يقدّم لنا إسلام موسى (عطالله) في هذا الجزء من بحثه نظرةً على التطوّر التكنولوجيِّ الكبير الذي حقّقه وما زال يحقِّقه الكيان الصهيوني، والذي تستدعيه طبيعة هذا الكيان المختلفة عن غيره؛ من ناحية نشأته المُصطنعة في بيئةٍ تفرضُ عليه التصرّف بحذرٍ تجاه أيّة مخاطرَ أو أعداءَ مُحتَملين. ولعلّ ما يُعزّز هذا النموّ التكنولوجي المتصاعد: ثُلّةٌ من خرّيجي الوحدات العسكرية في جيش الاحتلال الصهيونيِّ؛ فهم يتلقّون كثيراً من التدريبات في هذا المجال أثناء فترة الخدمة الإلزامية. ثمّ بعد انتهائهم من الخدمة، يستغلّون خبراتهم في إنشاء مشاريعَ ابتكاريةً تكنولوجيةً تُحسَبُ على الكيان الصهيونيَّ وتجعله متصدّراً على مقاييس التكنولوجيا العالمية.

الجزء الأول، هنا

توطئة

يقدّم لنا إسلام موسى (عطالله) في هذا الجزء من بحثه نظرةً على التطوّر التكنولوجيِّ الكبير الذي حقّقه وما زال يحقِّقه الكيان الصهيوني، والذي تستدعيه طبيعة هذا الكيان المختلفة عن غيره؛ من ناحية نشأته المُصطنعة في بيئةٍ تفرضُ عليه التصرّف بحذرٍ تجاه أيّة مخاطرَ أو أعداءَ مُحتَملين. ولعلّ ما يُعزّز هذا النموّ التكنولوجي المتصاعد: ثُلّةٌ من خرّيجي الوحدات العسكرية في جيش الاحتلال الصهيونيِّ؛ فهم يتلقّون كثيراً من التدريبات في هذا المجال أثناء فترة الخدمة الإلزامية. ثمّ بعد انتهائهم من الخدمة، يستغلّون خبراتهم في إنشاء مشاريعَ ابتكاريةً تكنولوجيةً تُحسَبُ على الكيان الصهيونيَّ وتجعله متصدّراً على مقاييس التكنولوجيا العالمية.

كما أنّ حاجة الجيش ومهامه حفّزت كثيراً من الشركات الكبيرة للاستثمار في دولة الاحتلال، كون الحالات التي يمرّ بها جيش الاحتلال، تكشفُ كثيراً من الثغرات وتستدعي احتياجاتٍ أمنيةً تأتي التكنولوجيا لإسعافها. ولعلّ هذا التطوّر الكبير هو ما فتح الباب واسعاً للتطبيع مع الكيان الصهيونيِّ على الصعيدين العالميِّ والعربيّ، من خلال الاستثمارات التكنولوجية في دولة الاحتلال من قبل عدة دول، أو الاستفادة من تقنيات الكيان المتطوّرة سعياً لتحسين استخباراتها، وهو ما سيُقدّمه الباحث في الجزء الثالث من هذا البحث.

 

تطور “إسرائيل” التكنولوجي

قبل الشروع بعرض المشهد التكنولوجيِّ والمعلوماتيِّ في “إسرائيل”؛ لا بُدّ من التأكيد على العلاقة المتينة بين ذلك المشهد والأمن في “إسرائيل” في العديد من الجوانب[1]. إذ إنّ للأمن مفهومه الخاص والمختلف لدى الكيان الصهيوني؛ فهو يُشكّلُ بالنسبة لهذا الكيان عامل وجودٍ وتمكينٍ واستقرارٍ.

وهناك إرادةٌ صهيونيةٌ متجدّدةٌ لتجنيد جميع الطاقات لتطويره، مُعتمِدين على كلِّ مكانٍ بالعالم لدعم أمن “إسرائيل” اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً ورقمياً.  ولن يكون ذلك إلا من خلال اختراق كلِّ الدول المنشودة، بالإضافة إلى وجود مُجتمعٍ يحظى بغالبيةٍ مُتطرّفةٍ ومستنفرةٍ بشكلٍ شبه دائم، كما أنه يخشى الوقوع تحت تأثير المفاجآت والصدمات الأمنية والعسكرية التي تُقلقُ أمنه، مرفوداً بوعيٍ عميقٍ من قبل الجمهور الصهيوني لمدى المخاطر التي تُحيط به[2]. فلم تكن “إسرائيل” يوماً كياناً تقليدياً ذا خصائصَ مُشابهةٍ لغيرها من الدول. إنّها حالةٌ مختلفةٌ بالنظر إلى نشأتها المُصطنعة في بيئةٍ عِدائيةٍ ينخرطُ جميعُ مواطنيها في الجيش. فضلاً عن كونها بوتقةً لصهر ملايين المُهاجرين من جنسياتٍ وعِرقياتٍ مُختلفةٍ. وهو ما انعكس بطبيعة الحال على الاقتصاد الإسرائيلي؛ هذا ما أثاره كتاب “أمّة الشركات الناشئة” والذي تُرجِم لأكثر من 20 لغةً وأثار ضجّةً كبيرةً في الأوساط العالمية، وانتقاداتٍ إيجابيةً وسلبيةً، حول فكرة إذا ما كان اقتصادُ الكيان الصهيونيِّ يعتمدُ فعلاً على عدم الاستقرار في المنطقة [3]؟

لذلك نُلقي الضوءَ على السِّمات المُمِيزة لقطاع التكنولوجيا والمعلومات تحت المظلة الأمنية في الكيان الصهيونيِّ التي جعلت منه اقتصاداً رائداً وبُنيةً مَعرفيةً ساعدها على تحقيق مصالحها الاقتصادية والسياسية في سنواتٍ مَعدودةٍ.

