دراسة للباحث حازم جمجوم عن محاولات الاحتلال اصطناع قيادات محليّة من خلال تجربة روابط القرى، والتي أفشلتها الانتفاضة التي اندلعت في 1981، تتوسّع في جملة المصالح والسياقات الصهيونية التي قادت إلى تصوّر حكمٍ ذاتي فلسطيني ودور الاستشراق الصهيوني في بلورة هذا التصوّر وتطبيقه. (ترجمة ريتا أبو غوش)

(هذه المادّة هي الثالثة ضمن ملفٍ بحثيّ ينشره باب الواد حول “روابط القرى” كنموذجٍ للتعاون مع المحتلّين في فلسطين، لقراءة المقال الأول؛ الثاني؛ الرابع؛ الخامس).

ترجمة: ريتا أبو غوش

توطئة:

هذه ترجمة لدراسة مطوّلة للباحث حازم جمجوم عن محاولات الاحتلال اصطناع قيادات محليّة من خلال تجربة روابط القرى، والتي أفشلتها الانتفاضة الشعبية التي اندلعت في عام 1981. يتوسّع البحث في جملة المصالح والسياقات الاقتصادية والأمنية والاستراتيجية الصهيونية التي قادت إلى تصوّر حكمٍ ذاتي فلسطيني ما بعد 1967، متناولاً دور الاستشراق الصهيوني في بلورة هذا التصوّر وتطبيقه. هذا البحث هو بالأساس رسالة ماجستير غير منشورة قدّمها الباحث حازم جمجوم في عام 2012 في الجامعة الأمريكية في بيروت، بعنوان (The Village Leagues: Israel’s Native Authority and The 1981-1982 Intifada).

*****

مقدّمة

في الأوّل من تشرين الثاني عام 1981، تقلّد العقيد الصهيوني وأستاذ الأدب العربي في الجامعة العبرية في القدس، “مناحيم ميلسون”، منصب رئيس “الإدارة المدنيّة” الجديدة لجيش الاحتلال في الضفة الغربية، ليقدّم استقالته بعد أقلّ من عامٍ على توليه المنصب. كان مشروع “روابط القرى” الذي كُلّف به “ميلسون”، بناءً على طلبه، قد فشل فشلاً ذريعاً. جوبه المشروع منذ اللحظة الأولى برفضٍ واسع، وعمّت التظاهرات والاحتجاجات المدن والبلدات والقرى والمخيمات الفلسطينية، والتي ستستمرّ وتتأجّج على مدار العام التالي، وحتى سقوط آخر هيئةٍ من روابط القرى.

تكمن الفكرة من وراء “روابط القرى” في منح القوة الاستعمارية سلطةً متزايدةً لروابط قرويةٍ، شكّلتها السلطات الصهيونية عبر شبكةٍ من المتعاونين والعملاء في القرى، من أجل إدارة الحياة اليومية لأهالي وسكان الأراضي المحتلّة عام 1967. لم يأتِ اختيار المناطق الريفية، لا المدينية، مصادفةً؛ فمن جهةٍ، كان خياراً مرتكزاً على الواقع الإحصائي، حيث شكّل سكّان الريف في حينها الغالبية (حوالي 70%)، واستندت فكرة المشروع من جهةٍ ثانيةٍ على الإنتاج المعرفي الصهيوني الاستشراقيّ، الذي يتعامل مع القرويّين الفلسطينيين على أنّهم “الأكثر هدوءاً”، وبالتالي أكثر قابليةً للتعاون مع النظام الاستعماري.

وكما افترض المستشرقون الصهاينة، توجّب وضع هؤلاء الفلّاحين في مواجهة “المتطرّفين الراديكاليين” في المدن. وباختصار، كان من المقرّر أن تكون روابط القرى “سلطةً محليّة”، كالتي ناقشها “محمود ممداني” في السياق الإفريقي، غير أنّ “الصدع الاجتماعي” الذي خطّطت السلطات الاستعمارية الصهيونية لـ[افتعاله] واستغلاله في الحالة الفلسطينية لم يكُن قبلياً ولا دينياً، إنّما ريف مقابل مدينة.

في المقابل، لا يتمّ الاحتفاء بهذه المرحلة فلسطينياً أو إحياء المقاومة التي تسبّبت في فشل مشروع روابط القرى بما يكفي. غياب هذه التجربة عن الرواية الفلسطينية المقاوِمة ضدّ الاستعمار هو دافع هذه الدراسة بالدرجة الأولى، خاصةً بالنظر إلى أنّها جزءٌ من الذاكرة الحيّة لمعظم جيل ما قبل منتصف السبعينيّات، بالإضافة إلى كون انتفاضة 1981-1982 تجربةً تكوينيةً استثنائيةً للجيل الذي سيقود انتفاضة عام 1987. [1]  ولدى التعمّق في هذه التجربة، تتّضح لنا الفجوة المعرفية حولها أكثر فأكثر، ممّا يُكسبها أهميةً خاصةً بالنظر إلى كونها أول محاولةٍ استعمارية صهيونية ممنهجة ومدَعَّمة نظرياً (theorized) لإنشاء سلطة حكمٍ ذاتيّ في الضفة الغربية.

تسعى هذه الدراسة إلى محاولة سدّ الفجوة المعرفية حول مشروع روابط القرى، والذي كان محورياً ضمن التحوّل الأوسع في الأهداف والاستراتيجيات الاستعمارية الصهيونية، أو ما يصفه “ديفيد سكوت”: “أهداف القوة الاستعمارية.. ومجال عملها”. [2]  طرأ هذا التحوّل في عهد “الليكود” بين أعوام 1977-1984 لأسبابٍ أيديولوجيةٍ واقتصادية، ويُمكن اعتبار تعامل الإدارة الاستعمارية الصهيونية مع الضفة الغربية، باعتبارها أرضاً، وجزءاً مركزياً غير قابلٍ للسلخ عن “إسرائيل”، أهم الجوانب التي أوضحها هذا التحول.

كما أصبح شكل “الحكم القائم” مكلفاً على العدوّ، وذلك من الناحية المادية ومن ناحية تأثيره على الرأي العام الدوليّ تجاه الدولة الصهيونيّة. ومن أجل تحقيق الهدف الرئيسي المتمثّل بالسيطرة على كامل الأرض الفلسطينية، وحمايته على المدى البعيد، كان على هذا الحكم أن يتحوّل إلى شكلٍ من أشكال الحكم غير المباشر، وذلك بإقامة “سلطة محليّة” في الأراضي المحتلّة عام 1967. أمّا الشكل الذي ستصوغه السلطات الاستعمارية لهذا الحكم، فسيعتمد في المقام الأوّل على “المعرفة والخبرة” التي طوّرها المستشرقون الصهاينة على مدار العقود السابقة.

أحدهم كان “مناحيم ميلسون”، الذي بادر إلى تطوير فكرة إنشاء سلطة ذاتية تقوم على وضع الفلسطينيّين القرويّين في مواجهة أبناء جلدتهم في المدن، والتي أخذت شكل “روابط القرى”. هذه القناعة التي تملّكت “ميلسون” بنجاح مشروعه كانت معتمدةً، أساساً، على “عدسة المستشرق” التي رأى من خلالها المجتمع الفلسطيني والضفة الغربية، والتي حجبت بكلّ تأكيد كلاً من طبيعة المقاومة الفلسطينية من ناحية، والواقع السياسي والاقتصادي للفلّاحين الفلسطينيين من ناحيةٍ أخرى، وهما عاملان جعلا القبول بروابط القرى أمراً مستحيلاً على أرض الواقع.

الأدبيّات حول روابط القرى

لا يُمكن إنكار ندرة المصادر حول مشروع روابط القرى. تعود الدراسة المطوّلة الوحيدة حول الموضوع للباحث يحيى طاهر سحويل من جامعة النجاح، والتي أُتيحت بطاقة فهرستها عبر الإنترنت [3] ولكن يبدو أنّها اختفت، ولم تتوفّر نسخة منها لدى المؤلّف. [4] أمّا تقرير اللجنة المشتركة بين منظمة التحرير الفلسطينية والأردن المعنيّة بالروابط، [5] فهو مفقود من مكتبة الجامعة الأردنية بعد آخر استعارةٍ في عام 2006 [حسب هذه الدراسة في عام 2012]، بينما غادرت النسخة المتاحة للجمهور في مكتبة شومان في العاصمة الأردنية إلى قسم الممنوعات. [6]

ولا شكّ أنّ هناك موادّ أرشيفية أخرى، ولكن يصعب الوصول لها لأنها ظلّت حكراً على الأجهزة الحكومية والاستخبارية الصهيونية ذات الصلة، فيما تمّ تدمير معظم ما احتفظ به المشاركون في روابط القرى، أو يُستبعد إتاحته للباحثين والجمهور في المستقبل المنظور. كما لم تتمّ أرشفة الصحف الصادرة عن روابط القرى (المرآة وأمُّ القرى) في أيٍّ من الجامعات أو المكتبات العامة في فلسطين أو لبنان أو الأردن. إنّ الاحتمالات الممكنة للوصول إلى هذه المصادر هو عبر العثور عليها في مجموعاتٍ شخصية، وهو أمرٌ لم يتمكّن الباحث من القيام به.

وفيما يتعلّق بالدراسات التحليلية، وضمن نطاق معرفة الباحث، هناك مقال واحد مخصّص يتناول موضوع روابط القرى لسليم تماري (1983)، يعتمد في الغالب على تقارير الصحف “الإسرائيلية” والدولية، بالإضافة إلى التحليلات التي تمكّن المؤلف من التوصّل لها خلال معاينته الأحداث التي كانت ما تزال تتكشّف. مصادر أخرى تُشير إلى روابط القرى بشكلٍ وجيز، وذلك ضمن مشاريع بحثيةٍ تناولت موضوعاتٍ أخرى كتاريخ الأرض المحتلّة والمقاومة الفلسطينية في الفترة التي سبقت انتفاضة 1987، [7] وتحليلات العلاقات الصهيونية الدولية، خاصةً الغربية، في أوائل الثمانينيّات، [8] أو السِيَر الذاتية التي كتبها المشاركون في الأحداث المحيطة بروابط القرى، وغيرها. [9]

أمّا السيرتان الذاتيّتان لشخصيتين رئيسيتين ممّن كان يُمكن لهما التأريخ لهذه الظاهرة، فكانتا أقلّ فائدةٍ من المأمول؛ فقد اكتملت سيرة رئيس بلدية نابلس بسام الشكعة قبل التنفيذ الموسّع لمشروع الروابط، [10] فيما تجنّب “آرييل شارون”، بشكلٍ ملحوظ، أيّ ذكرٍ لسياساته تجاه الضفة الغربية خلال فترة تولّيه منصب وزير الحرب، [11] وكذلك تجنّبها أشدّ المنتقدين لسيرته. [12]

ومن بين جميع المصادر التي تمّ الاطّلاع عليها ضمن الموضوعات التي سبق ذكرها، يولي كلٌّ من “مايكل بالمبو” و”جيفري أرونسون” و”نيف غوردون” اهتماماً كبيراً بروابط القرى بشكلٍ خاص. رواية الأوّل صحفيةٌ إلى حدٍ كبير. ينتقل فيها من حكايةٍ إلى أخرى في محاولةٍ لإدانة الاحتلال، دون وضع المشروع في سياقه أو التشكيك في أهميته الأوسع. بينما يقدّم “أرونسون” أكبر قدرٍ من التفاصيل، دون تجاوز نواياه الوصفية التي حدّدها بـ “تصوير السياسة الإسرائيلية.. وردود الفلسطينيين عليها”. [13] وتعدّ رواية “غوردون” الأكثر تحليلاً لروابط القرى وسياقها، يوظّف فيها هذه اللحظة التاريخيّة للربط بين عودة الهوية الفلسطينيّة في السبعينيّات واندلاع انتفاضة 1987، على الرغم من توظيف المشروع لـ “قمع الروح الوطنية الناهضة بين السكّان المحتلّين”. [14] ومع ذلك، يبقى تحليله موجزاً، يركّز فيه على الفترات التي سبقت وأعقبت أوائل الثمانينيّات، أكثر من تناوله مرحلة روابط القرى عينها.

وبالنظر إلى أهميّة مشروع “روابط القرى” والانتفاضة التي هزمته، قد يكون من المفيد تقديم تخميناتٍ حول أسباب قلة الاهتمام الذي حازت عليه هذه التجربة، ولماذا غابت بشكلٍ كبيرٍ عن السرديّة الفلسطينية لمقاومة الاستعمار.

ظلّت أدبيات الحركة الوطنية الفلسطينية حبيسة اتجاهين في مناقشة المقاومة الفلسطينية، وهما العنف واللاعنف. من جانب، هناك الاتجاه الذي صان وخلّد التاريخ “الرسمي” لمنظمة التحرير، واتّسم بنزعة إعطاء أولوية مناقشة تاريخ المقاومة الفلسطينية للقاعدة الميدانية لمنظمة التحرير. فباستثناء الأحداث التي كان لها تأثيرٌ على هذه الأنشطة خارج حدود فلسطين، وحتى اندلاع انتفاضة عام 1987، ظلّ النقاش حول أحداث الأراضي المحتلّة عام 1967 نقاشاً هامشيّاً. ومن جانبٍ آخر، كانت هناك المعادلة الصريحة لـ “الحركة الوطنية” بـ منظمة التحرير الفلسطينية. [15] ومن الأمثلة البارزة على ذلك هو عمل “شموئيل ساندلر” و”هليل فريش “، اللذين وإنْ وفّرا كمّاً هائلاً من المعلومات بالرجوع إلى المصادر العبرية، فقد فعلا ذلك فقط لإظهار الأراضي المحتلّة بوصفها هامشيّةً لـ “المركز” في الخارج. [16]

وفي مؤلّفه عن تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، يخصّص يزيد صايغ ثلاثين صفحةً للحديث عن الأراضي المحتلّة عام 1967 قبل انتفاضة عام 1987، محاججاً بأنّ الاهتمام بها كان نابعاً من حقيقةٍ مفادها أنّ “التنظيمات الفدائيّة كلّها سعت لإيجاد حلفاء وجمهور في الأراضي المحتلّة”، وذلك ضمن إطار “التأثير في اتجاه سياسة م. ت. ف المركزيّة.. [بنيّة] “الاستيلاء” على بنيانها الدولاني”.  [17]

وهناك مجموعة من الأدبيات المتمحورة حول منظّمة التحرير الفلسطينية، وهي الأكثر عقائديّة وإثارة للجدل حول الصراع الفلسطيني، والتي تتباين كثيراً من حيث النوعيّة. وفي الجانب المعادي منها لـ “إسرائيل”، وغالبيتها بالعربية، ينصبّ التركيز على المقاومة المسلّحة باعتبارها “الطريق الوحيد لتحرير فلسطين”، [18] الذي التزمت به منظّمة التحرير، بالتالي يحيل أيّ أشكالٍ أخرى من المقاومة إلى منزلةٍ ثانوية، بل وأقل شأناً، للصراع، وبالتالي أقلّ جدارة بالاهتمام. [19] وفي هذه الكتابات، يرافق موقع المقاومة المسلّحة القاعدة الميدانيّة لمنظمة التحرير الفلسطينية، من الأردن مروراً بلبنان ووصولاً إلى تونس، ولا يعدو فيها الوطن المحتلّ سوى وُجهةٍ للهجمات الفدائية التي يعود منها عددٌ قليل من المقاتلين.

ومن جانبٍ آخر، سعت الأدبيات الصهيونية الغزيرة إلى وسم الحركة الوطنية الفلسطينية بصفتها مسعىً عنيفاً متعطّشاً للدماء، وهو توجّهٌ كان مدفوعاً إلى حدٍ كبير بالرغبة في الحطّ من شأن الحركة الوطنية وفاعليها، وبالتالي إعادة تقديمهم بوصفهم إرهابيّين ومتطرّفين. وهنا أيضاً، لا تتناسب الوسائل غير المسلّحة في النضال الشعبي مع القالب الأيديولوجي الصهيوني، وبالتالي يتمّ تجاهلها باعتبارها غير “ذات صلةٍ” تاريخيّاً. كما يتطابق التركيز شبه الحصريّ على عمليات المنظّمة في الأردن ولبنان مع ما أطلق عليه “باتريك سيل”: “حرب الأشباح”، [20] لتؤكّد أطروحات الأدبيّات الصهيونية كذلك على التطرّف الفلسطيني العنيف. بالمقابل، نادراً ما يظهر الفلسطينيون في الأراضي المحتلّة في هذه الأدبيّات، إلا عندما يشاركون في المقاومة المسلّحة. [21]

كان المستشرقون الصهاينة أبرز المساهمين في النقاش حول العنف، خاصةً في تحليل الحركة الوطنية داخل فلسطين من منظور المستعمِر. [22] وبحسب سميح فرسون و”جين لانيدز”، ولاحقاً “رود أيا”، تمثّل إسهامهم الرئيسيّ في “نموذج المحرّض الخارجي”؛ أيّ منظمة التحرير التي حرّضت “الجماهير الهادئة” في فلسطين وعملت على استفزازها، بل وإكراهها على مقاومة “إسرائيل”. [23]

وردّاً على السرديّات التي تمحورت حول العنف – سواءً مدفوعةً بالتزامٍ أيديولوجي باللاعنف كوسيلة أو رغبةً بالتخلّص من صورة الفلسطيني العنيف –  برز اتجاهٌ جديد في تأريخ الكفاح الفلسطيني يسعى إلى تأريخ اللاعنف، [24] ويسلّط الضوء على المقاومة الفلسطينية السلميّة متجاهلاً المقاومة العنيفة. وبالنظر إلى اعتبار الكفاح المسلّح مبدأً تنظيميّاً رئيسيّاً لفصائل منظمة التحرير الفلسطينية، ساهم هذا التجاهل في توجيه الرواية بشكلٍ يميّز بين داخل فلسطين وخارجها بشكلٍ حاد.

وإن كان بقصدٍ أو بدون قصد، عمل المؤرّخون الذين انخرطوا سواء بالعنف أو اللاعنف الفلسطيني بالفعل على تسطيح تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية على مستويين. الأول باختزالهم النضال الوطني وإبقائه حبيس هذه الثنائية. ففي المحصّلة، لا معنى لهذه أو تلك الثنائية بالنسبة للفلسطينيين الذين يرون أنفسهم مشاركين في الكفاح المسلّح، حتّى لو اقتصر فعلهم على رفع علمٍ فوق مبنى أو الكتابة على جدران قريتهم في منتصف الليل. والأهم من ذلك هو أنّ هذه النزعة أتاحت للمستعمِر التركيز على العنف الفلسطيني بتحديد شروط التحليل العلميّ للمستعمَر. إذ وقع الأخير ضحية اختزال نفسه إلى ردّ فعلٍ على ماكينة المستعمِر الدعائية، لينتج عن ذلك تركيز على التكتيك، بدلاً من تقييم فائدة التكتيكات المختلفة كجزءٍ من الأهداف والاستراتيجيات الاستعمارية والتحرّرية الأوسع التي ينطوي عليها هذا الصراع.

ولنأخذ المثال التالي: كان اغتيال زعيم رابطة قرى رام الله، يوسف الخطيب، من الأحداث التي تمّ التقليل من شأنها – بل وتشويهها في الواقع – ضمن التيار الحديث المتمركز حول اللاعنف في أدبيات النضال الفلسطيني. ومع ذلك، لعبت عملية اغتيال الخطيب، وعملياتٌ مشابهة غيرها، دوراً محورياً في ردع التعاون مع روابط القرى وتقييده بشدّة. إذ لا يُمكن التوصّل إلى فهمٍ معمّق للسياسات الاستعماريّة “الإسرائيلية” والمقاومة الفلسطينية لها من غير دراسة المقاومة بأشكالها المختلفة – دون اتّخاذ موقف أيدولوجي يفضّل نوعاً على الآخر – وهذا لا يعني أنّه لا يُمكن تقييم الأثر والفعالية لمختلف أشكال المقاومة والتوصّل إلى حكمٍ بشأنها.

مستوى آخر ساهم في تقويض تاريخ الحركة الوطنية، وهو ميل كلا التوجّهين الآنف ذكرهما (التيار المتمركز حول منظمة التحرير وتيار اللاعنف الحديث) إلى تجاهل بعض العمليات السياسية – الاقتصادية المهمّة، والتي يعتمد عليها المشروع الاستعماري الصهيوني والحركة الوطنية على حدّ سواء. أمّا الدراسات التي تناولت هذه العمليّات، فقد ركّزت عليها بشكلٍ حصري، وبالتالي أهملت تأثيرها على المشاريع الاستعمارية والمناهضة للاستعمار. [25]

يعدّ ما قدّمته ليلى فرسخ عن العمالة الفلسطينية في الداخل المحتلّ استثناءً في هذا الصدد، غير أن إضاءتها على المسافة بين الاقتصاد والتاريخ السياسي-الاجتماعي تُستخدم لدى تناول سياق ما بعد عام 1994. [26] كما نستثني من هذه المجموعة المجلّدات المنقّحة التي شملت دراساتٍ تضمّنت منهجيات تحليل متنوّعة، مع أنها قامت على الفصل التحليلي بين الاقتصاد والسياسة والقانون وغيره.  [27]

وبينما ينصبّ تركيز هذه الرسالة على الأهداف والاستراتيجيات الاستعمارية “الإسرائيلية”، إلا أن الكثير مما شرعتْ في القيام به هو فحص السبل التي نجحت فيها المقاومة الفلسطينية في تحدّي مشروع روابط القرى، كما تعاملت في قراءتها للمقاومة العنيفة واللاعنفيّة كتجليّاتٍ للنبض الشعبي وتعبيره عن مقاومة الاستعمار والاحتلال الصهيوني.

منهجية الدراسة ونطاقها

يتبنّى البحث منهجيّة مركّبة في محاولةٍ للربط بين الأدبيات المجزأة كالتاريخ والسياسة والاقتصاد والسوسيولوجيا والقانون. يهدف الباحث هنا إلى تفكيك التحوّل في الأهداف والاستراتيجيات الاستعمارية الصهيونية، من خلال دراسة وفحص سياقاتها السياسية والقانونية والاقتصادية في الأراضي المحتلّة عام 1967 خلال سنوات “الليكود”، وذلك بالتركيز على كيفية نشوء فكرة روابط القرى، والمصالح التي خدمتها، والكيفيّة التي تمّ بها تنفيذ هذا المشروع، وكيف أثّر وتأثّر بالتحوّلات الاجتماعية-الاقتصادية. وأيضاً، كيف قاوم الفلسطينيون مشروع روابط القرى، وكيف ساهمت المقاومة في زوالها.

