«معاييره» الأخلاقيّة. ويمكن مقارنة هذا الافتراء بما حصل في جامايكا، والأكاذيب التي روّج لها بعد حادثة المحكمة لتبرير إعلان الأحكام العرفيّة في الجزيرة. من جهة أخرى، علت في عمليّة طوفان الأقصى اتّهامات صهيونيّة بتواطؤ جهات معيّنة في جيش العدوّ في هذا الهجوم إمّا من خلال التآمر مباشرة أو التقاعس، والتي يمكن مقارنتها أيضاً، مع نظريّة المؤامرة التي حاولت إلقاء اللوم على الكنيسة المعمدانيّة في سياق هبّة خليج مورانت.

بالإضافة إلى ما سبق، يمكننا مقارنة هجمات جيش العدوّ على مشافي ومخابز وبيوت آمنة في قطاع غزّة، والهجمات الاستيطانيّة والعسكريّة على مدن وقرى الضفّة الغربيّة، بالتخبّط الفرنسيّ في سياق «اليد الحمراء» و «منظّمة الجيش السرّي» المكوّنة من أصحاب السوابق، فالقلق الذي يجري في هذا الكيان يجعله متعطّشاً لصور معيّنة من القوّة. والتي تعبّر عن منظومة قيميّة خاصّة بالمستعمِر؛ القتل بلا هوادة، بلا معايير أخلاقيّة، فتصبح هنا اللاأخلاقيّة منظومةً أخلاقيّة وفكريّة عند المستوطن. تعبّر عن حاجة لتعويض نفسيّ واستعراض للهيمنة ضدّ ما حدث في السابع من أكتوبر، خوفاً من تحقّق هذا التهديد الوجوديّ الذي تمثّله المقاومة الفلسطينيّة في قطاع غزّة. أمّا في سياق الاختلاف، يكمن الفارق في سياق «منظّمة الجيش السرّي» في طبيعة التخبّط الذي واجهه الاستعمار الفرنسيّ، الذي لم يكُن عسكريّاً بقدر ما استخلص حالة التناقض القائمة بين المركز الاستعماريّ والمستعمرَة. فالأولى تطمح لإبقاء حكمها على المستعمرَة، والثانية تطمح لصعود نُخَبها الاستيطانيّة على حساب نخب المركز وقراراته السياسيّة. فضّلت المستعمَرة الانشقاق الكامل عن المركز ومعادته، وهذا يعود بالأساس لما أنتجته المقاومة في الجزائر من تناقضات بين هذين الطرفين؛ بين نخب المركز التي تريد التفاوض مع جبهة التحرير بسبب حرب الاستنزاف القائمة، ونخب المستعمَرة التي تريد سحق جبهة التحرير لأنّها لا ترى مستقبلاً لها كطبقة في زوال المستعمَرة.

قد نرى بذوراً لهذا التناقض في زيادة تسليح مستوطني الضفّة الغربيّة والنظرة الازدرائيّة التي يظهرها مستوطنو «أراضي الـ48» تجاه «فتية التلال»، لأنّ هؤلاء وببساطة بعيدون عن المركز ذي الطابع الليبراليّ في «تل أبيب» والداخل المحتلّ عموماً. وفي صعود التيّار الذي ينادي بالاستيطان في الضفّة الغربيّة في الأروقة السياسيّة -المتمثّل بـ«بن غفير» و«سموتريتش»- من خلال اللعب على وتر القلق من إهمال استيطان الضفّة الغربيّة لدى شريحة كبيرة من المستوطنين. بيْد أنّ صنّاع القرار في الكيان لا زالوا يجسّرون هذا الشرخ لأسباب عديدة، منها عدم فقدان المجتمع الاستيطانيّ ثقته في الكيان كسدّ منيع يحافظ على امتيازاته الاستعماريّة، بعكس ما حصل في الجزائر.

