في تحقيقٍ نُشر في “هآرتس” الشهر الماضي، نتعرّف على “الشبيبة العربيّة الطلائعيّة”، التابعة لمنظمة الشبيبة الصهيونيّة “هشومير هتسعير”. يعيد التحقيق سرد وقائع التجربة على لسان من عايشها، ويبيّن موقعها من الاستيطان الطلائعيّ والمشروع الصهيونيّ، ترجمه لنا مهند عناتي.

ترجمة: مهند عناتي

توطئة

في تحقيقٍ نُشر في صحيفة “هآرتس” الشهر الماضي، تحت عنوان “مئات الشبّان العرب غادروا قراهم وانتقلوا إلى”الكيبوتسات”.. يبدو ذلك اليوم وكأنّه خرافة”، نتعرّف على ما أُسميت بـ”الشبيبة العربيّة الطلائعيّة”، التابعة لمنظمة الشبيبة الصهيونيّة “هشومير هتسعير” (الحارس الشاب)، في أوج الحكم العسكري. يكشف التحقيق عن الأسباب الكامنة وراء تجنيد هذه المجموعة العربية، كما يُعيد سرد وقائع التجربة على لسان من عايشها، وكيفية استغلال المنظمة الاستيطانيّة لحاجة الشبّان العرب للعمل مقابل استيعابهم في “الكيبوتسات”، فضلاً عن موقعهم من الاستيطان الطلائعيّ والمشروع الصهيونيّ، والذي لم يرَ بالأرض إلّا وطناً لليهود.

نُشر التقرير بالعبريّة (מאות נערים ערבים עזבו את כפריהם ועברו לקיבוצים. היום זה נשמע כמו אגדה)، بتاريخ 25 تمّوز 2019.

 

****

عندما تُوفّي خالد، وكان عمره آنذاك قد تجاوز السبعين عاماً، أرادت أسرته دفنه حسب الطريقة الإسلامية التقليدية وفي قريته، حيث توقّع أقاربه أن يكون في ذلك الدفن شكلٌ من العودة الرمزية للقرية لشخصٍ عاش معظم حياته بعيداً عن المكان الذي وُلد فيه. في حين أصرّ أبناؤه علي دفنه إلى جانب والدتهم “نعومي” التي دُفِنت في “الكيبوتس” الذي انضمت له في الشمال؛ إذ يقول ابن خالد إنها كانت وصية أبيه، الذي نشأ وترعرع وتشكّلت شخصيته هو الآخر في ذات “الكيبوتس”. 

لا بدّ هنا من السؤال حول كيفية التقاء الشاب خالد بـ”نعومي”، البالغة من العمر 16 عاماً، مطلع الستينيّات في “الكيبوتس”، وبالأخصّ حول كيفية حدوث ذلك في أوج عصر الحكم العسكري؟

لقد كان خالد مثله مثل مئات الشبّان العرب الذين التحقوا بـ”الكيبوتس” في إطار ما كانت تُسمّى “الشبيبة العربيّة الطلائعيّة”، وهي حركةٌ تبدو اليوم وكأنّها قصّةٌ خرافيةٌ أسطوريةٌ؛ حيث تمّت في حينها دعوة شبّانٍ عربٍ من الجليل والمثلث للعيش في “كيبوتسات”! لقد ترك هؤلاء الشباب منازلهم ونقلوا حياتهم من القرية إلى “الكيبوتس” وعاشوا فيه لسنواتٍ عديدةٍ، حيث درسوا وعملوا وأكلوا وناموا، كلّ ذلك كان إلى جانب سكان “الكيبوتسات” اليهود.

كان ذلك في بعض الأحيان بمُباركةٍ وتشجيعٍ من أسرهم، وأحياناً أخرى كان نتيجةً للتمرُّد على الأهل والمجتمع الذي جاؤوا منه. وقد رافق ذلك تعلّم اللغة العبرية، كما شاركوا برقصة “هوريه”، وحملوا العلم “الإسرائيليّ” وغنّوا النشيد الوطني اليهودي “هاتيكفا התקוה”، وفي أحيانٍ كثيرةٍ حصلوا على أسماءٍ عبريةٍ. بعضهم كانت له علاقةٌ زوجيةٌ بالشابات اليهوديات وحازوا طموحاً شديداً للاندماج في مجتمع “الكيبوتس”. إلا إنّ آخرين سعوا إلى تعلّم أساليب الزراعة في “الكيبوتس”؛ بهدف العودة إلى قراهم وتحسين ظروف الحياة هناك، حتى إن جزءاً منهم حاول تحقيق الحلم بإنشاء “كيبوتسٍ” عربيٍّ!

يجلس محمود يونس في منزله الجميل في عرعرة بالقرب من صورةٍ معبّرةٍ لحمامة سلام، سارحاً في ذكرياته؛ إذ شكّل اليهود الذين عرفهم قبل ذهابه إلى “الكيبوتس” جزءاً من حالة القمع الوحشي لسياسة الحكم العسكري الذي كان سائداً في ذلك الحين. أما في “الكيبوتس”، يقول محمود، “بدأنا نجلس نحن واليهود بشكلٍ “متكافئٍ” حيث تناولنا معهم الطعام في غرفةٍ واحدةٍ وعملنا سويةً، وقد وجدنا هناك “إسرائيل” مختلفةً”!

لقد كانت هذه الحركة أو المبادرة جزءاً من جهود حركة الشبيبة “هشومير هتسعير” (השומר הצעיר)؛ أيّ الحارس الشاب، والتي انطلقت ما بين عامي 1951-1966. مثّل عام 1960 بشكلٍ خاصٍّ أوج نشاطات الحركة؛ حيث كان هنالك ما يزيد عن 1800 عضوٍ عربيٍّ، بالإضافة إلى 45 مركزاً للفعاليات في القرى، حيث ارتدى كلّ عضوٍ منهم قميصاً خاصّاً أزرق اللون، وحطّت الكوفية والعقال على كلّ رأسٍ، بالإضافة إلى نيشانٍ خاصٍّ بالحركة، كان صورةً لعربيٍّ في حركة الشبيبة واقفاً تحت قوسٍ. في حين كان شعار الحركة “قوي وموالي” بدلاً من الشعار الأصليّ الذي كان “قوي وشجاع”! كما شارك الأعضاء بالرحلات، وبمسيرة الأول من أيّار، فضلاً عن مشاركتهم بالرقص يوم الاستقلال!

مجموعةٌ همجيةٌ وقذرة

لقد كانت هذه الفكرة الغريبة، والتي يبدو أنها أُزيلت اليوم من صحف التاريخ، نتيجةً لفكرةٍ ما نبتت لدى مجموعةٍ صغيرةٍ من أعضاء حركة “هشومير هتسعير” قبل عام 1948، حيث آمن هؤلاء الأقلية ببساطةٍ بشعار “الصهيونية والاشتراكية ومحبة الشعوب”. كما أنهم اعتقدوا بإمكانية تحقيق هذا الشعار في حال تمّت دعوة الشباب العرب إلى “الكيبوتسات”، من بين هؤلاء الأشخاص كان مدرّب الشبيبة “أبراهام بن تسور” الذي هاجر من ألمانيا وهو ابن أربعة عشر، ثمّ تربّى في “الكيبوتسات”، وتعلّم العربية لوحده، بالإضافة إلى “أهرون (أهرونتشيك) كوهين”، والذي كان مستشرقاً ويسارياً متطرّفاً في “الحارس الشاب”.

