لم يكن يدرك أبناء أمّ الفحم، الجبارين الثلاثة، بالضرورةً أن استشهادهم ستتبعه تداعياتٌ على الوضع القائم في القدس، بل وربما سيكون فاتحةً لاندلاع انتفاضةٍ شعبيةٍ واسعةٍ ذات أبعادٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ لا يمكن التكهن بها حالياً.

في الثالث من شهر تشرين الأول من العام 2015، انطلق ابن جامعة القدس، مهند الحلبي، وصديق الشهيد ضياء تلاحمة، من قرية سردا إلى طريق الواد في البلدة القديمة في القدس. أشهر سكينه بوجه العدو ليسفر عن ذلك مقتل مستوطنين اثنين، لتكون تلك اللحظة التاريخية بمثابة إلهام جارف لشهداء قضوا من بعده، ولتتأرجّح من حينها الهبّة الفلسطينية بين زخم في فترات معينة، وتراجع في فترات أخرى.

اليوم، يحدث ما لا يمكن إنكاره أو التنكّر له، وهو ما تنبّأ الشهيد باسل الأعرج من قرية الولجة المحاذية للقدس، مستلهماً من كلام فرانز فانون، بالقول: “شبابٌ في مقتبل العمر بمجموعات عددية صغيرة تخترق الهدوء في مناطق الاشتباك لتفرض منطقها على القيادة التقليديّة. اليوم الأمور تتغير، اليوم يُخلق بشرٌ جديدون، اليوم يُبعث أناسٌ لا يقبلون الدنية في دينهم ووطنهم”، وكما قالها فانون في كتابه: “اليوم تُقلب الصّفوف ليصبح الآخِرون هم الأولون والأولون هم الآخِرون”.

واليوم، لم يكن يدرك أبناء أمّ الفحم، الجبارين الثلاثة، بالضرورةً أن استشهادهم ستتبعه تداعياتٌ على الوضع القائم في القدس، بل وربما سيكون فاتحةً لاندلاع انتفاضةٍ شعبيةٍ واسعةٍ ذات أبعادٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ لا يمكن التكهن بها حالياً. وقد عكستْ هذه العملية أبعاداً سياسيةً واجتماعيةً متشابكةً ومفصليةً، يمكن أن نجملها فيما يلي:

أولاً: إن اختيار موقع العملية عند أبناء الجبارين قد يكون ضمن عملية تخطيط مسبقة، وإدراكٍ واعٍ لأهمية المسجد الأقصى المبارك، وقدرته على إثارة مشاعر الفلسطيني عامةً والمقدسي خاصةً. وقد يكون محض ارتباط عاطفي فطري ما بين أبناء أمّ الفحم وقبلتهم الأولى. وعلى الرغم من أن بعض لم يعجبه موقع العملية، إلا أن المسجد الأقصى يبقى ساحة اشتباك أساسية في الصراع مع العدوّ، وليس مكان عبادةٍ فحسب، وهو المكان الذي تتكثف فيه المراقبة الأمنية الصهيونية، سواء على أبوابه بواسطة حرس حدود الاحتلال، أو من خلال كاميرات المراقبة من بعيد، أو حتى من خلال منع  الاحتلال للترميمات وملاحقة المظاهرات التي تخرج فيه. وهو كذلك المكان الذي يشكل مركزاً للحياة الاجتماعية في القدس، بكل ألوانها غير مقتصرة على الشكل التعبدي.

ثانياً: التأكيد على أنّ وحدة الشعب الفلسطيني تتجلّى أساساً من خلال الفعل المقاوم، إذ إن انتهاء سطوة الأداة وفشل الأحزاب الكلاسيكية في احتكار الفعل المقاوم أشعلا بدورهما وحدةً حقيقيةً بين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948، وبين الفلسطينيين في الضفة والقطاع. تجسّدَ هذا المعنى الوحدوي في عمليات فدائية انخرط فيها أبناء فلسطين المحتلة عام 1948 على جميع خطوط التماس، كالشهيد مهند العقبي والشهيد نشأت ملحم، والثلاثي جبارين.

ثالثاً: دور عملية الأقصى في تعرية قيادات سياسية واجتماعية في الأراضي المحتلة عام 1948، والتي لطالما لعبت دور الوساطة ما بين الأجهزة الأمنية الصهيونية والمجتمع الفلسطيني، بما يشبه دور السلطة الفلسطينية وتنسيقها الأمني في الضفة الغربية.

