تواصل سجى الطرمان في هذا المقال البحثَ في سياسات الجسد الفلسطينيّ، متتبّعةً الحركات السياسية التي يمارسها الجسد الفلسطيني، أو تمارَس عليه، بوصفها عدسةً تلتقط التحوّلات السياسية والاجتماعية التي يمرّ بها الصراع.

لقراءة الجزء الأوّل، من هنا

توطئة

تواصل سجى الطرمان في الجزء الثاني من مقالة “الجسد وإعادة تشكيل الجماعة الفلسطينية الفاعلة” البحث في سياسات الجسد الفلسطينيّ، بوصفه وحدة تحليلٍ عضويّةً في الكشف عن الفعل الاستعماري وفعله المضاد. يفكّك هذا الجزء، في شقّه الأوّل، المبنى الجدليّ لمؤسسة السجن الاستعماريّة، ما بين محاولة تكريسها مكاناً وزماناً صهيونيَيْن يخضع الأسير لسلطتيهما، وبين خلق مكانٍ وزمانٍ فلسطينيَيْن من داخل الأسر، يتّصلان بامتدادهما الخارجيّ.

 

على وقع ذاك المبنى الجدلي، تتّجه الباحثة إلى تحليل السياسات الانضباطيّة والرقابيّة للسجن الصهيوني، والتي تسعى إلى تطويق وعي الجسد المأسور بممكناته المقاومة، مضيئةً تحديداً على سياسة التعذيب. ومن جهةٍ أخرى، تبحث في جسد الأسير كآلية تعطيلٍ لمنظومة القهر الآسرة، باستخدامه وسيلةً نضاليّةً تعبّر عن إرادته الحرّة في إدارة شؤون عيشه وانتزاع مطالبه، تحديداً من جهة خوضه معركة الإضراب عن الطعام.

أمّا في الشقّ الثاني من المقالة، فيحتلّ قطاع غزّة محور التحليل الرئيسيّ، إذ تتناول الباحثة سياسة إعادة إعمار القطاع بُعيد الحرب الأخيرة 2014، بوصفها سياسةً تتحكّم باحتياجات الفلسطيني في غزّة، وتُقايض بقاءه ذاتاً بيولوجيّةً بالحدّ الأدنى باحتياجاته الأمنيّة. لكنّ الغزيّ يخترق هذه الدائرة التي لطالما أعادت إنتاج حصاره، بالتعاطي مع جسده في مسيرات العودة كجسدٍ مفعمٍ بالسياسة المضادّة للسياسة الانضباطيّة. بالمجمل، ترى الباحثة أنّ تتبّع كل الحركات السياسيّة التي يمارسها الجسد الفلسطيني أو تُمارَس عليه، بمثابة عدسةٍ تلتقط كلّ التحوّلات السياسيّة والاجتماعيّة التي يمرّ بها الصراع.

****

السجن والتعذيب – الحركة الأسيرة كبنيةٍ مضادةٍ

يُعتبر السجن الاستعماري في فلسطين آليةً لإخضاع وتطويع الثلّة المقاتلة وعزلها عن جماعتها المرجعيّة، بل وتعطيل فاعليّتها في مقاومة عنف السلطة الاستعماريّة، لتُخاض داخل حيز السجن معاركُ مستمرةٌ بين آليات الاستعمار بالسيطرة على الجسد، وبين آليات الأسرى المتمثّلة بالمقاومة والصمود ضمن عملياتٍ متراكمةٍ ومستمرةٍ.

ينبني السجن الاستعماري على ثلاثة مرتكزاتٍ: يتمثّل الأساس الأول في الحرمان من الحرية واستلابها في عقابٍ فوريٍّ على فعل الأسير المقاوم. فيما يتمثّل الثاني في هندسة المكان كفضاءٍ عقابيٍّ يحاول ضبط الفرد والجماعة، من خلال بنيةٍ هندسيّةٍ مكثّفةٍ تحمل عوامل الضبط والعقاب بصورةٍ متلازمةٍ كآليّةٍ لإدامة السيطرة على المعتقل. أمّا الأخير فيقوم على تحويل الزمن إلى وقتٍ متّصلٍ ومتراكمٍ لتنفيذ الرقابة وممارسة السيطرة، حيث يكون زمناً قاطعاً عمّا قبله تتكثّف فيه وتيرة الصراع بسيطرةٍ مباشرةٍ على الجسد يمتلكها السجان. [1]