تبني الدراسة تحليلها بشكلٍ أساسيّ على ما قدّمه محمود ممداني حول “السلطات المحليّة” – أطلق عليها البريطانيون “حكماً غير مباشر” وتعامل معها الفرنسيون كـ “رابطة أهلية” – والتي فرضتها القوى الاستعماريّة الأوروبية في القارة الأفريقية. في كتابه “المواطن والرعية”، يتعامل “ممداني” مع هذه السلطة المحلية بوصفها “استبداداً لامركزياً”، موضحاً كيفية استنادها على “الفصل المؤسّساتي “، كما أسماه “جان سموتز”، وهو شكلٌ من أشكال الحكم الاستعماري الذي ابتكره المستعمِر البريطاني “فريدريك لوغارد” في كلٍّ من نيجيريا وأوغندا. تمّت صياغة هذه الاستراتيجية كردٍّ على ما حقّقته الشعوب المستعمَرة في مقاومتها لاستراتيجية التفرقة الإقليمية التي اتّبعها الاستعمار، وذلك من ناحية تنامي النزعة التحرّرية وقدرة المسعمَرين على المقاومة. [28]

مثّل تشعّب الدولة الاستعماريّة العنصرَ المحوريّ لـ “الاستبداد اللامركزيّ”، ترتّب عليه تشكّل سلطةٍ حاكمةٍ من المستعمَرين، وذلك بدعم المستعمِر وبأمره، لتبقى ذراعاً ممتدّاً للقوة الاستعمارية لا منفصلاً عنها، [29] “تشكّل “نظام حكمٍ مستقلاً ولكن تابعاً”، وتجمع بين الاستجابة المرِنة للرعيّة والقدرة على تنفيذ التوجيهات الاستعمارية المركزية وامتصاص ردود الأفعال حولها. [30]

يركّز تحليل “ممداني”، بشكلٍ رئيسيّ، على تأثير السياسة الاستعمارية على المستعمَر؛ والذي تناسب مع هدفه لـ “تسليط الضوء على تلك الجزئية من الإرث الاستعماري.. التي لا تزال على حالها إلى حدٍّ ما”. [31] بدورها، تهدف هذه الأطروحة إلى دراسة الاستعمار الصهيوني واستراتيجياته، في مساهمةٍ لتطوير قراءته وتحليله، متكئةً على الإطار التحليلي لـ “ممداني”، ومضيفةً مستوى تحليليّاً آخر على ما قدّمه، تركزّ فيه على الإنتاج المعرفي الصهيوني حول الفلسطينيين، الذي أنتجه باحثون مستشرقون كما سنوضّح، بالاستناد إلى ما قدّمه إدوارد سعيد (2003) في الاستشراق.

وبإضافة ذلك، يتّضح لنا أنّ التوجّهات الإدارية للاستعمار الصهيوني لم تختلف حول الحاجة إلى إنشاء “سلطةٍ محليّة”، ولكنّها اختلفت عمّا يجب أن تبدو عليه؛ إذ جادل مستشرقو حزب العمل (المعراخ)، كالأستاذ – الكولونيل “أمنون كوهين”، أنّه ينبغي التوصّل إلى اتفاقٍ بشأن تقاسم السلطات مع الأردن وتوزيع المسؤوليات والمكتسبات المنبثقة عن الضفة الغربية. واعتبر مستشرقو “الليكود”، كالأستاذ – الكولونيل “مناحيم ميلسون”، “خيار الأردن” وتقسيم أرض “إسرائيل الكبرى” أمراً مرفوضاً، وأن الأردن هو الدولة الفلسطينية البديلة، وسيتناغم بوصفه معتدلاً مع أيّ خطّة ينفّذها الجانب “الإسرائيلي”. وعلى هذا، تؤكّد النتائج التي يتوصل إليها هذا البحث صحّة ما نادى به “فريدريك كوبر” و”آن لورا ستولر”، وهو وضع التناقض في قلب الدولة الاستعمارية، [32] بينما لا يترك الإطار النظريّ لـ “ممداني” مجالاً لمثل هذا التناقض.

في الواقع، لم تبدأ المحاولات الاستعمارية لفرض حكمٍ غير مباشرٍ في فلسطين بروابط القرى، ولم تنتهِ عندها. نجد سابقةً في محاولة الوكالة اليهوديّة في ثلاثينيّات القرن الماضي تسييس الخلافات القائمة بين المدن والريف وتأسيس “حزب الزرّاع” الذي دعمته عائلة النشاشيبي في مواجهة الحسيني، [33] إلا أنّ المقارنة المتعمّقة بين هذه التجربة، أو غيرها، مع روابط القرى تبقى خارج نطاق هذه الدراسة.

كما شهد كلٌّ من جنوب لبنان والجولان المحتلّ وقطاع غزّة والأراضي المحتلّة عام 1948 محاولاتٍ صهيونية لفرض أشكالٍ مختلفة من السلطات المحليّة، والتي قاومتها الجماهير الفلسطينية والسورية واللبنانية كما جرى في الضفة الغربية، ولكن لم تتمكّن هذه الدراسة من التعمّق في هذه المحاولات، وتركّز في تحليلها على الضفة الغربية.

الفصل الأول: نشأة روابط القرى وحلّها

مع أنّه غير كاف، ولكن يمكن للمرء أن يستخلص قدراً معقولاً من المعلومات حول روابط القرى وانتفاضة 1981-1982 من الكتابات القليلة حولها وتقارير الصحف التي نُشرت في تلك الفترة. يقدّم هذا الفصل لمحةً عن تجربة روابط القرى وانتفاضة 81-82، مبتدئاً بتحليلٍ للحركة الوطنية المتنامية في تلك الفترة والتي شكّلت أساساً للهبّة التي أطاحت بهذا المشروع، ثمّ يعطي لمحةً عامةً عن بعض الأحداث الرئيسية في تلك الأشهر العشرة المصيريّة، أيّ ما بين فرض الإدارة المدنية الموسّعة بقيادة “مناحيم ميلسون” في الأول من تشرين الثاني 1981 وحتّى استقالته في أيلول 1982، ويختم بتقديم بعض الملاحظات حول الجوانب التي اعترت المشروع والمقاومة التي شهدها.

أ‌.        الحركة الوطنية الفلسطينية عشيّة العام 1981

في محاججته بأنّ السياسات الإندونيسية في تيمور الشرقيّة أدت إلى ظهور ونموّ الحركة الوطنية التيمورية الشرقية، يقول “بنديكت أندرسون” إنّ نظام “سوهارتو” لم يكُن “على دراية بالتاريخ الحديث لبلده”، ولم يتعلّم قادته الدروس من ماضي إندونيسيا. كان هذا الدرس، على حدّ قوله، يتمثّل بأنّ “الفكر الإمبراطوري الجديد” في لاهاي في مطلع القرن العشرين كان إيذاناً بـ “مزيج مشحون من التنمية والتعليم والقمع (الذي) أدّى إلى نهوض القومية الإندونيسية فجأة، والتي قضت على الحكم الهولنديّ بعد بضعة عقودٍ فقط”.

وقد يكون من المغري قراءة نهوض الحركة الوطنية في الضفة الغربية خلال السبعينيّات، وكيف تجلّت في اندلاع الانتفاضة، كتطوّرٍ مماثلٍ حفّزته التنمية أو رؤى الحداثة الاستعماريّة. لكنّ هذه الطريقة بالتحديد هي التي حلّل بها بعض المستشرقين الصهاينة هذا الموضوع. ومع ذلك، يُلقي هذا التوجّه الضوء على الديناميكيات والأحداث المختلفة التي تُكسب كل حالةٍ خصوصيّتها، والأهم من ذلك، الدور الفعليّ والمتناقض للمستعمَر في تشكيله وعيه الوطنيّ واستراتيجيّته للمقاومة.

في أعقاب التضييق الأردني والصهيوني على النشاط السياسي في فلسطين منذ أواخر الخمسينيّات، سعت الحركة الوطنية لإعادة بناء نفسها في أوائل السبعينيّات، وهو ما بدأت ثماره بالنضوج في عام 1976 مع فوز مرشّحي الجبهة الوطنية الفلسطينية في انتخابات البلديّات. ساهم تولّي البلديات في إعادة خلق مساحةٍ منظّمة للعمل الوطنيّ تشكّل مركزاً لعمل الحركة الوطنية وتنسيق فعالياتها وتمثيلها. وقد ظهر ذلك بشكلٍ جليٍّ في أعقاب توقيع اتفاقية “كامب ديفيد” عام 1978، على وجه الخصوص، بُعيد تشكيل رؤساء البلديات المنتَخبين لجنة التوجيه الوطني، لتصبح هذه اللجنة واجهة الحركة الوطنية في الأراضي المحتلّة التي تنظّم المظاهرات الموحّدة وتصدر المواقف وبيانات التنديد، وتدعو إلى الإضرابات العامة.

وقد يكون من الصعب المحافظة على هذه الأنشطة، التي غالباً ما تكون سريّة، بسبب سيطرة السلطة الاستعمارية وملاحقة المبادرين إليها. غير أنّ هذا القمع أصبح محدوداً إلى حدّ ما بعد انتخاب رؤساء البلديّات في عمليّة ديمقراطية وافقت عليها السلطة الاستعماريّة. لذلك، كانت اللجنة هي الوحيدة التي بوسعها القيام بهذا الدور في الحركة الوطنيّة.

ومن بين جوانب الدور التنسيقي الذي لعبته لجنة التوجيه الوطنيّ هو أنّها ضمّت ممثلي المجالس القروية، التي كانت لتندرج “تحت سلطة الدولة في ظل ظروف سيادة وطنية”، [34]  بالإضافة إلى ما عُرف بـ “المؤسسات الوطنية” في حينها، كالغرف التجارية والنقابات المهنية والخيرية. وكنتيجةٍ للتنسيق والتواصل المستمرّ، خاصةً بين القيادات المختلفة، ساهم دور اللجنة التنسيقي (وقبلها الجبهة الوطنية الفلسطينية) في تقويض أيّ انقسامٍ سياسيّ قائمٍ بين المدن والقرى.

فرضت انتخابات عام 1976 برنامجاً وطنياً نضالياً ضدّ الاحتلال، وجاء الفوز على أساس هذا البرنامج ليقطعَ الطريق على الانقسامات الطبقية والعشائرية، فضلاً عن إخضاعه الخصومات القائمة للنضال الوطنيّ. وفي حالة روابط القرى، عارض أبناء العشائر قادة الروابط من عشائرهم علانيّة، وتبرّأت العائلات من أبنائها الذين شاركوا في المشروع التعاونيّ، كما حصل مع زعيم رابطة قرى بيت ساحور بشارة قمصيّة.

وبالإضافة إلى لجنة التوجيه الوطني، تشكّلت تنظيماتٌ شعبيةٌ لعبت دوراً مهمّاً في تلك المرحلة، ويُمكننا إدراجها في فئتين رئيستين، وهما مبادرات التنمية المقاومة والمنظّمات الجماهيرية، والتي هدفت بشكلٍ أساسيّ إلى تحويل مفهوم التنمية من مفهوم سياسات إعاقة التنمية الصهيونية، وسياسات الحفاظ على الوضع القائم الأردنية، إلى مفهومٍ يوفّر الأساس الاقتصادي والاستدامة للثورة الفلسطينية، وينتقل من مفهوم الصمود إلى فعل الصمود المقاوم. عملت هذه المبادرات الشعبية المنظّمة على تطبيق برامج استراتيجية التنمية المقاومة في المجالات الزراعية والطبية، وارتبط معظمها بالفصائل اليسارية كلجان العمل الزراعي ولجان العمل الصحي وجمعية الإغاثة الطبية. يصف البرغوثي وجقمان كيف سعت هذه المبادرات للانفصال الكامل عن البنية القائمة التي كانت تعمل تحت الاحتلال، والتي بدورها إمّا قَبِلت بسياسات الاحتلال كأمرٍ واقع أو اتّبعت النهج الغربي في عملها.

على صعيد الصحة، هدفت هذه الجهود إلى تطوير القطاع الصحيّ وسبل الوقاية والعلاج، مشركةً شرائح مجتمعيّة مختلفة في نشاطاتها، كما صعّدت تحديها للسلطات العسكرية وقدّمت الخدمات الطبيّة حيثما أمكن، دون انتظار الحصول على إذن منها. [35] وقد جاء ذلك في الأساس رفضاً لخفض الخدمات الصحية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وإلحاقها بنظام الرعاية الصحي “الإسرائيلي”، وهو  ما سيشكّل أحد عناصر خطط الإدارة (الذاتية) المدنية . [36]

وكان دعم الزراعة محورياً لهذه المبادرات، لينخرط الفلّاحون في جهود تشكيل التعاونيات الزراعية والتسويق والحملات المحلية لتشكيل البنية اللازمة للإنتاج التنافسي، فضلاً عن الحشد والتنظيم ضدّ مصادرة الأراضي والمياه، والتي ستكون من السمات التي ميّزت فعاليات انتفاضة 1981-1982.

يظهر دور هذه التعبئة في معارك الحفاظ على السيطرة الفلسطينية على إمدادات الكهرباء، كما حصل في نابلس في تشرين الثاني 1979 بعد رفض رئيس البلدية ورئيس لجنة التوجيه الوطني، بسام الشكعة، إعادة توصيل شبكات المياه والكهرباء في المدينة بالاحتلال، ليسجن ويهدّد بالترحيل على إثرها. أدّى ذلك إلى استقالةٍ جماعيّة لكافة موظّفي بلدية نابلس، وإضراب عام على مستوى المدينة، وهو ما حافظ على المولّدات سليمة.  ونتيجةً لحراك اللجان الزراعية ومجالسها القرويّة، بدأت بلدية نابلس بمدّ شبكة الكهرباء إلى القرى، وشرعت بعضها بتركيب مولّداتها الخاصة.

يكثر ذكر محاولات الاحتلال التصدّي لهذه الجهود في الصحف الصهيونية. [37] في 22 أيلول 1981، وفي كلٍّ من قرية يتما قضاء نابلس وقرية صيدا قضاء طولكرم، أجبرت السلطات العسكرية الصهيونية المقاولين على تفكيك مولّدات الكهرباء. وبعد أقلّ من شهر، في الرابع عشر من تشرين الأول 1981، أمرت المحكمة العسكرية بتفكيك المولّدات وتدمير أعمدة الكهرباء في قريتي الناقورة وروجيب قضاء نابلس، في حين أُمرت بلدية سلفيت بربطها بالشبكة “الإسرائيلية” (وسيسفر الأمر الأخير عن معركة قانونية دامت عدة أشهر). وفي الرابع والعشرين من كانون الثاني 1982، اعتقلت القوات العسكرية الإسرائيلية 18 مهندساً وعمال بلدية “ضُبطوا” أثناء وصلهم قريتي روجيب والناقورة بشبكة الكهرباء التابعة لمدينة نابلس. وفي 10 شباط من العام ذاته، دمّر الجيش أعمدة إمداد الكهرباء التي تصل بلدة حوّارة بشبكة الكهرباء في نابلس.

تنطلق معظم الكتابات عن هذه المبادرات والمنظّمات من عام 1982، وتركّز في طرحها على الدور الذي لعبته في جهود التنمية المقاومة في الفترة التي سبقت انتفاضة عام 1987. [38] ولا شكّ أنّها تستدعي المزيد من الاهتمام  والبحث، خاصةً بالنظر إلى أنّ بعضها بدأ العمل في الخمسينيّات كلجان الإغاثة الزراعية، بالإضافة إلى مركزيّة الفلّاحين في كلّ من الاستراتيجيات الاستعماريّة والمقاومة على مدى القرن العشرين. كان لهذه الجهود التنظيمية أثراً ملموساً، وهو ما اتفق معه “ميلسون”، الذي مَنَع مزارعي الحمضيات في طولكرم على سبيل المثال من تشكيل جمعيتهم الخاصة في تشرين الثاني 1981.

وسواءً في العمل الصحي أو الزراعي، اعتمدت هذه المبادرات في تنظيمها الشعبيّ على المنظّمات الجماهيرية، كالنقابات العمّالية والاتحادات النسائية ولجان العمل التطوّعي والأطر الطلابية، وحشدت عشرات الآلاف من الفلسطينيين، معظمهم من الشباب، بما يتجاوز حدود الطبقة والعشيرة. ووفقاً لتراكي، “كانت الغالبية العظمى من (جمهور وقيادة هذه المنظّمات) من الفلّاحين واللاجئين والشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى في المدن”.  [39]

أمّا فصائل منظّمة التحرير المتمركِزة قياداتها خارج فلسطين، فبدأت تلمس قوة هذه المبادرات وتتنافس على الوجود فيها حسب القطاعات. سعت حركة فتح، على وجه الخصوص، إلى تولّي زمام القيادة فيها، وأنشأت هيئاتٍ موازية للحالات التي فشلت في فرض هيمنتها عليها. [40] وبصرف النظر عن التركيز القصير للعمل المسلّح في أعقاب 1967، لعلّها المرة الأولى التي تبدأ فيها “الحركة الوطنية الرسمية”، في تركيز انتباهها “رسميّاً” على الحركة الوطنية داخل الأراضي المحتلّة. [41]

ولا بدّ أيضاً من الالتفات إلى الدعم الكبير الذي وفّرته السجون والجامعات لهذه المنظّمات، فقد كان لها الدور الأبرز في التعبئة الاجتماعية وتدريب الكوادر خلال العقد الأول من الاحتلال.  وبالإضافة إلى بناء قدرات المجتمع الفلسطيني على الحشد وتوظيف المهارات المتاحة، شاركت الحركتان الأسيرة والطلابية بشكلٍ مباشر في بناء حركةٍ وطنيّةٍ تتخطّى أية اعتباراتٍ قائمة على ثنائية المدينة والقرية.

في عام 1981 وحده، تعرّض أكثر من 230 ألف فلسطينيّ (من بين 800 ألف) “للتحقيق والتوقيف لفترات أقلّها 24 ساعة، وأمضوا أحكاماً بالسجن الفعلي”، [42] بينما شكّل القرويّون نسبةً كبيرة منهم، إن لم تكُن الغالبيّة. [43] لم يساهم السجن والأسر في تأجيج الرغبة في مقاومة الاحتلال فحسب، بل تحوّلت السجون التي صُمّمت لعزل وتحييد الأسرى إلى معسكرات تدريبٍ مع نمو الحركة الأسيرة، شكّل خلالها العمل السياسي والتنظيمي أبرز لبنات عملية التعليم التي رافقها برامج تثقيفية وأكاديمية للأسرى، ومثّل صورةً مصغّرة عن الأرض المحتلّة.

وعلى صعيد السجن نفسه، ناضلت الحركة الأسيرة من أجل اكتساب المزيد من الحقوق وتحسين ظروف الاعتقال، بما يشمل الطعام والكتب والزيارات العائلية والرعاية الطبية، أو احتجاجاً على العزل الانفرادي وإجراءات مصلحة السجون. وتراوحت هذه الممارسات من رفض الامتثال لـ “العدد” والإضراب عن الطعام إلى مقاطعة مرافق العمل الإجباري الذي فرضته سلطات السجون. وبالطبع، كان لا بدّ أن يتمّ التواصل والتخطيط بشكلٍ سرّي، لتبتكر الحركة الأسيرة بدورها سبل مختلفة للتواصل السياسيّ مع الخارج، مثل تهريب “الكبسولة”. [44]

ساهمت تجارب الأسرى الذين استكملوا دراستهم بعد الاعتقال في إثراء ميدان آخر للتعبئة والتجنيد، وهي الجامعات. أُنشئت ثلاث منها بعد معارك شاقّةٍ بين 1973-1975،، وهي: جامعة بيرزيت وجامعة بيت لحم وجامعة النجاح، بالإضافة إلى كليةٍ فنيةٍ ودينيةٍ في الخليل. وبحلول العام 1980، انتسب 7500 طالبٍ في هذه الجامعات، ولحقهم 2500 طالبٍ في العامين التاليين، [45] وكانت نسبةٌ كبيرة منهم من الأرياف. أدّى تبادل الأفكار والآراء في الفضاء الجامعيّ إلى تشكيل العديد من المنظّمات القاعدية والعمل الجماهيريّ، وشكّل قاعدة تجنيدٍ للتنظيمات السياسيّة. كما تمّ توظيف ساعات العمل التعاونيّ والخدمة المجتمعية لرفد أنشطة مثل زراعة المحاصيل وحصادها وتأهيل المصاطب الزراعيّة.

وإلى جانب المبادرات والمنظّمات التي ظهرت ونمت قبيل فرض مشروع روابط القرى، جديرٌ بنا أيضاً ذكر النهضة الثقافية التي شهدتها تلك الفترة، والتي ربطتها علاقةٌ وثيقةٌ بالحركة الوطنية في أواخر السبعينيّات وأوائل الثمانينيّات، لتشمل الموسيقى والأدب والشعر والمسرح والرقص، وتمحورت جميع موضوعاتها حول المقاومة والنضال الوطني. كانت هذه الأشكال الثقافية جزءاً من جهود التعبئة والاحتجاج، وساهمت بانتشارها العروضُ والقراءات والمجلّات الأدبية والصحافة، فضلاً عن نشر وتهريب الكتب المحظورة (حتّى في السجون).  [46]

“كنت أغذي حماستي الوطنية بالاستماع إلى أغاني مارسيل خليفة، وأحمد قعبور، وأشعار مظفر النواب. كانت الأشرطة أيضا ممنوعة، لذا كنا نسجلها على أشرطة فيها أغاني عاطفية وأجنبية من باب التمويه. من خلال تلك الأغاني والأشعار تعلمت ماذا يعني النضال من أجل الحرية، وكيف يكون التعاون ما بين الفئات والشعوب المضطهدة”. – الأسير المحرّر خالد الأزرق الذي أمضى 30 عاماً من حياته في سجون الاحتلال.  [47]

وإلى جانب بلورة الهوية الوطنيّة الفلسطينية التي جرى طمسها في ظلّ الحكم الأردني والاحتلال الصهيوني، كان النضال هو الرسالة – الصريحة أو الضمنيّة –  للأغاني والقصائد والمسرحيّات. ساهم ذلك فعليّاً  في رفع مستوى تحدّي الاحتلال الصهيوني، واستحوذت المقاومة على وجدان الفلسطينيين المحتلّين.