 

إحصاءات ومؤشِّرات تقدُّم القطاع التكنولوجيّ في “إسرائيل”

استجابةً لظروفها الأمنية الاستثنائية، سارت “إسرائيل” في طريق الالتحاق بفكرة التقدُّمِ والتفوُّق التكنولوجيِّ بكلّ ما أوتيَت من قوّةٍ؛ فمُنذُ وقتٍ مُبكّرٍ أدركت فكرةَ العولمة والاندماج والذوبان في الاقتصاديات العالمية واللّحاقِ برَكْبِ الدولِ المتقدّمة، التي كانت تعتبرُ العالمَ دونها عالماً مُتخلّفاً. فوِفقاً لمقولة المفكّر الهنديِّ ديباش شكارابارتى في كتابه “أقلمة أوروبا”، أنّ الدول “غير الأوروبية” أصبحت مُجبرةً على البقاء في قاعة انتظارٍ وهميةٍ مُلحَقةٍ بالتاريخ، إذ بات الانتظار مقياسَ الثقافة التي تفصلُ الغرب عمّا سِواه، وكما يدّعي، فإنّ مفهوم التقدُّم استقرَّ منذُ القرن الثامن عشر، فصارت كلمةُ “نحن” تمثّلُ المستقبل، بينما يشيرُ لفظ “هُم” إلى الماضي، وأحياناً إلى ماضي “نحن”[4]

مُجمَلُ تلك الحقائق جعلها تعملُ بشكلٍ دؤوبٍ ومُتراكمٍ، استثمرت من خلالها المفاهيم الجديدة التي بلوَرَتْ مظاهر الثورةِ المعلوماتيةِ والتقدُّم التكنولوجيِّ المُتسارع، وحركةُ المُتغيّرات في العالم كالعولمة والكونية ومظاهر الاعتماد المُتبادل، واستطاعت أن توظّف ما تمخّضت عنها من تكنولوجياتٍ في آليتين؛ هُما: مهارة استقبالها، ومهارة استخدامها.
واستفادت هذه الصناعةُ في “إسرائيل” من التسهيلات القانونية والإعفاءات الضريبية الكبيرة، ومن تمويلٍ ودعمٍ حكوميٍّ وأمريكيٍّ مُشتركٍ للتدريب والتعليم الذي استهدف الصهاينة في الجامعات والشركات الأمريكية، وكذلك في وحدات الجيش المتطوّرة المُتخصّصة بإنتاج التكنولوجيا المتطوّرة،  كما استفادت من قيام الشركات الكبرى بافتتاح فروعٍ لها في “إسرائيل”. وهو ما ساهم في تأسيس بُنيةٍ معرفيةٍ وتربويةٍ حديثةٍ عابرةٍ للثقافات، تختصرُ الزمان والمكان.

فيما وصلتْ براءاتُ الاختراعات التى أصدرتها “إسرائيل” وحدَها في العام 1977م إلى حوالي 158 براءة اختراعٍ، هذا العدد التي لم تحقِّق مثله البلدانُ العربيةُ مُجتمِعةً، على الرغم من الفارق السكّانيٍّ، والعمق الاستراتيجي. في حين سجّل العرب 370 براءة اختراعٍ وحسب ما بين عامي 1980-2000! لم يتفوّق حينها على “إسرائيل” إلا أمريكا واليابان  وسويسرا وتايوان، وتبعتها كوريا الجنوبية وبريطانيا وفرنسا وألمانيا.

أما في العام 2006، احتلّت “إسرائيل” المرتبة 15 بين دول العالم بما يبلغُ 1725 طلبٍ لبراءات الاختراع، وهي بذلك تكون ثالث أعلى زيادةٍ في العالم. أمّا العربُ فحقّقوا 127 براءة اختراعٍ [5]. وفي عام 2009 تصاعد عدد الشركات الصهيونية المُسجّلة في مؤشّر الصناعات التكنولوجية الأمريكي (ناسداك -NASDAC) إلى حوالي 65 شركةً، وهو أعلى عددٍ للشركات الأجنبية في المؤشّر بالمقارنة مع حوالي 45 شركةٍ كنديةٍ وستّ شركاتٍ يابانيةٍ وخمس شركاتٍ بريطانيةٍ وثلاثٌ أخرى هنديةٍ[6]. الشركاتُ الصهيونية المُدرَجة على مؤشّر “ناسداك” أكثرُ من كلّ شركات القارة الأوروبية المُدرجة فيه[7]!

وأظهر تقريرٌ صادرٌ عن مؤسّسة غرانت ثورنتون الدولية[8] عام 2013؛ أنّ “إسرائيل” احتلّت المرتبة الثانية عالمياً في صناعة التكنولوجيا العالية والفائقة التطوُّر بعد كوريا الجنوبية التي تصدّرت الترتيب منذ عام 2009، والتي تشكّلُ فيها صناعة التكنولوجيا ما نسبته 40% من الناتج المحلي. وتقدّمت “إسرائيل” مرتبةً واحدةً، بعد أن كانت تحتلُّ الترتيب الثالث العام الماضي، مُتقدّمةً على فنلندا ثالثاً، والسويد رابعاً، واليابان خامساً. عطفاً على ما ذُكِر آنفاً كوْن “إسرائيل” ذات أكبر عددٍ من الشركات[9]، فيبلغُ عددُ العاملين فيها حالياً حوالي 12,805 مصنعاً وشركةً تكنولوجيةً[10]، نحو 1100 شركةٍ تكنولوجيا عاليةٍ، منها 150 شركةٌ متعدّدةُ الجنسيات، ومن بين هذه الـ150 شركةٍ تشغّل حوالي 100 شركةٍ أفرعاً رئيسيةً لها هناك[11]، منها حوالي 50 شركة تكنولوجية كُبرى مثل (Microsoft, Google, Apple, Entel…et).

وحسب ما ورد في التقارير الصادرة عن سلطة الابتكار “الإسرائيلية” فإنّ الكيان الصهيوني يمتلكُ أعلى عددٍ للشركات الناشئة، إذ أُطلِقت فيه ما يقارب 2000 شركةٍ ناشئةٍ خلال العقد الأخير، كما تتّخذُ 3000 شركةٍ تكنولوجيةٍ، سواء كانت ناشئةً أم لا، ومن الحجم المتوسط أو الصغير من “إسرائيل” مقرّاً لها، بالإضافة إلى 30 شركةٍ ناميةٍ و300 مركزٍ للبحث والتطوير تابعة لشركاتٍ مُتعدّدةِ القوميات [12]. فـ “إسرائيل” الثانية بعد سويسرا حسب فئة الابتكارية، وفقاً لتقرير المنتدى الاقتصادي العالمي حول التنافسية والعالمية لعامي 2016-2017، وقد صُنّف التقرير دول العالم ضمن 12 فئةً، ومنها الابتكارية والاستعداد التكنولوجي، والذكاء التجاري والثقافة الجامعية، حتّى في المنافسة الشاملة أيضاً احتلّت المرتبة الثانية بعد سويسرا، مُتقدِّمةً على فنلندا والولايات المتحدة وألمانيا والسويد واليابان[13].