وبناءً على المرتكزات السابقة، يكون السجن بمثابة أيديولوجيا استعماريّةٍ تعمل على إخضاع الفرد وتشكيله ضمن حيزٍ صُمّم ليضع الفرد دائماً تحت رقابته، ساعياً إلى ضبط الجسد وفق نمطٍ يشتمل على إلزامٍ لا ينقطع، يحصر بدقّةٍ الزمان والمكان والحركات. يبدو السجن، بذلك، مؤسسةً كاملةً وصارمةً تفرض انضباطاً استبداديّاً يصل إلى أقصى درجات الزخم، بصيغةٍ قائمةٍ على الإكراه من أجل إعادة تنشئة الجسد.

كما تُعتبر السجون الاستعماريّة، من بينها الصهيونيّة، حقلاً مخبريّاً يتمّ من خلاله اختبار السياسات التي تستهدف الحالة المعنويّة الاجتماعيّة والسياسيّة للفلسطينيين. [2] إذ مارست إدارة المعتقلات والسجون الصهيونيّة ممارساتٍ ممنهجةً قمعيّةً بحقّ الأسرى، بغية إفراغهم من المحتوى الإنساني قبل إفراغهم من المحتوى الثوري، وتحويلهم – إن قُدّر لهم التحرّر والعيش- إلى عالةٍ على أسرهم ومجتمعهم. [3]  وإذ يعتبر السجّان المقاومة فعلاً غير مشروعٍ يحّتم العقاب بالسجن، فإنه يشرعن من خلال الأخير تعذيباً يتكالب على الجسد، بقصاصٍ يعمل بالعمق، مستهدفاً القلب، والإرادة، والفكر، والاستعداد. [4]

يتميّز السجن الاستعماري بتقسيمه الهندسي المكوّن من أسوارٍ عاليةٍ شبيهةٍ بالقلعة، تحيط بها أسلاكٌ شائكةٌ وتعلوها أبراج مراقبةٍ في مناطق معزولةٍ، بغية جعل السجين بعيداً كلّ البعد عن كلّ ما يعرفه ويألفه، بل ومنقطعاً عن كلّ أشكال الحياة الطبيعية. أمّا السجن من الداخل، فيكون مقسّماً إلى غرفٍ و/أو خيمٍ تشكّل بمجملها أقساماً، لإحكام الرقابة والسيطرة من أصغر نقطةٍ وصولاً إلى السجن بأكمله، مع بعض الفروقات الأمنيّة بين السجون المركزية، مثل سجن نفحة وجلبوع، والتي تحتجز الأسرى ذوي الأحكام العالية، والمعتقلات كسجن النقب ومجدّو. ويكمن غرض التقسيم في تكريس التحكّم الشامل، والإشعار بالعجز عن التصرف، فضلاً عن فرض شعورٍ باختلاف المصير ما بين الأقسام المجاورة، والانصياع لأوامر سجّانيهم.

يُضاف إلى ذلك عزل المعتقلين، وتقديم طعام ذي جودةٍ سيئةٍ لهم، وتهديدهم المستمر باستخدام القوة والقمع، بجانب التفتيش المهين، والتعرّض للشتائم، والعيش في مساحاتٍ ضيقةٍ تلازمها الرطوبة والعفن، لتخلق عالماً من الظلمة والقتامة.كما يتمّ تعريضهم إلى الاستجواب القسري الذي يحمل تقنياتٍ مصممةً لإدخال السجناء في حالةٍ من الضياع والصدمة، وتقديم التنازلات رغم إرادتهم. [5]  يأتي ما سبق كمحاولاتٍ تتضافر فيما بينها لقتل الروح عبر المكان، ونفي الحضور الإنساني، وليس أدلّ على وصف الزنزانة ما تركه لنا الأسير أبو دياك قبل استشهاده “… مقيّد اليدين والقدمين في زنزانةٍ حقيرةٍ، ويحرسني سجانٌ يعشق الموت لنا”. [6]

