إليكم مختارات قراءاتنا لشهر أيلول، نبدأها بالتعتيم الذي فرضه الحكم في الأردن على تفاصيل صفقة الغاز مع الكيان الصهيوني، ونعرّج بعدها على قراءةٍ نقديّة من منظورٍ ماركسيّ لخطاب مكافحة الفساد، وننهي بالحديث عن مقدّمات نشوء المنظّمات الصهيونيّة في فلسطين وعسكرة الاستيطان.

 

نقدّم لكم في زاويتنا الشهريّة “رادار” ثلاثة مقالاتٍ، اخترناها لكم من منصّاتٍ متنوّعة، كانت قد نشرت في شهر أيلول الماضي. نبدأها بمقالٍ يناقش التعتيم الذي فرضه الحكم في الأردن على تفاصيل صفقة الغاز بين الأردن والكيان الصهيوني، ونعرّج بعدها على قراءةٍ نقديّة من منظورٍ ماركسيّ لخطاب مكافحة الفساد ومفهوم الفساد السياسيّ في ظلّ الرأسماليّة. وننهي بالحديث عن مقدّمات نشوء المنظّمات الصهيونيّة في فلسطين وعسكرة الاستيطان الصهيوني قبل الحرب الكبرى. قراءة طيّبة

 

*****

 

الحُكم التسلّطيّ باعتباره شأنًا شخصيًّا: حجب الوثائق والمعلومات في صفقة الغاز مع «إسرائيل»

صحيحٌ أنّ توفّر المعلومات وتناقلها يعدّ قوّةً في عصرنا هذا، إلا أنّ التحكّم بالمعلومات وحجبها والتلاعب بها يعدّ أيضاً قوّةً بيد السلطات، والتي تصنّف المعلومات التي تقرّر حجبها على أنّها معلوماتٌ “خطيرة” و”خاصّة” لا يمكن الإفصاح عنها لأسبابٍ تتعلّق بحماية أمن الدولة، والذي يبدو دوماً مهزوزاً ويجب حمايته من الأخطار. في المقابل، تمثّل المعلومات والوثائق خطراً حقيقياً على الأنظمة القمعية و”الديمقراطية” على حدٍّ سواء، ممّا يفسّر الهجمات والملاحقات الرسميّة المستمرّة للمنظّمات والأشخاص الذين يعملون على تسريبها. 

في مقالٍ نُشر في موقع “حبر“، يتناول هشام البستاني عملية إخفاء المعلومات والوثائق المتعلّقة بصفقة الغاز بين الأردن والكيان الصهيوني، والتي أعلنت عنها الحكومة الأردنيّة في خبرٍ عابرٍ في الإعلام الرسميّ، والتعتيم الذي أدارته السلطات الأردنية بشأن الصفقة التي ستربط الأردن بالكيان الصهيوني أمنيّاً واقتصاديّاً. يستعرض المقال كيفية توظيف السرية وعدم إتاحة الوثائق كسلاحٍ للتعتيم على أهم القضايا التي شغلت الرأي العام الأردني، فضلاً عن بثّ السلطات لدعايةٍ مضلّلةٍ حول الاتفاقية ومبرّرات توقيعها، وكيف دفع ذلك الحراك الشعبيّ الرافض للاتفاقية لطرح المزيد من التساؤلات حولها. 

يتتبّع المقال المعركة التي أدارها أصحاب القرار السياسي في الأردن في إخفاء وحجب المعلومات بشكلٍ يتناقض مع القوانين الشكلية كقانون حقّ الحصول على المعلومات. وحول ذلك، يحاجج البستاني بأنّ شكل إدارة السياسة في الأردن، ومقابل الممارسة الفعلية التسلطية والاحتكارية، مبنيٌ على شكلانيّةٍ ظاهراتيّةٍ خطابيّةٍ تعمل على تخفيف وتمييع التناقضات التي تنتجها الممارسة الفعلية، بما يخدم صورة السلطة كراعية الحقوق والديمقراطية.

وفي مسألة حجب المعلومات، يتمّ التعامل مع السلطة/الحكم باعتباره “شأناً خاصّاً” مفصولاً عن الحياة اليومية، ويجب أن يُدار بسرّية تامة دون تدخّل، ممّا يؤدّي، وفقاً للكاتب، إلى تثبيت وتدعيم قوة السلطة، والتعامل معها بوصفها كياناً غامضاً لا يمكن فهمه من الخارج، وغير قابلٍ للمساءلة أو الاستبدال. بينما يعدّ حجب المعلومات، أو البث الانتقائي لها أو التضليل الذي يأخذ شكل “الموضوعي”، جزءاً أساسياً من آليات التحكّم وتوجيه الرأي العام أو التلاعب به، والذي يجعل عملية الكشف عنها أو إتاحتها وسيلةً أساسيةً لإعادة [واستعادة] السياسة من المجال “الخاص” إلى العام. 