ب‌.  . نشأة روابط القرى

ضمن آليات فرض سيطرته على البلاد، أنشأ المحتلّ البريطاني إدارة ًمدنية في فلسطين بين العشرينيّات والأربعينيّات، وورث عنه التجربة المشروع الصهيوني في أعقاب حرب الـ 1967. وخلال شهري أيلول وتشرين الأول 1981، بدأت تتسرّب أنباء من الإدارة الاستعمارية بأنّه ثمّة شيئاً ما يجري على قدمٍ وساق؛ كان الصهاينة يخطّطون لتوسيع دور الإدارة المدنية. وبالنظر إلى خطوة رئيس الوزراء الصهيوني “مناحم بيغن” المتمثّلة في تسليم وزارة الحرب إلى “آرييل شارون”؛ المنصب الذي سيجعله السلطة العليا في الأراضي المحتلّة عام 1967، افترض الناس على الفور أنّ هذه التغييرات تشكّل خطوةً في اتجاه ضمّ “إسرائيل” الصريح لهذه الأرضي. وقد كانوا محقّين في ذلك.

غيّر الأمر العسكريّ رقم (947) الصادر في الثامن من تشرين الثاني 1981 هيكل الجهاز العسكريّ الصهيوني في الضفة الغربية. أُقيمت بموجبه الإدارة المدنيّة، وتمّ دمجُ قيادة الجيش في الضفة الغربية في القيادة الوسطى، والتي كانت مسؤولةً سابقاً عن المنطقة الساحلية بين الجليل والنقب.  وبموجب الأمر العسكريّ رقم (982) الصادر في آذار من ذلك العام، تمّ دمج مستعمرات الضفة كبلدياتٍ “إسرائيلية”، لا تختلف بشيءٍ عن مستعمَرة “تل أبيب”.

وبذلك، تكون الإدارة المدنية التي تسلّمها “ميلسون” في الأول من تشرين الثاني 1982 حكومة الأمر الواقع على جميع الجوانب غير العسكرية للحياة الفلسطينية في الأرض المحتلة. بالمقابل، كان الانسحاب العسكريّ من الأراضي المحتلّة عام 1967 ضمن النقاط التي وافق عليها الجانب الصهيوني في اتفاقية “كامب ديفيد” عام 1978 فيما يتعلّق بـ “الحكم الذاتي” الفلسطينيّ. وبخضوع الإدارة المدنية للقيادة العسكرية “الإسرائيلية” تماماً بفعل هذه التغييرات، يكون الجانب الصهيوني قد أوفى بالتزاماته تجاه الاتفاقية مع مصر. [48]

وعلى الرغم من أنّ المشهد بدا وكأنّ شيئاً لم يتغير، غير أنّ هذا الأمر العسكريّ مهّد الطريق بشكلٍ فعليّ لنظام الإدارة الذاتية للشؤون الفلسطينية في الأراضي المحتلّة عام 1967 الواقعة تحت الحكم “الإسرائيلي”. وكما سيوضّح الفصل التالي، فإنّ التغييرات المهمة التي طرأت على الاقتصاد السياسي “الإسرائيلي” من ناحية، وأيدولوجية الائتلاف الحاكم من ناحيةٍ أخرى، أمْلت التحوّل إلى إنشاء “سلطة محليّة” تعمل، وبشكلٍ قانوني، من خلال التقسيم القائم للسلطات بين الإدارة المدنية والمؤسّسة العسكرية الصهيونية.

لم يتمّ إلغاء مئات الأوامر العسكرية التي صدرت لتنظيم معظم جوانب الحياة الفلسطينية في أعقاب حرب 1967، إنّما أُدرجت تحت الإدارة المدنيّة، وتمّت مأسستها بشكلٍ فعلي لتصبحَ أقرب إلى نظام القانون الدائم. اكتسبت هذه الأوامر العسكرية مكانة جديدة في ظل الإدارة المدنيّة؛ فقد شكّلت نظاماً قانونيّاً – بحكم الأمر الواقع – يُمكن للفلسطينيّين، في نهاية المطاف، إدارته دون الحاجة إلى إنهاء الاحتلال. وهنا يأتي دور روابط القرى.

تولّى “ميلسون” منصب رئيس الإدارة المدنية قبل أسبوعٍ واحدٍ بالضبط من إصدار قرار رقم (947)، وكان قد سبق وساعد في إنشاء رابطةٍ قرويّة في الخليل عام 1978 بقيادة مصطفى دودين، الذي وصفه “ميلسون” لاحقاً بأنّه “سياسيّ قروي متمرّسٌ”. [49] يقدّم “مايكل مالمبو” لمحةً موجزةً عن هذه “التجربة”:

” يأتي مصطفى دودين من كبرى عشائر بلدة دورا قضاء الخليل. خدم في عام 1944 الإدارة الإنجليزية في بلاده كضابطٍ في “شرطة فلسطين”.  وحوّل ولاءه في العام التالي ليخدم الحكومة المصرية لأكثر من عشرين عاماً، ثمّ انتقل في عام 1965 لخدمة الملك حسين؛ منافس الملك فاروق في حينها، ليخدم في مناصب مختلفةٍ بما فيها رئيس حزب الاتحاد العربي الوطني وسفير الأردن في الكويت. تحلّل دودين من ولائه للملك حسين لاحقاً، ولم يتّضح سبب ذلك، ولكنّه يُعزى إلى الحكم الغيابيّ الذي صدر بحقّ أخيه [محمد دودين، أحد قادة رابطة الخليل] بالسجن لمدّة خمس سنواتٍ بتهمة السرقة والاختلاس”. [50]

أمضى “ميلسون” وزملاؤه الأشهر التي سبقت تولّيه منصب الإدارة المدنية وهم يجولون القرى بحثاً عن المتعاونين والعملاء، و”قَبِل أحدهم” بذلك. [51] كان هذا بشارة قمصية؛ رجل أعمالٍ غير متعلّم وصاحب مصنع حديدٍ في بيت ساحور، وكان الرجل وراء إنشاء رابطة قروية في أوائل آب 1981 في بيت لحم. تبرّأت عائلة قمصيّة منه على إثر ذلك، [52] وعاش بعدها حياته مهدّداً تحت الحراسة المسلّحة خوفاً على حياته، كما تخبرنا تقارير صحف العام التالي.

وفي كانون الأوّل عام 1980، أي قبل عامٍ من تأسيس رابطة قرى بيت لحم، عثر الصهاينة على ضالتهم في رام الله، وكان هذا يوسف الخطيب من قرية بلعين، والذي أيضاً كان غير متعلّم بحسب سليم تماري. [53] اعُتبر الخطيب أكثر ملاءمةً لهذا الموقع بالمقارنة مع نظيره في بيت ساحور؛ فعلى الأقل، وبحسب ما تبيّن التقارير الصحفية، حظيَ الخطيب بتأييد جزءٍ كبيرٍ من عشيرته، التي لم تعارض أو تفزع من احتمالات وضعها في موقع سلطةٍ في مواجهة القروييّن الآخرين، خاصةً بالنظر إلى أنّها ستكون الوحيدة التي سيُسمح لها حمل السلاح.

ولكن، لن تحصل هذه العصابات المتعاونة وغيرها على السلاح و”سيارات الجيب” ومعدّات الاتصال حتّى اغتيال يوسف الخطيب، الرجل الذي اختاره “ميلسون” لزعامة رابطة قرى رام الله، على أيدي خلايا الجبهة الشعبية المسلّحة. [54] وكان قد تورّط الخطيب على مدى الأشهر التي سبقت اغتياله في صفقات احتيالٍ لبيع وتسريب الأراضي، والتي ستكون إحدى أهم وأخطر سمات هذه المرحلة.

وكما فعل الصندوق القومي اليهودي في السنوات التي سبقت عام 1948، عكفت الشركات الصهيونية، خاصةً شركة “هيمنوتا” التابعة للصندوق، على نهب المزيد من الأراضي، وذلك من خلال المتعاونين والعملاء الذين لعبوا دور “الوسطاء” في عملية تزوير [أو ابتزاز] التوقيعات من ملّاك الأراضي، تمهيداً لتسريبها للصهاينة. ولن يكتشف أصحاب الأرض عملية التسريب إلى حين مباشرة الجرافات “الإسرائيلية” اقتلاع محاصيلهم وحفر أساسات الوحدات الاستيطانية الجديدة.

مارس الخطيب عمليات التسريب بشتّى الطرق وصولاً إلى التزوير. إذ اكتشفت محكمة صهيونية أنّ وثائق الأرض التي تعود ملكيّتها لمختار بلعين، من إحدى العشائر المتنافسة مع الخطيب، كانت مزوّرة. مع ذلك، وعلى نحوٍ غير مفاجئ، استدعت السلطات العسكريّة مختار بلعين يوسف سمارة في الثاني من تشرين الأول 1981 لإبلاغه بأنّه تمّت مصادرتها لأغراض عسكريّة.

وفي بيت عزاء الخطيب، طالب دودين وقمصيّة القيادة الصهيونية بتسليحهم علانيةً، وتمّت الموافقة على طلبهم في 30 تشرين الثاني. وبدءاً من تلك اللحظة، سيتمّ تدريب شخصيات روابط القرى ومدّهم برشاشات “العوزي” ومعدّات الاتصال اللازمة و”الجيبات العسكرية”. وبحلول السابع من آذار 1982، تلقّى أكثر من مئتي قائدٍ وعنصرٍ في عصابات روابط القرى التدريب على أيدي جيش الاحتلال، وبدؤوا يجوبون القرى والأسواق مدجّجين بالسلاح. وبعد خمسة أيام، أقامت روابط القرى عرضاً عسكرياً في بيت عوّا قضاء الخليل، في 12 آذار 1982،  يتقدّمها “جيب” حرس حدودٍ صهيوني.

وإلى حدٍّ ما، ظلّت روابط القرى التي أُسّست في الخليل ورام الله متخفيةً تحت غطاء كونها منظّمات تنميةٍ زراعية. غير أنّ الهدف من ورائها، كقوةٍ عميلة، بات مكشوفاً بحلول تعيين “ميلسون”. سبقه بشهرٍ إعلان وزير الحرب في حينها “شارون”، يؤكّد فيه أن إجراءاته العسكرية القمعيّة ستشهد تسهيلاٍت نسبية، في محاولةٍ لتهدئة الفلسطينيّين. ولكنّ الأمر لم ينطلِ على أحد، واندلعت الانتفاضة ضدّ روابط القرى في غضون يومٍ واحدٍ من استلام “ميلسون” لمنصبه.

عارضت الغالبية العظمى من المجالس البلدية والقروية تأسيس الروابط، ورفضوا اللقاء بـ “ميلسون” لبحث احتمالية ذلك. وحتّى آذار 1982، نشرت صحيفتا “الشعب” و”الفجر” بياناتٍ عدّة أصدرها المخاتير وأعضاء المجالس المحلية، يؤكّدون فيها معارضتهم لروابط القرى وينأون بأنفسهم عنها، موضحين محاولات استمالتهم واستدعائهم من قبل ضبّاط الإدارة المدنية والحكومة العسكرية بهدف إقناعهم بضرورة الانضمام لروابط القرى. نتيجة ذلك، وبقراراتٍ من البروفيسور “ميلسون”، أُغلقت هذه الصحف عدّة مراتٍ  وتمّ حظر توزيعها.

أمّا بالنسبة لأولئك الذين تعاونوا مع مشروع روابط القرى، فقد كانت مقرّاتهم هدفاً لأعمال احتجاجية، تنوّعت بين إلقاء الحجارة وقنابل “المولوتوف” إلى اقتحام المكاتب وطرد من فيها. وباستثناء الخطيب، نجا الكثير من قادة روابط القرى من محاولات اغتيالٍ نفّذتها الخلايا الفدائية، وأصبحت تنقلاتهم بين المدن والقرى محفوفةً بالخطر.

فاقم ذلك إعطاء النظام الأردني، في العاشر من آذار 1982، مهلة شهرٍ لكلّ من ارتبط بمشروع روابط القرى للانسحاب منه أو مواجهة المحاكمة بتهمة الخيانة العظمى التي تنطوي على عقوبة حكم الإعدام ومصادرة جميع الممتلكات. [55] وبينما كان الأردنيون يتابعون الانتفاضة والردّ العسكريّ الوحشيّ، كان النظام الأردني منشغلاً في تجنيد مواطنيه للانضمام إلى “لواء اليرموك” للقتال في الحرب العراقية الأمريكية ضدّ النظام الجديد في طهران.  لم يكُن حلّ هذا التناقض ممكناً من دون اتّخاذ إجراءٍ أردنيّ ما، خاصةً بالنظر إلى سياسات “بيغن” تجاه الضفة الغربية، والتي تعدّت على مصالح الأردن فيها بشكلٍ كبير، وهو ما سنأتي على نقاشه.

وفي أعقاب التهديد الأردني، تبرّأ العشرات من النخبة التقليدية الذين انضمّوا إلى الروابط، وممّن تربطهم مصالح “وراء الجسر”، من المشروع التعاونيّ. كان من بينهم يونس الحنتولي، زعيم رابطة قرى جنين ومحرّر جريدة “المرآة”.

جاء الردّ الصهيوني سريعاً، وتمّت إقالة رئيس بلدية رام الله كريم خلف، تلاه بسّام الشكعة في نابلس وخمسة آخرون، على إثر رفضهم الاعتراف بالإدارة المدنية. وتمّ استبدالهم لاحقاً بضبّاط عسكريّين، لتتحوّل البلديّات إلى أذرع مباشرةٍ للجيش الصهيوني، واستمرّ ذلك حتّى توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993.

وعلى عكس ما توقّعه “ميلسون”، لم تحقّق روابط القرى شيئاً يذكر على مستوى تشكيل قاعدة تأييدٍ شعبيّةٍ للروابط. ففي نفس اليوم الذي أقامت فيه روابط القرى استعراضاً عسكرياً، نقلت صحيفة “معاريف” الصهيونية أنّ جيش الاحتلال كان على أهبة الاستعداد لتزويد روابط القرى بأسلحةٍ وذخائر إضافيةٍ للدفاع عن أنفسهم، بل وأنّ الجيش كان مستعداً لمضاعفة العدد في حال انضمام متطوّعين جدد، ولكن لم يتقدّم أحد.

وبطبيعة الحال، نبعت القوة المحتملة لروابط القرى من الدعم الصهيوني، والتي يُمكننا تلخيصه بثلاثة مصادر: أولاً، إمكانية حمل السلاح واستخدامه. وثانياً المال؛ إذ حرمت سياسات “ميلسون” جميع البلديات الفلسطينية والمشاريع من تلقّي الأموال من الأردن، وتلقّت روابط القرى بدورها تمويلاً سخياً لمشاريعها. [56] ولكن سرعان ما سينضب هذا الدعم بسبب “الأولوية المنخفضة في ميزانية “إسرائيل” للإنفاق على المشاريع والأنشطة غير اليهودية”. [57] أما المصدر الثالث، وهو الأكثر أهميةً بحسب “ميلسون”، فكان إمكانيّة وصول روابط القرى وتوسّطها لدى مراكز القرار؛ إذ اقترن الحصول على الأذونات والتصاريح بموافقة روابط القرى، وشمل ذلك تصاريح لمّ الشمل والسفر، وكذلك رخص الاستيراد والتصدير، وتصاريح البناء وإلغاء أوامر الهدم والحصول على رخص القيادة، وتخفيف عقوبة السجن والتعيينات أو التحويلات في الخدمة المدنية وغيرها. [58]

لم يجدِ أيٌّ من هذا نفعاً. ففي الخليل، حيث كانت رابطة القرى الأكبر من حيث عدد الأعضاء، لم يتمكّن دودين من تجنيد أكثر من خمسمئة متعاونٍ من سكّان محافظة الخليل البالغ عددهم مئتي ألف في حينها، [59] حتّى بعد تخصيص “إسرائيل” مليوني دولارٍ لها، بعد أن كانت قد خصّصت ثلاثة آلافٍ في عام 1987. [60]

وفي قرى بيت لحم، انضمّ مختارٌ واحدٌ إلى قمصيّة من بين 120 مختاراً. [61] كما طرد أهالي قرية جبع أحد العملاء بعد انكشاف محاولته إنشاء رابطة قروية، فيما انهال أهالي قرية بلعا بالحجارة على منزل المختار عند علمهم بترتيبه لقاء مع القائد العسكري للمنطقة لمناقشة تأسيس هيئة قروية، واضُطر لإلغاء الاجتماع. [62] وبحسب استطلاعٍ للرأي أجراه معهد “بوري” الصهيوني، في آذار 1982، حول “شكل القيادة” التي يرغب الفلسطينيّون بها في الأراضي المحتلّة عام 1967، حاز مصطفى دودين على 0.2% من الأصوات، بينما اختار 86% منظمة التحرير الفلسطينية. [63]

ج.     ملاحظات حول انتفاضة 1981-1982

رغم تركيز هذه الدراسة على الاستراتيجيات الاستعمارية الصهيونية، فإنّها تسلّط الضوء على انتفاضة 81-82، بالنظر إلى غياب هذه الانتفاضة عن السرديّة الوطنية المقاومة. وُصف القمع الصهيوني بهذه الهبّة بأنّه الأكثر وحشيةً وعنفاً منذ نكسة عام 1967. استُشهد 15 فلسطينياً بين آذار وأيار 1982 وجُرح المئات، كما فُرض حظر التجول على سبعة مخيّمات. وبذريعة “منع منظّمة التحرير من التمدّد”، تصاعد القمع الصهيوني للاحتجاجات، وارتفعت معه حصيلة الشهداء والجرحى، والتي ستستمرّ وتبلغ ذروتها في سنوات انتفاضة عام 1987، وصولاً إلى انتفاضة عام 2000.

اندلعت انتفاضة 81-82 في الضفة الغربية وقطاع غزة تزامناً مع نضالاتٍ مماثلةٍ في الجولان والأراضي المحتلّة عام 1948، ومع استمرار الكفاح المسلّح خاصةً على الحدود اللبنانية. لم تحدث هذه النضالات بمعزلٍ عن بعضها البعض، بل بتنسيقٍ ودعمٍ متبادل بين الهيئات المحليّة على امتداد الأرض المحتلّة. كانت تلك من المرات القليلة التي اضُطرّت فيها المؤسسة العسكرية الصهيونية للقتال على جبهاتٍ متعدّدةٍ في وقتٍ واحد.

في 23 شباط 1982، شُكلت لجانٌ في القدس وحيفا لجمع الأموال والطعام والدواء إسناداً للجولان بعد عشرة أيامٍ من الإضراب العام، والتحمت الجماهير الفلسطينية في الداخل المحتلّ في يوم الأرض مع الانتفاضة في الضفة وغزة، بل كانت جزءاً منها، بحسب ما ينقل الشاعر توفيق زيّاد الذي كان يرأس بلدية الناصرة في حينها.  وممّا لا شكّ فيه بأنّ النجاح النسبي الذي حقّقته المؤسسة العسكرية في الإبقاء على النظام الصهيوني في تلك المرحلة كان مرتبطاً بإخراج مصر من المعادلة العسكرية في أعقاب اتفاقية “كامب ديفيد”.

كان طلبة الجامعات والمدارس في قلب الانتفاضة أيضاً، فشاركوا في العديد من التظاهرات والمواجهات التي انطلقت رفضاً للإدارة المدنية وضدّ القبول بمشروع روابط القرى. ولم تقتصر المشاركة والقيادة الطلابية على الطلاب الذكور، بل شملت الطالبات أيضاً، وهو ما يتّضح لنا فيما تورده أخبار الصحف في تلك الفترة عن الإصابات والاعتقالات. في عام 2008، قابلتُ سوسن مشنّي للحديث عن المبنى السابق لمدرسة الهاشميّة للبنين، والذي أصبح مركزاً مجتمعيّاً كانت تديره مشنّي في تاريخ إجراء المقابلة. تكشف لنا ذكرياتها عن انتفاضة 1981-1982 الكثير حول روح المبادرة الطلابية ودور طلبة المدارس.

“(كانت) شبيهة بالانتفاضة الأولى عندما انتفض الفلسطينيون في كلّ مكانٍ وبأشكال عديدة للنضال من أجل الحرية، خاصةً مع صعود منظمة التحرير الفلسطينية.. كان أيضاً الوقت الذي التحق فيه إخوتي بالهاشميّة، والتحقتُ أنا بمدرسةٍ ثانوية قريبة للإناث. دفع استمرار المظاهرات الطلابية أمام مدرسة الهاشميّة قوات الاحتلال لوضع عددٍ من جنودها على أبواب المدرسة، في محاولةٍ لمنع الطلبة من الخروج خلال ساعات الدوام المدرسيّ. لم يوقفنا ذلك في الحقيقة. وكانت الفتيات يقتحمن المدرسة ويُخرجن الأولاد. كنّا نبدأ بإحراق الإطارات ودحرجتها حيث يتمركّز الجنود لتفريقهم، وكان الأولاد ينتظرون الإطارات المحترقة ويخرجون بدورهم”. [64]

طلبة الجامعات كانوا أيضاً في المقدّمة. أُغلقت جامعة بيرزيت مرتين، الأولى بعد هجوم طلبتها على مساعد “ميلسون” خلال جولته التفقدية في الحرم الجامعي، والثانية في أوائل عام 1982 بسبب “عدم قدرة إدارة الجامعة على ضبط النظام فيها” على حدّ تعبير “ميلسون”. حرّك الإغلاق المزيد من الأحداث، والتحمت بقية الجامعات مع جامعة بيرزيت، ورفع الطلبة شعاراتٍ تنادي بإعادة فتحها إلى جانب شعاراتٍ رافضة للإدارة المدنيّة.

ونذكر هنا نشاطاً طلابياً أغفله مؤرّخو إطار اللاعنف الدوغمائي، في حال قرّر أحدهم قراءة هذه الدراسة: في الثاني من كانون الأول 1981، نظّم طلبة جامعة بيرزيت وهيئتها التدريسية نشاطاً احتجاجياً، انضمّ له سكّان رام الله والبيرة، وهدفت الفعالية الاحتجاجية إلى إطلاق أبواق السيارات والصفارات في تمام الساعة الرابعة عصراً. كان على المشاركين إطلاق البوق مرتين (بير / زيت) مع مشاركة المارّة بالصفارات. في اليوم التالي، اعتقل جنود الاحتلال خمسين شخصاً بتهمة الصفير وإطلاق الأبواق الساعة الرابعة.

قادت إغلاقات المدارس والجامعات إلى المزيد من المواجهات، وكان الاعتقال والاستشهاد دافعاً للاستمرار بالانتفاضة.  وساهم إحياء المناسبات الوطنية كيوم الأرض وذكرى النكبة في تصعيد الأحداث، ولا يغيب عن البال أنّ تعيين “ميلسون” جاء في الذكرى السنوية لوعد “بلفور”، وهو ما ساهم غالباً بإشعال الانتفاضة.