وبلوغُ الكيان الصهيونيِّ هذه المرتبة العالية يعودُ إلى استمرار نموِّ الاقتصاد الإسرائيلي بزخمٍ عالٍ، وفي اتّجاهٍ آخرَ تشهدُ بعضُ الدول في المنطقة تراجعاً، حيث يقول التقرير: “رغم كون غالبية الدول المُصدرة للنفط في المنطقة تُجابِه التراجع في النموّ أو الكساد، إلا أنّ الكيان الصهيونيَّ قد تمكّن من الارتقاء ثلاث درجاتٍ على سُلّم فئة الابتكارية، فيما يبدو فإنّ العالم يتّجهُ إلى الطاقة النظيفة” [14].

وهناك مخاوفُ واضحةٌ ومعقولةٌ من أنّ “إسرائيل” ستلتهمُ الأسواقَ العربيةَ مُستقبلاً، وهي تعملُ منذُ أوقاتٍ مُبكّرةٍ على أن تكون القوّةُ الاقتصاديةُ العالميةُ في المنطقة. إنّ التطوّرَ المتسارِع لصناعة التكنولوجيا العالمية في “إسرائيل” وعملها على جذْبِ رؤوس الأموال الأجنبية ودأَبِها على توسيعِ أسواقِ مُنتجاتِها، يعني كلّ ذلك أنّ المواجهة العالمية الاقتصادية لزمن السِّلم ستكون أصعبَ بكثيرٍ منها في زمنِ الحرب[15]. فهناك تنافسٌ على الاستثمار في هذه البقعة الجغرافية”، إذ إنّ اقتصاد المعرفة هناك متجدّدُ واستثنائيٌّ، فهو قادرٌ على تصدير معرفةٍ غيرِ تنافسيةٍ، فتجدُ إمّا شركاتٍ كبيرةً تشتري شركاتٍ تكنولوجيةً صهيونيّةً، وتجعلُها جزءاً من الشركة الأمّ، أو أنّ شركاتٍ عملاقةً تستثمرُ في “إسرائيل” ويكون لها ثاني أهمّ فرعٍ هناك، أو كلاهما معاً.

ما يوثّق ذلك، حالة المسؤول في مايكروسوفت “ستيف بالمر” وهو مستثمرٌ أمريكيٌّ شهيرٌ ويملكُ عدداً كبيراً من الشركات في أمريكا، وصَفَ شركة مايكروسوفت بأنّها “شركةٌ إسرائيليةٌ بنفس مقدار كونها شركةٌ أمريكيةٌ، وذلك بسبب حجم ودور الفِرق الصهيونية فيها. إذ إنّ حوالي 6.1% من شركات مايكروسوفت هي “إسرائيلية”.

أمّا “ارن بافيت” وهو من المُستثمِرين الأكثر احتراماً وتوقيراً في أمريكا، نقَضَ سجلّه الاستثماريَّ الداعي للابتعاد عن المُخاطرة بشراء أيّةِ شركةٍ أجنبيةٍ خارج الولايات المتحدة بعد قيامِه بشراء شركة (ISCAR) لإنتاج الآلات في “إسرائيل” بحوالي 4 مليارات دولار عام 2013. وعلّق على ذلك بأنّه من غير الممكن بالنسبة لشركات التكنولوجيا الرائدة تجاهُلُ “إسرائيل” علماُ أنّ معظمها لم يفعل؛ فنصفُ شركات التكنولوجيا تقريباً، التي تحتلُّ القمة، اشترت شركاتٍ ناشئةً أو افتتحت مراكزَ للبحث والتطوير في “إسرائيل”، مثلاً Cisco بمُفردها استحوذت على 9 شركاتٍ صهيونيةٍ، وتحاولُ شراء المزيد، فمُعظم الشركات التي تتسابقُ على التنافسية تأتي إلى “إسرائيل” لتستفيد من الابتكارية التي تمكّنُها من المنافسة.

وقال “غاري شاينبرغ” نائبُ مديرُ شركة (British Telecoms) لشؤونِ التكنولوجيا والابتكار: “تأتي الأفكارُ الابتكاريةُ الأشدُّ حداثةً الآن، على نقيض الأفكار المُعادُ إنتاجُها أو تلك الأفكار القديمة التي يُعادُ تغليفُها في صناديقَ جديدةٍ، من “إسرائيل”، وذلك لم يتباطأ أثناءَ تراجُعِ الاقتصاد العالميِّ”. وعلى الرغم من الانتشار الحاليِّ لقصّة التكنولوجيا الصهيونية، يبقى أولئك الذين يسمعوها للمرة الأولى مذهولين كما قالت نائبة مديرة شركة (NBC) للأخبار، عندما تمّ إرسالها لتستكشف شركات الإعلام الرقمية الصهيونية، لماذا يحدُث هذا في “إسرائيل”؟ لم أرَ في حياتي قطُّ مثل هذه الفوضى وكلَّ هذه الابتكارات معاً في مكانٍ صغيرٍ كهذا. وبناءً على قول بول سميث، النائب الأول لمدير شركة (philips medical)، رأيتُ خلال يومينِ في “إسرائيل” فُرَصاً أكثر ممّا رأيتُه خلال عامٍ في بقية العالم”. أما بيل غيتس يرى: أن الإبتكار الذي يجري في هذه البقعة الجغرافية حاسمٌ لمستقبل أعمال التكنولوجيا[16]. فشركاتٌ كثيرةٌ تعملُ هناك وتُشتَرى هناك على سبيل المثال لا الحصر:

كلٌّ من شركات موتورولا وإنتل ومايكروسفت لحين عام 1998 شكّلت ما قيمته 1.5 بليون دولار من أسهم شركات البرمجة  الصهيونية، علماً أنّ قيمة استثمارات أمريكا في التكنولوجيا الصهيونية تفوقُ ما في المملكة المتحدة أو آسيا مُجتمعةً وشرق أوروبا كذلك[17]، ويُعزى هذا إلى أهمية التكنولوجيا وتطوّرها في صراع الكيان الصهيوني مع محيطِه.

ومن بين الشركات التكنولوجية الأمريكية التي تعمل في “إسرائيل” مثلًا شركتي (GOOGLE، ENTEL) حيث إنّ استثمارات شركة إنتل المُتخصّصة في مجال الشرائح الإلكترونية وحدَها لها أربعة أفرعٍ في “إسرائيل” تصلُ إلى 20 مليار دولار، وتنوي توسيع مقرّها في كريات جات بـ4.5 مليارات دولار، وتسيطر هذه الشركة على 8% من الصادرات التكنولوجية الصهيونية[18].  وقد اشترت إنتل مؤخّراً شركة (Mobil Eye) الصهيونية المتخصّصة في أنظمةٍ مُضادّةٍ للتصادم والمساعدة في قيادة السيارات بأكثر من 15 مليار دولار. وقدّرت إنتل أنّ جميعَ نظُم البيانات والخدمات في هذا السوق ستمثّلُ سوقاً يتجاوز 70 مليار دولارٍ أميركيٍّ بحلول عام 2030 [19].