ويعكس نظام “البانوبتي” لفوكو ما يتيحه هذا النظام من تفادي النظر إلى الأسرى ككتلةٍ بشريّةٍ واحدةٍ، حيث يجري تقسيمهم وخلق حالةٍ من التواصل بين الأسير ورفيقه في الغرفة، تزامناً مع فصله عن بقية رفاقه الآخرين من خلال الجدران الجانبيّة. يعتبر الأسير بذلك مرئياً، لكنّه لا يرى، فهو يشكّل موضوع استعلامٍ دون أن يشكّل موضوعاً في الاتصال. إنّه يمثّل موضوع متلقٍ سلبيٍّ، وليس ذاتاً فاعلةً، إذ إنّ الأثر الرئيسي للمستشرف “بانوبيتك” يكمن في الإيحاء للمعتقلين بوجود حالةٍ واعيةٍ ومتواصلةٍ من رؤيتهم ومراقبتهم دوماً، ما يؤمّن وظيفيّة السلطة الأوتوماتيكيّة، ويجعل الرقابة دائمةً بمفاعيلها وتأثيرها على المعتقلين، وإنْ كانت متقطّعةً وغير دائمةٍ في عملها الفعلي.

يحتكم ما سبق إلى المبدأ الذي أرساه “بنتهام”، والقاضي بأنّ السلطة يجب أن تكون منظورةً وغير ملموسةٍ، بحيث يكون ظلّ البرج المركزي العالي ماثلاً أمام الأسرى باستمرار، وتتمّ مراقبته بصورةٍ غير ملموسةٍ، فبينما يجب ألّا يعرفوا أبداً إنْ كانوا تحت النظر الآن، يجب أن يكونوا على يقينٍ بأنهم قد يصبحون تحت النظر دوماً. [7] وعلى الرغم من ذلك، وعلى قدر ما تبدو هذه المنظومة الأمنيّة محكَمةً وعصيّةً على الاختراق، تمكّن الأسرى من تحدّي واختراق الكثير من هذه الحواجز لتهريب الكتب والرسائل، وصولاً إلى تهريب النطف وتشكيل العائلات خلال الأسر، بل شهدت هذه المنظومة الأمنيّة عمليات هروبٍ ناجحةٍ من السجن. (للتعرّف على بعضها، اقرأ/ي: تاريخ مختصر للهروب من السجن في فلسطين)

التعذيب

استكمالاً للسياسات الممارسة في السجون، يرتكز العقاب الجسدي الفظيع على الألم  وكمية الوجع التي تضاعف من قوة السلطة، ويأتي التعذيب كطقسٍ منظّمٍ يبيّن قوة السلطة القاهرة التي تتولّى أمر العقاب. إذ يندرج التعذيب ضمن آليّات الاستثمار السياسي للجسد الذي يمرّ من مرحلة كونه قوة إنتاجٍ، أو قوة عملٍ ماديٍّ، إلى الجسد المعذّب والمريض والمجنون والمعطّل.

وكون السجن ليس أداة عقابٍ فحسب، إنما آليّةٌ لمعرفة اشتغال السلطة “السجن فضاءٌ بصريٌّ مرئيٌّ قبل أن يكون صورةً حجريةً”، [8] يصبح الجسد شاهداً على حقل العلاقات السلطويّة الاستعماريّة بتوظيفه وتعذيبه، عبر إجباره على القيام بأفعالٍ محدّدةٍ، والخضوع وتقديم التنازلات. بذلك، يتجاوز التعذيب مجرد الجزاء ليكون تقنيةً سلطويّةً من شأنها أن تقوّي وجودها حيال الأسير.