ومن بين العوامل التي صعّدت الأحداث، وربما أكثرها أهميةً خاصةً في القرى، كان تسريع السياسات الصهيونية في مصادرة الأراضي وبناء المستوطنات. هذا إلى جانب الإضراب العام الذي انطلق في مدينة القدس، في 4 أيلول 1981، ضدّ الحفريات التي ينفّذها الاحتلال في الحرم القدسيّ، والتي تستمرّ إلى يومنا هذا.

د.     زوال روابط القرى

أهم منجزات الانتفاضة هو أنّها هزمت مشروع روابط القرى. ومع تركيز هذه الدراسة الضوء على دور الإنتاج الاقتصادي والمعرفي في إضعاف هذا المشروع، خاصةً تعمية المنظّرين الاستراتيجيّين الصهاينة على الفشل واستحالة تطبيق الفكرة من الأساس، فقد جاءت الانتفاضة تعبيراً عن هذا الفشل. كانت هبّة 81-82 تجلّياً للإرادة والتصميم والتنظيم والتضحية التي قدّمها الفلسطينيون، على الرغم من القمع الشديد الذي تعرضت له حتّى تراجعها وانحسارها في أيّار 1982. استحالت روابط القرى بحلول عام 1983 إخفاقاً مهيناً للصهاينة.

وبمجرّد ما انخفضت حدّة المقاومة في الأراضي المحتلّة حتّى التفتت المؤسسة العسكرية الصهيونية إلى لبنان لتحقيق حلم “شارون” في تحديد مسار المنظّمة. فكما يخلُص الكثيرون ممّن عاينوا هذه الفترة، لا يُمكن فهم عملية الليطاني “سلامة الجليل” دون الإشارة إلى الانتفاضة في الأراضي المحتلّة عام 1967 ورغبة “إسرائيل” بالإبقاء على سيطرتها على الأرض المحتلّة. فقد قام المنطق الرئيس وراء اجتياح لبنان على إزالة ما اعتُبر “القوة المحرّكة للمقاومة في الأراضي المحتلّة”؛ أيّ منظّمة التحرير الفلسطينيّة.

ووفقاً للسبب المعلن، استقال “ميلسون” من منصبه بسبب “السقوط السياسي المؤقت” لـ”شارون”، في أعقاب مجزرة صبرا وشاتيلا التي ارتكبتها الميليشيات اللبنانية المدعومة صهيونياً. [65] لكن وفقاً لسليم تماري، فقد تمّ طرد “ميلسون” من منصبه. [67] كان هذا بعد أقلّ من شهرٍ من إنشاء اتحاد روابط القرى بقيادة دودين، وتشكيلها حزباً سياسيّاً أُطلق عليه “الحركة الفلسطينية الديمقراطية للسلام”. أسماهم “ميلسون” لاحقاً “ساداتيو فلسطين”، نسبةً للسادات، الذين سيخوضون مفاوضات سلام نهائية مع “إسرائيل”. وفي ذات الوقت، سعى محمد نصر، نائب دودين ومن شكّل الحزب، إلى اكتساب بعض الشرعية في نظر المجتمع الفلسطيني، فحرص على أن يُبدي اعتراضه على بعض السياسات الاستيطانية الصهيونية، مرفقاً ذلك بتصريحاتٍ أخرى تدعو إلى إقامة دولةٍ فلسطينية.

عجزت روابط القرى على الحصول على الشرعيّة، وبالتالي التمدّد، وبدأت في التفكّك في غضون أشهرٍ من استقالة “ميلسون”. كما تصاعد الصراع الداخلي على السلطة فيما بينها، وهو ما تجلّى بوضوحٍ خلال المؤتمر التأسيسي لـ “الحركة الفلسطينية الديمقراطية للسلام”، حيث رتّب نصر انقلاباً على دودين. كان من المقرّر أن يُعقد المؤتمر في 12 شباط 1983، أيّ قبل انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر مباشرةً، ولكنّه لم ينعقد قط.

أقدم رئيس الإدارة المدنيّة المعيّن حديثاً، “شلومو إيليا”، على اعتقال نصر معلناً طرده من روابط القرى واستبداله بنائبه جميل العملة. وبعد أيامٍ قليلة، اتُهم عددٌ من قادة الروابط، أبرزهم نصر والخطيب (رام الله)، بارتكاب اعتداءاتٍ ومخالفاتٍ ماليةٍ وجرائم قتل. [68] وبحجّة “تحسين صورتها أمام السكّان المحليّين”، تمّ إقناع ميليشيات الروابط بإعادة 50% من أسلحتها إلى الجيش الصهيوني. ولكن كما يتّضح في الصحافة العبرية أنّ نصر اشتكى من احتفاظ رجال دودين بأسلحتهم، بينما تمّ تجريد أتباعه منها فقط. ويُمكن القول إنّ نصر استخفّ بسلطة دودين وأخطأ في تقدير تسامح الحكومة العسكرية مع تصريحاته بشأن الاستيطان والدولة الفلسطينية. [69]

كانت القشّة التي قسمت ظهر مشروع روابط القرى هي تعيين “موشيه آرنز” كوزيرٍ للحرب خلفاً لـ “شارون” في شباط 1983. كان “آرنز” معارضاً للاهتمام الممنوح لروابط القرى في السابق، وعمل على إلحاق “المنظّمة بأكملها للأجهزة الأمنيّة”. [70]

وبهذه الصفة، أيّ كملحقٍ ذيليٍّ تابعٍ للمؤسسة العسكرية الصهيونية، يُمكننا قراءة كتابات حسين البرغوثي عنها في بدايات انتفاضة 1987. لا يتطرّق البرغوثي إلى تاريخ الروابط، إنّما يصف ما آلت إليه بين أعوام 1983-1987، ويخبرنا عن تجنيد جهاز “الشاباك” عدداً من الفلسطينيّين لتشكيل شبكة تجسّسٍ مكوّنةٍ من مئات المسلّحين المنظّمين في عصاباتٍ عديدة باسم “روابط القرى”، يقودها ضبّاط صهاينة، بالإضافة إلى نحو ألف شرطي فلسطيني. [71]

كانت أوّل هذه الروابط القروية هي آخر ما سيتمّ تفكيكه في عام 1988، حيث حلّ جميل العملة رابطة قرى الخليل التي ترأسها منذ طرد نصر، [72] ولم تعُد الروابط موجودةً بأيّ شكلٍ من الأشكال. في عام 1986، كتب “ميلسون” مقالاً بعنوان “كيف لا تحتلّ الضفة الغربية”، انتقد فيه بشدّةٍ خلفاءه بسبب تخليهم عن مشروعه. بعد سنوات، وفي مقابلة مع “شلومو غازيت” لكتابٍ كان يعدّه الأخير عن السياسات “الإسرائيلية” في الأراضي المحتلّة، لخّص “ميلسون” التحدّيات التي واجهته عند تولّيه المنصب في ثلاثة:

لم يُمنح الحرية الكافية لتنفيذ السياسات التي أرادها، ولم تتمّ ترقيته إلى رتبة عميد، ولم يُسمح له بارتداء الزيّ العسكريّ أثناء الخدمة. [73] ظلّ معتقداً أنّه لو تمكّن من ممارسة المزيد من السلطة لفترةٍ أطول، لنجح في تحويل روابط القرى إلى المشروع السياسي الذي تصوّره.

الفصل الثاني: تحوّل الأهداف والاستراتيجيات الاستعمارية في الضفة الغربيّة

حتّى العام 1981، اتّخذت السيطرة الصهيونية على الأراضي المحتلّة عام 1967 شكل الحكم العسكريّ المباشر، يسيطر على كلّ منطقةٍ فيها حاكمٌ عسكريّ (قائد المنطقة)، دون أن يتمّ إلغاء القوانين الأردنية التي كانت ساريةً قبلها، مع إصدار أوامر عسكريةٍ بما يتناسب مع ما تقتضيه الضرورة الاستعمارية. وعلى هذا النحو، مثّلت تجربة الاحتلال خلال تلك السنوات “الاستبداد الوسيط – اللامركزي”، كما يصفه “محمود ممداني. [74] إذ كان توظيف روابط القرى كركيزةٍ أساسيةٍ في عمل الاحتلال في عام 1981 أوّل محاولة ممنهجة للسلطات الاستعمارية “الإسرائيلية” لإنشاء سلطة محليّة فلسطينيّة تمتّع بحكمٍ ذاتيّ كامل وتُضفي لامركزيّة على السيطرة الصهيونية في الأراضي المحتلّة عام 1967.

فهم طبيعة المخطّط الاستعماري الصهيوني وتحديد أهدافه واستراتيجياته في التعامل مع الفلسطينيّين في أراضي الـ 67 سيعيننا على فهم السنوات الخمسة عشرة التي أعقبت النكسة. فعلى مستوى الأهداف الاستعمارية، تراوحت المقترحات التي تداولها صانعو القرار الصهيوني للتعامل مع “المشكلة الأصلانيّة”، أو ما يعرّفها ممداني بـ “(المفهوم المهذب) لتحقيق استقرار الحكم الأجنبي”،  [75] بين إلحاق معظم الضفة الغربية بالأردن وبين ضمّ الضفة الغربية بشكلٍ مباشر.

كان التوفيق بين التحالفات الأيديولوجية والاقتصادية التي انخرط الحزب الحاكم فيها هو العامل الرئيس الذي حدّدت الإدارة الاستعمارية من خلاله أهدافها، فيما اعتمدت على التجربة إلى حدٍّ كبير في بلورة استراتيجيات تحقيقها، وذلك استناداً إلى ما قد يُعدّ عمليّاً من حيث التنفيذ، ومقبولاً بالنسبة للمشروع الصهيوني. وتلك كانت وظيفة الإنتاج المعرفي “الإسرائيليّ” عن الفلسطينيّين، وهو ما سنأتي على نقاشه في الفصل الثالث المعنوَن: (الاستشراق الصهيوني وروابط القرى).

ننظر في هذا الفصل إلى الأهداف والاستراتيجيات الاستعمارية الصهيونية مع الانتقال من حزب “المعراخ” بقيادة “شمعون بيريز”، إلى “الليكود” بقيادة “مناحم بيغن” بعد انتخابات الكنيست الصهيوني عام 1977. [المعراخ، أو التجمع العمّالي الصهيوني، هو ائتلاف صهيونيّ عمّالي قاده حزب العمل “مباي” بمشاركة حزب العمّال الموحّد “مبام”].

يحاجج البحث أنّ هذا الانتقال استلزم تحوّلاً في الاستراتيجية الاستعمارية، أصبح بموجبها إنشاء سلطة حكمٍ ذاتي فلسطينية أمراً ضرورياً. من جهته، سعى “المعراخ” لحلّ “المشكلة الفلسطينية” من خلال فرض السيطرة على المناطق المهمّة استراتيجياً، وإلحاق الجزء المتبقي من الأرض بالسيطرة الأردنية. ولمجموعةٍ من الأسباب الأيديولوجية والاقتصادية- السياسيّة، عارض “الليكود” بشدّة أيّ شكلٍ من أشكال التنازل عن الأرض. استدعى هذا، إلى جانب تحقيق التزامات الجانب الصهيوني في اتفاقيات “كامب ديفيد”، التحوّل نحو استراتيجية تطوير سلطة حكمٍ ذاتيٍ فلسطينية، بما ينسجم مع الأهداف الاستعمارية “الإسرائيلية”.

وفي عقدنا لهذه المقارنة، نبدأ بتحليل الأهداف الاستعمارية “الإسرائيلية” في ظلّ “المعراخ”، كما تجسّدت في مشروع “ألون ديان”، والاستراتيجيّات التي وضعها ونفّذها وزير الحرب “موشيه ديان”. نُولي أهمية خاصّة لبعض الجوانب الاقتصادية للاحتلال التي ساهمت، كما سنجادل لاحقاً، في العملية التي أصبحت الضفّة الغربية بموجبها ضروريّة اقتصادياً للرأسمالية “الإسرائيلية”، بحيث تمّ تغيير البنية الاجتماعية والاقتصاديّة في الضفّة بطرقٍ كان من شأنها التأثير على تنفيذ مشروع روابط القرى.

يتبع ذلك معاينةٌ للأهداف الاستعمارية لـ “الليكود”، كما ظهرت في مخطّط “دروبلس-شارون”، والأساليب التي وسّع من خلالها “الليكود” السياسات التي انتهجها “المعراخ” وكان لها تأثيرٌ مباشر على القرويّين الفلسطينيين. يجادل البحث أنّ هذه السياسات أحدثت تغييرات على كلّ من البُنى النخبويّة وطبيعة الفلّاحين في الضفة الغربية، والتي تمّ وفقها تصوّر روابط القرى. يبدأ الفصل بتقديمٍ لمحةٍ تاريخيّة عن الاقتصاد السياسي للضفة الغربية قبل عام 1967.

أ‌.       عشية النكسة

نلقي في البداية نظرة سريعة على آثار السياسات الاقتصادية الصهيونية على الريف الفلسطيني، ثمّ على دور الزراعة في حياة الفلسطينيين. تقدّم دراسة بشارة دوماني التاريخية لجبل نابلس، الجزء الشمالي مما سيُطلق عليه الضفة الغربية، صورةً ممتازةً للعلاقات الاقتصادية بين المناطق الحضرية والريفية في أواخر العهد العثمانيّ. [76] اعتمدت الصناعات الحضرية الرئيسية، مثل المنسوجات والزيوت والصابون، بشكلٍ رئيسيّ على المنتجات الزراعيّة، وانحسرت التجارة في هذه السلع وتدفقها بالاعتماد على الأسواق الإقليمية والدولية التي دُمج فيها الإنتاج الفلسطيني بشكلٍ متزايد. كانت الزراعة مصدر الرزق الرئيس للأغلبية، وظلّ هذا الأمر قائماً في ظلّ الاحتلال الإنجليزي، على الرغم من التعاون البريطاني مع الجهود الصهيونية لـ “عبرنة العمل” ونهب الأرض بطرقٍ شتى. [77]

بدأت سبل العيش المعتمدة على الإنتاج الزراعي بالتآكل بشكلٍ متزايدٍ منذ كارثة النكبة، خاصةً مع الانقطاع القسريّ عن المدن الساحلية مثل حيفا ويافا التي كانت مركزيةً في تصدير المنتجات الزراعية، بالإضافة إلى الأثر الاقتصادي للجوء أكثر من ربع مليون فلسطينيّ إلى الضفة الغربية في أعقاب نكبة 1948. [78]

وبين حربي النكبة والنكسة، اكتسبت منطقة وسط فلسطين مسمّى “الضفة الغربية” خلال فترة الحكم الأردني، وذلك لتمييزها عن شرق الأردن التي أصبحت “الضفة الشرقية” للمملكة الهاشمية. [79] ورغم ذلك، كانت “الضفّة الغربية أكثر تطوراً من الجانب الشرقيّ” خلال السيطرة الأردنية، [80] وزوّد سوقها المحليّ ضفتي النهر بمعظم الاحتياجات من الغذاء والاستهلاك. [81] ومع أنّ الصادرات الزراعية في الضفّة الغربية جعلت منها “سلة غذاء الأردن”،  إلا أنه يُمكن لمس الآثار الاقتصادية للنكبة وسياسات التنمية الأردنية بشكلٍ خاص في القطاع الزراعي.  فقد سعت السياسات الاقتصادية الأردنية إلى الاستحواذ على فائض إنتاج الضفة الغربية، بينما ذهبت معظم الاستثمارات الأردنية، التي شكّلت ثلث إجمالي استثمارات المملكة، إلى الإسكان والبناء، ولم يذهب أيّ منها إلى الزراعة أو الصناعة. [82]

أدّى تأثير هذه السياسات إلى “مضاعفة تهميش اقتصاد الضفة الغربية.. وتوجيه إنتاجه نحو التصدير، (واستنزاف) فائضه و(عرقلة نمو) السوق المحليّة.. (وبالتالي إعاقة) التنمية الاقتصادية”. [83] يتّضح ذلك في انخفاض نسب الزراعة من الناتج المحليّ من 38.9% في عام 1945 إلى 27.1 في عام 1966، [84] [85] وكذلك انخفاض عدد العاملين فيها ليصل إلى 37.6% في عام 1961 بعد أن كان 58.2% في عام 1939. [86]  [87]

بحلول عام 1967، وفي ظلّ المحدّدات الطبيعية والقيود الاقتصادية القائمة، كان الفلاحون الفلسطينيون قد بلغوا، عمليّاً، الحدود الزراعية القصوى أمامهم، [88] ومضى المشروع الصهيوني في التوسّع الاستعماري وتطبيق السياسات التي تعجّل من هذا التراجع.

ب‌.  سنوات “المعراخ” و “الخيار الأردني”

وجد النظام الصهيوني نفسه في أعقاب النكسة في مواجهة ضروراتٍ متناقضة بفعل الوضع القائم. فدولياً، بدأت مكانة الكيان كـ “دولةٍ منبوذة” في الترسخ في نظر الكثيرين، خاصةً في دول الجنوب مع نجاح حركات التحرّر الوطني في الاستقلال. أمّا في الأرض المحتلّة، فقد شكّل الفلسطينيون “تهديداً ديموغرافياً” أمام الدولة اليهودية، ولم يكُن دمجهم مع فلسطينيّي الأراضي المحتلّة عام 1948 خياراً مطروحاً.

يعلّق “بيريز”، باعتباره أحد منظّري الحزب، على هذه المسألة بالقول:  “لا أتمنى أنا وزملائي أن نحكم أكثر من مليون فلسطيني في الأراضي المحتلّة تحت أيّ ظرف. كان ولا يزال “سبب وجود” الصهيونية ودولة “إسرائيل” هو الحفاظ على الطبيعة اليهودية للدولة. فسرعان ما ستتحوّل الدولة ذات القومية الثنائية إلى مجتمعٍ من الطبقات الحاكمة والمحكومة، وهو ما يتناقض مع أساسيات اليهودية والصهيونية، وأعمق قيمها وأبسطها”. [89]

زاوج “المعراخ” ما بين الالتزام  والواقعيّة، أو ما أطلق عليه “بن غوريون” وأتباعه  الدولانيّة. [90] وممّا كان يميّز “المعراخ” جزئيّاً هو اعتباره تطبيع “إسرائيل” في المحيط العربي “هدفاً أيدولوجيّاً مركزيّاً”؛ دون أن يكون بالضرورة ملتزماً أيدولوجياً بالتوسّع الصهيوني، وبالتالي كان أكثر ميلاً للتوصّل إلى تسويةٍ إقليمية لقاء التطبيع المرغوب، ما دامت لا تمنح الفلسطينيين دولتهم المنشودة. [91] كما نظر هذا التيار إلى الفلسطينيّين باعتبارهم “غير موجودين كفاعل سياسي بالنسبة للدول العربية”. في المقابل، كان الأردن على رأس الدول العربية التي ينبغي التطبيع معها، فهو الذي يتحمّل “مسؤولية مصير سكّان الضفة الغربيّة”. [92]

وفي شرح معارضته لشكل الحكم الذاتي الفلسطيني الذي دعا إليه السادات، يقول “بيريز”: “إذا ما تمّ تنفيذ الصيغة التي دعا إليها السيد السادات، فستنشأ دولة فلسطينية أخرى إلى جانب الأردن، وهي فلسطينيةٌ بحكم الواقع لأنّ أغلب سكّانها فلسطينيون. ومن شأن قيام دولةٍ فلسطينيةٍ أخرى أن يهدّد المملكة الأردنية وأمن “إسرائيل” على نحوٍ دائم”. [93]

وبكونها المسيطر الفعليّ على الضفّة الغربيّة، كانت “إسرائيل” في وضعٍ يمكّنها من الخوض في تجربة سياساتها. فأبقت على النظام القانوني الذي كان معمولاً به قبل النكسة، والذي كان مزيجاً من القوانين العثمانية والبريطانية والأردنية. وعلى هذا النحو، تمّت صياغة معظم الأحكام العسكرية باعتبارها تعديلاتٍ على القوانين المعمول بها قبل حزيران 1967، فتولّى قائد جيش الاحتلال جميع السلطات الحكومية والتشريعية والإدارية في السابع من حزيران، بموجب القرار العسكريّ رقم (2).  [94] وفي تشرين الأوّل 1968، أصبح قائد المنطقة الوسطى هو السلطة الرسمية الحصرية في الأراضي المحتلّة، لتكون لديه الصلاحيّات التشريعية والتنفيذية، فضلاً عن تعيين القضاة والمسؤولين المحليّين.

حرص مهندسو النظام القانوني الصهيوني على أن يبدو النظام الجديد “متحضراً” بطريقةٍ ما، فتمّ إنشاء آليةٍ للاستئناف يُمكن للفلسطينيين اللجوء لها ورفع قضاياهم إلى المحكمة العليا، ولاحقاً تمّ إبطال هذه الحقوق الشكليّة. مُنع الفلسطينيون من رفع دعاوى قضائيّة ضدّ دولة الاحتلال أو أيّ من أجهزتها أو مواطنيها في المحاكم المحليّة، وذلك بموجب الأمر العسكري رقم (164) الصادر في 3 تشرين الثاني 1967. [95] في نهاية المطاف، ومع فوز “الليكود”، تعاملت السلطات العسكرية مع أوامرها على أنّها تعديلاتٌ على النظام القانوني السابق.

جسّد هذا النظام انعكاساً لذاك الذي أحاط بسلطات الحكم الذاتي الأفريقية التي حلّلها “ممداني”، حيث أنشأت الأنظمة الاستعمارية الأوروبية نظاماً قانونياً متشعّباً، خضع فيه المستعمَرون لـ “القانون العرفيّ”. يصف “ممداني” هذه الهيئة القانونية بأنّها مرنةٌ بما يضمن خدمة القانون للأهداف الاستعمارية، خاصةً فيما يتعلّق بالأراضي والموارد. [96]

وفي حين بدأت روابط القرى في تشكيل هيئاتٍ قضائيةٍ لحلّ النزاعات بالاستناد إلى القانون العشائري، يدلّل انتهاء المشروع سريعاً على أنّها لم تتمكّن من تطوير محاكم عرفيّةٍ كالحالة مع سلطات الحكم الذاتي الإفريقية. ولكن، يجدر الانتباه هنا إلى أنّ البنية القانونية “الإسرائيلية” التي أنفذت القوانين العثمانية والبريطانية والأردنية (وخاصةً قوانين الطوارئ العسكرية)، وكذلك آليات حلّ النزاعات العشائرية، كانت مماثلةً لتجارب الإدارة الذاتية الإفريقية حسبما يشرح “ممداني”.