وقد أدّى قيام بعض أعضاء لجنة المتابعة العربية بتعزية الجنود القتلى في عملية الأقصى، بحجّة “درء الفتنة الطائفية”، إلى طرد تلك “القيادات” من بيوت عزاء شهداء آل جبارين. يذكر أن هذا المسوّغ “الأخلاقي” – درء الفتنة – هو في حقيقته لجوء “دبلوماسي” وتخفيف من وطأة المقولة السياسية الواضحة التي تعبر عن هذه الجماعة، والتي تدور حول العمل المطلبي المدني من داخل النظام الاستعماري نفسه، لا نسفه والاشتغال الجدّي على تحطيمه. وهذا ما جاء بيانُ الحركة الإسلامية الجنوبية الذي أعقب العملية للتأكيد عليه، إذ ورد فيه “نضالنا ضد الاحتلال وسياسة القمع والتمييز نضال مدني سياسي جماهيري لا مكان فيه للسلاح”. نستعيد هنا كيف أدّى استشهاد باسل الأعرج، وتواطؤ السلطة في قتله، إلى طرد قيادات السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية من عزاء الشهيد.

رابعاً: فرضت العملية معادلة جديدة، تتمثّل في قدرة المجتمع على المقاومة دون اللجوء إلى قيادة سياسية، بل ورفدها بحالة نضالية شعبية واسعة، إضافةً إلى فرضها عملية صدام اجتماعي واسع على جميع خطوط التماس مع العدو الصهيوني. ومن المهم هنا الإشارة إلى دور هذه العملية وما تبعها من إجراءات أمنية صهيونية في إعادة قضية المسجد الأقصى إلى الصدارة، فبعد أن تمت محاربة مشاريع الرباط في المسجد الأقصى، سواء بالاعتقالات أو الإبعادات أو قرارات الحظر، عاد الرباط ليصبح مشهداً يومياً شعبياً للمقدسيين، وليغدو التجمع أمام بوابات الأقصى جزءاً أساسياً من نقاشات الناس وبرامجهم اليومية. أي أن هذه العملية خلقت حالة نضالية شعبية واسعة ويومية، وجددت في قلوب المقدسيين هذا الارتباط العميق بمدينتهم.

المقاوم الاستراتيجي

في نهاية التسعينات، طوّر الجنرال الأمريكي “تشارلز كرولاك” مفهوم “حرب القطاعات الثلاثة” (Three Block War)، في محاولة لتفسير التعقيدات والتحدّيات المتعددة التي تواجه قوات المارينز في ظلّ تطور أشكال حديثة من المعارك.

حسب كرولاك، قد يُطلب من قوات المارينز القيام بعملياتٍ متعددةٍ تشمل عمليات حربية واسعة تشبه حروب المناورة الخاطفة، كتلك التي وظّفتها الولايات المتحدة في بداية حرب العراق الثانية. وقد يُطلب أيضاً من تلك القوات خوض حروب غير تقليدية من عمليات “حفظ السلام” أو مكافحة التمرد أو القيام “بمهمات إنسانية”.

في ظلّ هذه الأشكال المختلفة للمعارك، يعتقد كولارك أنه يجب تدريب قوات المارينز على جميع أنواع العمليات العسكرية، لضمان نجاحها في خوض الحروب الحديثة بمرونة عالية تتناسب مع التحديات المختلفة.

بناء على هذه الافتراضات، طوّر كولارك مفهوم “الضابط الاستراتيجي” (strategic corporal)، ويعني به  الضابط القادر على اتخاذ قرارات مستقلة عن القيادة الهرمية بما يتناسب مع طبيعية المعركة واشتراطاتها.

يقول كولارك: “إن قوات المارينز اليوم سوف تعمل في كثير من الأحيان بعيداً عن “سارية العلم” ومن دون إشراف مباشر من القيادة العليا”. تأسيساً على هذه المقولة، يمكننا القول إن كورلاك كان يعي أهمية القرارات التي سيتخذها الجنود في سياق الحروب، خصوصاً في عصر تنتشر فيه وسائل التواصل الرقمية. معنى ذلك أنّ أيّ حدث جانبي أو حتى عرضي قد يتفاقم ليصبح “حدثاً استراتيجياً” قد يغير من سير المعركة وطبيعتها. فكما يستفيض كورلاك: “في كثير من الحالات، سيكون الرمز الأكثر وضوحاً للسياسة الخارجية الأمريكية هو جندي المارينز، وسوف يؤثر ليس فقط على الوضع التكتيكي الفوري، ولكن على الصعيدين العملياتي والاستراتيجي أيضاً. فإن أفعاله ستؤثر تأثيراً مباشراً على نتائج العملية الأوسع نطاقاً؛ وبذلك قد يصبح… العريف أو الضابط الاستراتيجي”.