حتّى بعد الحرب، لم يتم التخلّي عن الفكرة؛ حيث وقعت المحاولة الأولى في “كيبوتس شاعر هعيمكيم”. ففي عام 1950، وصل يونس ذو التسعة عشر عاماً إلى “الكيبوتس”، وقد كان شاباً مُتّقداً من عرعرة، مُرتدياً سروالاً كاكيّ اللون وُضعت أطرافه السفلى داخل الجوارب. أُثيرت مخاوفُ أمنيةٌ في “الكيبوتس” فور وصوله، لكن أقتع “بن تسور” و”كوهين” الأعضاء الآخرين بانضمام يونس بالقول: “لقد تعلّمنا التعايش والإخاء، والآن بعد أن جاء وقت الاختبار، سنقول لا؟! ستكون خديعة”. وافق “الكيبوتس” على تجاهل قيود الحكم العسكريّ، الذي كان يمنع العرب من مغادرة القرية دون تصريحٍ، وتمّ الاتفاق على استقبال الشباب للتدريب لفترةٍ تجريبيةٍ. وصل الستة الأوائل في تشرين الثاني/نوفمبر 1951، وبعد ذلك بوقتٍ قصيرٍ، بلغ عدد المجموعة 15 شاباً، بينهم شابّتان.

نُشِر مقالٌ في مجلة “هعولام هزيه” (העולם הזה)؛ أيّ هذا العالم، في شهر آذار/مارس 1952، بعنوان “التجربة الثورية”، إلى جانب صورٍ للعرب وهم يرتدون قبّعات “تمبل”، ويقول الكاتب فيه: “لقد كان لقاءً لعالميْن غريبيْن، بينما توقّع عددٌ قليلٌ من الناس في الكيبوتس اللقاء بمجموعةٍ همجيةٍ وقذرةٍ، انتظر الرجال العرب لقاءهم مع اليهود بقلقٍ”. كما يصف ما تعلّمه أبناء الفلاحين في “الكيبوتس”، كقيادة الجرار وماكينة الحصاد، بالإضافة إلى العمل بالمزارع وخلايا النحل.

قرّرت “هشومير هتسعير” فيما بعد مأسسة هذه الحركة؛ حيث تمّ ذلك خلال مؤتمرٍ احتفاليٍّ في عكا عام 1954، وقد تمّت الموافقة على تبنّي نظامٍ داخليٍّ مكوّنٍ من 14 بنداً. كما ألقى كُلٌ من “يعقوب حزان”، نيابةً عن حزب “مابام”، والشاعر “إبراهيم شلونسكي” كلمات التهنئة، وتمّ إعداد لافتةٍ خاصّةٍ بالاحتفال، والتي لم تضمّ العلم الأحمر من بين ما ضمّت وحسب، بل تضمّنت أيضاً علم الكيان الصهيونيّ. كما غنت جوقة “كفر ياسيف” شعر الحصاد، ورقص ممثلو قرية الجديدة مع ممثلين من “كيبوتس ماسريك” وصلةً من الرقصات اليهودية والعربية، وتمّ اختيار “لطيف دوري” ليتحدّث باسم شباب العبّارات. (عبّارة أو (מעברה) بالعبريّة هي منطقة بناءٍ مؤقّتٍ، استُخدمت لإيواء المهاجرين اليهود بشكلٍ مؤقتٍ)

“دوري” هذا الذي هاجر من العراق عام 1951 أنشأ فيما بعد مجموعةً لـ “الحارس الشاب” في عبّارةٍ في قرية خيرية المهجّرة [1]  كما كان واحداً من اليهود القلائل في الحركة الذين تحدّثوا العربية بطلاقةٍ، ورافق الشباب العربيّ لسنواتٍ عديدةٍ فيما بعد. وفي مقابلةٍ أجراها عام 2008 في مكتب حزب “ميرتس”، والذي أصبح بيته السياسيّ فيما بعد، يقول “دوري”: “إن ذلك كان عالماً جديداً بالنسبة للشباب العربيّ، فمن الانتقال من المنزل المُتهالك أو من الخيمة، إلى “الكيبوتس” وكلّ ما رافق ذلك حتى في منتصف سنوات الخمسينيّات؛ أدرك الأولاد أنّ “الكيبوتس” كان يقدّم لهم شيئاً رائعاً، وقد فتح لهم آفاقاً جديدةً، وزوّدهم بالتدريب المهنيّ، وكلّ ذلك بالمجّان”.

بدأت الحركة بتطلّعاتٍ كبيرةٍ، ولكن ومنذ البداية، لم يكن لدى المبادرين لهذه الحركة إجابةٌ واضحةٌ حول كيفية وصول العرب إلى التطبيق العمليّ للمبادئ الأيديولوجية التي تمت مشاركتهم بها. وهل كان من المفترض أن يعودوا إلى تنمية قراهم زراعياً، أو أن يعملوا على إنشاء “كيبوتسات” خاصّةٍ بهم، أو هل سيصبحون أعضاء في مجتمع “الكيبوتس”؟ كلّ ذلك كان في أوج السنوات التي واصلت فيها منظمة “هشومير هتسعير” تأسيس “الكيبوتسات” وتوسيعها على أنقاض القرى الفلسطينية وأراضيها المُصادرة، وفي الوقت ذاته كانت هذه الحركة تمثّل رأس الحربة لحركات الاستيطان الصهيونية.

بشكلٍ عامٍّ، فإنّ القصّة الشاملة لـ”الشبيبة العربيّة الطلائعيّة” كانت ولا زالت مليئةً بالتناقضات المؤلمة حتى يومنا هذا. في هذا المقال سيتمّ التطرُّق لهذا الموضوع عبر سلسلةٍ من المقابلات قمتُ بها على مدار العقد الماضي، مات الكثير من الذين أجريتُ معهم المقابلات، وأنْست الأعمار الكبيرة لبعضهم الآخر تلك الأحداث. ومع ذلك، عُقِد لقاءٌ مؤخّراً، ضمّ بعضاً من قدامى الشخصيات الفاعلة في هذا المجال وذلك بمناسبة عرض فيلمٍ وثائقيٍّ قصيرٍ، “أنا كنتُ تسفي” من إخراج هؤلاء الكتاب و”ديفيد أوفك”. يُعيد الفيلم صياغة مرحلة الشباب في حياة أحمد مصاروة من عرعرة، والذي كان يبلغ من العمر 14 عاماً حين تمّ تجنيده للانخراط في مجموعة الشبيبة التابعة لـ”كيبوتس يكوم”. سيتم عرض الفيلم في دور السينما ابتداءً من أيلول/سبتمبر كجزءٍ من مشروعٍ أطلقته مدرسة “سام شبيغل” للأفلام بعنوان “صوت أحمد”.

“يجب فهم هذه القصة في أجواء تلك الأيام؛ إذ يصعب في سياقنا الحالي فهْمُ ما حدث أيّامذاك”، هذا ما يقوله أحمد مصاروة، مكملاً: “عمّت الفوضى في القرية، ودخلت في شراك مجاعةٍ إثر مصادرة الأراضي الزراعية، كما منع الحكمُ العسكريّ الفلاحين من البحث عن أيّ سُبُلٍ للعيش خارج القرية، وقد تلقّى والدايّ عرضاً لم يستطيعا رفضه بسهولةٍ. لقد خرجتُ من العالم المحافظ والديني والقروي إلى العالم الخفي، لم أكن أعرف من اليهود في حينها إلا رجالات الحكم العسكري والشرطة فقط، لكنّي أدركتُ أن الوضع لن يكون أسوأ ممّا كنتُ عليه سابقاً”. ودّع مصاروة والديه واستقلّ حافلةً إلى “كيبوتس يكوم”. وهناك، حصل هو وأصدقاؤه على أسماءٍ جديدةٍ: تسفي وإسحاق وعاموس وناتان.