نقف هنا عند نقطة محوريّة؛ وصم النازيّة على جبين أي شخص منتقد للصهيونيّة، حتّى أضحى هذا الوصف نموذجاً معلّباً ينطبق على أيّ جهة سواء كانت شخصاً أم دولة أم تنظيماً يثير القلاقل للإمبرياليّة. بالنظر للعقليّة الصهيونيّة المهووسة بفكرة الزوال في المستقبل، نجد تشبيه «حركة حماس» بالنازيّين أمراً خارج سياق الدعاية العالميّة التي روجّت لروايات الاغتصاب الباطلة. فهو تشبيه يستثير بالأساس نزعة المظلوميّة السرمديّة الكامنة في المخيال الصهيونيّ اليهوديّ، الذي طالما شبّه أيّ شيء يتعارض مع رؤيته في المنطقة بخطر المحرقة (المشروع القوميّ العربيّ المتمثّل في جمال عبد الناصر، الاتفاق النوويّ الإيرانيّ، منظّمة التحرير الفلسطينيّة في حقبة ما قبل أوسلو… إلخ). ولعلّ ذاكرة المحرقة تميّز القلق الاستعماريّ في فلسطين عن غيره من النماذج المذكورة سابقاً، حيث تحوّلت استثنائيّتها لأساسيّات في المجال الفكريّ ومُسِحَت من الإرث الاستعماريّ الأوروبيّ لتصبح حكراً على المشروع الصهيونيّ، فمن غير المستحبّ نقض «لا زمانيّة» المحرقة. أصبحت المحرقة متلازمة تلاحق المستوطن، يستعملها متى يشاء لشيطنة أيّ مقاومة له عالميّاً ويسلّحها نفسانيّاً بمخياله القلق -على مستوى علاقة الكيان مع مستوطنيه، والمستوطن ذاتيّاً. الأمر الذي يجعله يقاتل على أساس الخوف من ماضٍ سحيق كان اليهوديّ فيه ضعيفاً.

ربط الخيوط


يمكن لمس الترابط العضويّ بين الأساليب الاستعماريّة التي فرضت في جامايكا والجزائر وفلسطين. حيث أسلوب التضخيم ونظريّات المؤامرة المستخدم في جامايكا، استُخدم في فلسطين أيضاً ما بعد طوفان الأقصى. بينما يحاكي تشكيل منظّمة «اليد الحمراء» سرّاً، و«منظّمة الجيش السرّي»، عمليّات تسليح مستوطني الضفّة تحت الشعار الضمنيّ «هعام كولو تسافا»، وتتجلّى الحالة الجزائريّة في ارتكاب المجازر في غزّة، وحملات الاعتقال المكثّفة، وعمليّات اغتيال قادة المقاومة في سوريا ولبنان مثل اغتيال الشيخ صالح العاروري. وفي سياق فلسطين، بخلاف الجزائر، نجد المؤسّسة العسكريّة الإسرائيليّة الرسميّة نفسها قطب الرحى في هذه الحملات. وقد تعبّر ظاهرة صعود أمثال «مائير كاهانا» و«بتسلئيل سموتريتش» و«إيتمار بن غفير» عن إفرازات في النظام الاستعماريّ قد تنتج تناقضاً ما بين التيّارات المختلفة فيه، كما حدث في حالة الجزائر. لكنّ هذا الكلام سابق لأوانه، وإن ظهرت خلافات على الأولويّات بين التيّارات الصهيونيّة في النظام السياسيّ. 