أمرٌ جوهريٌّ آخر يجدر الإشارة له هو أنّ ميّزات “القوانين العرفية” التي كانت مصمّمةً لحماية أهل البلاد، أو إعاقة الأهداف الاستعمارية الصهيونية، أصبحت جميعها بلا معنى مع إقرار القوانين العسكرية التي كانت مهيمنة على القوانين الأخرى. ومع بداية الثمانينيّات، كان هناك حوالي 1250 أمراً عسكرياً ساري المفعول في الضفة الغربية. [97]

وضمن هذا السياق، حدّدت القيادة الصهيونية أهدافها الاستعمارية في الضفّة بما يتناسب مع الضرورات الإيديولوجية التي حدّدتها النخبة الحاكمة لهذا لمشروع؛ الأهداف التي تنطوي على التخلّص من التهديد الديموغرافي الفلسطيني من خلال نقل عبء المسؤولية الإدارية عن أكثر من 800 ألف فلسطينيّ إلى الأردن، والسيطرة على الأرض والموارد حفاظاً على الأمن والرخاء الصهيونيّين. كما عبّر عنه مخطّط “يغال آلون”، وهو ما سننتقل للحديث عنه، يعقبه بحثٌ في الاستراتيجيات الاستعمارية التي اتّبعها وزير الحرب “موشيه ديان” من أجل تحقيق هذه الأهداف.

نختم هذا القسم برصد تأثيرات السياسات “الإسرائيلية” على اقتصاد الضفّة الغربية، وذلك بهدف إظهار أنّه وعلى الرغم من استعداد “المعراخ” لتبادل الأراضي مقابل التطبيع، فقد نفّذ سياسات اقتصادية أدّت إلى تآكل “الخطّ الأخضر” بشكلٍ كبير، وذلك من خلال دمج الضفة الغربية اقتصادياً في الاقتصاد “الإسرائيلي”. وعلاوةً على ذلك، تسبّبت سياسات “إعاقة التنمية” الصهيونية في إحداث تغييراتٍ على البنية الاجتماعية الاقتصادية للمجتمع الفلسطيني، والتي تمّ تسريعها خلال قيادة “الليكود”، فضلاً عن تقويض البُنى الاجتماعية الريفيّة التي استند إليها مشروع الروابط؛ تحديداً الفلّاحين والنخبة القرويّة.

1. الأهداف الاستعمارية للتجمّع العمالي الصهيوني:  مشروع “آلون – ديان”

قام أساس المخطّط الاستعماري للتجمّع العمّالي الصهيوني “المعراخ” على “خطّة آلون” عام 1967، نسبةً لمهندسها “يغال آلون”،  [98] والتي لم تُنشر أو يتمّ الإعلان عنها، ولكن تمّ تبنيها بشكلٍ “ضمني”. [99] وفي معرض تسويقها لمتّخذي القرار الأمريكي، يذكر “آلون” أنّ هذا المشروع يأتي “في سياق تسوية سلمية سيتمّ بموجبها التخلّي عن الأراضي التي وقعت (في حرب عام 1967)”. [100]  ومع ذلك، كان الشغل الشاغل لـ “آلون” هو الأمن:

“اسمحوا لي أن أشدّد مرةً أخرى على أنّه لا غنىً عن الحدود التي يُمكن الدفاع عنها بالنسبة لـ “إسرائيل”. ليس نابعاً ذلك من الرغبة في ضمّ الأراضي بحدّ ذاتها، أو الرغبة في التوسّع الإقليمي، وليس بدافعٍ تاريخيّ أو أيديولوجي. فـ “إسرائيل” قادرة على المساومة على الأرض، ولكن لا يُمكنها فعل ذلك فيما يخصّ الأمن. إن المنطق وراء الحدود التي يُمكن الدفاع عنها هو استراتيجيٌّ بالكامل. وهذا أيضاً هو الأساس المنطقيّ الوحيد لسياسة الاستيطان الانتقائية التي تنتهجها “إسرائيل”، كجزءٍ لا يتجزأ من نظام دفاعها، في هذه المناطق الاستراتيجية التي تشكّل أهمية بالغةً لأمنها”.  [101]

وإذا ما أُريد تحقيق مبدأ الأمن هذا، فترجمته تعني الضمّ الصريح للأراضي الواقعة على الحدود بين الضفّة والأردن، وبين قطاع غزة ومصر، مع بذل قُصارى الجهد لتجنّب ضمّ السكان.  [102] وأيضاً، أن تمتدّ القدس لتصل إلى الحدود مع الأردن، من خلال إنشاء مستوطنة “معاليه أدوميم”،  وتتّسع لتشمل منطقة اللطرون الاستراتيجية وأراضي قرى غرب بيت لحم.  جغرافياً، يعني ذلك تقلّص منطقة وسط فلسطين إلى جزيرتين معزولتين منزوعتي السلاح، إحداهما تمتّد شمالاً من رام الله إلى جنين، والأخرى في الجنوب بما في ذلك بيت لحم والخليل، إضافةً إلى معبرٍ حدوديّ يخضع لرقابةٍ مشدّدة يربط بين أريحا والأردن.

وبذلك، يتمتّع الفلسطينيون بحكمٍ ذاتيّ في منطقةٍ “يتوخّى بوضوح على أن تكون تابعةً للمملكة الأردنية الهاشمية كحلٍّ دائم”. [103] كما أوصى “آلون” أن تتبع غزّة وضواحيها إلى الوحدة الأردنيّة – الفلسطينية، وأن تخدم كميناءٍ لتلك الدولة على البحر المتوسّط، [104] وهو ما يرتبط جزئياً بمحاولات إبعاد غزّة عن النفوذ المصريّ في العقد الأوّل من الاحتلال وتعيين رشاد الشوّا، الموالي للأردن، كرئيس بلدية مدينة غزة. [105]

كان مقترح مشروع “آلون” بمثابة مخطّط السياسات الاستعمارية الصهيونية تجاه الضفّة والقطاع طيلة فترة “المعراخ”؛ خاصةً بما هو متعلقٌ بالتهجير وسلب الأراضي وبناء المستوطنات. كما جاء المشروع كمحاولةٍ لإعادة بناء العلاقات التاريخية بين “إسرائيل” والمملكة الأردنية، والذي تجلّى بشكلٍ خاص في الاندفاع الصهيوني لردع التورّط السوري في ما عُرف بـ “أيلول الأسود” عام 1970، وردّ الأردن لـ “الدين” بعدم التدخل في حرب أكتوبر 1973. نفّرت هذه الإجراءات الفلسطينيّين بشكلٍ متزايد من “حاكمهم الهاشميّ السابق”؛ وهو اغترابٌ كان ينمو مع مرور الوقت. [106]

كما كان لوزير الحرب “موشيه ديان” إضافاتٌ على هذا المشروع، والتي يُمكن تلخيصها في توسيع نطاق الأراضي التي سيتمّ الاستيلاء عليها. جُمعت مقترحاته في وثيقةٍ صدرت في تمّوز 1973، قدّم فيها عشرة بنودٍ حول بناء المستوطنات، من بينها تشجيع عمليات شراء الأراضي الخاصة، وتوسيع المستعمَرات في مناطق محدّدة، بما في ذلك القدس وجنوب القطاع والجزء الشمالي من الضفة الغربية.

لحق ذلك نشر وثيقة “يسرائيل غاليلي”، الذي كان يشغل منصب رئيس اللجنة الوزارية لشؤون الاستيطان في حينها، والذي بدوره أوضح: “لم تُبنَ أيُّة مستوطنةٍ مع افتراض أنّه يُمكن أن تهدم مستقبلاً”. [107]

لم تكُن حكومة الاحتلال تسير وفقاً للمسار الذي رسمه مشروع “آلون” فحسب، بل فاق النشاط الاستعماري الفعليّ على الأرض، بالفعل، المبادئ التوجيهية التي وضعها “آلون” إلى حدٍّ كبير. [108]

2. الاستراتيجية الاستعمارية للتجمّع العمّالي الصهيوني: “احتلال ديان الحميد”

أُسندت السيطرة على الأراضي المحتلّة في عام 1967 بعد الحرب إلى وزارة الحرب برئاسة “موشيه ديان”. لم تلقَ هيمنة الأخير على شؤون المنطقة أيّة اعتراضات من الوزراء الآخرين أو حتّى من رئيس الوزراء، [109] وسيسير كلٌ من “شمعون بيريز” و”عيزر وايزمان” كوزراء حربٍ من بعده على خطى السياسات التي أرساها إلى حدٍّ بعيد. [110] أمّا فيما يتعلّق بالاستراتيجية الاستعمارية، أراد “ديان” احتلالاً “حميداً” أو “خيّراً”، أو على الأقل “غير مرئي”. [111] ويوصّف الحاكم العسكريّ للضفّة الغربية الذي عيّنه “ديان” في عام 1970، “شلومو غازيت”، هذه الاستراتيجية جيّداً بالقول:

“يُمكن من حيث المبدأ القول إنّ أهداف الحكومة العسكريّة هي أن يُولد العربيّ المقيم في هذه المناطق في المستشفى، ويُصدر شهادة ميلاده، وينشأ، ويتلقّى تعليمه، ويتزوّج ويربي الأولاد والأحفاد – كلّ هذا دون مساعدة موظفٍ أو كاتبٍ حكومي “إسرائيلي”، وبدون حتّى أن تبصره عينه”. [112]

ومن الناحية النظرية على الأقل، استوجبت هذه الاستراتيجية ممارساتٍ غير قائمة على التدخل، تؤكّد على تحسين الحالة الاقتصادية وتتبنّى سياسة “جسور مفتوحة” مع الأردن. [113] بالمقابل، تكون هذه السياسات مصممةً في جوهرها للحفاظ على النفوذ الأردني، بما يمهّد الطريق أمام تنفيذ الرؤية التي حدّدتها خطّة “آلون”. تجسّدت أبرز هذه التوجّهات في الحفاظ على دورٍ وظيفيّ للأردن كجسرٍ بين الضفة وبقية العالم، والسماح باستخدام الدينار الأردني، ومواصلة الأردن لعب الدور الإداريّ، لا سيّما المتعلّق بما تبقّى من موظفي القطاع العام. هذا بالإضافة إلى السماح للنخبة التقليدية – ذات العلاقات القوية مع الأردن – بالحفاظ على مكانتها وهيمنتها الاجتماعية والاقتصادية.

كانت نخبة ملّاك الأراضي المرتبطين بالأردن قوةً مهيمنة. لم تمسّها سياسات “ديّان” التي سعت للحفاظ على تحالفٍ ضمنيّ مع الأردن، وتُركت كما هي إلى حدٍّ كبير، وذلك جزئياً للحفاظ على المصالح الأردنية التي كانت هذه النخبة جزءاً منها، وكانت أهم مؤسساتها في سياق الريف المخاتير ورؤساء المجالس القروية، وأعضاء غرف التجارة ورؤساء البلديات في المدن.

بدورها، خفّضت سلطات الاحتلال القطاع العام إلى أدنى حدٍّ ممكن، بموجب الأمر العسكري رقم (37) الذي صدر في تمّوز 1967، وسيطرت الحكومة العسكرية على تعيين وتشغيل عمّال القطاع العام، والذي كان واسعاً في ظلّ النظام الأردني، وأُلغيت معظم تلك التعيينات بعد احتلال 1967. [114]

سُمح لهذا القطاع بالنمو مجدداً في عهد “ديان”، ولعب الأردن دوراً رئيسياً في تجييره لشبكات مصالحه، وتكفّل بحصةٍ كبيرة من رواتب البلديّات. ومع أنّي لم أتمكّن من الحصول على بياناتٍ عن حجم القطاع العام في فترة “المعراخ”، يُمكن القول بالعودة إلى مقترحٍ مصري للحكم الذاتي، إنّه بحلول شهر كانون الأول 1978، عمل أكثر من 11 ألف فلسطيني في القطاع العام. [115]

ومع ذلك، كانت النخبة الأردنية أكثر أهميّةً وحيويّة للنفوذ الأردني من موظفي القطاع العام، والتي تألفت إلى حدّ كبير من كبار ملّاك الأراضي والتجار الذين ركّزوا  على إنتاج السمنة وزيت الزيتون والصابون وتسويقه في الأردن قبل وبعد احتلال عام 1967. [116] أمّا في القطاع الزراعيّ، وفي عام 1968، شكّلت نخبة ملّاك الأراضي المرتبطة بالأردن؛ ممّن يملكون أكثر من 100 دونم، 8.6% من نسبة المزارعين، و38% من الإنتاج الزراعي، في حين لم يزرع صغار المزارعين، الذين تقلّ مساحة أراضيهم عن 20 دونم ويشكّلون 48% من المزارعين،  سوى 10%.  [117]

وصحيح أنّ الأردن مُنح حق “الفيتو” على ما يُمكن تصديره من سلع الضفة الغربية، على غرار “الفيتو” الصهيوني حول ما يُمكن استيراده، ولكن لم يكُن تقاسم السلطات بينهما مبنياً على أرضيةٍ متساوية؛ فلم يكُن تقاسماً ضمنياً فحسب، بل كانت “إسرائيل” هي الطرف المهيمن في المعادلة، نظراً إلى قوتها العسكرية المحضة وقمعها المقاومة التي كانت متمركزةً في الأردن.

ففي أعقاب حرب 1967، بذلت المجموعات الفدائية والنخب الفلسطينية والأردنية جهوداً كبيرة لمعارضة الاحتلال عبر حركات احتجاجٍ شعبيّة غير مسلّحة، بقيادة النخبة المحافظة المدعومة أردنياً التي تنضوي في إطار المجلس الإسلامي الأعلى واللجنة العليا للتوجيه الوطني، إلى جانب هجماتٍ فدائيّة على أهداف “إسرائيلية” نفّذتها الفصائل الفلسطينية المسلّحة المتمركزة في الأردن، ولكن سرعان ما قضت القوة العسكرية الصهيونية على هذه الجهود.

أمّا على المستوى المؤسسي، أخذ هذا “الفيتو” شكل عدم الاعتراف الأردني بأيّ مؤسسة إنتاجية تنشأ في الضفة الغربية بعد احتلال عام 1967، واشتراطه بإصدار شهادة المنشأ. [118] بهذا، حافظ الأردن على شبكات مصالحه من ناحية، وواصل تأكيد مطالبته الرسميّة بالأرض من الناحية الأخرى.

بلغت استراتيجية تقاسم السلطات هذه أوجها مع الانتخابات المحلية في الضفة الغربية في عام 1972، والتي أُجريت على جولتين: في 28 آذار شماليّ الضفة، وفي الثاني من أيار في جنوبها.  وبحسب “غازيت”، كانت هناك ثلاث غاياتٍ دفعت للسماح بإجرائها: إضفاء الشرعية على الاحتلال وتطبيعه أولاً. وتحدّي الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية اللذين عارضا الانتخابات ثانياً. وتعزيز شرعية رؤساء الهيئات المحلية ثالثاً، “وربما السماح لهم بالتعاون مع الإدارة العسكرية على نحوٍ أوثق”. [119]

على الصعيد السياسي، كانت هذه الانتخابات شأناً خاضعاً لسيطرةٍ محكمة، تماماً كما كان الحال في عهد النظام الأردني الذي وظّف عقوداً من حكمه لضمان عدم حدوث أي شيءٍ من شأنه تعكير صفو الوضع الراهن، والذي لعبت فيه البلديات دوراً إدارياً بالنيابة عن النظام. وبموجب القوانين الأردنية التي تنصّ على أنّه يجب أن يكون الأشخاص الذين يحق لهم التصويت رجالاً فوق سن الـ 21 عاماً، وأصحاب أملاك سدّدوا ضرائبهم، لم يستوفِ هذه المعايير سوى 5 % من الفلسطينيين في الضفة الغربية، أدلى 85% منهم بأصواتهم.  وبالإضافة إلى ذلك، لم يتمّ التصويت على أساس البرامج السياسية أو الأحزاب، إنّما لممثلي الحمائل والعشائر الكبيرة. [120]

وبعيداً عن كونها “أهم اختبارٍ واجهته الحكومة العسكرية في الأراضي المحتلّة” كما يصفها “غازيت”، فقد كان مستبعداً  أن تسفر هذه الانتخابات عن نتائج غير الحفاظ على  هيمنة النخبة التقليدية على المجالس البلدية. [121]

في الأثناء، وبين جولتي الانتخابات في عام 1972، أعلن الملك حسين عن خطةٍ لوحدةٍ فيدرالية بين ضفتي النهر تحت اسم (المملكة العربية المتحدة)، [122] والتي كانت، وبصرف النظر عن النفس التحرّري التي صيغت بها، إشارة تشجيعية لـ “ديان” وحزبه بأنّ “الحل الرسميّ الدائم” بات احتمالاً قابلاً للتحقّق. فيما كانت فعلياً، بحكم الواقع، إدارةً صهيونيةً أردنية مشتركة، الأولى مسؤولة عن الأمن والدفاع، والثانية عن الحياة المدنية إلى حدٍ كبير. [123]

شكّلت تداعيات حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 نقطة تحوّلٍ مهمّة ستنذر آثارها بالتحوّلات التي ستأتي مع صعود “الليكود” إلى الحكم. وإضافةً إلى استنهاضها المقاومة الفلسطينية، قادت النتائج المتباينة للحرب إلى إعادة تشكيل قيادة التجمّع العمّالي الصهيوني في الثالث من حزيران 1974؛ انضمّ الحزب الديني القومي الصهيوني “مفدال” إلى الائتلاف الحاكم، مما حدّ من احتمالات الدفع الصريح نحو خيار الأردن.

ومن طرفه، دفع وزير الحرب الجديد “شمعون بيريز” نحو استراتيجية تحويل الهيئات المحلية إلى حلبة “تنمّي قيادةً فلسطينيةً محليةّ معتدلةً ومحافظة تتولّى إدارة ذاتية في الضفة الغربية، وتمثّل سكانها (في المفاوضات)”، على حدّ تعبيره. [124] وبحسب “موشيه معوز”، كانت هذه الاستراتيجية مدفوعةً جزئياً بالضغط على الملك حسين من موقع قوةٍ في عملية التفاوض، والرغبة في إيجاد بديلٍ للحلّ الأردني في حال عدم تحقّقه. [125]

بهذا، وبينما واجه الاحتلال الحركة الوطنية الفلسطينية المتنامية بالمزيد من القمع في أوائل السبعينيّات، تقدّمت الاستراتيجيات الاستعمارية والتوجّهات الإدارية الصهيونية في اتجاهين: من ناحية، ترتّب على الخيار الأردني استعداء حزب “مفدال” في الائتلاف الحاكم، بينما مثّل التوجّه الآخر بدايات تبلور فكرة سلطةٍ فلسطينية، أُطلق عليها في ذلك الوقت “خطّة الإدارة الذاتية”. وقد كمنت الأخيرة وراء إجراءات الانتخابات البلديّة في عام 1976.

اعتقد مستشارو “بيريز” من المستشرقين، الذين سنأتي على نقاشهم في الفصل الأخير، أنّه بإمكان النصر أن يكون من حليف الناخبين “المعتدلين”، بمن فيهم غير الموالين للنخبة الأردنية، وذلك من خلال توسيع قاعدة الناخبين. لذلك، عدّلت السلطات العسكرية “الإسرائيلية” قانون الانتخابات الأردني عشيّة الانتخابات، ليشمل النساء وكل من سدّد ضرائب خدمات البلدية، ما أدّى إلى مضاعفة عدد الناخبين المؤهلين للتصويت ثلاثة أضعاف تقريباً”. [126]

جاءت نتائج انتخابات البلديات والهيئات المحلية في عام 1976 مخالفةً لتوقّعات الاستراتيجيّين العسكريّين والمستشرقين الصهاينة. فقد اكتسح مرشّحو الجبهة الوطنية الفلسطينية الانتخابات، موجّهين ضربةً قاضية لكلّ من خيار الأردن ومشروع “بيريز” للإدارة الذاتية، على الرغم من المحاولات “الإسرائيلية” تحديد النتائج مسبقاً وإبعادها المرشّحين الوطنيّين. [127] أصبحت البلديات مراكز للحركة الوطنية، وانضمّت لها مؤسساتٌ وطنيةٌ عدّة ضمن شبكات تنسيقٍ عملت مع بعضها البعض على مقاومة الاحتلال والتصدّي لسياسات إعاقة التنمية الاقتصادية، وهو ما سننتقل لنقاشه في القسم التالي.

بالمقابل، دفعت هذه النتائج حكومة الكيان لتشكيل لجنةٍ وزارية لدراسة فشل الاستراتيجية والتوصّل لحلول بشأنها، ليتمّ تعيين “مناحيم ميلسون”، من ضمن نتائج مداولات هذه اللجنة، مستشاراً للحاكم العسكريّ، وهو المنصب الذي كان يشغله عند فوز “الليكود” بانتخابات عام 1977.

3.    الجوانب الاقتصادية لفترة “المعراخ”

صرّح العديد من المسؤولين والمتحدّثين الصهاينة بأنّ السياسيات الاقتصادية التي تنتهجها “إسرائيل” في الضفة الغربية تنطوي ببساطةٍ على السماح للسوق بأخذ مجراه. وكما يوضّح يوسف صايغ، لم تكُن اقتصادات الأراضي المحتلّة “ملتوية ومشوّهة ومتقزّمة” بفعل اليد الخفية لقوى السوق، إنّما بسبب فرض سلطة الاحتلال ودورها المباشر. [128] يسعى البحث هنا لاستكشاف تأثير هذه “اليد الظاهرة” على اقتصاد الضفة الغربية، والتي كان من شأنها دمج الضفة اقتصادياً بالمجال الاقتصادي “الإسرائيلي”، ما أدّى إلى تآكل القطاعات الإنتاجية فيها بطرقٍ أثّرت سلبيّاً وبشكلٍ مباشرٍ على الفلّاحين والنخبة القرويّة، والذين سيشكّلون أساس الاستراتيجية الصهيونية المتمثّلة بفرض “سلطةٍ محليّة فلسطينية”.