ورغم أنّ الاعتقال يهدف إلى إزالة الثلّة المقاتلة “العقبة”، عبر تدمير الطاقات الحيّة الجسديّة والنفسيّة في كيان المعتقل، إلا أنّ التعذيب، خصوصاً في أشكاله السلوكيّة والنفسيّة الخفيّة، يهدف إلى تدجين المقاومين وتوظيف إمكانياتهم في خدمة الاحتلال وفرض سطوته؛ أي تحويل “العقبة” إلى أداةٍ، فضلاً عن كسر المقاوم وردعه ومن حوله من القيام بأيّ فعلٍ مقاوم.  يتضمّن التعذيب أبعاداً جسديّةً وأخرى نفسيّةً تتضافر سويّةً لتحقيق الهدف المطلوب، والمتمثّل إمّا في تدمير الضحيّة وإيصالها إلى وضعيّة (الحية-الميتة)، أو في كسر إرادتها ومناعتها الذاتيّة، لتصبح مجرّد شيءٍ يمتلكه الجلاد ويمتلك حرية التصرّف فيه. وتتجلّى الحالة المثلى للتعذيب في قدرته على تطويع الضحيّة وكسرها وتحويلها إلى متعاونٍ أو مخبرٍ.

ورغم محاولات المستعمِر فرض كافة آليات السيطرة على الجسد والمكان، إلا أنّ الأسرى استطاعوا بناء أشكال مقاومةٍ داخل السجون، كتمرّدٍ منظّمٍ وواعٍ لبنية السجن ودوره المفترض، ببناء جسمٍ منظّمٍ يشكّل حالةً نضاليّةً ومعنويّةً. فمنذ السبعينيات، عزمت الحركة الأسيرة على بناء بنية سجونٍ مُقاوِمةٍ لإدارة السجون الصهيونيّة، عبر مراكمة فعلٍ نضاليٍّ مستمرٍ من الإضرابات والصمود والمواجهة.

تأسيساً على ما سبق، أنشأ الأسرى نظاماً آخر من زمان السجن، يضاهي بفعاليّته زمن الحرية خارجه، وينشغل بقضاياها، إذ تجري مواجهة علاقات القوة عبر “الجماعة” المتشكّلة من مجموع الأسرى داخل السجون الصهيونيّة. يسهم وجود مثل هذه الجماعة /الحركة في ضبط المعتقلين ببنيةٍ مضادةٍ تتمثّل في التنظيمات والحركة الأسيرة ككلٍّ، إذ تعمل على خلق حالة انضباطٍ مضادةٍ، بما يشكّل تناقضاً جوهريّاً لما يسعى إليه السجن، يساهم في التخفيف من حدّة الاعتداءات بحقّ الأسرى، وتوجيه طاقاتهم  في المسار الصحيح، عبر تراتبيةٍ تتبع تقسيماً للأدوار والمسؤوليات. [9]

فأمام التقسيم الهندسي للسجن الاستعماري، بنى الأسرى تقسيماً تنظيميّاً ووظيفيّاً للحركة الأسيرة كبنيةٍ مضادةٍ ومصادمةٍ، تعكس فعلها من خلال أجسامٍ تنظيميّةٍ تجمع بين الأسرى، وتمتدّ لتنسّق مع أجسامٍ أخرى في السجون والمعتقلات الأخرى، لتكون جزءاً من القرار الوطني للقوى والفصائل خارج حدود السجن، وتساهم بالتالي في الحفاظ على الوعي الثوري للمعتقل، واستعادة السيطرة على الذات. [10] ونجح البناء التنظيمي للحركة الأسيرة في تحويل السجن إلى حيزٍ للتعبئة والتفاعل السياسي والتنظيمي، وشكّل مكاناً لبناء الخلايا العسكرية التي كانت تستكمل فعل المقاومة فور تحرّرها من سجون الاحتلال. وبذلك، نجحت الحركة الأسيرة في تحويل السجن من أداة عقابٍ بيد المستعمِر إلى إحدى أدوات بناء المقاومة والتجنيد في صفوفها.

معركة “الأمعاء الخاوية”

تعتبر الإضرابات الجماعية والفردية عن الطعام وسيلةً نضاليةً هامةً ومفصليةً في الأسر، تمكّن الأسرى خلالها من انتزاع العديد من الحقوق الأساسية المسلوبة، يلجأ فيها الأسير إلى جسده كآلية مواجهةٍ ذاتيةٍ أمام ظلم المستعمِر، ليصبح جسده سلاحاً يشحذه في وجه عدوّه. وليس قرار خوض الإضراب هيّناً، لما يستغرقه من تحضير وجهدٍ كبيرين، وما يرافقه من مضاعفاتٍ صحية، فضلاً عن احتمالية الموت وما يتعرّض له المضرب عن الطعام من محاولاتٍ تهدف لثني إرادته ودفعه لفك إضرابه أو التراجع عن مطالبه.