ورُبّما يتعلّقُ ذلك الجزء باستراتيجية “إسرائيل” بعيدة المدى والتي رصدت تطوُّر قطاع التكنولوجيا حتّى العام 2028، وأوصت بدعم العلاقة بين القطاعات المدنية والجامعات والمؤسسات المدنية بالعسكرية مع التأكيد على ضرورة وجود خاصّيةِ تمنحُ الكيان مقدّراتٍ وطنيةٍ في سبيل الحفاظ على قدرتها على التنافس الخارجي[20]. وكذلك أوصت بالحفاظ والعمل على زيادة مُعدّل الاستثمارات الأجنبية بحيثُ يتراوح مقداره في داخل “إسرائيل” ما بين 19% – 31%[21]. وذلك بعد أن تراجع الإنفاقُ الحكوميُّ على البحث العلميِّ والتطوُّر التكنولوجيِّ في إسرائيل نسبةً إلى بقية الدول الغربية فهي الأقل إنفاقاً في هذا المجال، والذي يعادل 14%، إلا أنّ هذه النسبة تبدو مُعوّضة من خلال مساهمة الشركات الأجنبية من مجمل الإنفاق على البحث في “إسرائيل” والبالغ 66% من أجل تطوير قدراتها التنافسية في مجال المعرفة والابتكار [22].

كما أنّ مُعدّل تدفُّق الاستثمار الأجنبيِّ المباشر في القطاع التكنولوجي في “إسرائيل” يفوقُ بحوالي 30 ضعفاً نظائره من الدول الأوروبية، بينما وصل مُعدّلُ الاستثمارِ المحليِّ المدنيِّ في القطاع التكنولوجي إلى 4.5% من الناتج المحليِّ الإجماليِّ وهو أعلى مُعدّلٍ للاستثمار المدني في العالم لاسيّما إذا ما ذكرنا أنّ مُعدّل الاستثمار المدنيِّ في القطاع التكنولوجيِّ لا يتعدّى ما نسبتُه 3.2 % من الناتج المحلي الإجمالي في اليابان، و2.7% في الولايات المتحدة الأمريكية[23].

الدورُ المِحوريُّ للجيش في إثراء ورفْد صناعة التكنولوجيا والمعلومات المدنية

يُعدُّ الجيش الإسرائيلي واحداً من المصادر الأولية لرأس المال البشريِّ المُبتكِر في مجال التكنولوجيا والمعلومات، والذي يتعاونُ مع المؤسّسات العلمية والشركات المدنية بذلك الخصوص، وله دورٌ مِحوريٌّ في صعود تلك الصناعة، وقد نجح في تقليص الفجوة الرقمية بين السكان وتوسَّع في تطوير المحتوى الرقميِّ المحليِّ ليصل للعالمي [24].

وترصُدُ الباحثة الصهيونية عنات مطر، الأكاديمية في جامعة تل أبيب، تلك العلاقة بين المؤسّسة العسكرية ومراكز الأبحاث والجامعات. على سبيل المثال، وجدت أن وزارة الأمن تُموّل 55 بحثاً من الأبحاث التي تُجرى في جامعة تل أبيب.  وأن هناك تعاوناً في هذه المجال أيضاً مع وكالة البحث الأمنيِّ المُتطوّر في وزارة الدفاع الأمريكية، والتي تُموّلُ أيضاً تسعة أبحاثٍ أخرى، من بينها بحث “المواد المُتفجّرة الجديدة” في كلّية الكيمياء العُضوية، وجهاز البصريات الكهربائية المُضادِّ للصواريخ الذي يتمُّ تطويرُه في كلية الهندسة، وطُرُق التشفير التي يجري بحثُها في كلية علوم الحاسوب، كما أنّ العلاقة تبادليةٌ أحياناً؛ إذ تقومُ جامعة تل أبيب كغيرها من الجامعات بتطوير خُططٍ تعليميةٍ مُعَدّةٍ لخدمة عناصر الأجهزة الأمنية [25].

ويقولُ البروفيسور أبراهام كاتسير [26]: “أنّ هذه العلاقة التبادلية هي أحد الأمور التي تُساعد “إسرائيل”، وحقيقة أنّ كلّ واحدٍ منّا هو مواطنٌ وعاملٌ في مجالاتٍ أخرى. مثلاً، أنا أكاديميٌّ أعملُ في الجامعة، كنتُ في الجيش، وعملتُ في شركة رفائيل للصناعات العسكرية لعدّة سنواتٍ، كلُّ الأمور مُتّصلةٌ ببعضها، نحنُ نُساعِدُ بعضنا وهذا ما يُميّزنا؛ إذ كنتُ في أوروبا والولايات المتحدة، وهناك قطيعةٌ بين الورش العلمية والجيش، إنّهم يكرهون الجيش! أما هنا فالحال مختلفٌ، أعتقد أن هذا بفضل حقيقة أنّ أحدنا يساعدُ الآخر”[27]. 

فيما يتَقَبَّل قطاعُ الأعمالِ في “إسرائيل” دور خرّيجي الوحدات العسكرية التقنية بسهولةٍ لمعرفته بالطابع المُمَيِّز للجيش الإسرائيلي الذي يجعله مختلفاً عن أيّةِ مؤسّسةٍ عسكريةٍ في العالم، فالطالبُ الصهيونيُّ الذي يُنهي دراسته في المدارس العُليا يختلفُ عن نظيره في جميع دول العالم تقريباً؛ فهو لا يبحثُ عن الجامعة التي سيلتحقُ بها أو التخصُّص الجامعيَّ الذي سيرتادُه، وإنّما يبدأُ يفكّر بمزايا الوحدات العسكرية المُختلفة، والاستعداد للالتحاق بقوّات الاحتياط في الجيش لمدّة ثلاث سنواتٍ للشباب وسنتين للفتيات، ويبذُلُ المُجنّدُ قُصارى جُهدِه في مرحلة الاختبارات المبدئية ليتمّ اختيارُهُ في إحدى وحداتِ النخبة في الجيش: مثل (وحدة المغاوير الانتقائية Matkal لرئاسة الأركان، أو وحدةُ استخبارات النخبة 8200، ووحدة الحواسيب Mamram، وكذلك وحدة Talpiot التي تجمعُ بين التدريب التقنيِّ والاطّلاع على باقي عمليات وحدات المغاوير، وغيرها من الوحدات..) [28]

فبعض تلك الوحدات من أهم مصادر وحدة الابتكار والتكنولوجيا التي عادةً ما يتّسم اختيارُها للمجندين الجدد فيها بانتقائيةٍ شديدةٍ مُماثلةٍ لما تقوم به الجامعات العالمية مثل هارفارد وجورج تاون، وهو ما يُعزّز فُرصَ التحاقِهم بالشركات الكبرى بعد نهاية فترة خدمتهم العسكرية، حتى إذا لم يلتحق بعضُ الشبابِ بوحداتِ النخبة في الجيش، فإنّ مُجرّد امتلاك الخبرة العسكرية يُسهِمُ في تعزيز فُرصِهم لشغل وظائف في مختلف قطاعات الاقتصاد الصهيوني [29]. 