من جهتها، وضعت الحملة الوطنية الأردنية لإسقاط الاتفاقية (غاز العدوّ احتلال) الوصول إلى المعلومات المغيّبة وكشفها للجماهير على رأس أولوياتها، فما كان للحكومة إلا الرضوخ للضغط والكشف عن جزءٍ من الاتفاقية في عام 2017، وعن جزءٍ آخر في عام 2019. وخلال هذه المعركة، تمكّنت الحملة الشعبيّة من تحويل “السرية” و”الحماية” اللتين أحاطتا بالاتفاقية إلى إدانةٍ إضافيةٍ للسلطات الأردنية، وهو ما أضاء أيضاً على ما خفيَ من شبهات فسادٍ وتبعيّة وشروط مجحفة، بالإضافة إلى الدور الوظيفي الذي يلعبه الأردن في المنطقة وما يترتب على صفقة الغاز المبرمة مع العدوّ الصهيوني من تبعات جيوسياسية وإقليمية.

كما يلفت المقال إلى أنّ الرواية الرسميّة، والتي عادةً ما تكون دعائيةً، تبقى المصدر الوحيد للمعلومات في ظلّ حجب الوثائق، ممّا يدفع بالباحثين في تاريخ الأردن السياسيّ للجوء إلى الأرشيفين البريطاني والصهيوني.

للقراءة، من هنا

الفساد السياسي تحت الرأسماليّة عبرـ القُطريّة: نظرة ماركسيّة (ج 1)

تبحث هذه الورقة، والتي نُشرت مترجمةً على جزئين في موقع “انحياز”، في توقيت ومضمون التيّار الدولي لمكافحة الفساد بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وهيمنة النظام الرأسمالي، وتحلّل مفهوم الفساد من منظورٍ ماركسي وباعتباره عنصراً أساسياً لفهم التوجّه نحو الحوكمة والتكنوقراطيّة المتفشّية في الدول تحت الرأسماليّة المعاصرة. يحاجج كاتب المقال، “بيتر براتسيس”، أنّ خطاب مكافحة الفساد ظهر كإعادة إنتاجٍ لـ “عبء الرجل الأبيض”، يتمّ من خلاله التدخّل في السياسة الداخلية للدول الأقل قوةً، إضافةً إلى تبرير الفقر النسبيّ، وزيادة استقلالية الدول فيما يتعلق بالمصالح المحليّة بما يجعلها أكثر “خضوعاً” و”ترحاباً” لرأس المال العالميّ.  

في الجزء الأوّل من هذا المقال، والذي ترجمه إبراهيم حمزة، يتعمّق الكاتب في قراءة وتحليل مفهوم الفساد ضمن التطوّرات الجديدة والمستمرّة داخل الرأسمالية بغية فهم دور الفساد السياسي، انطلاقاً من كونه يعدو مجرّد مسألةٍ داخليّةٍ. إذ  ساهم صعود الرأسماليّة في إفراز فهمٍ جديدٍ للفساد السياسي، يتجاوز الفهم التقليديّ إلى فهمٍ جديدٍ يُصنّف المصالح “الخاصّة” في الساحة السياسيّة إلى “عاديّةٍ” أو “مَرَضيّةٍ”، ضمن [وهم] مصلحةٍ عامةٍ كونيةٍ. فعلاوةً على أهميته الداخلية، بات الفساد موضوعاً محورياً يحتلّ مكانةً ثابتةً في أجندة الفاعلين والمنظّمات الدولية ويلعب دوراً محورياً في العلاقات الدوليّة.

ووفقاً للمقال، يمكننا فهم المعنى الجديد للفساد كنتاجٍ لعاملين شديدي الترابط: أوّلاً، الفساد، بمعنى عدم الشفافيّة، كتكتيكٍ توظّفه الرأسماليّة لتقليص التكاليف وحساب زيادة الأرباح، ويأتي أيضاً ضمن استراتيجية زيادة استقلالية بيروقراطيّات الدولة عن المصالح والنخب المحليّة، بما يفضي إلى تقليل القيود والعراقيل السياسية الممكنة على الرأسمالية العالميّة وتوسيع الاستقلالية النسبية للمصالح الخاصة. وثانياً، كمفهومٍ يلطّف وجهة النظر الاستعماريّة، والتي تعزو الفوارق العالميّة في الثراء والتنميّة لدونيّة الثقافات والأطر السياسية والقانونية للبلدان والمناطق المحرومة والمهمّشة اقتصادياً في العالم.