على عكس قصّة مصاروة، عارض الأهالي في كثيرٍ من الحالات، وبشدةٍ، رحيل الصبيان؛ “إذ رأى الآباء والأمّهات والشيوخ في هذا الرحيل علامةً على التعامل المتساهل مع العدوّ المحتل”، هذا ما كُتب في مقالةٍ في مجلة “هذا العالم” (העולם הזה) في العام 1952.

في الواقع، كان المرشدون اليهود على درايةٍ بهذا الصراع. كان “أبراهام بن تسور” الذي توفي عام 2013، يبلغ من العمر 85 عاماً في وقت مقابلته، وكان حبيس غرفته في “كيبوتس ليهافوت هاباشان”. لقد ضعُفت ذاكرته، لكنّ أرشيفه كان مرتباً جيّداً، بما في ذلك قصاصات الصحف الصفراء وملفات المراسلات، والأهمّ من ذلك احتوى الأرشيف “يوميات النواة” التي كتبها، والتي تصف أحداث التدريب الذي خضع له أعضاء النواة الأولى. وبمساعدة نظّارات القراءة الكبيرة، قرأ “بن تسور” بعضاً مّما كتبه في مذكراته عن متدرّبه الأول محمود يونس الذي جاء، على عكس الآخرين، من عائلةٍ غنيةٍ تملك أرضاً:

“5 نيسان/أبريل 1952
أمس، عاد محمود من زيارةٍ إلى قريته، وخلال زيارته، طالبه جميع أفراد عائلته بمغادرة “الكيبوتس” والعودة إلى القرية، قائلين له: “أنت تملك أرضاً، فلماذا تمارس مهنةً يدويةً أخرى؟ لقد حان الوقت لتتزوّج وتدير مزرعتك الخاصّة بك”.

لقد ذقتُ السمك المالح وكدْتُ أن أموت

لقد كانت الطريقة الجديدة مليئةً بحالاتٍ عديدةٍ من سوء الفهم والتي كانت أحياناً مُسلّيةً. “اليوم، جاء إلينا صبيٌ جديدٌ اسمه عطالله من قرية الجش”، يتابع “بن تسور” القراءة من مذكراته: “لقد ترك الرجل انطباعاً سيئاً جداً في البداية، خاصةً فيما يتعلّق بثلاثة أمور: أولها، أنّه لم يكُن يتكلم دون النظر إلى محدِّثه. ثانياً: كان لحوحاً جداً، لم يوافق “بن تسور” على قراءة السبب الثالث قائلاً إنّ ذلك “قد يسيء إليه كثيراً”!

عطاالله منصور، وهو مسيحيٌ كاثوليكيٌّ يبلغ من العمر 85 عاماً ويعيش بمفرده في منزله في الناصرة، لديه تفسيرٌ لهذا الانطباع السيّء؛ فعندما وصل إلى “كيبوتس شاعر هعامكيم”، كان تعلّم اللغة العبريّة هدفه الرئيسي. وقال إنّه لتحقيق هذه الغاية، كان يتحدث في كل مناسبةٍ مع أعضاء “الكيبوتس” كثيراً، طالباً منهم إعطاءه معاني الكلمات التي لا يعرفها. أما عن “بن تسور”، فقال عطالله إنّه: “كان خجولاً، لكنّه أراد التحدّث بالعربية وبَذَل مجهوداً كبيراً في نطق الحروف بشكلٍ صحيحٍ. كنا نضحك عليه ونُثير إزعاجه”.

لم تكُن هناك مدرسةٌ ثانويةٌ في قرية الجش، وكان منصور، الذي كان في الرابعة عشرة من عمره خلال دراسته في لبنان، مضطرّاً للعودة إلى قريته بعد الحرب؛ كي لا يصبح في عِداد اللاجئين خارج البلاد.

يقول منصور مبتسماً: “قلتُ لنفسي، إذا علقنا بالفعل مع هذا “باروخ”، فسنتدفّق.. [2] كنتُ في ذلك الوقت شخصاً بعيونٍ مفتوحةٍ. اعتقدتُ أنّها طريقةٌ مثاليّةٌ لحياة المساواة والمشاركة”. بعد دعوته إلى الدورة التدريبيّة الأولى في “كيبوتس شاعر هعمكيم”، ترك وظيفته كمستخرج مسامير من الخشب المُعدّ للبناء، ولكن تمّ استيعابه في “الكيبوتس” للعمل في البناء أيضاً، ويكمل: “يوجد في “الكيبوتس” حظيرةٌ قمتُ أنا ببنائِها. في نهاية كلّ يوم عملٍ، كنتُ أذهب إلى غرفة القراءة وأتعلّم اللغة العبريّة. شعرتُ أنّ الاستمرار سيغدو أسهل بكثيرٍ إن تعلّمتُ اللغة”.

كان منصور على حقٍّ؛ إذ كان أول صحفيٍّ عربيٍّ يكتب بالعبريّة، في البداية كتب بمجلة “هعولام هزيه” (העולם הזה)، ثمّ عمل لمدّة أربعة عقودٍ في صحيفة “هآرتس”. جدران غرفته اليوم مليئةٌ بالكتب والمجلات، معظمها باللغة العبريّة. وبعض الكتب التي كتبها بنفسه، بما في ذلك الرواية الأولى التي كُتبت بالعبريّة على يد عربيٍّ في “إسرائيل”. كما يتناول كتابه “في ضوءٍ جديدٍ” لعام 1966 شاباً عربياً يقع في حبّ يهوديّةٍ تعيش في “كيبوتس”، ولا يُسمح له بالبقاء فيه إلا إذا انتحل شخصية يهوديٍّ.

يروي منصور كيف تعلّم وأصدقاؤه رقصة “هوريه”: [3] “أحضروا فتياتٍ يهوديّاتٍ من المؤسّسة التعليمية، وقُمنَ بتعليمنا الرقص، ونحن علّمنا اليهود الدبكة”. ويروي أيضاً استمتاعهم بالوفرة النسبيّة للطعام في “الكيبوتس”، لكنهم اضطُروا للتعوّد على العصيدة كطعامٍ للإفطار، كما اعتادوا تناول السمك حسب الطريقة الألمانية “غفيلتيفيش” وغيرها من الأطعمة الغريبة. ويردف منصور: “دخل مسمارٌ في رجلي ذات يومٍ، أخذوني إلى العيادة، وقالوا إنه عليّ الأكل جيداً، وأن آكل سمكةً مالحةً كلّ يوم! ذقتُ سمكةً مالحةً ذات يومٍ وأوشكتُ أن يُغمى علي، لم أستطِع تحمّل الرائحة”.

عمل الأعضاء 45 ساعةً في الأسبوع، وتعلّموا في المساء بعد العمل العبريّة والصهيونيّة والاشتراكيّة، “ما الفرق بين الكولوخوز والكيبوتس؟ وما هو حلم الكيبوتس، وجحيم الكولوخوز”. [4] كانت هناك أيضاً دورةٌ قصيرةٌ في الكهرباء. أعدّ أحد الأعضاء من عرعرة محاضرةً عن حياة “بوشكين”، وكتبت إحدى العضوات من الناصرة مقالاً عن مشاكل المرأة في القرية العربيّة. كما عمل منصور على تحرير كتيّب “كيرن أور- شعاع ضوءٍ”، وبادرت الحركة بنشر كتبٍ باللغة العربيّة؛ حيث تمّت طباعة حوالي 200 عنوانٍ.