فوحدة الـ (Talpiot) وهي الأكثرُ انتقائيةً في الجيش، والتي يعني اسمُها قمّة الإنجاز في إشارةٍ إلى أبراج القلعة المذكورة في إحدى الآيات في أناشيد التلمود، وهي وحدةٌ تعملُ تحت ذارع البحث والتطوير الداخلي (Mafat) والتي تُماثل وكالة مشاريع أبحاث الدفاع المُتقدّمة في أمريكا [30]، فيما يصعدُ المُلتحِقين في (Talpiot) إلى مستوياتٍ مُختلفةٍ بعد خُضوعِهم إلى تدريبٍ مُكثّفٍ بعد كلِّ مستوىً؛ حيثُ يخضعون لأطول فترة تدريبٍ (واحدٍ وأربعين شهراً)، فيما يكون الحدُّ الأدنى لخدمتهم تسع سنوات، يخضعون خلالها كما زُملائهم من وحداتٍ مُشابهةٍ لميدان قتالٍ حقيقيٍّ، مثل ميدان التصدّي لهجمات السايبر، فهم يُجبِرون الجنود من مختلف التخصُّصاتِ العسكريةِ ،وخاصّةً العاملين في مجال التكنولوجيا، على إيجاد حلولٍ  مُتعدّدةٍ لمشاكل عسكريةٍ أو تقنيةٍ مُحدّدةٍ، كالاختراقات التي تتعرّضُ لها الشبكاتُ السلكية واللاسلكية من خلايا مُعاديةٍ (إرهابيةٍ بمُسمّاهم).

وفي تقريرٍ لشركة (McAfee) لمكافحة الفايروسات والاختراقات السبرانية، كان هدفُه دراسة درجة جاهزية ثلاثةٍ وعشرين دولةً في المجال السبراني، نالت فيه “إسرائيل” العلامة الأعلى؛ أربعة درجات ونصف من خمسة. فيما أظهر التقريرُ أنّ “إسرائيل” تتعرّضُ في كلّ دقيقةٍ إلى ألف هجومٍ سبراني[31]. وأثارَ هذا الرقمُ دهشة مُعِدِّي التقرير فيما يتعلّقُ بمنظومات الدفاع الصهيونيِّ، واعتبروا أن “إسرائيل” مُهيّأةٌ جيداً لمواجهة الهجمات السبرانية. كلُّ ذلك يجعل من خرّيج تلك الوحدات العسكرية وخاصّةً وحدة (Talpiot) مغنماً لأية شركة تكنولوجيا مدنية[32]. فحتى عام 2012، تخرّج من الوحدة حوالي 650 خريجاً، أصبح معظمًهم تقريباً من أكبر أكاديميي ومؤسِّسي شركاتٍ صهيونيةٍ تعتبر الأكثر نجاحاً. فالشركة العالمية لنظام رصد المكالمات (NICESystems) مثلاً، تأسّست من قِبل فريقٍ من خريجي (Talpiot)، واليوم تستخدمُها 85 شركةً من أصل 100 شركةٍ حسب تصنيف Forbes لأفضل الشركات في العالم.

وكذلك أسّسُوا شركة (Compugen) الرائدة في فكّ المُورّث البشري وتطوير الأدوية؛ حيث أنّ العديد من شركات التكنولوجيا الإسرائيلية التى يتمُّ تداوُلُها في بورصة ناسداك أُسِّست من قبل خرّيجينَ من تلك الوحدة أو المشابهة لها، أو كان لأحدهم أدوارٌ رئيسةٌ فيها [33].

ويُؤكّد يعقوب برغمان، محاضرٌ في كلية الإدارة الاقتصادية في الجامعة العبرية، بأنّه لا يُمكنُ الشكُّ في دور الجيش في تطوير التكنولوجيا والبحث العلميِّ والبحث الأمنيِّ في الجامعات، الجيشُ هو ما ميَّز وأعطى دفعةً كبيرةً لصناعة الهايتيك في “إسرائيل”، وليس الجامعات، إنّ الجيش هو الذي يُزوّدُ السوقَ الصهيونية بخبراتٍ في مجال التكنولوجيا وعنصرٍ بشريٍّ يمتلك تجاربَ علميةً، وهو ينتقدُ بذلك ادّعاء الجامعات بأنها المسؤولة عن التطوُّر العلميِّ الكبيرِ في مجال الهايتِك، حيثُ كان للبحث العلميَّ في الجامعات مساهمةٌ متواضعةٌ في الهايتك [34] مقارنةً بالجيش.

الجيش هو مدرسةٌ ممتازةٌ، كلُّ شخصٍ في الكيان الصهيونيّ مُلزمٌ بالالتحاق بالجيش، “إسرائيل” هي واحدةٌ من الدول القليلة في العالم التي تتّبعُ نظامَ التجنيد الإلزامي، وكون 75% من الذكور في سنّ 18 يخدمون في الجيش يُمكّنهم بطبيعة الحال من الانخراطِ لاحقاً في سوق العمل المدنيِّ بعد أن تنتهي مُدّة التحاقِهم بالجيش، وتكونُ بحوزتهم المعرفة التي اكتسبوها من  هناك أو من المنظومات التي تعاملوا معها آنذاك[35]. منظومة (SAIP) مثلاً، وهي عبارةٌ عن برنامجٍ يجمعُ البيانات ويُصنّفُها لتحديد المعلومات الكافية للتدخُّل؛ حيث يستخدم (SAIP) تقنياتٍ باستطاعتها تمييز الكلمات والجُمل والمعلومات التي قد تَهُمُّ ضبّاط المخابرات.