وقد سطرت الحركة الأسيرة العشرات من الإضرابات الجماعية في تاريخها التي أحدثت نقلةً نوعيةً في حياة الأسرى داخل السجون، وإن لم تكن كافيةً فلا أقلّ من الحرية، كإضراب عام 1976 الذي انطلق من سجن عسقلان، واستمرّ لمدة 45 يوماً، وإضراب عام  1980 في سجن نفحة،  والذي استمرّ لمدة 32 يوماً واستشهد على إثره ثلاثة أسرى بفعل التغذية القسرية. ويواصل، إلى يومنا هذا، بعض الأسرى -خاصةً المعتقلين إدارياً- خوض إضراباتٍ مفتوحة عن الطعام.

يمكننا القول إنّ الإضرابات الجماعيّة شهدت تراجعاً حادّاً، والذي يُعزى إلى عوامل عدة، منها ضعف الحركة الأسيرة، والناشئ بدوره عن ضعف التنظيمات والفصائل داخل السجون، وتقسيم الأخيرة مناطقياً، وهو ما يعدّ انعكاساً مباشراً لضعف وترهل الحالة السياسية في الخارج. فبعد إخفاق إضراب 2004، لم تقُدْ الحركة الأسيرة إضراباً جماعيّاً شاملاً، فيما شهد عام 2012 إضراباً جماعياً بمشاركة ألف أسيرٍ لمدة  28 يوماً متتالياً، من أجل وقف العزل الانفرادي والحدّ من الاعتقال الإداري ومطالب أخرى حياتيةٍ. [11]  ويعتمد نجاح معارك “الأمعاء الخاوية” على عوامل عدة، أهمّها الإسناد الشعبيّ والإعلامي وقوة إرادة المضرب عن الطعام. (اقرأ/ي المزيد في: الإضراب  عن الطعام بين “التضامن” والتكامل).

اتّخذت معركة الأمعاء الخاوية نمطاً جديداً ومختلفاً من المواجهة في السنوات الأخيرة، لا سيّما بعد الإضراب الذي خاضه الأسير السابق خضر عدنان في شهر كانون الثاني 2012، والذي شكّل بدايةً لسلسلةٍ من الإضرابات المماثلة احتجاجاً على الاعتقال الإداري؛ أحد أهمّ العوامل المفضية للإضرابات الفرديّة في سجون العدوّ.

وأثارت وتيرة الإضرابات الفردية الجدل بين المهتمين والمنشغلين بشؤون الأسرى، إذ تولّدت وجهة نظرٍ ترى الإضراب الفردي عن الطعام أمراً معقّداً، والأجدى تنظيم تحركاتٍ جماعيّةٍ، على اعتبار أنّ الإضراب الفردي تغييبٌ لثقافة الـ”نحن”، وتعزيزٌ للـ”أنا” في مواجهة السجّان، فضلاً عن الثمن الذي يتكبّده الأسير بمفرده في مواجهة العدوّ، والذي يستغرق وقتاً يمتدّ إلى نحو ثلاثة شهورٍ حتى انتزاع المطلب والهدف، وما يرافقه من انهاكٍ كبيرٍ للأسير وحالته الصحية التي تتدهور حتى تصل حالة الخطر. لكنّ تجربة الشيخ خضر عدنان أثبتت، مرةً تلو الأخرى، جدارة الإضراب الفردي؛ ذلك أنّ الجماعة ليست تجريداً مضادّاً للفرد، إنما تشكّل ذاته كيان الجماعة. كما أنّ التعبير عن حياته وحقّه في انتزاعها، تعبيرٌ عن حياة الجماعة وتحقيقٌ لها.