يتذكر أحمد مصاروة: “في أحد الأيام، جاءت الشرطة العسكريّة إلى “الكيبوتس” وسألت: هل هناك عربٌ هنا؟ لقد اختبأتُ على التل، بين الثكنات الخاصّة بمجموعتي”. واجه أعضاء الكيبوتس رجال الشرطة العسكرية، ومنعوا دخولهم ورفضوا تسليم الشباب. “شاؤول يافيه”، الذي كان قائداً في البلماخ ومؤسّس “الكيبوتس”، قام بطرد الشرطة بالقوّة، ولم يشعر مصاروة بالراحة فحسب، بل بالانتساب الحقيقيّ أيضاً! وفي الصحف، كُتب عن طريقة دفاع أعضاء “كيبوتس يكوم” بشجاعةٍ عمّن يعيش في كنف وحماية “الكيبوتس”، والذين كانوا في الواقع متواجدين هناك بشكلٍ غير قانونيٍّ، خارج قراهم، طوال سنين تواجدهم هناك.

بعد مرور سنواتٍ على وجوده في “الكيبوتس”، أصبح مصاروة عامل بناءٍ في “تل أبيب”، واصل دراسته في ألمانيا لاحقاً وكان يمتلك شركةً للقرطاسية. في سنّ الأربعين، تزوّج وأصبح أباً لأربعة أولاد، وأصبح كذلك جَدّاً نشيطاً يرعى أحفاده الصغار. بعد حرب الأيام الستة، انضمّ إلى حركة “متسفين -البوصلة”، وكان نشيطاً في الدوائر اليهوديّة اليساريّة المختلفة، وتُحكى قصّته ضمن الحديث عن أسماء المشاهير المشهورين آنذاك (“في أيام الجمعة كنّا نلتقي في مقهى كسيت”). وحتى يومنا هذا، لا يزال ناشطاً سياسياً واجتماعياً.

أدّت الأيام الطلائعية تلك إلى قيام العديد من الأعضاء العرب بالاتجاه إلى العمل السياسي بعد عودتهم إلى قراهم. انضمّت الغالبية العظمى منهم إلى حزب “مابام”، وساعدت الحزب في تجنيد الأعضاء للتصويت له في الانتخابات، وكان من بين ناشطي الحركة مسؤولون كبارٌ في السلطات المحلّية العليا، واثنان من أعضاء الكنيست”. نايف – وهو اسمٌ مستعارٌ بناءً على طلب العائلة – البالغ من العمر 54 سنةً، والذي كان والده أوّل خريجي الإعداد الطلائعيّ الأوائل للشبيبة العربيّة، وكان أيضاً صديقاً لـ”جولدا مائير” في السنوات الأخيرة لحياتها، قال “قد زرتُها في المستشفى مع والدتي، وتبادلنا الهدايا، وعندما وُلدت لعائلتنا طفلةٌ صغيرةٌ، أرسلت “غولدا” لها قلادةً ذهبيّةً، ودعا والدها المتحمّس ابنته باسمها”. يقول أخوها اليوم: “كان ذلك غريباً، كان الأطفال يهينونها ويسخرون منها: هل أنتِ يهوديةٌ؟ لماذا اختاروا لكِ اسماً كهذا؟ نحن أيضاً كنا نُمطرها بالمهام، كنّا نقول لها ضاحكين: “جولدا” أحضري لنا ذلك الشيء، ونطلب منها أموراً كثيرةً، حتى قرّرتْ في أحد الأيّام أن ذلك يكفي، وطلبت منّا الاجتماع لنقاشٍ عائليٍّ قائلةً إنّها، وأخيراً، اختارتْ لنفسها اسماً إسلاميّاً جديداً”.

سرقة بعض الفلوس من أجل السفر لـ”الكيبوتس”

لا يزال بعض النشطاء الذين شاركوا في المشروع ينظرون إلى الماضي بحنينٍ، وورّثوا هذا الحنين لأبنائهم. في العرض الذي تمّ في شهر مايو/أيّار، حضر رشدي مصاروة البالغ من العمر 78 عاماً. يشعر رشدي المتحمِّس، الذي قال إنّه “سعيدٌ للغاية لرؤية الرجال مرةً أخرى”، بالامتنان لحركة “الكيبوتس” حتى يومنا هذا لإنقاذه من قمع الحكم العسكري ومنحه وسيلةً للعيش، وذلك أيضاً في مواجهة قلّة فرص التعليم والعمل في القرية، والتي صودِرت معظم أراضيها.

وابنة رشدي، كفاح، قالت: “كان أبي جزءاً من هذه الحركة بعد أنْ اختار ذلك بحريةٍ ولم يكُن مُجبراً على فعل ذلك. لقد كان يؤمن بهذه الطريق! وغرس ذلك فينا أيضاً، مُذ كنّا أطفالاً صغاراً”. لقد كانت الجدّة “نيحاما” من “جان شموئيل”، والجدّة “ماريكا” من “كيبوتس داليا”، والجدّة “إيثكي” من “كيبوتس لهافوت هباشان”. كلهنّ كنّ مثل أفرادٍ من أسرتي، فقد أحضروا ألعاباً جيدةً لم تكن موجودةً في القرية في ذلك الوقت، واستضافوني في “الكيبوتس” خلال العطلة الصيفيّة، حيث تعلمتُ اللغة العبريّة”. كما تغلغلت مبادئ المشاركة في الحياة اليوميّة في منزل العائلة في مدينة باقة الغربية؛ حيث وُزِّعت مهام أعمال المنزل بعد اجتماعٍ عائليٍّ ومناقشةٍ مفتوحةٍ. في مرحلة البلوغ، كانت لكفاح حياةٌ مهنيةٌ واسعةٌ، فقد عملتْ كمديرةٍ لفرع “نعمات”، [5] كما عملتْ في السلطة المحلية ومديرةً لشركةٍ حكوميةٍ. بالنسبة لها، بدأ كلّ شيءٍ في “الكيبوتس”، قائلةً: “لقد أدركتُ دون وعيٍّ أنّ اليهودي ليس عدوّاً! لقد استوعبتُ التعليم في الممارسة العملية، وفي فهم الجانب الآخر والاعتراف به. لقد حدّد ذلك طريقي وشقّها في الحياة”.

نشأ نايف أيضاً على الروح الجماعيّة، وظلّ والده يشتاق لـ”الكيبوتس” حتى يوم وفاته: “كانت لديه ذكرياتٌ سعيدةٌ وجميلةٌ، كنتُ أرى حماسته حين كان يعمل في رعي الأبقار وقِطاف الثمار. وفي بعض الأحيان، كان يقترض المال أو حتى يسرق بضعة جنيهاتٍ كي يتمكّن من الذهاب إلى “الكيبوتس”. كما جاء أصدقاؤه منه إلى جنازته”.

كما يصف محمود يونس أيّامه في الحركة وصفاً رومانسياً؛ فبعد رحلةٍ مشتركةٍ بين العرب واليهود إلى بحيرة طبريا في عام 1952 والتي رقص خلالها الجميع رقصاتٍ شعبيةً معاً، كتب في نصه “على السور” المنشور في مجلة “هشومير هتسعير”: “لقد لوّحنا ببطءٍ بالعلَم … وبين جبال “مشمار هعيمق”، ردّدنا بصوتٍ عالٍ قَسَمَ “بركة الحارسين” المسمّى “قويٌّ وشجاعٌ”. تداخل هذا القَسَم مع دمي وقلبي، وأعطاني قوةً رائدةً وطلائعيةً”، مضيفاً إنّهم سيعودون قريباً إلى القرية لرفع علم الاشتراكية: “دورٌ صعبٌ للغاية في القرية الإقطاعية الرجعية، الواقعة تحت حكم الإدارة العسكرية … عائدين إلى الصراخ في قريتنا بأنّ هناك “إسرائيل” أخرى، “إسرائيل” ديمقراطية، “إسرائيل” سلميّة، ويوجد شعبٌ يهوديٌّ آخر … متعطّشٌ للاتصال بنا في الكفاح من أجل استقلال كلا الشعبين”.