وتزدادُ شعبيةُ هذه الأصناف، من أدوات تحليلِ اللغة، بين أجهزة المُخابرات حول العالم كوسائلَ لتحديد الخطر القادم، وتزعُمُ هذه المنتجات أنّها “تفهمُ ما تقرأ” وفقاً لما يقوله بعض الخبراء؛ فعلى سبيل المثال، قد تظهرُ فقرةُ ما تحوي لائحةً من المواد الكيميائية غيرِ الضارّة للشخص العادي، لكن باستطاعة آلة تحليل اللغة التعرف على إذا ما كان شخصٌ ما يتكلّمُ عن تصنيع أداةٍ مُتفجّرةٍ. طبعاً، ينفي أيُّ مسؤولٍ صهيونيٍّ أو ممّن يعملون في هذا القطاع استخدامَهم تلك الوسائل عند سؤالهم عن ذلك، لكنّهم بعد انتهاء خدمتهم، يذهبونَ لسوق العمل ويستثمرون خبراتهم بذلك المجال [36].

وقد تطوّرت بعضُ الشركات الصهيونية، خصوصاً تلك التي امتلكت جذوراً أمنيةً، في عملها بقطاع التتبُّع وتحليل المعلومات الكبيرة والبيانات العملية والتي تعطي نتائجَ متقدّمةً وفرضياتٍ جديدةً تساعدُ على اتّخاذ قراراتٍ في الوقت المُناسب، وهذا ما لا تستطيعُ التكنولوجيا التقليدية إنتاجه؛ فمثلاً أعلنت شركة (Signals Group) التي تأسّست عام 2009، أنّها تستعدُّ لتوسيع إطار عملها في سويسرا ونيويورك، وذلك بعد سنواتٍ من تطبيق نفس أساليب التحليل في الاستخبارات الإسرائيلية لربط الإشارات الخافتة وبيانات الفهرسة، وذلك بعد أن طوّرت عملَها بشكلٍ كبيرٍ إثْرَ تعاملها مع خمسة آلاف شركةٍ كزبائنَ لهم، زوّدتهم بمعلوماتٍ تُساعدهم على أن يتّخذوا قراراتٍ حاسمةً في أعمالهم.

وقد أصبحت الشركةُ حسب قول الرئيس التنفيذي ومؤسِّس مجموعة (Signals Group): “تتحدّى تقنيّتُنا المنهجَ الاستشاريَّ التقليديَّ؛ إذ يحتاجُ التنفيذيون وصُنّاعُ القرار إلى مصادر جديدةٍ للأفكار التجارية لمواكبة الابتكار، والوصول إلى مجموعةٍ أكثر تنوّعاً وأدقّ من البيانات في الوقت الفعلي، وأن تكون ذات قيمةٍ ملموسةٍ مقارنةً بالاستثمار الكبير من قبل شركات التحليل الكبيرة في هذا الحقل الذى قارب على 30 مليار دولار. وقال أيضاً “إنّ مُنتَجهُم المُميّز، وهو “دليل الإشارات” الذي ينظّمُ البيانات غير المُركّبة والخارجية من مصادرَ متعدّدةٍ للمستهلكين، والذي يُقدّمُ الرؤى والتوصيات، سوف يُحدِثُ ثورةً في هذا المجال لسنواتٍ”[37]!

ولا يعني ذلك أنّنا سنشهدُ تطوراتٍ كبيرةً لشركاتٍ صهيونيةٍ في تحليل البيانات الكبيرة، ما يؤهّلُها لتزويد المعنيين بتوقُّعات السوق، أو توقُّعاتٍ سياسيةٍ تُساعِدُهم على اتّخاذ قراراتٍ سريعةٍ وحسب، بل هناك تطوراتٌ أخرى لها أصولٌ أمنيةٌ مثل ما يقوم به خريجو وحدات التتبُّع والرصد والدعم لوحدات مُلاحقة المقاومة الفلسطينية أو أيّ خصومٍ آخرين في أيِّ مكانٍ، إذ يتخرّجون ويُنشئون شركاتٍ تُواصِلُ العمل على نفس الموضوع لكن من زواياه الأخرى.

مثلاً؛ شركة (PayPal) وهي من أكبر شركات التسديد الإلكتروني عبر الإنترنت في العالم، والتي تُديرُ بدائل الشيكات وبطاقات الائتمان على الإنترنت،  فعندما احتاجت شركةً أمنيةً لحلّ أزمة سرقة الهوية الإلكترونية التى كانت تُكلّفها خسائرَ كبيرةً، استعانت بحسب توصيةٍ من شركة (Benchmark Capital) المتخصّصة بالاستثمار في شركاتٍ تأسّست حديثاً، بمساعدة شركة (علوم الاحتيال -Fraud Science) لـ “شافات شاكيد” الذي خدم في وحدة نخبة الاستخبارات 8200، وهي شركةٌ متمركزةٌ في “إسرائيل” ومنهجُ عملها ببساطةٍ حسب ما يقول “شاكيد”: “نحنُ نعلم أنّ  العالم مُقسّمٌ ما بين الأشخاص الخيّرين والأشرار، فإنّ الخدعة في سبيل مكافحة الاحتيال هي أن تُميِّز بين هؤلاء على الشبكة، وذلك عبر اصطيادِ “الإرهابيين”، حيثُ كانت وحدتُه في الجيش مسؤولةً عن المساعدة في القبض عليهم من خلال تتبُّع أنشطتهم على الإنترنت؛ فالأشخاصُ الخيّرين يتركون آثاراً على أنفسهم من خلال الإنترنت –مثل الأقدام الرقمية– لأنهم ليس لديهم ما يخفونه، أما الأشخاص الأشرار لا يتركون أثراً لأنهم يُحاوِلون إخفاءَ أنفسهم، وكلُّ ما علينا فعله هو البحثُ عن آثار الأقدام، فإن استطعتَ العثور عليهم فيُمكِنك تقليصُ الخطر إلى مُستوياتٍ مقبولةٍ! إنّ الأمرَ بتلك البساطة،  وهذا بخلاف الواقع، حيثُ نتتبّعُ آثار “الإرهابيِّ”، أما في حالة مُكافحة الشبكة؛ فالإرهابيُّ هو من ليسَ له أثرٌ، يقصدُ بصمةً إلكترونيةً، مثلاً عنوان بريد إلكتروني، أو رقم موبايل، أو حساباً على مواقع التواصل، أو صوراً شخصيةً … إلخ، فمن له أثرٌ قد يكون شخصاً جيداً!