وعود على بدء، كان كورلاك قد أقرّ بضرورة خلق جندي يعي أهمية الصورة في سياق عصر المعلومات، قادر على اتخاذ قرارات دون الرجوع إلى الهرمية البيروقراطية التي تجسدها الجيوش الغربية. كما يعي طبيعة المعركة ويمتلك من الاستقلالية ما يكفي لإنجاح العمليات العسكرية وأهدافها الاستراتيجية. غير أن طموح كورلاك في خلق ضابط استراتيجي فشل إلى حدٍّ كبيرٍ في سياق الجيوش الغربية.

تكمن المفارقة التي دعتنا للحديث عن كورلاك، بأنه حاول حلّ إشكالية الجمود البيروقراطي عند المارينز وإضفاء نوع من الحرية على القيادة للقوات العسكرية، بما يخدم الحرب على صعيد القطاعات الثلاثة (الحرب التقليدية، عمليات حفظ السلام، والمهمات الإنسانية)، وأنه في مقابل هذه الجهود التي تبذلها الجيوش النظامية للتخلص من البيروقراطية، يتمتع الفلسطيني بسياق حرّ خارج هذه الاشتراطات والتقييدات.

في السياق الفلسطيني، يخرج المقاوم اليوم دون أيّ جمودٍ بيروقراطيّ وأيّ قيودٍ سياسيةٍ، غير تلك التي يضعها المجتمع وضمن منظومة أخلاقية اجتماعية. يختار أهدافه بما يتناسب مع تطلعات المجتمع، بل يقوم بعملية انتقاء أخلاقي، وكأنّ المقاوم يمتلك إدراكاً استراتيجياً وأخلاقياً وسياسياً لتبعات الفعل وأهميته، ويقدّر الصورة النقية عن المقاومة بالمجمل.

وكأنّ المقاوم الفلسطيني، أيضاً، يقلب منظور كورلاك رأساً على عقب، فهو مقاوم استراتيجي بمدى قدرته على رفع رقعة المشاركة الفلسطينية في الصدام مع المستعمر وإرساء بنى اجتماعية وسياسية قادرة على خوض معركة شعبية طويلة الأمد مع المستعمر.

إننا باختصار أمام بنية مقاومة فلسطينية ناجعة، جنودها يمتلكون من الاستقلالية ما يجعل عملية كشف واستباق العمليات مهمةً تقترب من الاستحالة. كما يمتلك عناصرها المرونة الكاملة في اتخاذ قرارتها في المواجهة، بعيداً عن البنى الحزبية التقليدية، ليكون أساس هذه العمليات نابعاً من عشق صادق ومتأصل في نفوس “البشر الجدد”، كما أسماهم الشهيد باسل الأعرج. بالفعل، هؤلاء البشر الجدّد هم مقاومون استراتيجيون بالضرورة.

الشرطة كمرمى: الاستهداف والردود

تتلخص الاستراتيجية المتبعة في نظريات الحرب الجويّة في طبيعة الخيارات المتاحة للاستهداف. تعني هذه الخيارات ما يجب استهدافه وكيفية قصفه، وضمن أي تسلسل، فكما يقول كولين غراي: “إن النظرة الاستراتيجية العالمية للقوة الجوية هي إلى حد كبير تلك التي ترى الأرض باعتبارها (دارتبوارد) أو مرمى”.

على وقع ما سبق، لك أن تتخيل كيف تشعر كتيبة إعدام صهيونية وهي تقف في البلدة القديمة في القدس، منتظرةً “رجالاً جدداً”، يختارون ما سيتم استهدافه، وكيفية استهدافه وفي أي تسلسل. ومن الممكن هنا استعادة العملية المزدوجة التي أقدم عليها أبناء دير أبو مشعل في القدس في رمضان الماضي، للبرهنة على خيارات الاستهداف التي فرضها الشهداء الثلاثة. بدأت تلك العملية بإطلاق نار من كارلو مصنع محلياً، ثم سحب قوات الشرطة إلى مصدر إطلاق النار، لينقضّ ثالثهم على شرطية وحيدة تنتظر عودة كتيبة الإعدام من مهمتها. كل ذلك يجعلنا أمام نموذّج منظّم على الأقل في اختيار الهدف والتقنية اللازمة وتوزيع الأدوار.