بالتطرّق إلى العنف الاستعماريّ في فلسطين، لا يمكن اعتبار هذا العنف اعتباطيّاً، حيث هو ممنهج ومدروس، ولربّما هذا هو الفارق بين القلقين الفرنسيّ والصهيونيّ؛ الأوّل متخبّط وأتى كنتاجٍ مباشر للخوف الفرنسيّ من خسارة المستعمَرة الأخيرة لديهم في شمال القارّة الإفريقيّة، كما سبّب شرخاً بين «الأقدام السوداء» (المستوطنين الفرنسيّين في الجزائر) وفرنسا الأمّ، والذي أفضى إلى تشكيل «منظّمة الجيش السرّي». بالمقارنة مع الصهيونيّة، نجد العنف فيها محبوكاً، بحيث أصبح سقف العنف «المسموح به» صهيونيّاً لعدم جرّ أيّ تصعيد الأرضيّة الأساسيّة لأيّ هجوم «إسرائيليّ». فالحرب مع حزب الله، الذي شكّل جبهة إسنادٍ لشعب غزّة، تستهدف بجلّها عشرات المدنيّين العُزّل، وهذا لم يُسبَق إلّا في سياق الحرب الشاملة كما حدث في تمّوز 2006 والعمليّات العسكريّة السابقة ضدّ المقاومة اللبنانيّة. من هنا، يصبح هذا «العنف الهائج» بتعبير فرانتز فانون، [16] أداة أساسيّة لهندسة واقع جديد في المخيال الصهيونيّ خاصّة فيما يتعلّق بقطاع غزّة، سواء أتى هذا التغيير بتهجير أهلها، أو تدمير القدرة العسكريّة لفصائل المقاومة، أو كليهما.

في حديثه عن «منطق الإزالة»، يشير «باتريك وولف» إلى أنّ نزعة الإبادة لا تهدف لقتل وتشريد الشعب الأصليّ فحسب، بل أيضاً لـ«عودة [الشعب] الأصليّ المسحوق لتشكيلة المجتمع الاستعماريّ-الاستيطانيّ». [17] فيتحدّث «وولف» عن العلاقة الديالكتيكيّة ما بين مقاومة الشعب للاستعمار وقدرة الاستعمار على مواكبة هذه المقاومة، وقدرته في السياق الفلسطيني على بناء «جدار حديديّ» أكثر صلابة. وهذا ما حصل في توقيع اتّفاقيات أوسلو، بخلاف تأسيس جيش لحد في جنوب لبنان وروابط القرى مثلاً، فقد أعطت أوسلو غطاءً دوليّاً للتعاون مع المحتلّ، مستفيدة من إرث حركة «فتح» ومنظّمة التحرير الفلسطينيّة النضاليّ. في الوقت الذي نرى أموال دعم دوليّ لـ«دولة فلسطينيّة» متخيّلة في الضفّة الغربيّة، نرى في الكفّة الأخرى حصاراً نهش جسد قطاع غزّة، وحرب إبادة شرسة تخاض ضدّها. وعليه يكون الكلام عن سلطة فلسطينيّة «متجدّدة» تدير قطاع غزّة والضفة الغربيّة جزءاً يتبع منطق الإزالة، والذي يسعى لتخفيف وطأة الحكم العسكريّ المباشر للفلسطينييّن من خلال كيان هلاميّ متعاون، له شبكات من المنتفعين تصل قطاعات واسعة من الشعب المستعمَر وبالتالي تضمن الأمن للكيان الصهيونيّ من خلال التعاون الأمنيّ في هذه الشبكة من العلاقات الاقتصادية النفعيّة.

يمكن ملاحظة «منطق الإزالة» في حالتي الجزائر وجامايكا، حيث أساليب الكنيسة المعمدانيّة لا تناقض في جوهرها الهدف الاستعماريّ الكامن في إخضاع شعب جامايكا. فالاحتواء بالقوّة الناعمة يهدف في جوهره إلى تحويل قضيّة محو الاستعمار إلى خطاب حقوقيّ بحت. ولم يختلف الحاكم العسكريّ والكنيسة المعمدانيّة إلّا في ضرورات المرحلة وأولويّاتها. ولا يختلف الأسلوب كثيراً في حالة الجزائر أيضاً؛ حيث اقترحت الحكومة الفرنسيّة خططاً لتطوير مكانة الجزائريّين الاقتصاديّة والاجتماعيّة في محاولة لإعادة تشكيل ماهيّات القمع في المجتمع الاستعماريّ بعد فشل الحملات العسكريّة على الجزائر، وفي الوقت ذاته، شكّلت فرنسا «اليد الحمراء». ويمكن تشخيص تشكيل «منظّمة الجيش السرّي» نتاجاً طبيعيّاً لترهّل «منطق الإزالة» في وجه الرفض الجزائريّ الشعبيّ للاستعمار ووجود طرف سياسيّ يمثّل طموحاتهم في التحرّر. إن كان منطق الإزالة يعبّر عن قلقٍ ملازم للمنظومة الاستعماريّة، فإنّ فشله وفشل آليات فرضه تفضي إلى تناقض ما بين النخب في المجتمع الاستعماريّ، الأمر الذي حصل في الجزائر وفي جامايكا، وإن لم تصل حالة التناقض في خليج مورانت حدّ العداء العلنيّ.