وفّر احتلال عام 1967 منافع حقيقية للاقتصاد “الإسرائيلي”. فقبل ذلك، تباطأ التوسّع الاقتصادي السريع، الذي كان مدفوعاً بالاستيلاء على الأراضي والموارد الفلسطينية في نكبة عام 1948، وكذلك أخذ النموّ السكاني السريع الذي اتّخذ شكل الهجرات اليهودية بالتباطؤ، بينما كان عقد التعويضات الألمانية الذي بدأ في عام 1955 قد شارف على الانتهاء. وقد سبّب هذا التباطؤ في النمو السكاني الصهيوني نقصاً في الأيدي العاملة. [129] تعزو فرسخ السبب الرئيسيّ لذلك إلى أنّ تلك الفترة شهدت انخفاضاً واضحاً في معدّلات الهجرة اليهودية، [130] كما كانت الفترة التي شهدت أعلى معدّلات الهجرة المعاكسة. [131] وقد كان هذا ما “عوّضته الأراضي المحتلّة وأكثر.. (والتي) وفرت توسّعاً ملموساً للسوق.. ساهم في إعادة إحياء الإنتاجية”. [132]

يتناول “جوست هلترمان” طبيعة هذا النقص في الأيدي العاملة، والذي أدّى إلى ارتفاع الطلب على العمالة غير الماهرة الفلسطينية، فيقول:

“مع تدفّق رأس المال في أعقاب حرب [1967]، (خاصةً الزيادة الحادّة في المساعدات الاقتصادية والعسكرية الأمريكية)، تمّت إعادة توجيه الاستثمارات نحو الخدمات والصناعة.. خاصةً صناعة الأسلحة. ورافق هذه التغييرات انخفاضٌ مستمرّ في المشاركة اليهودية في العمالة المأجورة، مقترناً بانخفاض معدّل الهجرة اليهودية..، بالإضافة إلى جذبٍ شديدٍ للعمالة اليهودية الناشئة عن تلك الصناعات، والتي إمّا صُنّفت كاستراتيجية (وبذلك استبعدت غير اليهود) أو تطلّبت مستوى عالياً من الكفاءة الفنيّة. وفي الوقت ذاته، واجهت قطاعاتٌ أخرى سريعة النمو، مثل الصناعات الغذائية والمنسوجات والسياحة – والأهم – قطاع البناء والتشييد، نقصاً متزايداً في العمالة غير الماهرة. لذلك، أسفر التوسّع الاقتصادي ما بعد عام 1967 عن ارتفاع الطلب على قوة عاملة رخيصة ومتنقّلة وغير ماهرة وغير منتظمة. وهو ما وجدته “إسرائيل” في سكّان الأراضي المحتلّة حديثاً” . [133]

عُنيت الأوامر العسكرية في الأيام الثلاثة الأولى لاحتلال الـ  1967 بتعزيز القبضة الأمنية الصهيونية، ثمّ وجّهت تركيزها ما بين 8-10 حزيران على المسائل الاقتصادية وبدأتها بهدم “المؤسّسات المالية والنقدية العربية”. في الضفة الغربية، أغلقت هذه الأوامر 31 فرعاً لمصارف أردنية وغيرها، واُتبعت كافة الأعمال المصرفية لسلطة البنك المركزي “الإسرائيلي”، وتمّ فرض الليرة “الإسرائيلية” (ولاحقاً الشيكل) كعملة قانونية، فضلاً عن فرض نظام رقابةٍ على العملات الأجنبية. [134] [135] يتّضح لنا مدى المراقبة والتدخّل في هذا القطاع لدى النظر إلى الأمر العسكري رقم (998)، الذي يفرض على الفلسطينيّ الحصول على إذنٍ عسكريّ لسحب الأموال من البنك.

ومع نقل السلطة الكاملة على السياسات النقدية والمصرفية إلى الحكومة العسكرية، أصبح الحصول على رأس مالٍ على شكل ائتمانٍ مصرفيّ للمشاريع الاقتصادية المتوسّطة والكبيرة أقرب للمستحيل، وقد كان هذا سبباً في تثبيت احتكار النخبة الأردنية لمثل هذه المشاريع نظراً لقدرتها على الحصول على رأس المال، وإنْ اقتصرت هذه الاستثمارات على رأس المال الذي كان لديها.

كان سكّان القرى الذين يعتمدون على الزراعة لكسب قوتهم هم أكثر من لحق بهم الدمار بفعل السياسات الصهيونية، والتي أوّل ما طالت الأرض. بعد سيطرتها بفترةٍ وجيزة في الخمسينيّات، واصلت الحكومة الأردنية عمليةَ تسجيل وتسوية ملكية الأراضي، والتي بدأت في ظلّ الاستعمار البريطاني. وبحلول عام 1967، كان نحو 30% من أراضي الضفة الغربية مسجلّا كأملاك خاصة، ولكنّ هذه العملية توقفت بعد احتلال عام 1967، [136] خاصةً بعد إصدار الأمر العسكري رقم (291) في 19 كانون الأول 1967، المتعلّق بترتيبات الأراضي والمياه.

كانت معظم أراضي الضفة الغربية عرضةً لتصنيفها كـ “أراضي دولة” ومن ثمّ مصادرتها تحت هذه الذريعة القانونية، وذلك بسبب تأثير كلّ من الأوامر العسكرية الصهيونية من جهة والتفسيرات الصهيونية للقوانين العثمانية والبريطانية والأردنية المتعلّقة بالأراضي من جهة أخرى. كما مكّنت هذه الأوامر العسكرية المختلفة السلطات العسكرية الصهيونية من مصادرة أراضٍ خاصّة لدواعٍ “أمنية” أو استخداماتٍ عامة، أو تحت ذريعة تحويلها إلى محميّاتٍ طبيعيةٍ أو مناطق عسكريّة مغلقة أو قواعد تدريبٍ عسكريّة، ليتم استخدام جزءٍ كبيرٍ منها فيما بعد من أجل إقامة مستعمراتٍ يهودية.

وبالمثل، تمّت مصادرة المياه والسيطرة على مواردها في الأراضي المحتلّة، وأُلحقت بشبكة المياه “الإسرائيلية” التي تديرها شركة “مكوروت”، إلى جانب منع الفلسطينيين من الاستفادة منها. وفي عام 1970، فرض الاحتلال قيوداً مشدّدة على حصول الفلسطينيين على مياه نهر الأردن، وهو ما أدى على الفور إلى محاصرة النشاط الزراعي الفلسطيني في وادي الأردن، والذي كان يمثّل 47.5% من الأراضي الزراعية المروية في الضفّة. [137] وفي عام 1975، حدّد الاحتلال سقفاً لكميّة المياه التي يُسمح للفلسطينيين بضخّها من الآبار والينابيع، ممّا أدى إلى انخفاض حادّ لكمّيات المياه المتاحة للمزارعين، ووَضَع قيوداً على حفر آبار جديدةٍ وترميم القديمة منها، والذي أصبح مشروطاً بتصاريح  من السلطة العسكريّة، مع تحديد أعماق الآبار الارتوازية. في المقابل، تمكّنت “مكوروت” من استخراج المياه متى شاءت وحفرت آباراً أعمق بكثير، [138] وهو ما أدّى إلى زيادة ملوحة المياه التي استخرجها الفلسطينيون. [139] وبذلك، تمّ تحويل المياه المصادَرة إلى المستوطنات الزراعية والمشاريع الزراعية الصهيونية في الداخل المحتلّ.

ولم تكُن هذه السياسات الاقتصادية والممارسات العسكريّة مقتصرةً على الموارد الطبيعية، إنّما امتدّت إلى التلاعب المباشر بالإنتاج والتجارة، ساعيةً إلى تحقيق هدفين متكاملين: أوّلهما منع منافسة السلع الفلسطينية، خاصةً المنتجات الزراعيّة، للإنتاج “الإسرائيلي”، وثانياً دعم إنتاج السلع التي من شأنها مساعدة “إسرائيل” في تحقيق حصص صادرتها. في حالة الخضروات والفواكه على سبيل المثال، كان بوسع “المنتجات الفلسطينية تقويض الإنتاج “الإسرائيلي” بنسبة 20-25%”.  [140] وإضافةً إلى مصادرة الأراضي والمياه، تمّ إغراق السوق الفلسطينية بالسلع “الإسرائيلية” من موادّ غذائية ومنسوجات، والتي كانت جميعها لشركاتٍ مملوكةٍ كليّاً أو جزئياً لاحتكاراتٍ كبرى مدعومة حكوميّاً، ما أدّى إلى تقويض المنتجات الفلسطينية. [141]

كما تمّ إصدار قوانين عسكريةٍ متعلّقة بالتجارة، والتي بدورها فرضت عوائق متعدّدة على المنتجات الفلسطينية التي تعبر “الخط الأخضر”، بما يشمل رسوماً جمركية ومعايير فنية وصحية وتراخيص استيراد، لم تُمنح إلا في حال إقرار مجلس الإنتاج والتسويق الزراعي بأنّ العرض “الإسرائيلي” غير كافٍ لتلبية الطلب. [142] كان الفلسطينيون في المقابل ممنوعين من تشكيل هيئة تسويق، أو أيّة آليةٍ أخرى من شأنها “تسهيل وتطوير تسويق” الزراعة الفلسطينية. [143]  واقتصر تشجيع الإنتاج الفلسطينيّ على عددٍ قليلٍ من السلع التي تكمّل الإنتاج “الإسرائيلي” للتصدير، خاصةً الخضروات المروية بالتنقيط والمحاصيل النقدية كالتبغ، بينما تمّ استهداف المحاصيل الدائمة التي تقوم على المزيد من الارتباط بالأرض، كالزيتون والحمضيات.

انطوى هذا “التشجيع” الصهيوني على منطق العصا والجزرة، وتحفيز إنتاج السلع التي يحتاجها الاحتلال لتحقيق حصص إصداراته عبر المكافآت ورفع الأسعار، بالإضافة إلى الدعم التكنولوجي في بعض الحالات لزيادة الإنتاجية، دون أن يترتب على ذلك زيادة في العمالة بالضرورة. [144] وفي الواقع، تبيّن فرسخ أنّ هذا الارتفاع في الإنتاجية، الناجم عن التحوّل من المحاصيل البعلية إلى النقديّة المرويّة والذي حفّزته هذه السياسات، قد ساهم فعليّاً في انخفاض عدد المزارعين الفلسطينيين. [145] ففي الوقت الذي استفاد كبار ملّاك الأراضي من هذه السياسات، وتحوّل إنتاجهم من السوق المحليّ إلى أسواق التصدير “الإسرائيلية” في أوروبا، عجز الفلاحون الذين لم ينتجوا هذه المحاصيل عن منافسة المنتجات “الإسرائيلية” محليّاً.

ولم يركّز تحفيز الإنتاج على الزراعة فقط، بل امتدّ بنسبة قليلة إلى أعمال المحاجر والطوب، بالإضافة إلى مصانع النسيج التي استغلّت العاملات الفلسطينيات بشكلٍ خاص، وكانت جميعها موجّهةً بالكامل نحو الطلب “الإسرائيلي”. [146] ومن ناحيةٍ أخرى، اضطُر التجار الفلسطينيون للانتقال إلى واردات الاقتصاد “الإسرائيلي”، بما في ذلك المواد الخام المستخدمة في الصناعة الفلسطينية المتدهورة، ليندمج الاقتصادان إثر ذلك وتتحوّل طبقة التجّار القديمة إلى وسطاء ووكلاء للسلع “الإسرائيلية”،  [147] ويصبح عددٌ منهم وكلاء حصريّين لشركاتٍ “إسرائيلية” في الضفة.

بداية توظيف عمال الضفة الغربية للعمل في مشاريع البناء والتشييد، كانت في بناء المستوطنات وتوسيع شبكة الطرق لربطها بالقدس والأراضي المحتلّة عام 1948. برزت في هذا القطاع طبقة جديدة من الوسطاء والمقاولين الذين اعتمدت عليهم الشركات الصهيونية بشكلٍ متزايد، والذين كانوا بدورهم يقتطعون جزءاً من أجر عامل المياومة ويحصلون على جزءٍ من “الفائض الفلسطيني المستحوَذ عليه. [148] وبحلول منتصف الثمانينيّات، قُدّرت نسبة العمّال الفلسطينيين في الاقتصاد “الإسرائيلي” الذين تمّ تشغيلهم عبر شكلٍ من أشكال التعاقد المبطّن بـ 60%. [149]

كانت هاتان الطبقتان (الوسطاء والمقاولين) بمثابة بيئة خصبة لنموّ التعاون الفلسطيني مع المشاريع السياسية الصهيونية من مثل “روابط القرى”. ومن بين الأمثلة البارزة عليها جميل العملة، خليفة مصطفى دودين كزعيمٍ لرابطة قرى الخليل، الذي كان مقاولاً رئيسياً للعمّال الفلسطينيين في منطقة الخليل، وعمل على نقل مئات العمّال يوميّاً، وتولّى التعاقد معهم بالنيابة عن المقاولين الصهاينة. [150]

ج.  فوز “الليكود”: مركزية إيجاد سلطة حكم ذاتي فلسطينية

انعكس انتصار “الليكود” في انتخابات الكنيست الصهيوني عام 1977 على الاستراتيجيات والأهداف الاستعمارية الصهيونية إزاء الأراضي المحتلّة عام 1967، واستند هذا التحوّل إلى عدّة عوامل رئيسية، منها: صعود الحركة الوطنية وتجدّد المقاومة في كلّ من الأراضي المحتلّة ولبنان، والتغيّرات السياسية والاقتصادية في “إسرائيل”، خاصةً من حيث الاعتمادية على أراضي الـ 67 أثناء الأزمة الاقتصادية، وأيديولوجية حزب “الليكود”، فضلاً عن اتفاقية “كامب ديفيد” مع مصر عام 1978.

كيف، إذن، أثّرت هذه العوامل على الاستراتيجيات الاستعمارية الصهيونية والتوجّهات الإدارية؟ وكيف تعامل “الليكود” مع مسألة الأراضي المحتلّة عام 1967؟ هذا ما يناقشه هذا القسم، مع إلقائه نظرةً على مشروع “دروبلس-شارون”، مجادلاً أنّ رفض “الليكود” الصريح للتسوية الإقليمية هو ما أعطى الأولوية لاستراتيجيةٍ تصبح بموجبها سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية ركيزةً أساسيةً للاستراتيجية الاستعمارية الصهيونية.

1. العوامل المؤدية لصعود “الليكود”

•  تجدّد النضال الوطني الفلسطيني
شكّلت القوة المتنامية والقدرة التنظيمية للحركة الوطنية الفلسطينية في الأراضي المحتلّة ولبنان تهديداً متزايداً على الكيان الصهيوني. انتهى الوجود العسكري لمنظّمة التحرير في الأردن في أعقاب أحداث “أيلول الأسود”؛ وبالمثل، لاحق العدوّ الصهيوني الخلايا المسلّحة التي شكلتها الفصائل الفلسطينية في الأراضي المحتلّة تزامناً مع ذلك. ولكن، وفي غضون أقلّ من عقد، استعادت الحركة الوطنية مكانتها كقوةٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ قويةٍ في لبنان، وتزامن ذلك مع نهوض المقاومة في الأراضي المحتلة، ووصولاً إلى اكتساح مرشحي الجبهة الوطنية الانتخابات البلدية في نيسان 1976، بـ 184 مقعداً من أصل 191.  ترافق ذلك مع تصعيد العمليات العسكرية ضدّ الأهداف “الإسرائيلية” في الداخل المحتلّ، بالإضافة إلى الغارات التي انطلقت من معسكرات منظمة التحرير عبر الحدود. صاحب ذلك أيضاً موجة من التظاهرات في الأراضي المحتلّة عام 1948، والتي وصلت ذروتها في يوم الأرض في نهاية آذار 1976. بدا وكأنّ كلفة السيطرة الصهيونية على جانبي “الخط الأخضر” أصبحت أكبر من ذي قبل، وهو ما كان يهدّد الأسس الاستعمارية للدولة اليهودية، ممّا أعاد معالجة “الوضع القائم” على رأس أولويات الأجندة الاستعمارية مجدداً، ولكن هذه المرة على غير خطى “ديان”.

•   “الليكود” والاقتصاد السياسي للأزمة
لم يدُم التوسّع الاقتصادي الذي أعقب حرب الـ 67 طويلاً. تأثّر الاقتصاد “الإسرائيلي بالركود الاقتصادي العالمي عام 1973، والذي حفّزته أزمة “صدمة النفط الأولى”، وكان للتغييرات التي طرأت على الاقتصاد السياسي الصهيوني في تلك الفترة تأثيران مترابطان: خضعت أجهزة الدولة لسيطرة الاحتكارات الكبرى (أهمها الشركات الخمسة: كوور وهبعوليم وليئومي وكلال وبنك ديسكاونت). واستثمرت الأخيرة بكثافةٍ بالفائض الاقتصادي الذي كان يعتصر من الضفة الغربية، كما دعمت الانتقال إلى حكومة “الليكود” ووعدت بإصلاحاتٍ نيوليبرالية. وبذلك، أصبح الانسحاب من أراضي  الـ 67 خياراً لتقليل هوامش ربح الاحتكارات. كان ذلك هو الحال فيما تعلّق بقطاع بناء المستوطنات المربِح وبنيته التحتية بشكلٍ خاص، فضلاً عن العمالة الفلسطينية الرخيصة واعتمادية السوق الفلسطيني على السوق “الإسرائيلي”. إضافةً إلى خزينة دولة الاحتلال التي كانت من أكبر المستفيدين من ذلك الفائض.

وقد يبدو أنّ في ذلك تناقضاً، بالنظر إلى أنّ الحركة الوطنية المتنامية أصبحت مكلفةً على نحوٍ متزايد، بينما أصبح الاحتلال مدرّاً للأرباح. في الواقع، كانت التكاليف المتنامية للاحتلال جزءاً من هوامش أرباح الاحتكارات، لا سيّما عند الأخذ بعين الاعتبار بدء استثمارها في الصناعة الحربية؛ فقد عزّزت القوى الاحتكارية سيطرتها على الاقتصاد “الإسرائيلي” خلال فترة الركود في السبعينيات، خاصةً عبر تحويل تركيزها نحو القطاع المالي وصناعة الأسلحة، سواءً لتصديرها لديكتاتوريات أمريكا اللاتينية وأفريقيا بالنيابة عن الولايات المتحدة، أو لصالح الآلة العسكرية الصهيونية. [151]

وبالنظر إلى عمق العلاقات المتبادلة بين الشركات الكبرى من جهة والمؤسسة العسكرية والحكومة من جهة أخرى، زادت هيمنة المجمع المالي الصناعي – العسكري الصهيوني على الدولة الصهيونية وبلغت مستوياتٍ قياسيّة، وهي عملية موازية لـ “زيادة الإنفاق العسكري السنويّ بنسبة 1300% بين عامي 1960 و1978”. [152]

في المقابل، ارتبط الربح الاحتكاري لأكبر التكتّلات الصهيونية ارتباطاً وثيقاً بسياسات تنظيمية حكومية للاقتصاد، والتي سمحت لها الولايات المتحدة بـ “إدارة اقتصاد حربٍ مغلق، محمياً بحواجز تجاريةٍ عالية، وتدعمه مساعداتٌ اقتصادية وعسكريةٌ ضخمة”، وذلك لقاء لعبها دور الوكيل في الحرب الباردة وجمع المعلومات الاستخبارية على المستويين الإقليمي والدولي. [153]

ساهمت سياسات الليكود الاقتصادية، التي جمعت بين سياسة عدم التدخل في آليات السوق وتحرير نظام العملة الأجنبية،  [154] في جعل المنطقة أكبر سوقٍ للبضائع العسكرية في العالم، وهو ما شكّل ثورةً كبيرة للاحتكارات “الإسرائيلية”.  فمن إجمالي الميزانية الحكومية التي بلغت 653 مليار ليرة في عام 1980، أنفقت حكومة الاحتلال 210 مليار على الدفاع والأمن، و194 ملياراً على سداد  الديون التي تكبّدتها من الاحتكارات “الإسرائيلية”، سواءً من خلال البنوك أو الشركات العسكريّة.  [155]

غير أنّه وبحلول نهاية عقد السبعينيّات، تطوّر الركود الاقتصادي إلى أزمةٍ غير مسبوقة بلغت ذروتها في بداية الثمانينيّات. [156] ولتعويض الخسائر التي ترتّبت على ذلك، واستمراراً لما كان قائماً في عهد الحكومة السابقة لكن على نحوٍ أكثر حدّية، تكثّفت السياسات الاقتصادية تجاه الضفة والقطاع مع مشروع “دروبلس – شارون”، خاصةً المتعلّقة بسلب المزيد من الأراضي والموارد الفلسطينية، وبناء المستوطنات، واستغلال السوق الفلسطيني وقوته العاملة.

• الاقتصاد السياسي للاحتلال
بالنسبة للاقتصاد “الإسرائيلي”، تنبع مركزيّة الضفة الغربية من اعتماد الكيان المتزايد على الموارد الطبيعية فيها، لا سيّما الأرض والمياه، وعلى الفائض الفلسطيني الذي كان يُمكن الاستحواذ عليه إمّا بصورةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرة.

وفيما يتعلّق بالأرض، اعتبرت السلطات العسكرية الصهيونية “جميع الأراضي غير المسجلّة والمتروكة أراضي دولة، وبالتالي تخضع للمصادرة”. [157]  وبعد مطالبتهم بوراثة أملاك الحكومة الأردنية، بدأ الصهاينة باستغلال التصنيف العثماني للأراضي “الموات” للاستيلاء على ما يزيد عن 26% من الأراضي التي تمّ مسحها وتحديدها عبر الصور الجويّة. وبحلول منتصف الثمانينيّات، استولت السلطات الصهيونية على 39% من الأرض، وغالبيتها زراعية ومراعي، بالإضافة إلى 5% من أراضٍ كانت ملكيّتها ثابتة. [158] وبفعل أساليب عدّة كإصدار أوامر عدم البناء وتدمير الحقول المزروعة، إلى جانب هجمات المستوطنين، أصبحت 52% من أراضي الضفة غير صالحةٍ للاستخدام. [159] في المقابل، استُخدمت الكثير من الأراضي المصادرة بذرائع عسكرية وبيئية في بناء المستوطنات اليهودية تماشياً مع خطّطّ ومشاريع التوسع الاستعماري كما في خطّة “آلون – ديان” و”دروبلس – شارون”. [160]

وبالنسبة للمياه، فقد وصل استخدام الصهاينة لمصادر المياه في الضفة بحلول منتصف الثمانينيّات إلى 47%، [161] على الرغم من أنّ الفلسطينيين شكّلوا عشرين ضعف عدد المستوطنين اليهود في ذلك الوقت، [162] بينما شكلت  مياه  نهر الأردن والمياه الجوفية للضفّة نحو 70% من موارد المياه المتاحة في كامل فلسطين التاريخية سنوياً. [163] وبالنظر إلى الطبيعة الاستراتيجية لهذا المورد، بات تخلّي “إسرائيل” عن سيطرتها على موارد المياه في الضفة الغربية ضرباً من المستحيل.