ويحاجج الكاتب بأنّ تيّار مكافحة الفساد الدوليّ لا يستهدف ما قد نتخيّله عند الحديث عن “الفساد”، إنّما ينشغل، أساساً، بالفساد البيروقراطي، المتعلّق بالإجراءات وحيثيّاتها، ويتجاهل الفساد السياسي. فمن خلال التركيز على الفساد البيروقراطي، يتمّ صرف النظر عن التدخّلات “الخاصّة” في عملية صنع القرار السياسي وصراعات المصالح التي تحكم العملية السياسية واتخاذ القرارات. يتجسّد ذلك، على سبيل المثال،  في الاهتمام الذي توليه منظّمة الشفافية العالميّة وصندوق النقد الدوليّ في المنظومة البيروقراطية في مقابل دور المصالح الخاصة، لا سيّما مصالح هذه الأطراف، في عمليّة صنع السياسات، والتي لا تهدف، بالطبع، إلى مناهضة تأثير القوى الاقتصاديّة على السياسة.

وتأسيساً على ما سبق، يجادل الكاتب أنّه يُمكن فهم التيار الدولي لمكافحة الفساد (عدم الشفافية) ضمن السعي الرأسمالي لتأمين الشروط اللازمة لاتخاذ قرارات عقلانيّة بشأن الاستثمارات. وتبلور الشفافية، في هذا السياق، رؤيةً واضحةً تقدّم معطياتٍ أساسيةً لرأس المال.

وكمفهومٍ أساسيٍّ في البنية الفكرية البرجوازية، يعتبر الكاتب أنّه لم تتمّ دراسة المفهوم الجديد للفساد، أو إخضاعه للتحليل الماركسيّ وموضعته ضمن التطورات المستجدة داخل الدولة الرأسمالية، كما يجب.

يخلص الكاتب أنّه يجب فهم المساعي المستجدّة لمكافحة الفساد من قبل “المجتمع الدولي” على أنّها معادِلة للتمدّد الإمبريالي، إذ لا ينتج عن “الشفافية” البيروقراطية حكماً أكثر انفتاحاً على مصالح ومطالب المستضعفين والمهمّشين، إنّما يزيد من حجب هذه العملية وتغطية الواقع، بينما يخدم الارتفاع في درجة الاستقلالية النسبية، عمليّاً، الرأسمالية العالمية، لا المصالح والحركات المحليّة. في المقابل، يعزو التفكير المختزل بالفساد، بشقّه البيروقراطي، الإخفاقات السياسية والاقتصادية إلى نقائص أخلاقيّةٍ وعاداتٍ ثقافيةٍ، تتحمّل فيها المجتمعات  “عبء الرجل الأبيض” وما تسبّبت به الرأسماليّة من فقر ومديونية ومجاعات، بما يماثل الوضع في أوج حكم الاستعمار المباشر. ويختم  بالتأكيد على ضرورة التوسّع في تفسير المفاهيم والحجج المطروحة في مقاله، مع التنويه إلى كونها أتت من الحاجة إلى مقاربةٍ ماديّةٍ تاريخيةٍ لمسألة الفساد السياسيّ اليوم وتدويلها بشكلٍ نقديّ.

للقراءة، من هنا

ما قبل الهاجاناه: عسكرة الاستيطان الصهيوني في فلسطين قبل الحرب الكبرى
الجزء الأول: (بار گيورا)، بندقية الييشوف الأولى

في مقاله المنشور على مدوّنته الخاصّة، يحدّثنا أسامة حمّاد عن بدايات نشوء المنظّمات الصهيونية في أوساط الييشوف (التجمّع الاستيطاني اليهودي في فلسطين)، هذه المنظّمات التي سعت نحو عسكرة وجودها، ولم تعد مهامُّها تقتصر على الزراعة وحسب، كما كانت على ذا الحال أولى المستوطنات، بل اتّخذت طابعاً استعمارياً مُسلّحاً، بدأت أوّل عهدها مع تكوين منظمة “بار كَويرا” التي جاءت قبل الهاجاناه، تحديداً مع وفود الهجرة اليهودية الثانية إلى فلسطين، في عام 1904. إذ اتّخذ الاستيطان بُعداً آخر في هذه المرحلة، تمثّل بـ “جيل الرواد” الذي شكّل انقلاباً على ما اعتمده جيل المستوطنين القدماء؛ فلم تشهد تلك الفترة تشكُّل أيّة منظّماتٍ عسكريةٍ، كما اعتمدوا على الدفاع الذاتيّ في مقابل ما واجهته المستوطنات آنذاك من صعوباتٍ وهجماتٍ، وأنشأت نظاماً للحراسة يعتمد على توظيف الفلسطينيين لهذه المهمّة.