تشكّل النماذج أعلاه، من جامايكا إلى الجزائر، فسيفساء مهمّة عن القلق في سياقه الاستعماريّ ومآلاته. المختلف في سياق فلسطين، هي عقدة الزوال الحتميّ المتأصّلة في الصهيونيّة، التي تتعلّق باستعمال المحرقة خطابيّاً كورقة لتجديد حيويّة الصهيونيّة. هنا يمكن فهم مقولة «شمعون رافيدوفيتش» عن موت «إسرائيل» بمعناها الكيانيّ، حيث قصد الكاتب جموع اليهود كلّها، فهي عمليّة حيويّة في الوجدان الصهيونيّ وجزء لا يتجزّأ من التركيبة المعقّدة ليهوديّة الدولة، ونتيجة وضع الصهيونيّة للمحرقة في سياق الاستثنائيّة التاريخيّة. يردف «رافيدوفيتش» مفسّراً ضرورة هذا الموت، فيقول «[والموت] هنا يعني أن نعيش إلى الأبد». [18] من هذا المنطلق، لا يعني القلق أنّ الفلسطينيّين قاب قوسين أو أدنى من تحرير البلاد، فالتاريخ يثبت أنّ قلق هذا الكيان محفّز لتطوير مشروعه وضخّ الدماء الجديدة فيه، وهو ما نقصده بالعلاقة الديالكتيكيّة بين المقاومة والكيان. بيْد أنّ مفاهيم البيت وأرض العسل واللبن وغيرها من المفاهيم الصهيونيّة التي تُرمسِن الاستيطان تحت ذرائع الأمن والأمان والرخاء، سقطت في الساعة السادسة صباحاً يوم السابع من أكتوبر. أصبح هذا البيت هشّاً ودون رؤية واضحة للمستقبل تحلّ أزمته الوجوديّة، كما حصل في حرب أكتوبر عام 1973، ومحاولته استرجاع الردع من خلال حلّ سياسيّ تطبيعيّ. وعلى ما يبدو، لا يملك الكيان الأدوات الكافية لتجديد شرعيّة خطاب الأمن والأمان في الوقت القريب عدا عن بعض الكلام الفضفاض عن منطقة عازلة، وسيطرة أمنيّة كاملة على قطاع غزّة، وبعض الخطط (كتلك التي روّج لها في حيّ الزيتون) التي تشبه مشروع روابط القرى الهالك. تميّز هذه التركيبة، أي ترابط القلق بتجديد الذات، المشروع الصهيونيّ عن سائر المشاريع الاستعماريّة في التاريخ الحديث. بالتطرّق إلى هذه العوامل نستطيع استشراف مستقبل هذا الكيان، والأزمات البنيويّة التي سوف تلاحق المشروع الاستيطانيّ في فلسطين، دون أمل مفرط من جهة، ودون اليأس المتمثّل بالسكون للأمر الواقع والتسليم لحتميّة وجود «إسرائيل» من جهة أخرى. فهذا الكيان مشروعٌ استعماريّ له خصائصه المتفردة وأخرى المتشابكة مع تلك التي رأيناها عبر التاريخ، مثل حالات الجزائر وجامايكا.