في عام 2008، عندما أكملتْ حركة “هشومير هتسعير” 95 سنةً على تأسيسها، التحق يونس بمؤتمر “من كان حارساً مرة، يبقى حارساً على الدوام”، وهو لقاءٌ ضمّ أغلب الأعضاء، وذلك في مركز “جفعات حافيفا”. وفي اللقاء، كانت روح يونس لا تزال تستنشق نفس الروح القديمة، وبخطى واثقةٍ وخفيفةٍ وبشعره الأبيض الوفير، كان يتجوّل في الممرّات، وكان قلبه ينبض بشوق اللقاء مع الأصدقاء. التفتَ إلى الشبّان الذين يرتدون قميص الحركة، وكان فضوليّاً حول معرفة إلى أيّ خليّةٍ أو قسمٍ كانوا ينتمون. وقال لهم: “أشعر أنّني لا زلتُ جزءاً من ذلك”، مكملاً: “حتى يومنا هذا، عندما أتدخّل في جدالٍ في القرية، يناديني الآخرون بـ” يعاري العرب”. [6] آمنتُ بمؤسّسات “مابام” التي تحدّثت عن حقّ العرب في تقرير المصير، ولا أزال أعتقد أنّ هناك مجالاً لكلا الشعبين في الوطن المشترك”.

كما التقى يونس بعضوٍ آخر من الحركة، والذي تذكّره بتودّدٍ قائلاً “لقد كانوا لطيفين لكنّهم تسبّبوا بالمشاكل، الكثير من المشاكل، بين قوسين كانت تلك متاعبَ أمنيّةً، لأنّ الحكم العسكريّ كان يطاردهم. بقي لديهم جزءٌ من التعليم الذي تلقوه منّا، إنّه لأمرٌ محزنٌ أنهّ لم يدُم، ولكن ما الذي يمكننا فعله اليوم؟”.

حتى بالنسبة إلى “بن تسور” الذي كان موجِّهاً للأعضاء، فبالكاد قوّضت مسافة السنين إيمانه بالفكرة، ولكن يختلف الأمر عندما يتعلّق بتطبيقها؛ “في البداية، لم يكُن هناك اعتقادٌ بأنّ العرب سوف يحققون التعليم الفكريّ السائد لدى “هشومير هتسعير”، لم يكُن الهدف من التعليم جعلهم يهوداً، بينما كان في الواقع جعلهم طلائعيين”. شهِد “بن تسور” أنّه بالفعل قام بتعليم تلاميذه عن مصير الشعب اليهوديّ وحاجته إلى الدولة، وفي ذلك الوقت لم يرَ أيّ تناقضٍ بين التطلّعات القوميّة لليهود والعرب، مُضيفاً: “كانت هناك نيةٌ لتثقيف القوميّة العربيّة الإيجابيّة، وليس القوميّة العدوانيّة التي تعارض الصهيونيّة أو المجتمع العربيّ، إنّما القومية التي تعلّم القيم التاريخيّة والأدبيّة…اعتقدتُ أنّه كان يمكن في ذلك الوقت تسوية التناقض بروح الإخاء. اليوم أنا لستُ متأكداً من إمكانية حدوث ذلك”.

سنتّفق في وقت السلام

في عام 1960، كانت الحركة في ذروتها. كان أعضاء التدريب والشباب والخلايا يعملون ويدرسون، وانضمّوا كذلك إلى المظاهرات والعرائض التي تمّ توجيها ضدّ الحكم العسكريّ. ولكن بعد ذلك، بدأت الفجوات بالتوسّع. لقد أدرك المفكّرون اليهود أنّ الحركة تُدار من الأعلى وليستْ مستقلّةً. كما أدركوا أنّ غالبية العرب يحضرون فقط إلى معسكرات العمل، حيث يكسبون ما بين ليرة وليرتين ونصف في اليوم، حسب العمر. على عكس اليهود الحضريّين الذين كانوا، بالإضافة الى رغبتهم في العمل، منتمين إلى الحركة أيديولوجيّاً، بينما كان الكثير من الشباب العربي ينجذبون إلى “الكيبوتسات” بسبب الأجور الضئيلة والتي بكلّ الأحوال أنقذت أسرهم من الجوع.

ويقول وليد صادق من مدينة الطيبة، في سلسلةٍ من المحادثات التي عُقدت معه قبل عقدٍ من الزمن: “بالمقارنة مع القرية النائية المتخلّفة، حيث لا توجد كهرباء أو طرق، كان كلّ شيءٍ نظيفاً في “الكيبوتس”، كانت الفتيات ترتدين سروالاً قصيراً أزرق اللون، وهو ما كان بالفعل سبباً في السعي لتصبح عضواً في “كيبوتس”. صادق، الذي كان عضواً في الكنيست عن حزب “ميرتس” ورجلًا أنيقاً ولطيفاً، تُوفي قبل أربعة أعوامٍ، وقد جاء إلى كيبوتس “غان شموئيل” للتدريب خلال العطلة الدراسيّة أثناء دراستِه في الجامعة العبريّة. وحول ذلك يقول: “لأوّل مرةٍ في غرفة الطعام، انتظرتُ النادل ليأتي ويقدّم لي الخدمة حتى لاحظ أحد أصدقائي خطأي، وأوضح لي أنّه كان عليَّ خدمة نفسي بنفسي”. شعر صادق بالألم لأنّ الأصدقاء لم يحيّوه أو يدعوه إلى منازلهم عندما تجوّل في “الكيبوتس”؛ “لم أكُن أعرف عاداتهم، شعرتُ بغصّةٍ في قلبي من ذلك، وكأنهّم ينظرون إليّ كما لو كنتُ عاملاً أجنبيّاً ينبغي تفاديه”. ووفقًا لصادق، فإنّ الأعضاء الذين لم يكونوا ضمن السكن الداخليّ – مثل عضو الكنيست في المستقبل ران كوهين- كانوا في مكانةٍ أعلى من مكانته في “غان شموئيل”، مكملاً: لقد عملتُ في الفناء والنظافة، بينما كانوا يعيشون في منازل أكثر جمالاً ويعملون في وظائف أفضل، مثل الزراعة وقطف الزهور، كنتُ أتوقُ كثيراً للعمل في مثل هذه الأعمال”.

“كوهين”، الذي هاجر من العراق وحده صبيّاً يبلغ من العمر 10 أعوامٍ، تمّ استيعابه كصبيٍّ أجنبيٍّ في “غان شموئيل “، وأُطلق عليه اسم “سعيد الصغير”. يشرح صادق الفرق بين العرب الذين حضروا إلى “الكيبوتس” كجزءٍ من معسكرات العمل، والعرب اليهود الذين حصلوا بعد بضع سنواتٍ على شروطٍ متساويةٍ لأعضاء “الكيبوتس”. وفي وقتٍ لاحقٍ، عمل “كوهين” وصادق معاً في حكومة رابين، بوصفهما عضوين في الكنيست من أعضاء ميرتس الاثني عشر في عام 1992.