وقد حقّقت شركة “شاكيد” نتائجَ مُذهلةً، أعلى بكثيرٍ من فريق (PayPal) الموجود في الشركة، وهم خمسون شخصاً من حَمَلة الدكتوراه في الهندسة، كانوا دائماً يُحاوِلون التقدُّم بخطوةٍ على المُحتالين، إذ إنّ شركة “شاكيد” حلّلت مائة ألف مُعاملةٍ ماليةٍ سبق لخُبراء الشركة تحليلها، وقد أبهرتهم وحلّت أمر تلك المعاملات فقط بثلاثة أيام رغم صغر حجمِها، فبعد أن قام الفريقُ بتدقيق النتائج التي تقدّمت بها شركة شاكيد وتطلّب الأمرُ منهم أسبوعاً كاملاً لمقارنة تلك النتائج، وكانت أفضل من أداء فريق الشركة بـ17% مقارنةً بنتائجهم. هذا النجاح جعل شركة (PayPal) تشتري شركة “شاكيد” بأكثر من 200 مليون دولار تقريباً وأصبحت جزءاً منها وأبقت على فِرعها في “إسرائيل”، ليبقى الفريق في ذلك الجو الداعي للابتكار وسط هذه الفوضى التكنولوجية [38].

وبهذا تنتشرُ المهاراتُ التي تمّ تطويرها لخرّيجي وحدات الجيش العاملة في قطاع التكنولوجيا والحروبُ الرقمية والتجسُّسِ خارج نطاق الجيش بشكلٍ مُتزايدٍ. فقد أصبحت تلك الوحدات مُغذّيةً لشركاتٍ ناشئةٍ كثيرةٍ داخل وخارج “إسرائيل”، وتُباعُ مُنتجاتهم أحياناً لغايات التجسُّس على الشعوب، هذا على الرغم من ادّعائِهم أنّ مُنتجاتها أساسيةً للحفاظ على الأمن! إلا أنّ دُعاة الخصوصية يُحذّرون من أن تلك المُنتجات تقوّض الحريات المدنية.

وأصدرت مجموعة المراقبة “الخصوصية الدولية”، تقريراً حول قطاع الرقابة الدولية. حدّدت فيه 27 شركة رقابةٍ صهيونيةٍ كان خريجو الوحدة (8200) إمّا مُؤسّسين أو شاغلي مناصب عُليا في هذه الشركات، وهو الرقم الأعلى حسب نصيب الفرد على مستوى العالم. ممّا يجدُرُ ذكرُه أنّ الولايات المتحدة تتصدّر دول العالم في عدد شركات الرقابة، بواقع 122 شركةً)[39].

ورُبّما يؤكّدُ ذلك ما أعلنه “إدوارد سنودن”، العميلُ السابقُ بوكالة الأمن القوميِّ الأمريكية، من فضيحة تنصُّت الولايات المُتّحدة الأمريكية على العالم في شهر حزيران 2013، مُوضّحاً أنّ الولايات المتحدة استخدمت كُبرى الشركات الأمريكية العاملة في مجال التكنولوجيا مثل(Microsoft, Google, Apple, Yahoo, Skype.. et)  للتنصُّت على بيانات مُستخدمي خدمات هذه الشركات والحصول عليها[40]. وكذلك فضَحَ التعاون والمساعدة التي قدَمتهما شركة ناروس، التي أسّسها خريجو وحدة (8200)، لكنّها الآن مملوكةٌ لبوينغ، مُتعهّد الدفاع الأمريكي.  كما قامت شركة (AT&T) على جمع حركة البيانات على الإنترنت ومليارات رسائل البريد الإلكتروني وتقديم تلك المعلومات إلى وكالة الأمن القومي، كلُّ ذلك أثار العالم ضدَّ الولايات المتحدة الأمريكية وسياستها وإدانتهم لاختراق الخصوصية[41].

في الواقع، ليس صُدفةً أن يحتلّ الكيان الصهيونيُّ اليوم مرتبةً متقدمةً من بين الدول الكبرى المُصدّرة للتكنولوجيا والمعلومات والأسلحة، هذا يعودُ إلى طبيعة النظام الذي يقومُ بالأساس على عسكرة المجتمع وإيلاء الموضوع العسكري أولويةً للبرمجة والتخطيط ووضع الاستراتيجيات.

ولك أن تتخيّلَ حجمَ الشركات الموجودة في “إسرائيل” أو تلك التي أصبحت مملوكةً لشركاتٍ عالميةٍ[42]، كم يُمكنُ أن توفّر من البيانات والتحليلات، وبالتالي تتوفُر الأخيرةُ بسهولةٍ لقطاع الأمن الصهيونيِّ، وهو ما يجعل منها بنكَ المعلومات الأول للكيان. فقد ادّعت المخابرات الصهيونية أنّها زوّدت فرنسا بمعلوماتٍ دقيقةٍ حول الهجمات التي تعرّضت لها باريس، ومعلوماتٌ أيضاً حول هجماتٍ مُحتَملةٍ.

في حين يرى علاء الترتير، وهو مديرُ البرامج في شبكة السياسات الفلسطينية، أنّ هذا “الاستعلاء الاستخباراتيّ” كان مَحطَّ احتفاء الصُّحفِ اليومية الصهيونية، اليمينية واليسارية. والقضية هنا، أنها ليست أمنيةً أو استخباراتيةً وحسْب، وإنّما، بالدرجة الأولى، “قضيةُ تسويقٍ” تُشبِهُ تسويق الشركات لعلاماتها التجارية من أجل وضع “إسرائيل” في موقعٍ أكثرَ تقدُّماً وقوّةً في قائمة الدول المُحارِبة لـ “الإرهاب” على المستوى العالمي، في عالمٍ تسودُهُ المعايير المقلوبة، فلا عَجَبَ في طرح هذه المُحاجَجة”[43].

وفي النهاية، يطمحُ الكيان الصهيونيُّ من خلال تلك التطورات أن تُتاح لها الفرصة كي تلعب دوراً أكبر من حجمه وموارده الجغرافية في السياسة الدولية، بصورةٍ قد تُغيّر من المفاهيم التقليدية لمُمارسة النفوذ في العلاقات الدولية، بحيثُ تلعبُ الدُّولُ “الأكثر تقدُّماً” الدور الرئيسي في العلاقات الدولية بدلاً من الدول “الأكبر”[44].