وهكذا، وببادرةٍ من “إسرائيل شوحط” وزملائه، وُضِعت خطّة منظمة “بار كَويرا”، ثمّ قدّم “شوحط” المقترح في المؤتمر الصهيونيّ الثامن، لكنّه لم يحصل على مصادقةٍ أو تمويلٍ لذلك؛ خشية الصدام مع السلطات العثمانية، فضلاً عن إمكانياتها التمويلية قليلة الحيلة.

فاضطر “شوحط” وزملاؤه إلى تنفيذ خطّتهم بشكلٍ سرّيٍ، وطردوا كلّ الفلسطينيين الذين استعانت بهم المستوطنات الأولى للحراسة؛ مشحونين بالروح العنصرية، فنظروا إلى الفلسطينيّ كعدوٍّ، ولم يقلبوا إلا بانعزال مجتمعاتهم عنه كما كان عليه الحال في أوروبا، وكثّفوا مشاعرهم الاستيطانية بالعدائية على أشدّها مُتّخذين “بالدم والنار سقطت يهودا، وبالدم والنار ستعود” شعاراً ارتكزوا عليه. انعكس كلّ ذلك في برامج العمل والتدريب الصارم، شمل تعلم لغة العدو الفلسطينيّ العربية، والتعرّف على الطبوغرافيا المحيطة بالمستوطنات، والدعوة إلى تسليح المجتمع اليهودي.

كما تميّزت “بار كَويرا” بوضوح أهدافها، التي لم تقتصر على المسائل الأمنية وحسب، بل بالاستيطان باعتباره نشاطاً استعمارياً، واهتمّت، أكثر ما اهتمّت، بإعادة صياغة طبيعة الاستيطان ولم تسعَ آنذاك إلى أهدافٍ توسّعيةٍ.

أما هيكلية المنظّمة، فقد اشتملت على دورياتٍ لحراسة الحقول، ومجموعاتٍ للدعم والإسناد تظلّ على أهبة الاستعداد، ومجموعاتٍ دفاعية ومقاتلةٍ أخرى. وتبعاً لإمكانياتهم المادية الضئيلة، فقد اكتفوا بالعمل بدءاً في مستوطنة “إيلانا” في الجليل، فكانت تجربةً مهمّةً لتطوير تكتيكاتها في تجاربها اللاحقة، كما ساعدتها الاستقلالية الإدارية لكلّ مستوطنةٍ في بسط سيطرتها على مقاليد الحراسة والدفاع.

ولعلّ خلفية جيل الهجرة الثانية أو جيل الرواد -الذي بدأ التفكير في إنشاء المنظمات العسكرية إبّانها- أثْرت كلّ هذا التغيّر؛ إذ شحذت سياسات الإمبراطوريّة الروسيّة إزاء اليهود وعيَ مجتمعاتهم، وتسلّحوا بمهارات الدفاع الذاتي، كما تمكّن هذا الجيل حال وصوله إلى فلسطين من تأسيس حركةٍ ثقافيةٍ، دعت لاتّخاذ اللغة العبرية كلغةٍ محكيةٍ يوميةٍ في مجتمعات الييشوف، دعمته بتأسيس أولى مدرسةٍ يهوديةٍ وإطلاق أول معجمٍ حديثٍ للعبرية.

لم تستمرّ المنظمة بمسمّاها “بار كَيورا” سوى عامٍ ونصف؛ إذ تمّت إعادة هيكلتها لتقتصر مهام أعضائها على الحراسة دون تناوبهم على العمل الزراعي في المستوطنات، وسُمّي التشكيل الجديد بـ “منظمة هاشومير”. 

 ساهمت الظروف المشابهة للجيتوهات اليهوديّة في شرق أوروبا (تعدادٌ قليل من اليهود في تجمّعات سكانية متناثرة) لاستثارة حركة عسكرةٍ للتجمّعات الاستيطانية في فلسطين، وصفها “شوحط” بـ “قوة دفاعيّة مقاتلة” تسعى لإحكام سيطرتها على المجال العام، مما أدّى، بحسب الكاتب، إلى تطبيع السلوك الاستيطاني مع الفكرة الصهيونية، الاستعمارية في جوهرها، والتأسيس لنظرةٍ تبنّتها كافة النخب التي انبثقت عن هذا المجتمع الاستعماريّ. 

للقراءة ، من هنا

جديرٌ بالذكر أنّ الكاتب أسامة حمّاد قد أكمل حديثه عن منظمة “هاشومير” وليدة “بار كَويرا” في مقالٍ منفصلٍ تجدونه هنا