لاحظ أحمد مصاروة أيضاً أنّ الحياة الراقية في “الكيبوتس” نتج عنها أيضاً اختلافٌ طبقيٌّ. وقال إنّ الشباب العرب عملوا خمس ساعاتٍ في اليوم ودرسوا ثلاثاً، بينما عمل “الأطفال الأجانب” اليهود ثلاث ساعاتٍ في اليوم ودرسوا خمساً. “كان لديّ الجرأة في السؤال، وقيل لي إنّه يتمّ تمويل تواجد اليهود من صندوق الشباب المهاجرين. وحتى ذلك الحين، كان من الصعب عليَّ أن أصدق أنّه كان من الممكن أن ينهار “الكيبوتس” نتيجةً لتمويل قرابة 15 شاباً عربيّاً، مع ذلك كان هناك عدلٌ في التوزيع في مجال الملبس، فكان لديّ سروالان وقميصان، وكان رقمي في غرفة غسيل الملابس 264. أذكر أنّني ذات يومٍ ذهبتُ لزيارة أخي الذي كان يعمل في البناء في شارع “بياليك ” في “تل أبيب”، ورأيتُ قميصاً جميلاً أعجبني في خزانة العرض، فاشتراه أخي لي. وحين عدّتُ إلى “الكيبوتس”، أرسلته إلى الغسيل ولم يعيدوه، فقد تمّ “تأميمه” بعد مصادرته”. 

استطاع مصاروة الانخراط في الأعمال الزراعيّة، وكان فرِحاً لقيامه بأعمال الزراعة والحصاد، وعلى ثقةٍ أنّ إمكانية قيامه بأعمالٍ مشابهةٍ في قريته كانت شبه مستحيلةٍ؛ “فقبل الحرب، وصل حجم أراضي عرعرة إلى منطقة الكرمل في حيفا، كان هناك قرابة 36 ألف دونمٍ، ولكن بقيَ لنا منها قرابة 1500 دونمٍ”.

وكلّما أراد أن يكون وحيداً، كان يمشي بين المنازل العربيّة المهجورة التي كانت قريبة من “الكيبوتس”. وعندما سأل عن المكان الذي ذهب إليه “الجيران”، قيل له إنّهم “غادروا”، لكنّه لم يكُن مقتنعاً بهذا الجواب؛ “أثناء الوقوف في الطابور، كنتُ أستمرّ بغناء نشيد “هاتيكفا” سويّةً مع الآخرين، ولكن طوال الوقت كانت تبرز لديّ أسئلةٌ لا أجد لها جواباً”.

سرعان ما أصبح واضحاً أنّ الوصول الى تحقيق الوفاء بروح “هشومير هتسعير” – أيّ إنشاء “كيبوتس” عربيٍّ- كان أمراً مستحيلاً. في عام 1958، اتّصل محمود يونس الذي لا يعرف الكلل بوزير الزراعة ” كاديش لوز” وطلب منه تخصيص أرضٍ بهدف إقامة تعاونيّةٍ استيطانيّةٍ. إلا أنّ الوزير أحاله إلى الوكالة اليهوديّة، حيث أجابوه أنّ “أراضي الوطن” معدّةٌ لليهود فقط. بعد ذلك بسنواتٍ قليلةٍ، حاول أحمد مصاروة أيضاً الحصول على اتفاقٍ لإنشاء “كيبوتس” عربيٍّ في المثلث. تلقّى إجابةً واضحةً من إدارة أراضي “إسرائيل”، والتي يتذكّرها حتّى يومنا هذا: “أحمد، لا تكن ساذجاً. على الأراضي المصادرة من قريتك، سنؤسّس ثلاثة تجمعاتٍ يهوديّةٍ والتي سوف ترفع السلاح عند الحاجة لذلك”.

تمكّن بعض أعضاء الحركة من تطبيق ما تعلّموه في قراهم. في عام 1956، أُنشئت حديقةُ خضراواتٍ تعاونيّةٌ في قرية كفر ياسيف باسم “الرائد”، كما أُنشئت تعاونيّةٌ زراعيّةٌ باسم “هاتيكفا” في الطيبة، بالإضافة إلى وضع خطةٍ لإقامة سينما تعاونيّة، إلا أنّها لم تُنفّذ. وفي عام 1957، أنشأ يونس محطةً لحفر آبار المياه في عرعرة، وكانت أنجح مشروعٍ تعاونيٍّ حينها. وفي نهاية المطاف، أدّى الافتقار إلى الأرض والتمويل والدعم المؤسّسي، إلى جانب عدم المشاركة في المجتمع العربيّ، إلى إخفاق معظم التعاونيّات.

فهم عطالله منصور أيضاً أنّ “الكيبوتس” هو حلٌّ لليهود فقط. لا مكان لمن ليس يهوديّاً ومجرّد شخصٍ يريد العيش والعمل. كما كان للظلم الذي لحق بأهالي قريتيْ “إقرت وبرعم” (واللتين تمّ إخلاؤهما بعد تقديم وعودٍ كاذبةٍ بالسماح لأهلها بالعودة إليها، وأُقيم “كيبوتس برعام” و”كيبوتس ساسا” مكانهما) الأثرُ الشديدُ في زيادة الشعور بالخطاب المزدوج الذي حملته منظمة “هشومير هتسعير”.

وحول تلك الفترة يقول وليد صادق: “كنّا ما زلنا تحت الإدارة العسكريّة، وتحت المراقبة والقمع وتكميم الأفواه والعواطف، وكنا نتجاهل كلّ هذه الأمور بوعيٍّ حتى نتمكّن من التمتّع بالملذّات الموجودة داخل “الكيبوتس”… كنّا مهتمين بالراتب لأنّه لم يكن هناك مالٌ في القرية في ذلك الوقت. المكافآت التي تلقّيناها مقابل عملنا كانت أفضل وأكثر أهميةً من محاولة الإجابة على مثل هذه الأسئلة المحرجة”. وبسبب إمكانية العمل تحت وصاية “الكيبوتس” بدون ترخيصٍ من الحكم العسكريّ، حاول “الضيوف العرب” التزام الصمت دوماً.

يضيف صادق: “تمّ بناء كيبوتس “جان شموئيل” جزئيّاً على أراضي قرية شركس، وكان سكان “جان شموئيل” بأنفسهم هم الذين طردوا السكّان الفلسطينيين من القرية خلال الحرب. وأنا شخصياً أعرفهم بأسمائهم، كلّ الأشخاص الذين نفّذوا عملية الترحيل. عندما أثَرنا في بعض الأحيان مسألة أنّ “الكيبوتسات” التي أعلنت معارضتها الاستيلاء على الأرض قد استقرّت فعليّاً على نفس الأرض المصادرة، فكان الأعضاء يقولون لنا “في وقت السلام، سنتفق معاً. بعد كلّ شيءٍ وحتى هذه اللحظة، لم يأتِ أيُّ لاجئٍ للمطالبة بأرضه”.. لم يكن لدينا وعيٌّ فلسطينيٌّ مثل اليوم، تحدّثنا عن “البلد المسروق”، وليس عن فلسطين”.

اختتم صادق فصل “الكيبوتس” في حياته بالقول إنّ “التعايش تمّ، ولكنه لم يكن حقيقيّاً. فلا يتم التعبير عن التعايش في النظريّات، بل في الممارسة والحياة اليوميّة. لقد كان نفاقاً من أجل النفاق فحسب، وأعتقد أنّ هذا النفاق لا يزال موجوداً إلى اليوم”.

ووفقاً لصادق، اعتقد اليهود في “الكيبوتس” إنّ الدولة اليهودية واليهود الذين يعيشون فيها يجب أن يكونوا متفوّقين على العرب ولهم الأسبقية في كلّ شيءٍ؛ “في رأيّي، هذه هي الروح المنتشرة في كلّ يهوديٍّ صهيونيٍّ، خاصةً سكّان “الكيبوتسات” الذين يُعتبرون أكثر المستوطنين تشدّداً في الفكر الصهيوني اليوم”.