غزة: بين إعادة الإعمار ومسيرات العودة الكبرى

بعد انسحاب العدوّ من قطاع غزة عام 2005، استمرّ الاحتلال الصهيوني بممارسة سلطته على أشكال حياة وموت القطاع وناسه. ولعلّ المؤشر الأبرز الذي يتمّ تداوله في هذا السياق، هو تحديد كمية السعرات الحراريّة الموجودة في السلع الغذائيّة التي يسمح العدو بإدخالها إلى غزة، إذ تصل  إلى الحدّ الأدنى الذي يُبقي الفلسطيني في غزة على قيد الحياة فحسب، حارمةً إيّاه من التمتّع بشروطٍ صحيّةٍ كافيةٍ. [12]

وتجلّت أكثر أشكال التدخّل الصهيوني في إدارة ميدان حياة وموت الفلسطيني في غزّة، في السياسات التي كُرّست بعد انتهاء حرب عام 2014،  إذ أعلن مبعوث الأمم المتحدة عن آليةٍ لإعادة إعمار غزة (خطة سيري لإعمار غزة)، بعد أن تمّ التوصل إليها وفق اتفاقٍ مؤقّتٍ بين العدو الصهيوني والسلطة الفلسطينيّة، يسمح ببدء العمل في إعادة إعمار قطاع غزة. صُمّمت الآلية لمعالجة القلق الصهيوني حول الدواعي الأمنيّة وإمكانية استخدام مواد البناء بغير أغراضها. [13]

قدّم الاتفاق الضمانات الأمنيّة للعدو الصهيوني من خلال آليّةٍ للرقابة على المواد، للتأكّد من استخدامها بالكامل لأغراضٍ مدنيّةٍ. حاول العدو، بذلك، تكريس معادلةٍ تقضي بتحقيق ضمانات أمنه ومجتمعه مقابل ضمانات بقاء الفلسطينيين في غزة على قيد الحياة. [14]

بواقع الحال، فرضت هذه الآليّة على غزّة حصاراً أكثر إحكاماً، إذ عكف فريقٌ من المفتشين الدوليين على تركيب كاميرات الفيديو، وإنشاء قاعدة بياناتٍ للموردين والمستهلكين. [15]  فيما تكفّل مكتب الأمم المتحدّة الإنمائي بإعداد قائمةٍ تحوي أسماء الأشخاص المحتاجين إلى مواد البناء في القطاع، وهي قائمةٌ لا يمكن تمريرها إلا بعد موافقة وحدة تنسيق أعمال حكومة العدو في الأراضي المحتلة، وهي هيئةٌ إداريةٌ تابعةٌ لوزارة جيش العدو.

تعكس آليّة إعادة الإعمار نُظم المراقبة والعقاب التي يمارسها الاستعمار لإخضاع قطاع غزّة لسيطرته، كما تعبّر عن الخلل الأخلاقي لدور الأمم المتحدة في قطاع غزة، والتواطؤ مع السياسات الاستعماريّة في أحيانٍ كثيرةٍ، فمن خلال هذه العملية، استطاع  العدوّ الصهيوني تحويل سياسات الضبط الاستعماريّة إلى مشكلةٍ تقنيّةٍ تتطلّب حلولاً لوجستيةً. [16] على إثر ذلك، يجري التنصّل المتعمّد من السياقات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، على الرغم من أنّ البنية الاستعماريّة تشكّل العقبة الرئيسة الماثلة أمام أيّ جهودٍ تسعى إلى تحقيق الإعمار والبناء في غزّة. 

تتماشى هذه الممارسات لسلطة الاستعمار الصهيوني مع ما يسمّيه فوكو “السلطة الحيويّة”، وهي بمثابة سلطةٍ تدير حياة الناس وتمتلك قوة الموت والحياة، وتعمل على محورين أساسين: محور الجسد الآلة، ومحور الجنس البشري القائم على التكاثر. ويجري ذلك عبر إدماج الظاهرة العقابيّة ضمن تكنولوجيا السلطة الهادفة إلى استثمار الجسد عبر إخضاعه، بغية إنتاج علاقات التفاوت والسيطرة.

وعلى الرغم من سيطرة الاستعمار الصهيوني على شؤون العيش الفلسطيني في غزة، إلا أنّها ظلّت تلعب دوراً طليعياً في مقاومة المشروع الصهيوني، في محطاتٍ تاريخيّةٍ متعددةٍ، أدت إلى هزيمة المشروع الاستيطاني في غزّة، وأجبرت أصحابه على الانسحاب منها عام 2006، بسواعد الشخصية الفريدة التي تجمع ما بين “الجذرية الوطنيّة والإبداع النضالي” [17]  في خلق أدواتٍ نضاليّةٍ تتحدّى الراهن.