تقليدياً، يتم التمييز بين الاستهداف “الاستراتيجي” و”التكتيكي”. ينطوي هذا الأخير على ضرب تلك الأمور التي تؤثر مباشرةً على سير المعركة. فمثلاً انتشار أبناء دير أبو مشعل على عدة نقاط في محيط جغرافي واحد، أتاح استهدافاً تكتيكياً لشرطية قبعت وحيدة، ما أدى لمقتلها. أما الاستهداف الاستراتيجي، فينطوي على ضرب أو تدمير العوامل\البنية التحتية التي تلزم العدو لخوض الحرب، وهي قيادة العدو والمراكز السكانية والصناعات الداعمة للحرب، وغيرها. وفي سياقنا، يبدو “الاستراتيجي” كل فعل يمكن من خلاله خلق حالة شعبية واسعة تصطدم بالبنية الاستعمارية، وتعزز من الالتحام الشعبي حول المقاومة. لذلك كانت- وبلا شك – عملية الأقصى بوعي أو بدونه عملية استراتيجية، حوّلت المسار التراكمي للنضالات إلى امتداد شعبي مقاوم يلغي فكرة احتكار الفعل في مكانٍ بعينه، أو أداة بعينها، أو فاعل سياسي بعينه.

البوابات الغبية

يقول الأستاذ خالد عودة الله: “في الأنظمة الإدارية الحديثة المعتمدة عند العدو، يتحدد مصير كل شيء، كل خطوة بالجدوى والفاعلية والكفاءة. ويعتمد العدو بشكل مكثف على علم تحليل الأنظمة في تقييم عمل كل مؤسساته وخاصة الأمنية. من هذه الزاوية، البوابات الإلكترونية مشروع فاشل من الآن: وضعوا البوابة لتحرسهم- حسب زعمهم- وها هم يحرسونها بدل أن تحرسهم، وواضح منذ الآن أن طاقم تشغيلها وحراستها سيكون عبئاً ثقيلاً مادياً وبشرياً. بكل بساطة، إنها غير مجدية بكل المقاييس”.

بطبيعة الحال، ينسحب ما قاله الأستاذ عودة الله على حراس البوابة أنفسهم (الشرطة)، إذ أضحوا أهدافاً لعمليات متتابعة، فهم أول من يسقط في تلك العمليات. بمعنى آخر، يستنفد هؤلاء الحراس (الشرطة) طاقاتهم في حراسة ما وُضع لحراستهم (البوابات الالكترونية)، بينما يفرض الواقع الذي فرضه أبناء القدس على حراسة أنفسهم والاحتماء من كارلو وسكين شهيد قد يأتيهم من حيثُ لا يحتسبون.

بالفعل، أدّت العملية إلى ردة فعل أمنية غبية، نتجت عن المؤسسة الشرطية الصهيونية، والتي ارتأت وضع تلك البوابات إلكترونية. بالمقابل، لم يكن ثمّة إجماع في المستويات الأمنية والسياسية الصهيونية على جدوى ذلك، إذ تم إحالة قرار إبقاء البوابات الالكترونية أو إزالتها إلى الشرطة وقيادتها في النقاش الوزاري الذي ترأسه بنيامين نتنياهو. بينما سار تقدير الشاباك (جهاز المخابرات الداخلي) عكس ذلك، مشيراً إلى أن تلك البوابات ستصبح مصدر احتجاج شعبي، ومُصدراً توصياته بإزالتها.

لكَ ان تتخيل كيف تصاعَدَ النقاش بين المؤسستين الأمنيتين، فالشرطة هي المرمى (Dartboard) والشاباك يفشل كل مرة في استباق الحدث ومنع العملية، وحماية أفراد الشرطة من القتل. أدى ذلك إلى تآكل مصداقية “الشاباك” في النقاشات الوزارية، فهم خارج الحدث وخارج قدرتهم على معالجته. وفي ظلّ هذا الواقع، يبقى- للمفارقة- الحل الوحيد للشرطة بكتيبة إعدامها، هي إعلان القدس وما حولها منطقة محرمة لدخول الصهاينة على غرار الكثير من الأحياء الفقيرة في ضواحي البرازيل أو الولايات المتحدة.