عرض منصور الصورة التالية لوصف ديناميكيّة العلاقة بين “هشومير هتسعير” والعرب: “لقد جاؤوا إلينا، إلى منزلنا، وقالوا لنا: نريد نصف المنزل. بعد ذلك قالوا لنا: حسناً، يُمكنكم البقاء. وإذا ساعدتنا في جلي الصحون، فربما يمكننا إعطاؤكم غرفةً. لكن إذا بقيت في منزلي، فأريدُ الجلوس في غرفة المعيشة، ولا أريدُ العيش في الفناء أو في ممرّ الدخول حيث توجد الأحذية. كنّا متساوين من الناحية المبدئية، لكننا لم نُعامل سواسيةً، ولا حتى ليومٍ واحدٍ”.

دودةٌ في هذه الفاكهة الجميلة

كانت قصص الحبّ بين القرويّين العرب ويهوديّات “الكيبوتس” أصعب اختبارٍ للحركة على المستوى الشخصي، ونتج عن هذه الحركة بعض الزيجات؛ غادر خالد و”نعومي” (تمّ تغيير اسميهما بناءً على طلب ابنهما) “الكيبوتس” وانتقلوا إلى المدينة. محمد جاسر الحاج يحيى و”يهوديت” من “كيبوتس مرحابيا” قرّرا أيضاً المغادرة والاستقرار في الطيّبة، حيث أنجبوا أربعة أطفالٍ. وبعد وفاة محمد قبل بضع سنواتٍ، عادت “يهوديت” إلى “الكيبوتس”، كما ترك الأولاد الطيبة أيضاً.

كان الصراع الأكثر تغطيةً إعلاميّةً، بسبب العواطف الجيّاشة التي رافقته، هو العلاقة التي ربطت “تسفيا بن متاتيهو” براشد جعفر مصاروة من باقة الغربيّة، والذي يبلغ اليوم قرابة 78 عاماً. انضمّ مصاروة الى معسكر عملٍ خاصٍّ بـ”الشبيبة العربيّة الطلائعيّة” في “كيبوتس كفار ماسريك” وهو ما يزال في الصف الخامس، ويقول: “هكذا بدأت علاقة الحب ما بيني وبين الكيبوتس”، ولحق به زملاؤه في الدراسة بعد مرور عامين فقط. وبعد سنةٍ من ذلك، غادر جعفر البيت نهائيّاً، على الرغم من معارضة أهله الشديدة لذلك: “لقد قال لي أبي إنّهم يأكلون لحم الخنزير في “الكيبوتس”، لكنه وافق في النهاية شريطة ألّا أقوم بأعمالٍ سيّئةٍ”.

في البداية، تمّ استيعاب راشد في “كيبوتس داليا “، ثمّ انتقل إلى “جفعات هشلوشا” ، حيث التقى هناك بـ”تسفيا”، التي كانت في حينه طالبةً في المرحلة الثانوية. “لقد كنّا رياضييْن. وقعنا في الحبّ. شجّعني شباب “الكيبوتس” اليهود، وكان الكبار يخجلون من القول “لا تذهب معها لأنّك عربيّ”. في وقتٍ لاحقٍ، عندما أخبروني أنّ ذلك ليس جيّداّ، لم يعُد كلامُهم يُجدي نفعاً”. لقد كان من الصعب على “تسفيا” التصديق أنّ “الكيبوتس” التي أحبّته كثيراً لم يكن يقبل علاقة الحب هذه. أدرك راشد المشكلة فوراً، ويتحدّث حول ما حدث لاحقاً باختناقٍ.

أُجبر الزوجان على مغادرة “الكيبوتس” بعد زواجهما في قبرص. ثمّ انتقلوا للعيش في الخضيرة حيث وُلد ابنهم الأكبر، والذي حمل اسمين: “رونين” بالعبريّة ورياض بالعربيّة. وبعد معاناة عائلتهم من الجيران في المدينة اليهوديّة، قرّرا أنْ يُجرّبا حظهما في “كيبوتس جان شموئيل” التابع لـ”هشومير هتسعير”. “قيل لنا إنّه لا توجد هناك عنصريةٌ، وسوف يتمّ الترحيب بنا بالتأكيد. أقنعنا بذلك “ران كوهين”، وأرانا بالفعل بيتنا وغرفة الأطفال في “الكيبوتس”. ولكن قبيل تصويت هيئة “الكيبوتس” على انضمامي، ذكر أحد الأعضاء في اجتماع الهيئة أنّني في الأساس من قرية “شركس”، وقد كان يعرف أنّ أهلي من القرية المدمّرة، مدّعياً أنّه إذا تمّ استيعابي في “الكيبوتس”، فذلك يعني أنّه تمّ السماح لي بالعودة إلى قريتي”. حال بكاء راشد دون قدرته على إكمال شهادته، وظلّ يشعر بالألم بسبب قرار معظم أعضاء “الكيبوتس” بعدم قبول عضويته بعد عدّة اجتماعاتٍ صاخبةٍ وتصويتاتٍ متكرّرةٍ.

يتذكر “ران كوهين” ذلك بكونه أشبه بالدراما: “كانت المداولات حقيقيةً. قال المعارضون: “إنّ الكيبوتس مكانٌ صهيونيٌّ موجودٌ على أرضٍ تابعةٍ للصندوق القومي، فلا يُعقل أن يتمّ إسكان العرب على أرضه. كما كان هناك جانبٌ اجتماعيٌّ لذلك، “الكيبوتس” مكانٌ يهوديٌّ ، وثقافته وأعياده يهوديّةٌ، فكيف يمكن لعربيٍّ أن يندمج في واقعٍ كهذا؟” أمّا أنا فكنتُ أعتقد أنّ الأمر متعلّقٌ بواقعٍ إنسانيٍّ واحترامٍ للإنسان، وأنّ راشد و”تسفيا” والطفل بحاجةٍ إلى مكانٍ في هذه البلد. إلّا أنّني رأيتُ أيضاً أنّ ذلك قد يؤدي إلى حدوث شرخٍ ينتُج عنه انهيار “الكيبوتس”،  لقد كان هناك أعضاءٌ أرادوا المغادرة بسبب ذلك، وكان يجب عليَّ منع حدوث ذلك”.

تمّت تغطية هذه القضية المثيرة على نطاقٍ واسعٍ في مجلّة “هعولام هزيه ” في عام 1964، تحت عنوان “هل الكيبوتس عنصريٌّ؟”. وفيها، نُقل عن “جان شموئيل”: “أصبح من الواضح فجأةً أنّ تلك المخاوف في “الجيت” اليهوديّ ظهرتْ في قلب ما كان يعتبر قمّة روعة الأمّة العبريّة الجديدة؛ في قلب أبناء “الكيبوتس” قوي الجذور”. قارنت “تسفيا” قصتها بقصة فتيات “الكيبوتس” اللواتي وقعنَ في حبّ رجلٍ عراقيٍّ أو مغربيّ، وأخبرتْ الصحيفة أنّ عالمها انهار عندما أدركت أنّه “لا ينبغي إحضار صديقٍ – لا لأنّه غير لائقٍ، لا لأنّه يعاني من الخمول، ولا لأنّه يعاني من إعاقةٍ أو غير متعلّمٍ، ولكن لأنّه وُلد عربيّاً، وتقول: “حتى في “الكيبوتس”، في هذه الفاكهة الجميلة، تقوم دودة العنصريّة بقضم الثمار”. تمّ قبول الاثنين في “كيبوتس عين دور” ، لكن راشد لم يتكيّف مع الحياة هناك. عاش الزوجان مع أطفالهما الثلاثة في الخضيرة، ثمّ في “تل أبيب” و”نتانيا”، كما خدم ابنهما الأكبر كضابطٍ في الجيش “الإسرائيلي”.