أمّا بالنسبة للإنتاج والتجارة في الفترة ما بين 1974 و1991، كانت الصادرات والواردات تمثّل 85-99% من الناتج القومي الإجمالي للأراضي المحتلّة عام 1967؛  70% من صادرتها إلى “إسرائيل”، و90% من وارداتها منها.

لم تتجاوز الصادرات الفلسطينية إلى الأردن نسبة الـ 30%، وظلّت الصادرات إلى الأسواق العالمية هامشيّة. [164] وفي الحقيقة، كانت السوق الفلسطينيّة من أكبر الأسواق بالنسبة للصادرات “الإسرائيلية” بعد الولايات المتحدة. [165] وبحلول عام 1984، بلغ العجز في الميزان التجاري للضفّة مع “إسرائيل” 220 مليون دولار. ورغم أنّ هذا العجز شكّل 22% من الناتج المحلي الإجمالي للضفّة بين عامي 1970 و1987، [166] فقد كان جزءاً ضئيلاً من الفائض الاقتصادي الذي كانت تمتصّه السياسات الصهيونية إلى خزائن قطاعها الخاص والعام. وذلك إلى جانب عائدات سكّ العملة والضرائب والغرامات والرسوم المفروضة على العمّال الفلسطينيين فضلاً عن فائض قيمة استغلالهم، والذي كانت الأموال القادمة من الخارج إلى الأراضي المحتلّة المصدر الرئيسي له.

وتشير التقديرات إلى أن عائدات فرض “الشيكل” على الأراضي المحتلة، (66) إلى جانب ارتفاع معدلات التضخم ما بين أوائل السبعينيّات والثمانينيّات، تراوحت بين 1.6-4.2% من إجمالي الناتج المحلّي لأراضي 67. وبينما لم يتمكّن الباحث من الحصول على بياناتٍ عن الضرائب والعائدات التي جمعتها الإدارة المدنيّة خلال الفترة الزمنية قيد الدراسة، فإنّ إحصائيات البنك الدوليّ ما بين 1987-1991 تقدّرها بنحو 21.7% من الناتج المحليّ الإجمالي. [167]

ومن حيث الضرائب، دفعت المصانع الفلسطينية، على سبيل المثال، ضرائب تزيد بما يتراوح بين 35-40% على تلك المفروضة على نظرائها الصهيونية، وهو واقعٌ تفاقم بشدّة بالنظر إلى أنّ الفلسطينيين خضعوا لحساب الضرائب بالدينار الأردني المثبّتة قيمته، والصهاينة بـ “الشواكل” المخفّضة قيمتها. [168] وفي الحقيقة، بدأت حركة الاحتجاجات والإضرابات العامة ضدّ الإدارة المدنيّة في قطاع غزّة بإضرابٍ للعاملين في مجال الصحّة احتجاجاً على اعتقال زملائهم الذين رفضوا دفع المعدّلات الضريبية المرتفعة التي تمّ فرضها.

كما تُظهر الإحصاءات “الإسرائيلية” الرسمية ارتفاعاً في عدد العمّال الفلسطينيين العاملين في الداخل المحتلّ، من 20.6 ألف عامل في عام 1970، وهي السنة الأولى لهجرة هذه العمالة، إلى 68.7 ألف عاملٍ في عام 1974 و90.3 ألف عامل في عام 1984؛ وهو ارتفاعٌ من 30% إلى 40% من القوى العاملة الفلسطينية. [169] آخذين بعين الاعتبار أنّ ما بين ربع إلى نصف الفلسطينيين العاملين في الداخل المحتلّ هم غير مسجلين رسميّاً، [170] ولأنّ هذه الإحصاءات لا تشمل الفلسطينيين العاملين في المؤسسات “الإسرائيلية” في الضفة الغربية أو القدس المحتلّة، يُمكننا القول إن غالبية القوى العاملة في الضفة الغربية كانت تعمل لقاء أجور استغلالية في الاقتصاد “الإسرائيلي” في بداية الثمانينيّات. [171]

وقد شهدت سنوات روابط القرى (1981-1983) طفرة كبيرة في صناعة البناء والتشييد “الإسرائيلية”، وهي الصناعة الأكثر طلباً على الأيدي العاملة الفلسطينية، خاصةً بسبب التوسّع الاستيطاني بفعل مشاريع “شارون – دروبلس”، وأزمة التضخّم الاقتصادي، والتي كان يُنظر فيها إلى هذا القطاع باعتباره شكلاً آمناً لاستثمارات كُبرى الشركات “الإسرائيلية”. ومع أنّه لا يُمكننا معرفة مقدار الفائض الذي يستحوذ عليه الاقتصاد الصهيوني من استغلال العمالة الفلسطينية، يُمكننا التكهّن بأنّه الأعلى قيمةً.

ومع ذلك، هناك جانبٌ من فوائض العمالة الفلسطينية المستلبة الذي يُمكننا معرفته مباشرة وهو الاقتطاعات من الأجور. فقد ذهب 1% من اقتطاعات أجور العمّال الفلسطينيّين، الذين شكّلوا أكثر من نصف القوى العاملة، مباشرةً إلى “الهستدورت”، كـ  “مساهمة في المنظّمة العمّالية”، والتي كانت تعود عليها بملايين الدولارات سنويّاً. [172] تقدّم فرسخ في هذا الصدد “تقديراً متحفّظاً” حول قيمة ما جمعته الحكومة “الإسرائيلية” من مساهمات الأجور الفلسطينيّة بين 1970-1993، والتي بلغت قيمتها 1.2 مليار دولار. [173]

وفي عام 1981، فرض الاحتلال أيضاً ضريبة القيمة المضافة على سكّان الأراضي المحتلّة، لتُضاف إلى ضريبة الدخل التي كانت، وفقاً للبنك الدولي، “أعلى بنسبة 3-10% من تلك المفروضة على “الإسرائيليين” من نفس فئة الدخل”. [174] والتي تمّ تحويلها جميعها، ومعها العائدات الضريبية الأخرى والرسوم التجارية وملايين “الشواكل” التي تمّ تحصيلها كغرامات أو كفالات، إلى “الخزينة الإسرائيلية”. [175]

كانت الأموال القادمة من الخارج، سواءً على هيئة حوالاتٍ أو مساعدات، من العوامل الرئيسية التي خففت الأعباء على المجتمع الفلسطيني ودعمت صموده في الأراضي المحتلّة، غير أنّها وجدت طريقها لتضخَ في الاقتصاد الصهيوني مع مواصلة إعاقة نموّ الاقتصاد الفلسطينيّ. ولذلك، لم تكُن هذه الأموال أساسيّة في “شفط” الموارد المالية الفلسطينية فحسب، بل كانت أيضاً مصدراً للعملة الأجنبيّة.

وتجدر الملاحظة أنّ اقتران جوانب معيشيّة مختلفة للفلسطينيين بموافقة روابط القرى لم يرتبط بالفوائض التي كان يُمكن للشركات “الإسرائيلية” الاستحواذ عليها. ذلك أنّ النقص المحتمَل في العمالة التي يُمكن استغلالها نتيجة الإضراب ضدّ روابط القرى، أو وقف الصادرات الفلسطينية التي تمكّن “إسرائيل” من تحقيق حصص صادرتها، لن يكون أمراً محتمَلاً بالنسبة لرأس المال “الإسرائيلي”.

في المقابل، كانت تحويلات الخارج هي الأكبر حجماً بين مصدريْ المساعدات الخارجية. ومن بين التأثيرات الصارخة المترتّبة على سياسات إعاقة التنمية في الضفة والقطاع، بلغ “معدل الزيادة الطبيعية بلغ حوالي 3.5% سنويّاً”، مع انخفاض عدد السكان بنحو 50 ألف نسمةٍ في الفترة ما بين عام 1967 و1982. [176] وكما يبيّن منصور، بالإضافة إلى نزوح 200 ألف فلسطينيّ من سكان الضفة الغربية نتيجةً لحرب 1967، غادر فلسطين حوالي 10 آلاف سنوياً من سكّان الضفة بين عامي 1968 و1974، وهو رقم ارتفع إلى نحو 15 ألف سنويّاً بين عامي 1974 و1982. [177]

وقد مهّدت السياسات “الإسرائيلية” لحرمان المهاجرين الفلسطينيين من الإقامة في الأراضي المحتلّة، ممّا جعل عودتهم إلى وطنهم أمراً شبه مستحيل. وبينما استقرّت العمالة الماهرة منهم في دول الخليج، شهدت الأخيرة انتعاشاً اقتصادياً كبيراً في أعقاب حرب 1973 واستخدام “سلاح النفط”. ولا توجد لدينا أرقام دقيقة عن المبالغ التي دخلت الضفّة كتحويلاتٍ من فلسطينيّي الخارج، خاصةً أنّهم لم يعودوا مقيمين فيها، لكنّ تقديرات البنك المركزي الأردني تشير إلى ارتفاع في هذه المدفوعات من 46.86 مليون دينار في عام 1975 إلى 475 مليون دينار في عام 1984. [178]

كانت الدول العربية المصدر الرئيسيّ للمساعدات الخارجية للأراضي الحتلّة عام 1967، بينما استمرّ الأردن من جانبه في رعاية مؤسّساتٍ مثل البلديات ونظام التعليم والأوقاف. بلغت هذه المساعدات في عام 1978 نحو 18 مليون دولار، بما في ذلك دفع رواتب 40% من الضفّة الغربية. [179] وفي ذلك العام، ردّت جامعة الدول العربية على دخول مصر في تسويات “كامب ديفيد”، في قمّة بغداد، وتمّ طرد مصر من الجامعة على إثرها، بينما تعهّدت بقية الدول بدعم صمود الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلّة من خلال مساعداتٍ مالية تديرها لجنةٌ مشتركّة تضمّ منظّمة التحرير الفلسطينية والأردن.

أصبحت هذه اللجنة لاحقاً نقطة خلافٍ لدى الفصائل اليسارية في منظّمة التحرير التي اتّهمت الأردن باستخدام الأموال العربية في الحفاظ على شبكات المحسوبية الخاصة بها وتوسيعها. وبالفعل، ذهبت 58% من ميزانية اللجنة إلى بنود الموازنة الأردنية التقليدية في الضفّة مثل التعليم والإسكان والبلديّات. [180] ومع ذلك، كانت المبالغ كبيرة، وتمّ إنفاق نحو 125.5 مليون دينار أردني بين عامي 1978 و1983. [181]

شكّلت مدفوعات التحويلات والمساعدات الخارجيّة ما قيمته 40% من الناتج المحلي الإجمالي للضفة الغربية، [182] وهو ما قاد إلى ارتفاعٍ ملحوظ في حصة الفرد من الناتج القومي ومعدّلات الاستهلاك. وكثيراً ما استخدم الصهاينة “أوجه التحسن” هذه في الدفاع عن السياسات “الإسرائيلية”، فيقدّم “معوز” تصريحاً نموذجياً في هذه الصدد، يقول فيه إنّه “نتيجة (لهذه) السياسات، أصبح (لدى) المزيد من الناس عمل.. وهناك ازدياد في السيولة النقدية ، والمزيد من السلع الاستهلاكية التي يتمّ شراؤها، ترافق مع  إعادة توزيع للثروة لصالح العمّال والموظّفين العموميّين في الضفة الغربية”. [182]

في تعليقه على النقاشات المحيطة بظروف الطبقة العاملة الإنجليزية في أوائل القرن التاسع عشر، يقول “إدوارد بالمر تومبسون” إنّ “الزيادة في نصيب الفرد وفق المؤشرات الكمية [الاستهلاك ومستوى المعيشة] قد تحدث في ذات الوقت الذي يحدث فيه اضطرابٌ نوعيّ كبير في أسلوب حياة الناس وعلاقاتهم التقليدية والعقوبات (التي يتعرضون لها). يستهلك الناس المزيد من السلع، فيصبحون أقلّ سعادةٍ أو أقل حريةٍ في آنٍ واحد”. [183] كان هذا هو بالتأكيد حال الضفة الغربية في السنوات الخمسة عشرة الأولى للاحتلال الصهيوني.

تمكّن الوسطاء من التجار والمقاولين من الاستيلاء على جزءٍ من فائض القيمة الذي وجد طريقه إلى الخزائن “الإسرائيلية”، ولكنّ هذه الطبقات صدّرت الكثير من هذا الفائض “إلى البنوك العربية والأجنبية كائتماناتٍ استثمرتها هناك أو استهلكتها في استيراد سلع كمَالية. [184]

وفي نهاية المطاف، كانت السياسات “الإسرائيلية” تجاه الأراضي المحتلّة عام 1967 سبباً في تحويل الأرض وسكّانها إلى فضاءٍ معيشي أُعيقت تنميته، يتمّ من خلاله سحب أيّ فائض ينتجه إلى الاقتصاد “الإسرائيلي”. تألّفت هذه الفوائض من تحويلات مالية ومساعدات عربية، فضلاً عن الأعمال الإنتاجية المتبقية التي تركّزت في قطاع الخدمات والزراعة وقطاع صناعيّ صغير ومتدهور، بالإضافة إلى استخراج فائض قيمة جيشٍ احتياطيّ من العمالة الرخيصة والذي أصبح يمثّل الأراضي المحتلّة عام 1967 بالنسبة إلى الأعمال والمشاريع “الإسرائيلية”.  ذهب هذا الفائض مباشرةً إلى خزينة دولة الاحتلال، إمّا على شكل رسومٍ أو ضرائب أو غرامات، أو إلى خزائن كبرى الشركات الخاصة أو تلك التي تملكها “الدولة” التي تستفيد من الأراضي والموارد الطبيعية والعمالة في الضفّة.

• “الليكود” واتفاقيات “كامب ديفيد”
كان توقيع اتفاقية “كامب ديفيد” مع مصر من بين العوامل الرئيسية التي أدّت إلى تحوّل الاستراتيجية الاستعمارية الصهيونية إزاء أراضي الـ 67. وعلى الرغم من تناولها في مئات الكتب والمقالات، غير أنّ التعمّق بعلاقة الاتفاقية بمشروع روابط القرى بقي غائباً عنها.

عمليّاً، رسّخ فوز “الليكود” أهم مبادئ العقيدة الأيديولوجية للمشروع الصهيوني، ولاحقاً كسياسةٍ رسمية للدولة، وهو أنّ أراضي 67 هي جزءٌ لا يتجزأ من “الوطن اليهوديّ” [وغير قابلٍ لـ “السلخ” عنه]. من جهتها، اشترطت مصر مقابل دخولها في الاتفاقيّة على منح حكمٍ ذاتيّ للفلسطينيين، لكنّ قادة “الليكود” أكدوا مراراً على أنّ ذلك سينطبق على سكّان الأراضي المحتلّة، وليس على الأرض.  [185]

لم تبدأ حكومة “الليكود” الأولى (حزيران 1977 إلى آب 1981) في تنفيذ مشروع إنشاء سلطة إدارة ذاتية مدنية فلسطينية على الفور، ولكنّها سمحت لمستشار الحاكم العسكري، “مناحيم ميلسون”، للمضيّ في مشروعٍ تجريبيّ يتمّ فيه توسيع جمعيةٍ زراعية، يرأسها أحد أقارب مصطفى دودين، إلى رابطة قرى الخليل بقيادة دودين.  شكّل ذلك مخرجاً للتوفيق بين حكمٍ ذاتيّ فلسطيني والحفاظ على “أرض إسرائيل الكاملة”. وفي الخامس من آذار 1978، أصدرت الادارة العسكرية أمراً ينصّ على إنشاء روابط القرى، وبدأت رابطة قرى الخليل عملها كاختبارٍ تجريبيّ لسلطة إدارة ذاتية.

وفي حين حاز “الليكود” على عدد مقاعد أقلّ في انتخابات عام 1981، فقد انضمّت لائتلافه أحزابٌ أكثر حزماً في معارضة التسوية الإقليمية من الحزب عينه؛ كحزب “هتحيا” الذي دعا إلى ترحيل الفلسطينيين وضمّ الضفة والقطاع. هذه التوليفة من القوى السياسية الجديدة في الحكومة، مقترنةً بحقيقة إعادة انتخاب “الليكود” على عكس التوقعات التي وصفت انتصاره الأوّل بضربة حظٍ، اعتُبرت وفقاً لـ “بيغن”: تفويضاً من “الشعب” للحفاظ على كامل “أرض إسرائيل”. [186]

2. الأهداف الاستعمارية لليكود: “إسرائيل الكبرى” غير مجزّأة

من أجل “التزام” العدوّ الصهيوني بشكلٍ من أشكال الحكم الذاتي الفلسطيني، كان على “الليكود” تطوير مشروعٍ يتناسب مع أهدافه إزاء الضفة والقطاع.  تبرز هنا شخصية رئيسية جديدة، موازية لـ “آلون” لدى التجمّع العمالي الصهيوني، وهي “ماتيتياهو دروبلس”، والذي عمل بالتعاون مع الحكومة والجيش على تطوير مشروعٍ جديد، [187] عُرف بـ “خطة المئة ألف”؛ في إشارةٍ إلى عدد المستوطنين الذين دعا “دروبلس” لغرسهم في الضفة خلال أقلّ من عشر سنوات. وعلى حدّ تعبير “دروبلس”، سعت الخطة إلى “إزالة أيّ ظلال شكٍّ حول عزمنا على البقاء في يهودا والسامرة”، و”الحدّ من خطر إقامة دولةٍ عربيةٍ أخرى في المنطقة”. [188]

كانت خطّة “شارون” لعام 1981 مجرّد تعديلٍ سياسيّ وعسكري على خطة “دروبلس”، وهدفت بشكلٍ أساسيّ إلى تفتيت الأراضي التي يجب أن تخضع للحكم الذاتي الفلسطيني، مع ضمّ بقية الأراضي. [189] لذا، وبالإضافة إلى نهج تسريع مصادرة الأراضي وبناء المستوطنات، هدف مشروع “شارون – دروبلس” إلى تطويق المناطق الفلسطينية المكتظة بالمستوطنات اليهودية (أو زرع المستوطنات في قلبها كبعض الحالات مثل الخليل). ومن بين أهم معايير تحديد أهمية الإجراءات التي يتحتّم اتباعها لتنفيذ المشروع، كان ما أسماه “الإقحام” (Interpolation)، والذي يشير إلى غرس المستوطنات بما يمنع “التوسّع العربي.. وتطوّر التجمّعات القروية الفلسطينية”. [190]

وإضافةً إلى ما سبق، وبمعزل عن خطّة “آلون” لبناء مستوطناتٍ زراعيةٍ مكتفية ذاتياً على غرار “الكيبوتسات” و”الموشاف” الصهيونية المبكّرة، تصوّر مشروع “دروبلس – شارون” نوعين جديدين من المستعمَرات، أوّلها: التكتّلات الاستيطانية التي ينتقل العاملون بها عبر الخط الأخضر، وربطها ببعضها البعض وبالمدن الكبيرة، وبالتالي توسيع المناطق الحضرية الصهيونيّة. وسيؤدّي ذلك إلى تفتيت الضفة الغربية وتقسيمها إلى ثلاث مناطق جذب للمستوطنين، تكون المنطقة التي لديها أقصر حركة تنقّل بين “تل أبيب” والقدس” الأعلى طلباً بين المستوطنين. [191] أما النوع الثاني فهو المستوطنات والمجمّعات الصناعية، والتي سيتمّ تحفيز الشركات “الإسرائيلية” على الانتقال إليها. وبحلول عام 1983، تمّ إنشاء ستٍ من هذه المناطق الصناعية توظّف أقل من ألفي عامل يهوديّ، وتصوّرت الخطّة إنشاء سبع مناطق أخرى على مدى العقد التالي لتوظيف 80 ألف عاملٍ يهوديّ. [192]

وبمساعدة الحركات والمجموعات الاستيطانية العقائدية، من مثل “غوش إيمونيم”، كان تنفيذ جزئية مصادرة الأراضي واستيطانها عمليةً ناجحة؛ حيث كانت هناك 19 مستوطنة في ثلاثة تجمّعات رئيسية عند فوز “الليكود” في المرة الأولى. في عام 1982 ومع بدء تنفيذ مشروع روابط القرى، تضاعفت هذه المستوطنات أربعة أضعاف ليصل عددها إلى 76 مستوطنة، [193] وبلغ معدل النمو السنوي لمستوطني أراضي الضفة والقطاع هذه الفترة (1977-1982) 41.1%؛ أيّ ضعف معدل النمو  في أي فترةٍ أخرى بين أعوام 1967- 2000.

3. إستراتيجية الليكود الاستعمارية: قبضة حديدية وراء سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية

بحسب “شلومو غازيت”، لم يطبّق وزير الحرب في حكومة “الليكود،”عيزر وايزمان”، أيّ “تغييراتٍ أو ابتكاراتٍ حقيقية… وواصل السياسة التي صمّمها صهره “ديان” قبل عشر سنوات”. [194] كان “وايزمان” شخصيةً رئيسيةً خلال المفاوضات مع مصر. ومع ذلك، شهدت سنوات 1976-1981 عودةً إلى منطق الفض. وفي تلك الأثناء، استغلّ الجنرال “رافائيل إيتان” فرصة مشاركة “وايزمان” في المفاوضات من أجل “تولّي السلطة الإدارية والأمنية الكاملة على الأراضي”، فتمّ  نقلها من وزارة الحرب إلى قيادة الجيش. [195]

تغيّر كلّ هذا في الخامس من آب 1981، مع تعيين “بيغن” لـ “آرييل شارون” وزيراً للحرب، والذي شرع بدراسة كافة تبعات العوامل والتحولات التي نوقشت في هذا الفصل وانعكاساتها. فبدأ بتدمير منظمة التحرير الفلسطينية والحركة الوطنية في الأراضي المحتلّة، وعجّل مصادرة الأراضي والأنشطة الاستيطانية لضمان عدم التوصل إلى تسويةٍ  مستقبلية بشأن الأرض. كان الفصل الإداري المؤسساتي، عبر إنشاء سلطة حكمٍ ذاتي، هو الطريقة الوحيدة التي يُمكن من خلالها تحقيق هذه الأهداف وتعطيل  التهديد الديموغرافي الفلسطيني.

