( عن أحداثٍ حقيقيةٍ وقعت في قريةٍ مقدسيّةٍ في شتاء النكبة)

في ليلةٍ مُمطرةٍ باردةٍ من ليالي كانون، كانت بيوتُ القرية قد أغلقت أبوابها على ناسها. جلست خضرا تُجدِّل ضفيرتها على ضوء اللامضة، (1) عندما سمع حسين صوتَ صهيل فرسه! 

“قلتُ لخضرا بدي أطلع أَشُقّ على الفرس، (2) دَسّيت شِبْريّتي في حزامي، ولفّيت حطّتي على راسي، وسكّرت الباب بالمفتاح على خضرا. كانت الدنيا كُحُل بتمِدّ إصبعك وما بتشوفه، ومطر… مطر كبّ من الربّ.

مشيت بِعرق السنسلة الغربية (3) … وإذا بمجموعة من العصابات اليهودية مُتسلّلة إلى القرية وموزعين حالهم على الزوايا، ما عرفت أرجع على الدار لأنهم صاروا بيني وبين الدار، دخلت بيت الفرس وردّيت الباب ورايْ. (4)

فجأة… دفع يهودي الباب ودخل بيت الفرس وسلاحُه سابقُه، ولمّا صار في جوّه العتمة، قلت لحالي لا بُقتلني لا بَقتله، غمّيت نَفَسَه بإيد، وطعنته بشِبْريتي بالإيد الثانية، وردّيت الباب عليّ وعليه”.

مضت لحظاتٌ ثقيلةُ، بعدها تعالت أصواتُ اليهود “وهمّا بنادوا وبدوّروا على اليهودي اللي قتلته بعد ما استفقدوه… صِحِت البلد على صوتهم، وصارت الناس تصيح : اليهود… اليهود هاجمين على البلد بدهم ينسفوها”. وبدأ الصهاينةُ بإطلاق النار في كلّ الاتجاهات قبل أن ينسحبوا…

“بَس هِديَت المسألة، (5) تأكّدت إنو اليهودي ميّت، سحبته ودفنته في كوم التبن تيطلع الصبح وأشوفله صرفة، أدفنه أو أرميه في إحدى هالبيار. غسلت إيدي وشبريتي من الدمّ  تحت المزراب، ورجعت على الدار… وما فتحت الباب، هجمت عليّ خضرا وعبطتني وهي بتصيح ” يا خيي.. يا خيي”.

طمّنتها، وارتميت على الفرشة مهدود حيلي، وما دريت كيف سِهت عيني (6)…

وما صحيت إلا على صوت صياح خضرا في بيت الفرس، نطّيت مثل المجنون… وإذا بخضرا مغوطرة، (7) باقية رايحة إتحُط تبن وشعير للفرس، وكاشفة عن اليهودي الغرقان بدمّه المدفون في كوم التبن.

حملتها ورجعتها على الدار، وصرت أقرا عليها قرآن وأرشّ على وجهها ميّه، تَصحصحت وهي بترجّ وبتعيّط”.

“مَضت الأيام وخضرا لا من ثمّها ولا من كُمها، لا بتحكي ولا بتشكي، قاعدة في القُرنة تحت اللامضة وسرحانة، بحكي معاها ما بترُدّ بس مسطولة فيّي ودموعها نازلة…

سقيتها من طاسة الرجفة، وجبتلها الشيخ محمد يقرا عليها، وقال هاذي البنت والعليم الله لابسها جنّ. وظلت على هالحال لا نافع معها دوا ولا طبيب معالج. ذبلت خضرا، خضرا اللي كانت كلّ البلد بتتغنّى بزينها وطول جديلتها لركبتها.

بعد أربع خمس أيام، ولّا اليهود بقصفوا أطراف البلد بالمورتر… حملت خضرا على الفرس وهاجرنا مع الناس تَوْصِلنا رام الله. وبنيت خشبية تسترنا تيفرجها الله، ومضت الأيام وصارت الخشبية غرفتين طوب، وصارت دارنا في المخيّم.

بعد الحرب، أخذتها على مستشفى الدهيشة في بيت لحم، قعدت هناك فترة بدون فايدة، رَجّعتها على المخيم… وبعد الهجرة بحوالي سنتين، ماتت خضرا”.

“مرّت الأيام وجُرح خضرا في قلبي غايِر، الميّه في ثمّي مُرّة، وبقول لحالي كلّه بسببي، خَطِيّتها في رقبتي، أنا اللي قتلتها وما حفظت أمانة أمي وأبوي.

ماتت أمي ومن قبلها أبوي وآخر كلامهم: وصيتك خضرا يا حسين… وصيتك خضرا.

عِشت حياتي وصورتها وهي في بيت الفرس مرميّة على كوم التبن ما بتفارق خيالي، بَتْصابَح وبَتْماسى فيها”.

“بعد حرب الـ 67، قالوا أهل البلد إنهم بدهم يزوروا البلد ويشوفوا شو صار فيها. يوم وصلنا البلد لقينا دور البلد مهدّمة إلا أكمّ من دار، ومن ضمنها دارنا وبيت الفرس على حالها.

سَحلَت دمعة على خدّ الحاج حسين، “والله ما أجاني قلب أدخل دارنا وبيت الفرس، وجه خضرا مصوّر قُدّامي، وسحبت حالي وظليت مروّح على المخيّم ونار موّلعة في صدري وعيوني، وهذاك يوم وهذا يوم كلّ ما تعلن جمعية البلد عن زيارة للبلد في ذكرى النكبة، ما بروح معاهم ولا قادر أحِق (8) دارنا وبيت الفرس بعيني…”

(قبل سنواتٍ قليلةٍ، مات الحاجُ حسين وحيداً في غرفته في المخيم، ودُفن إلى جانب أخته خضرا في قبرٍ واحدٍ)

…………

الهوامش:

(1) اللامضة: الفانوس.
(2) أشُق: أتفقّد.
(3) بعِرق: بجانب.
(4) ردّيت: أغلقتُ.
(5) هديت المسألة: هدأت الأوضاع.
(6) سِهت عيني: غَلَبني النعاسُ.
(7) مغوطرة: مُغمىً عليها.
(8) أحِق: أنظرُ.