وامتداداً لهذا النضال، يتمثّل أحد التجليات التي يظهر فيها الجسد الفلسطيني كحيزٍ لصياغة علاقات السيطرة والوكالة على الحياة والموت الفلسطيني في حالة الشهيد والجريح والسيقان المبتورة، والتي تجلّت في غزة، خاصةً في مسيرات العودة، إذ بلغ جسد الفلسطيني مرحلة التغلب على الموت، ليس انعداماً للوسيلة، بقدر ما مثّل الجسد أداةً لرفض أدوات الضبط والسيطرة الاستعماريّة، وذلك بإرباك الصهيوني بجسدٍ أعزل دفع الأخير لمجابهته بوحشيةٍ، بالقتل الفوري للجسد الفلسطيني، أو إصابته في أماكن حسّاسةٍ. [18]

في هذا السياق، جاءت مسيرات العودة التي انطلقت في ذكرى يوم الأرض 30 آذار 2018، كبعثٍ جديدٍ للجسد الفلسطيني. خرجت غزّة بلحمها الحي تزحف إلى حدود الأراضي المحتلة، بجسدٍ معتصمٍ على الحدود. مسيراتٌ ستبقى خالدةً في الذاكرة الفلسطينيّة، مجسّدةً بسيلها البشري مشهداً يحاكي العودة الكبرى. أجسادٌ مكشوفةٌ عزلاء، في أرضٍ جرداء، لا تملك سوى نفسها والحجارة والمقاليع وإطارات المطاط، أمام جيشٍ مدجّجٍ بالرشّاشات وبنادق القنص. مشهدٌ يتراقص فيه الفتية بأجسادهم ويتسابقون لرفع العلم الفلسطيني على السياج، نساءٌ ينقلن الحجارة، فتياتٌ تساعد طواقم الإسعاف، وشبابٌ متطوّعون يصنعون محلولاً من الخميرة والماء لإزالة آثار الغاز المسيل للدموع. هتافاتٌ وصرخاتٌ وضحكاتٌ اختلطت لتصنع مشهداً مهيباً، لتضرب غزة بلحمها الحيّ جدران السجن والخزان. خلّفت هذه المسيرات أكثر من ثلاثمئة شهيدٍ ارتقوا إلى العلا، [19] بجانب آلاف الجرحى، ومبتوري الأطراف، ليظلّ جسدهم المذكّر والمنبّه، الشاهد والوسيلة على فعل التحرّر من المنظومة الاستعماريّة وأدواتها.

الخاتمة

يُعتبر السجن الاستعماري آلية إخضاعٍ تتضافر مع غيرها لتطويع الثلّة المقاومة وعزلها عن جماعتها المرجعيّة، بالحرمان من الحرية على فعل المقاوم. كما يمثّل هندسةً مكانيّةً عقابيّةً لضبط الفرد، وإدامة السيطرة على المعتقل بصيغةٍ قائمةٍ على الإكراه والقهر، والتعذيب وامتلاك السجّان لجسد الأسير. لكن بالمقابل، تمكّن الأسرى من فرض نظامٍ مضادٍّ يشوّش على النظام المفروض، يضاهي بفاعليّته زمن الحرية خارجه، فمن خلال الحركة الأسيرة، أبدع الأسرى في خلق وسائل مقاومةٍ مستندةٍ إلى الجماعة، وصولاً لخوض الإضرابات الفردية، وتوظيف الجسد في التعطيل على منظومة الضبط الاستعماريّة.

من جهةٍ أخرى، شكّلت مسيرات العودة في قطاع غزّة تحدياً صارخاً أمام محاولات المستعمِر ضبط فعالية جسد الفلسطيني في غزة، بشقيّه الفرديّ والاجتماعيّ، يصرّ فيه على التمرّد على هيكليّات علاقات القوة الاستعماريّة وسلطتها الشاملة، بالخروج عن الهامش وإثبات موقعيّته. كانت أجساد الغزيين العزّل هديراً مركزيّاً مضاداً للمعركة الدائرة لتشكيل الجسد الانضباطيّ، إيماناً بمقولة الباسل: “المقاومة جدوى مستمرةٌ”.