 

 

الهوامش 

[1]  مصطفي، مهند، 2014،  المؤسسة الأكاديمية الإسرائيلية، مدار المركز الفلسطيني للدراسات الاسرائيلية، ص177، انظر يعقوب برغمان 2009 “هل الجامعات تخدع الجمهور ”  ص16
[2]  جلعود، وليد، دور الحرب الإلكترونية في الصراع العربي الإسرائيلي، رسالة ماجستير، جامعة النجاح، فلسطين، ص 172
[3]  سينور، دان – ساول سينجر، 2009، START UP NATIONk The story of israels economic mieacle أمة الشركات الناشئة، ص8
[4] على ماذا يطلق hسم فلسطين، ص 64
[5]  الحارثي، فهد، 2009 ، المعرفة قوة .. والحرية أيضاً، مكتبة الملك فهد الوطنية، الرياض، ص471 – 473
[6]  أمة الشركات الناشئة، معجزة “إسرائيل العلمية”، هنا
[7]  سينور، دان – ساول سينجر، 2009، START UP NATIONk The story of israels economic mieacle أمة الشركات الناشئة، ص32
[8]  مؤسسة غرانت ثورنتون الدولية: هي واحدة من المنظمات العالمية المتخصصة في مجال الدراسات الإحصائية والاستشارية، وتساعد الشركات في تحسين قدرتها على النمو، وتقدم المشورة من خلال              مجموعة واسعة من الخيارات التي تقدمها للشركات في أكثر من 100 دولة حول العام.
[9]  وزارة الخارجية الاسرائيلية، 2016، إسرائيل قبل الولايات المتحدة في حقل الابتكارية عالمياً، هنا 
[10] دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية ، 2016، إسرائيل في أرقام، ص25
[11] حبيب محمد، 2018، تأثير الإصلاحات الضريبية الأمريكية على شركات التكنولوجيا العالية في إسرائيل، هنا

[12]  وزارة الخارجية الإسرائيلية، مرجع سابق  
[13]  Professor Klaus Schwab World Economic Forum Editor Professor Xavier Sala-i-Martín Columbia University Chief Advisor, The Global Competitiveness Report ، 2016–2017, Compare the item of the innovation in the report between p210 and 232
[14]  The Global Competitiveness Report ، 2016–2017،p24
[15]  الحارثي، فهد، 2009 ، المعرفة قوة .. والحرية أيضاً، مكتبة الملك فهد الوطنية، الرياض، ص473
[16]  سينور، دان – ساول سينجر، 2009، مرجع سابق، ترتيب الصفحات حسب الفقرات ص219، 37، 38، 218
[17]  الحارثي، فهد، 2009 ، المعرفة قوة .. والحرية أيضاً، مكتبة الملك فهد الوطنية، الرياض، ص473
[18]  حبيب محمد، 2018، تأثير الإصلاحات الضريبية الأمريكية على شركات التكنولوجيا العالية في “إسرائيل”، هنا 
[19]  THE TIMES OF ISRAEL’، , 2017 إنتل’ الأميركية تعلن شراء شركة ’موبيل اي’ الإسرائيلية لتكنولوجيا السيارات بأكثر من 15 مليار دولار,  هنا

[20]  فهمي، طارق، ، مجال العلوم الاستراتيجية والتكنولوجية، إستراتيجية إسرائيل 2028م.دراسة تحليلية، المركز العلمي المتخصص بدراسة الصراع والتسوية بين العرب واسرائيل، جامعة الزقازيق، مصر، ص323
لقوشة، رفعت، قراءة  من المنظور الاستراتيجي والبعد الاقتصادي ، ص90[41]
[22]   مصطفي، مهند، 2014،  المؤسسة الأكاديمية الإسرائيلية، مدار المركز الفلسطيني للدراسات الاسرائيلية، ص186
[23]  امة الشركات الناشئة، معجزة اسرائيل العلمية، هنا 
[24]  فهمي، طارق، مجال العلوم الاستراتيجية والتكنولوجية، إستراتيجية إسرائيل 2028م.دراسة تحليلية، المركز العلمي المتخصص بدراسة الصراع والتسوية بين العرب واسرائيل، جامعة الزقازيق، مصر، ص324
[25]   مصطفي، مهند، 2014،  المؤسسة الأكاديمية الإسرائيلية، مدار المركز الفلسطيني للدراسات الاسرائيلية، ص177، انظر يعقوب برغمان 2009 هل الجامعات تخدع الجمهور ذا ماركر  ص179

[26] حديث البروفسور أبراهام كاتسير أثناء ورشة علمية شهيرة “العلم والتكنولوجيا والأمن” والتي تدار من خلال برنامج دراسات الأمن في كلية  العلوم الاجتماعية، والتي تمولها وزارة الأمن، وشركة رفائيل و برعاية من إذاعة الجيش.
[27]   مصطفي، مهند، 2014،  المؤسسة الأكاديمية الإسرائيلية، مدار المركز الفلسطيني للدراسات الاسرائيلية، ص177، انظر يعقوب برغمان 2009 هل الجامعات تخدع الجمهور ذا ماركر  ص179
[28]  سينور، دان – ساول سينجر، 2009، START UP NATIONk The story of israels economic mieacle أمة الشركات الناشئة، ص108
[29]  أمة الشركات الناشئة، معجزة “إسرائيل” العلمية، هنا 
[30]  (the  Defense advanced research PROJECTS  Agency – DARRA
[31]  SDA SECURITY DEFENC AGEND, with the support of McAfee, Belgium ,2012,  Cyber-security: The vexed questions of global rules,  An Independent Report on Cyber-preparedness، هنا 
[32]  سينور، دان – ساول سينجر، 2009، مرجع سابق، ص111-113
[33]  سينور، دان – ساول سينجر، 2009، START UP NATIONk The story of israels economic mieacle أمة الشركات الناشئة، ص114
[34]  مصطفي، مهند، 2014،  المؤسسة الأكاديمية الإسرائيلية، مدار المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، ص177، انظر يعقوب برغمان 2009 هل الجامعات تخدع الجمهور ذا ماركر  ص16
[35]  الجزيرة، 2011، “إسرائيل” وصناعة العلم، هنا

[36]  Alex Kane,2016, How Israel Became a Hub for Surveillance Technology, هنا 
[37]  Gedalyah Reback، Israeli analytics startup Signals raises $10 million، هنا 
[38]  سينور، دان – ساول سينجر، 2009، مرجع سابق ، ص 49- 46- 48-49 -50
[39]  Alex Kane,2016, How Israel Became a Hub for Surveillance Technology, مرجع سابق  
[40]  مركز المستقبل، شبكات التواصل الاجتماعي بين الاقتناع والتظليل، هنا  
[41]  Alex Kane,2016, How Israel Became a Hub for Surveillance Technology, مرجع سابق
[42]  شركات كثيرة كبيرة اشترت شركاتٍ “إسرائيليةً” وأبقت على طواقمها الأصلية، بمعنى أنها اشترتها بكافة طواقمها التشغيلية الإسرائيلية
[43]  الترتير، علاء، 2015، “إسرائيل” وداعش وهجمات باريس، نقطة وأول السطر، تاريخ الوصول للموقع الالكتروني 24/4/2016، هنا
[44]  خليفة، إيهاب، ثورةٌ قادمةٌ: ابتكارات تكنولوجية تغير نمط حياة الأفراد وأوضاع الدول، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، الإمارات، ص3