رأى أعضاء “الشبيبة العربيّة الطلائعيّة” أنّ مصير راشد و”تسفيا” دليلٌ أخيرٌ على أنّ الهدف لن يتحقّق. ليس فقط لأنّ الدولة لن تسمح بإعطاء حفنةٍ من تراب الأراضي الواقعة تحت سيطرتها لصالح الاستيطان العربيّ، بل أيضاً لأنّه لن يتمّ قبولهما كأعضاءٍ. وفي الوقت نفسه، و مع إلغاء الحكم العسكريّ في عام 1966، تمّ فتح فرص التعليم والتوظيف للشباب العربيّ، وتوافد الآلاف إلى المدن للعمل كعمّال بناءٍ. وحسب “بن تسور”، تمّ تسريع نهاية المشروع لاستقبال حضور المتطوعين الأجانب من الخارج، والذين هرعوا للعمل في “الكيبوتسات” بعد حرب الأيّام الستة، مضيفاً: “من الناحية الثقافية، كانوا أكثر ملاءمةً لحياة “الكيبوتس”، وبالتالي لم تعُد ثمّة حاجةٌ إلى أيدي العمّال العرب”.

ومع ظهور الناصريّة والاعتراف بنتائج الحرب، بدأ الشباب العربيّ بالتعبير عن قوميّتهم الفلسطينيّة. وفاجأوا الأعضاء اليهود، في مؤتمرٍ عُقِد في صيف عام 1967، باعتراضِهم الشديد على “الخيار الأردنيّ” الذي روّجت له “مابام” كحلٍّ للنزاع، ويقول “بن تسور”: “فجأةً، شعرتُ أن كلّ شيءٍ قد تغيّر، وأنّ كلّ شيءٍ يسيرُ في الاتجاه القوميّ. تحدّثوا عن الاضطرار إلى القتال وإنشاء دولةٍ لأنفسهم. لقد فاجأني ذلك كثيراً، أدركتُ حينها أنّ هذه هي النهاية”.

وحول ذلك، يشرح أحمد مصاروة: “بدأ النقاش حول الدولة الفلسطينيّة وعودة اللاجئين، فقلتُ: “اشرح لي كيف تسير الصهيونية والاشتراكية معاً”. عندما أنظرُ إلى ذلك اليوم، أشعرُ أنّهم ذروا الرمال في أعيننا. لقد جعلوا من المثالية أضحوكةً،  كما لعبوا بالأفكار السامية، ولكن تصرّفوا في الممارسة العملية بشكلٍ مختلفٍ. ماذا كانوا يريدون منّا حقاً؟”.

يقول ابن خالد و”نعومي”، واللذيْن اختارا له العيش كيهوديٍّ، أنّ والده كان يتعذّب طوال حياته بسبب مسألة الهوية. “عندما قررتُ الذهاب إلى الجيش، أقام أبي الدنيا ولم يقعدها، لكنه في النهاية تجوّل بفخرٍ كبيرٍ حين رآني ارتدي الأحذية الحمراء”. ووفقاَ له، كان والده قادراً على الاستفادة من الفرصة التي أتاحها له “الكيبوتس”، لكنّه تنهّد بألمٍ: “كانت الفكرة مذهلةً، ولكن سادت العنصريّة. جُلب هؤلاء الرجال إلى الأرض الموعودة، ومن ثمّ تمّ إخبارهم أنّه لا يمكنهم الاستمرار بذلك لأنّهم عرب… كان على منظمة “هشومير هتسعير” التفكير حول عواقب هذا الفعل، قبل إخراج هؤلاء الشباب الصغار من قراهم وزرع آمال الأخوّة والسلام والصداقة فيهم. لقد ظنّ المستنيرون أنّ بإمكانهم تعليمهم وجعلهم إنسانيين، لكنهم حطّموا أحلامهم في النهاية وحوّلوهم إلى عمّالٍ سودٍ… أنا آسف، ليس لدي أيّ كلماتٍ أكثر شدّةً وأفضل للتعليق على ذلك”.

يقول المؤرّخ الصهيوني “شاؤول باز” إنّ منظمة “هشومير هتسعير” كانت تعاني من فصامٍ عند تعاملها مع الشباب العرب، ويصِفُ ذلك الواقع بأنّه شكلٌ من “الركض ثنائيّ الروح”، والذي نبع من التناقض بين الحاجة الصهيونيّة للسيطرة على الأرض والاستيطان الطلائعيّ، وبين العدل والأخوّة بين الشعوب”. وفي الصفحات القليلة التي كرّسها للحركة في كتابه “توجّهنا نحو الشمس المُشرقة” الذي صدر عام 2017، يجادل “باز” بأنّ “الشبيبة العربيّة الطلائعيّة” كانت، وقبل كلّ شيءٍ، وسيلةً للتخفيف من تناقض القيم في المعسكر اليهودي بالذات، وذلك بهدف جمع المتدرّبين اليهود حول فكرةٍ ساميةٍ.

ويعتقد “باز”، والذي ينتمي إلى كيبوتس “مزرعا”، أنّ قادة “هشومير هتسعير” أرادوا التصديق أنّه ومثلما تمّ إنشاء اليهوديّ الجديد، من الممكن إنشاء العربيّ الجديد الذي يمكنه أن يكون أيضاً اشتراكيّاً وطلائعيّاً ويسكن “الكيبوتس”. لكن ومنذ اللحظة الأولى، عرف أعظم الحالمين بالفكرة، مثل “إبراهام بن تسور” و”أهارالا كوهين”، في قرارتهم أنّه لن يُسمح للعرب بإنشاء “كيبوتسٍ” خاصٍّ بهم، ولم يخبروهم بذلك؛ إذ كان من الأسهل عليهم خلق هذا الوهْم بهدف خدمة اليهود، ففي النهاية يتعلّق الحديث بالأخوّة والمحبة بين الشعوب والمساواة والتضامن وكلّ تلك الشعارات.

يكمل “باز”: “في كلّ حركة شبيبةٍ طلائعيّةٍ، لا بدّ من طرح التحديات الطوباويّة بهدف إثارة الشباب ودفعهم للتعاون مع الحركة. إنّه شعورٌ رائعّ، من الذي لا يحبّ العطاء؟ ولكن، كان ثمّة أيضاً تمييزٌ وحرمانٌ، كما هو الحال مع اليهود الشرقيّين؛ فكنّا نعرف أكثر منهم، وشجّعناهم ورفعناهم، ولكننا لم ننظر إليهم، ولا لمرّةٍ، ككفءٍ لنا”. وينتهي “باز” بالقول: “كانت “الشبيبة العربيّة الطلائعيّة” تجربةً رائعةً ومدهشةً وقصيرة العمر. اختفت من الذاكرة، ومعها اختفت أحلامنا وتطلّعاتنا وأوهامنا، والتي كان يمكن لها أن تكون حقيقةً إسرائيليّةً أخرى”.

****

الهوامش

[1] خيريّة هي قريةٌ فلسطينيةٌ قضاء يافا تمّ طرد أهلها منها خلال أحداث النكبة في العام 1948.
[2] “باروخ”: اسم يهودي.
[3] “هوريه”: رقصٌ شاع لدى المستوطنين اليهود القادمين من أوروبا الشرقية.
[4] “الكولخوز”: قريةٌ تعاونيةٌ ذات ملكيّةٍ جماعيّةٍ في الاتحاد السوفيتي.
[5] منظمةٌ صهيونيةٌ تُعنى بشؤون المرأة.
[6] نسبةً إلى “مائير يعاري”، زعيم حزب “مابام” والمنظّر الرئيسي لـ”هشومير هتسعير”.