الرد السريع: حلميش

ظن عمر العبد أن ما كتبه على صفحته على الفايسبوك سيكون كلماته الأخيرة قبل أن يلقى الخالق مقبلاً غير مدبر. حملت وصيته معانيَ سياسية واجتماعية مختلفة؛ منها الحرقة الوجدانية على الأقصى، والمطالبة بالوحدة السياسية بالرغم من كونه ضحية التعذيب في سجون الأمن الوقائي. غير  أنّ أجمل ما حملته وصيته هو السكين “المسنون” بحسب تعابيره، فذلك السكين “المسنون” ضَربَ من حيثُ اللامتوقع، وفي بقعة جغرافية تبعد عن الأقصى أكثر من 50 كيلومتراً.

إنّنا أمام رجل جديد آخر لا يملك البندقية، لكن ثمّة إرادةً صلبة امتلكها وتملّكته، مكّنته من اختراق مستوطنة التهمت ما حولها من أراضٍ بالقرب من قرى رام الله الغربية. أن تنتقي الهدف وتستقر على التسلسل هو فعل استراتيجي، لربما ليس  بصبغة مراكز الأبحاث العالمية، لكنه استراتيجي بفطرته. فما فعله عمر العبد وضع المؤسسة الأمنية الصهيونية أمام معضلة أمنية مستحيلة، لا حل لها سوى بعض من الإجراءات المابعدية. تقتصر هذه الإجراءات على هدم البيوت واحتجاز جثامين الشهداء في ثلاجات الصقيع، والاندفاع نحو إجراءات روتينية تمكن أهميتها فقط بمنح الجمهور الصهيوني شعوراً بأن أجهزة الأمن الصهيونية تؤدّي دوراً ردعياً ما، دون الاكتراث لماهية هذا الدور أساساً.

وفي خضم كلّ ما سبق، تبقّى عملية العبد “المسنونة” أكبر وأبلغ تجلٍّ لما قاله شهيد الاشتباك من “مسافة صفر” في البيرة، باسل الأعرج: “العفوية لا تعني أبداً غياب التنظيم. بالعكس تمامًا، ففيها من التنظيم والدقّة أكبر بكثيرٍ من أيّ نوعٍ آخر، خصوصاً أنها تركّز على تنظيم الاشتباك، وليس تنظيم الصورة النهائية. ذلك بهدف دفع كلّ تلك السلوكيات نحو إنتاج أكبر قدرٍ ممكنٍ من الفائدة والإنجاز ليصبّ مع كلّ أعمال المقاومة الأخرى في كلّ الساحات في نهرٍ واحدٍ لتراكم الفعل والإنجاز، للدفع نحو زيادة التفاقم السياسي والاجتماعيّ، ولاحقًا الاقتصاديّ للمجتمع.”

فمنذ أواخر أيلول من العام 2015، سجّل الفلسطينيون أكثر من 181 عملية طعن، و126 محاولة طعن، و159 عملية إطلاق نار، و60 عملية دعس، وعملية واحدة استهدفت بالمتفجرات حافلةً صهيونيةً. أسفرت تلك العمليات حتى اللحظة عن سقوط 55 قتيلاً صهيونياً، منهم العشرات في جهاز الشرطة. كل ذلك الإنجاز كان يتمّ في ظلّ واقع مرير من تنسيقٍ أمنيِّ بين السلطة والعدو، وتآكل دور الأحزاب الفلسطينية في الضفة الغربية وغيابها عن الفعل المقاوم.

لكنْ، كيف لنا أن نعي المقاومة اليوم؟ نعيها بمدى اشتباكنا معها وبها، وبقدرتنا على اعتبار الاشتباك حياةً. المقاومة هي محصلة لوعي جديد بدأ بالخروج من الباطن إلى الظاهر؛ وعي لا يحتاج سوى حفنة من الإرادة. أما خطاب “الرئيس”، فبعيداً عن كونه محاولة واضحة لاحتواء الحدث، فهل ما زال أحدنا يظن أن لكلماته أهمية، في وقتٍ يترجل فيه شاب من كوبر، مشهراً سلاحه الأبيض بوجه العدو، معلناً بذلك سقوط كل الكلمات والخطابات الرمادية بفعل سكينٍ وإرادةٍ لا تصدأ؟