أخيراً، يمكننا القول إنّ ما يُرى من ظاهر مسلك الناس بوصفه وفاقاً وتكيّفاً منهم مع الحال القائم، ليس مؤشّراً على الرضا والرضوخ الشعبيين، كما يتوهّم البعض، إنّما “نابعٌ من القوة الداخليّة للحياة”، مدفوعاً في أحيانٍ كثيرةٍ بقوّة قسريّةٍ لضبط النفس، لتكون بمثابة آليّةٍ وظيفيّةٍ لتخطّي الأوقات العصيبة فحسب. لكن هذا لا يؤشّر على نسيان المغبونين قضاياهم المحقّة، إذ يظلّون دوماً يمرّون بلحظات الحرية التي يتوقون إليها، فيرونها ماثلةً بالمعاني التي يعيدها الشهيد والمقاوم والأسير إلى الواجهة، لتدقّ جدران الوعي والذاكرة بحتميّة التحرر. تعيد هذه المشهديّات انخراط الفلسطيني في ساحةٍ ملؤها الوعي بالذات، والبحث الجماعي عن مستقبلٍ بديلٍ.

*****

الهوامش:
[1] فراس جابر، السجن “الإسرائيلي” كمفهوم زماني ومكاني دراسة في المفهوم والأثر (جامعة بيرزيت: رسالة ماجستير، ٢٠١٠)، ١١.
[2] وليد دقة، صهر الوعي أو إعادة في تعريف الذات (الدار العربية للعلوم ناشرون٢٠١٠)، ٦.
[3] عبد الناصر فروانة، ٢٠٠٦ “تقرير شامل حول الأسرى والمعتقلين في السجون والمعتقلات الإسرائيلية”.
[4] ميشيل فوكو، السلطة والمعاقبة “ولادة السجن”(بيروت: مركز الإنماء القومي، ١٩٩٠)، ٧٥.
[5] جابر، مصدر سابق، 51-53.
[6] رسالة الأسير أبو دياك قبل استشهاده.
[7] فوكو، مصدر سابق، 210- 211.
[8] نفس المصدر السابق.
[9] إياد الرياحي، الاعتقال الإداري: أبعاده النفسية على المعتقلين الإداريين (رام الله: مركز بانوراما، 2004)، 44.
[10] جابر، مصدر سابق، 33.
[11]  الإضرابات الفردية بين النجاح وتغييب القضية الجماعية للأسرى، وطن للأنباء، (نشر بتاريخ 2-2-2016)، الرابط: http://bit.ly/20jcHSY
[12] “لماذا تتحكم إسرائيل في السعرات الحرارية لسكان غزة؟”، (نشر بتاريخ 21 -10-2012)، فلسطين اليوم، الرابط. https://bit.ly/2MH6Bjy
[13] Maan Development Center, Gaza Reconstruction Mechanism: Enforcement & legitimization of Gaza Blockade.
[14] سلطان بركات وعمر شعبان،  العودة إلى غزة نهج جديد لإعادة الإعمار (بروكنجز: الدوحة، ٢٠١٥)، ٤.
[15] Maan Development Center, Gaza Reconstruction Mechanism: Enforcement & legitimization of Gaza Blockade.
[16] OPT: Humanitarian crisis – Depoliticizing the war in Gaza, 10 Jan 2009 , Relief Web , Informing humanitarians worldwide, http://bit.ly/1l5kl5A، الرابط.
[17] خالد عودة الله، “غزة : كسر الحصار والعودة”،  باب الواد (نشر بتاريخ 31-8-2018)، الرابطhttps://bit.ly/2ktI8Sq.
[18]  عروبة عثمان، “غزة: معركة السيقان المبتورة”، باب الواد (نشر بتاريخ 17/7/2018)، الرابط:https://bit.ly/2ZvXt7u
[19] وزارة الصحة الفلسطينية،  “الاعتداءات الإسرائيلية بحق المشاركين في مسيرة العودة السلمية” (نُشر بتاريخ 7-9-2019)، ٢.