ولترجمة ذلك إلى واقعٍ ملموس، اعتمد “شارون” على أحد رفاقه في الحرب، والذي جعلته سيرته الذاتية مثالياً لهذا المنصب؛ كان “ميلسون” متماشياً أيديولوجياً مع أهداف “الليكود”، وكانت لديه رؤيةٌ عمّا يجب أن تبدو عليه هذه الإدارة الذاتية، بالنظر إلى “خبرته بالشرق” من جهة، وكونه من وقف وراء تجربة رابطة قرى الخليل من جهةٍ ثانية. هذه العلاقة بين الاستشراق الصهيوني والاستراتيجية الاستعمارية هي ما سننتقل للحديث عنه.

الفصل الثالث: الاستشراق الصهيوني وروابط القرى

لم تكُن مهنة “مناحيم ميلسون” كباحثٍ في الدراسات الشرق أوسطية في الجامعة العبرية، ومستشاراً للحاكم العسكري في “الشؤون العربية” ثمّ رئيساً للإدارة المدنيّة الموسّعة، صدفةً اعتباطية. فمنذ بدايات المشروع الصهيوني، ربطت الجهات العسكرية والأمنية علاقات وثيقة بالأكاديميا، لعب خلالها خبراء المعارف الاستشراقية دوراً رئيسياً، خاصةً في المؤسّسة العسكريّة وأجهزة استخباراتها، فيما شكّلت الجامعات والمعاهد الصهيونية دعامةً أساسية لإدارة المشروع الاستعماري.

وبحسب “غيل أيال”، ساد التوتّر بعد تأسيس دولة الكيان بين الجيل الأول من معهد الدراسات الشرق أوسطية في الجامعة العبرية وبين جيل طلبتها الجُدد، الذين كانوا توّاقين لتوظيف مهاراتهم العلمية وخدماتهم اللغوية والمنهجية لخدمة المشروع الصهيوني في غزو فلسطين. ووفقاً لـ “إيال”، عمل نصف طلبة الدكتوراه تقريباً كموظّفين في “الدولة” حديثة التأسيس بعد عام 1948؛ أيّ كعسكريّين، [196] بينما استكمل النصف الآخر دراساتهم وأصبحوا لاحقاً أساتذةً في الجامعة العبرية.

لعب أولئك ممّن لم يعودوا إلى المقاعد الدراسية دوراً مركزياً في إعادة تشكيل عمل أجهزة المخابرات والرقابة الصهيونية وهيكلتها باستثمار المنهج الفيلولوجي [196] الذي جرى تدريبهم عليه، وذلك بالاستناد إلى افتراضٍ مفاده أنّه من الممكن [معرفة العدوّ عبر القيام بـ] ما يفعله علماء الفيلولوجيا [التحليل اللغوي] ؛ أي بالاستناد إلى مقارنة النصوص وتتبّع معاني الكلمات يمكن معرفة طبيعة ونفسية  متحدثيها [العرب]. [197]

يموضع هذا الفصل التوجّه الإداري الصهيوني نحو إنشاء “سلطةٍ محليّة”، كما تجسّدت في مشروع روابط القرى الذي أداره “ميلسون”، باعتباره ثمرة الإنتاج المعرفي الاستشراقي الصهيوني. نبدأه بخلفيةٍ موجزةٍ عن الاستشراق الصهيوني، يليها معاينةٌ للمعرفة التي أنتجها المستشرقون الصهاينة ممّن شغلوا منصب “مستشار الحاكم العسكري للشؤون العربية”، ونختم بنظرةٍ للتصنيفات التي أوجدها المستشرقون الصهاينة لمعرفة الفلسطينيين والحديث بلسانهم، وكيف وضع هذا الفرز الاستشراقيّ حجر الأساس لمشروع روابط القرى، وساهم في فشله أيضاً.

أ‌.     “علاقةٌ أوثق ممّا ينبغي”

في تحليله الخطاب الاستشراقي وعلاقته بالسلطة منذ أواخر القرن التاسع عشر، يصف إدوارد سعيد “التحوّل الكبير في مسار الاستشراق، ومسار المعرفة بالشرق والتعامل معه، من مرحلة الدراسة الأكاديمية إلى مرحلة الاستعانة به كأداةٍ في الواقع العمليّ” من أجل جسر الفجوة بين الاستشراق الكامن والاستشراق الفاعل. [198] ويُمكننا ملاحظة هذا التحوّل، من باحثين إلى عملاء إمبرياليّين، في نماذج من مثل “جروترد بل” و”توماس إدوارد لورنس” و”سانت جون فيلبي”، الذين كانوا “خبراء مستشرقين، أُرسلوا إلى الشرق باعتبارهم عملاء للإمبراطورية…وواضعي السياسات البديلة”، رغم كونهم من خارج دائرة الأكاديميا كمستشرقين. إذ لم يكُن “الدور الذي اضطلعوا به يعني الاستهانة بالاستشراق الأكاديمي أو تقويضه، بل إكسابه المزيد من الفعاليّة”. [199]

وكما يجادل سعيد، لا يؤدّي هذا التحوّل إلى تلاشي دور المستشرق الأكاديمي، إنّما يعرّفنا بالباحث المستشرق النموذجيّ في القرن الأمريكي، من مثل “هاملتون جيب” وبرنارد لويس”. لم تربطهم علاقة تنفيذية بالسلطة والإمبراطورية، ولم تقتصر هذه العلاقة على الجانب الأكاديمي أيضاً. إذ تقدّم هذه المعرفة؛ أي تسخيرهم ثمار أبحاثهم وسعة اطّلاعهم لصالح متّخذي القرار، أساساً لرسم السياسات، بينما يضعهم تطبيقها في مكانة “المستشار”، وهو ما يصفه سعيد بالإشارة إلى “جيب”: “علاقةٌ أوثق مما ينبغي بين الباحث والدولة”. [200]

يموضع الباحث الصهيوني “غيل أيال” المستشرقين الصهاينة على نحوٍ مماثل. وفي مقالةٍ شكّلت أساس فصلين رئيسين في كتابه “نزع السحر عن الشرق”، يصف “أيال” البنية “المثالية” في الأوساط الأكاديمية والأطر الرسمية التي يتوجّب على المستشرقين الصهاينة الانسجام معها، والتي تجمع بين السخاء في تقديم معارفهم وبين الانغلاق عليها؛ الأول سيجعل هذه المعرفة مستهلكة، والثاني سيعزل منتجيها عن السلطة. وبهذا، يصبح هؤلاء الباحثون جزءاً من “شبكةٍ فاعلة”، التي وبمجرد أن يتمّ تشكيلها وتحصينها يُمكنها العودة إلى الأكاديميا، مع الحفاظ على ارتباطها بدوائر صنع السياسات في بيئةٍ أكاديمية فيلولوجية – عسكرية واستخباراتية. [201] وبحسب “إيال”، ليس المستشرق الصهيوني هنا مسؤولاً ولا باحثاً، بل مستشاراً يمكنه تقييم الأحداث والتعليق عليها. [202]

في الواقع، وبالنظر إلى انغماسهم العميق في الجامعة العبرية، كان “دافيد فارحي” و”موشيه معوز” و”مناحيم ميلسون” مستشارين بالفعل، ولكن ليس بالمعنى الذي وظّفه سعيد أو “إيال”. ففي الفترة ما بين أواخر السبعينيّات وأوائل الثمانينيات، حمل كلٌ منهم لقب “مستشار الحاكم العسكري للشؤون العربية”. ولم تُكن مساهمتهم مقتصرةً على التعليق أو التقييم، إنّما كانت مساهمةً مباشرةً في مراقبة و”تأديب” وقمع الفلسطينيين.

بالتالي، يُمكننا القول إنّ “علاقتهم الوثيقة” هذه قد جمعت بين “لورنس” و”إدوارد لين” و”آرثر بلفور” و”اللورد بيل” في آنٍ واحد. فأكملوا (أو استعدّوا لإكمال) دراساتهم العليا أثناء خدمتهم العسكرية، وحازوا جميعهم على رتبة كولونيل، وهي رابع أعلى رتبةٍ في الجيش الصهيوني. موقع “الأستاذ-الكولونيل” في هذه العلاقة بين الاستشراق والاستعمار هو ما مكّنهم من أن يكونوا فاعلين أساسيّين في صياغة الاستراتيجيات ورسم السياسات الاستعمارية الصهيونية في الأراضي المحتلّة.

ب‌.     “ميلسون” والأساتذة – الكولونيلات

في أعقاب حرب 1967، أصبح “موشيه ديان” وزيراً للحرب. وإضافةً إلى كونه خريج معهد الدراسات الشرق أوسطية في الجامعة العبرية، اعتقد بأنّ مفتاح الوجود الصهيوني في المناطق الفلسطينية المحتلّة حديثاً يكمن في “فهم الروح العربية”.  [203] باشر “ديان” فور تولّيه المنصب في إقناع الجامعة العبرية بـ”استعارة” الأستاذين “دافيد فرحي” و”آمنون كوهين”، اللذين سبق وخدما في الاستخبارات العسكرية، وذلك بغية توظيفهما تحت مسمّى “مستشار الحاكم العسكري للشؤون العربية”. وبحلول خريف عام 1981، تناوب كلٌّ من “فرحي” و”كوهين”، بالإضافة إلى “ميلسون” و”معوز”، على هذا المنصب.

اعتُبر “ميلسون” استثنائياً من عدّة نواحٍ. فقد حصل على شهادته الجامعية الأولى من معهد الدراسات الشرق أوسطية في الجامعة العبرية في عام 1955، وأدّى خدمته العسكرية كمظليّ خلال العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956 تحت قيادة “شارون” في لواء المظلّيين. [204] حصل “ميلسون” لاحقاً على شهادة الدكتوراه من جامعة “هارفرد” تحت إشراف عميد المستشرقين “هاملتون جيب”. [205]

وبينما أولى “كوهين” و”معوز” اهتمامهما الاستشراقي في دراسة الدولة العثمانية، وانشدّ “فرحي” إلى اهتماماتٍ أكثر معاصرة، كان “ميلسون” الكلاسيكي الوحيد في تلك المجموعة.

وأثناء اشغاله منصب مستشار الحاكم العسكري، كُلّف “ميلسون” بمرافقة السادات خلال زيارة الأخير إلى القدس في عام 1978، [206] ثمّ عاد إلى عمله الأكاديمي بعدها وتولّى منصب رئيس معهد الدراسات الآسيوية والإفريقية في الجامعة العبرية، وذلك إلى أن أصبح “شارون” وزيراً للحرب. فقد عمل الأخير، الذي درس هو أيضاً الدراسات الشرقية في الجامعة العبرية، [207] على إعادة “ميلسون” للإدارة الاستعمارية من أجل تحويل فكرة سلطة الإدارة الذاتية الفلسطينية إلى واقع. وبعد فشل المشروع ومغادرته الإدارة المدنية، انتظر الكثيرون في الوسط الأكاديمي عودة “ميلسون” إلى برج الأكاديميا العاجي.

وقبل تنصيبه “مختار المخاتير”، نشر “ميلسون” قدراً كبيراً من أعماله باللغة الإنجليزية خلال العشرين عاماً التي حمل فيها لقب الدكتوراه، ثمّ عاد في عام 1962 إلى جامعته الأمّ لمتابعة اهتمامه المتزايد بالروائي المصري نجيب محفوظ، والذي سيشكل أساساً للعديد من كتاباته ومحاضراته. [208] وفي أوائل السبعينيّات، بدأ تركيز “ميلسون” بالتوجّه نحو القضايا الاجتماعية والسياسية المعاصرة، ونظّم حلقاتٍ دراسية في معهد “فان لير” في القدس بين عامي 1970-1971، إلى جانب تحريره مجلداً عن المجتمع والبنية السياسية في الوطن العربي. [209] كما قدّم شرحه وتعليقه على المثقفين العرب المناهضين للاستعمار بالاستناد إلى فهمه ومعرفته بعلماء الإسلام، [210] تزامناً مع سعيه لنشر عمله حول الفقيه الصوفيّ أبو النجيب السهروردي في الدكتوراة. [211] وقد أنتج وقدّم في هذا الصدد ترجمةً مختصرة لأعمال السهروردي في عام 1975، ثمّ أعقبتها نسخةٌ نقديةٌ “حقّقها” باللغة العربية وصدرت أثناء خدمته العسكرية في الضفة.

ارتبطت أعمال “ميلسون” البحثية، وكذلك “كوهين” و”معوز”، ارتباطاً وثيقاً بالسياسة الاستعمارية تجاه المناطق المحتلة في الضفة وغزة خلال السبعينيّات وأوائل الثمانينيّات. وحسب اعتقاد “إيال”، يُعزى اختيار وزراء الحرب هؤلاء المستشرقين إلى “سوق الأفكار” الذي يحدِّد فيه العرض والطلب الدورَ الذي سيلعبونه. [212] ولكن، في الأمر أكثر من ذلك؛ فقد انطوى احتلال عام 1967 على تحوّلٍ في نهج الإدارة الاستعمارية.

بعدما كان مستشارو المؤسسة العسكريّة الصهيونية “خبراء في العامية العربية ومطّلعين بشكلٍ أساسيّ على الأرياف”، [213] يصف “ديان” الوضع في أعقاب حرب 1967 بالقول: “نتعامل (الآن) مع نوعٍ مختلفٍ من الفلسطينيين.. نخبة سياسية متعلّمة، ونحتاج إلى “إسرائيليين” يُمكنهم الحديث بلغتهم”، [214] ليجد ضالته في “فرحي” و”كوهين”.

لم يكتفِ هؤلاء المستشرقين بتسويق أفكارهم عبر تقديم تحليلاتهم ونشر معارفهم، إنما ارتبطوا بشكلٍ وثيق بالمؤسسة الاستعمارية من خلال خدمة وتطوير الإدارة الاستعمارية. طلب “ديان” “فرحي” و”كوهين” بالتحديد، واختار “وايزمان” “معوز”، بينما امتّدت علاقة “شارون” بـ “ميلسون” لأكثر من عقدين. جمعهم تقارب الأيديولوجيا، وتطوّرت روابط الثقة، ولربما الصداقة، بينهم وامتدّت لسنواتٍ في خدمة المشروع الصهيوني.

تطلّبت الخطّة التي اقترحها “شارون”، والتي أتينا على نقاشها في الفصل السابق، الانفصال عن سياسات “ديان” وتصعيد قمع الفلسطينيين في الضفة والقطاع، فضلاً عن تكثيف الخطاب الذي من شأنه تبرير كافة الإجراءات التي يتمّ اتخاذها ضد منظمة التحرير الفلسطينية. وفي هذا الصدد، لم تكُن كتابات “ميلسون” مناسبةً بالمصادفة، بل كان طرفاً في العملية التي شكّل من خلالها “شارون” منظوره حول “المشكلة الفلسطينية” والحل الأمثل لمعالجتها.

وفي مقالٍ نُشر له في “الكومنتري” (Commentary)، يجادل “ميلسون” بأنّه ما لم يكُن قرّاء الصحيفة (الأمريكيون الصهاينة المتعلمّون وصنّاع القرار المعنيّون بدعم هذه الدائرة الانتخابية) راغبين بالوصول إلى “طريقٍ مسدود وزعزعة استقرارٍ وتغلغلٍ سوفييتي”، وإذا ما اهتموا فعلاً بتعزيز “التحالف الاستراتيجي المؤيّد لأميركا في الشرق الأوسط”، فعليهم ضمان حصول “إسرائيل” على ما تحتاجه؛ وهو  مطلق الحرية في التصرّف. [215] أضفى “ميلسون” الشرعيّة العلميّة على كافة مطالب “شارون”، ولم يأتِ ذلك بدافع تسويق الذات، بل لأنّه كان شديد الالتزام بهذه الأفكار، وهو ما يتضّح في عمله الأكاديميّ.

ليست أبحاث هؤلاء “المستشارين” إلا نموذجاً للاستشراق الذي قدّمه سعيد. يتسيّد “جيب” و”فون جرونباوم” و”لويس” قوائم مراجعهم، وتكثر في أبحاثهم المقولات والصور التمثيلية الاستشراقيّة – من على شاكلة وضوح الاختلاف فيما بينهم كمستشرقين وبين العرب بوصفهم موضوعاً شرقياً؛ أو اتّباع المنهج النصّي في “قراءة” المجتمعات بهدف إخضاعها؛ أو المواقف التاريخية التي قادت إلى أوصاف التخلّف والتأخر والتقدّم – جميعها أتاحت لهم تمثيل من “يعجز عن تمثيل ذاته”. [216]

كما شكّل “الموقع الاستراتيجيّ” الذي تمتّعوا به (في الغرب بكلّ تأكيد) إحدى الركائز الأساسية للخطاب الاستشراقي، وانبثقت عنه معظم الأفكار الأخرى. مثلاً، كتابات “ميلسون” عن نجيب محفوظ هي كتابات غربيٍّ لزملائه الغربيّين، يعرّفهم فيها على شيءٍ “مصريّ قح” وجده أثناء رحلات “السفاري” النصيّة. [217] نلمس مثالاً آخر في معرض حديث “كوهين” عن الأهمية التي ينبع منها عمله الأكاديمي، فيقول:

“في تلك البلدان التي بلغت مرحلة النضج السياسي في وقتٍ مبكرٍ نسبياً… أُجريت بعض الأبحاث حول الأحزاب السياسية الرئيسية، ولكنّها ضئيلة ولا يزال جهلنا بها كبيراً. وبالنسبة إلى الدول العربية التي وصلها النضج السياسي في وقتٍ متأخرٍ بعض الشيء، فيكاد أن يكون جهلنا كاملاً”.

لا يُمكن إثارة أدنى شكٍ لمَن يعود ضمير الـ “نا” هنا، ولا غموضٍ حول التوقيت الذي حُدّد وفقه “المبكّر” و”المتأخر”. [218]

نجد مقولةً استشراقيةً أخرى مشتركةً في أعمالهم وهي النفور العربي من روح المنهج العلمي. على سبيل المثال، يصف “ميلسون” نجيب محفوظ بأنّه “يقدّر العلم، إلى الحدّ الذي يُمكن فيه تطبيقه للأغراض الإنسانية”، [217] وهو ما يتعارض بشكلٍ كبيرٍ مع غيره من العرب.

أمّا “ميلسون”، فيستشهد بـ “جرونباوم” بأنّه “لا يُمكن غرس عقلية البحث الغربي في أفكار ومشاعر الشباب القومي النزق في الشرق الأدنى إلا تدريجيّاً”، [219] ويردّد مقولة “رينان” عن “كراهية العرب للعلم”، [220] فيقول: لا يسعنا إلا الشعور بأنّ (المثقفين العرب) يفكّرون في العلم كما يفكّرون في سلعةٍ ما، بدلاً من اعتباره استبطاناً لمواقف وقيم جديدة”. [221]

وبالنسبة لسعيد، إنّ إحدى المهام الرئيسية للاستشراق هي إضفاء الشرعية على الاستعمار، والذي يتمّ في كثيرٍ من الأحيان عبر التسويغات العقلية المرتبطة بـ “عبء الرجل الأبيض”. وبتوسيع ذلك ليشمل الاستعمار الصهيوني، فقد ساهم “الكولونيلات” في مهمةٍ التزم بها الاستشراق الصهيوني ككل، وبالتالي لم يكونوا خارج السرب؛ تمتدّ توصيفات الاستعمار الصهيوني الحميدة في أعمالهم البحثية إلى ما هو أبعد بكثيرٍ من الصداقة وادّعاءت حسن النية.  فعندما يكون موضوعها الفلسطيني المحتلّ، تعزّز كتاباتهم وصف “كيمرلينج” للرواية التاريخية الصهيونية السائدة، والتي تنظر إلى “رفض السكان المحليين القاطع للاستعمار الصهيوني على أنّه العجز عن فهم فوائده لكلّ من العرب واليهود”. [222] وبالطبع، فإنّ ما يصبغ على الاستعمار هذه الصفة الخيريّة هي الحداثة الصهيونية وما تجلبه معها من خيرٍ يعمّ الجميع.

تتراوح الأدوات المستخدمة في هذه البحوث ما بين التعبيرات الملطّفة والتلاعب بالألفاظ إلى الكذب الصريح. يخبرنا “كوهين”، مثلاً، أنّه وأثناء دراسته للفلسطينيين المنخرطين في الأحزاب السياسية، وجد أنّه كان “من الصعب الوصول اليهم، أو كانوا يحجمون عن الحديث عند العثور عليهم… (لذا) قرّر عدم محاولة إجراء دراسةٍ ميدانيّةٍ شاملة، مشكّكاً بجدواها في ظلّ الجو السياسي السائد في المنطقة”. [223] وإذا نحينا جانباً الدلالات المتعلّقة بالطبيعة الاستجوابية والاستخباراتية في الشق الأول من هذه المقولة، فإنّ تعبير “الجو السائد” يجسّد جميع أوجه الاحتلال التي كان لـ “كوهين” دورٌ فيها.

وبوسعنا أن نورد تعليقاً مماثلاً حول مقدّمة “ميلسون” للفصل المتعلّق بالحركة الوطنية الفلسطينية في المجلّد الذي نقّحه حول المجتمع العربي: “من بين الست دول التي تمّت دراستها (في هذا المجلد)، هناك خمس دولٍ ذات سيادة … (بينما) لم تُقِم الحركة الوطنية العربية الفلسطينية دولتها الخاصة”. [224] في الواقع، يغيب عن هذه السطور أنّ “ميلسون” كان يخدم في حينها كضابط احتياطٍ في الجيش الذي كان يمنع قيام هذه الدولة، بل وكان ملتزماً أيدولوجياً بمنعها من التحقّق. لذلك، يبدو لنا هذا التصريح “حميداً/غير مؤذ”.

وبتأسيس تحليله على مفاهيم مستمدّةٍ من أقطاب نظرية التحديث (Modernization Theory)، من مثل “دانيال ليرنر و”جابرييل ألموند” و”سيدني فيربا”، يشرح “معوز” الكيفية التي ساهم من خلالها “الحكم الإنساني المعتدل في “إسرائيل”، مقترناً بسياساتها الاقتصادية والاجتماعية التقدّمية”، في نشوء “الإنسان الحديث الفاعل”؛ الذي ساهم في تحويل الثقافة السياسية في المناطق من ثقافة تقوم على الإخضاع إلى ثقافة سياسية تقوم على المشاركة”. [225] يعرض “ميلسون” بعض تفصيلات هذا “الإحسان الصهيوني”: “في مجال الزراعة، قدّم المرشدون الزراعيون (الصهاينة) التكنولوجيا الحديثة، وازداد متوسط العائد ثلاثة أو أربعة أضعاف للفدّان الواحد.. وفي علاقات العمل، أصدرت (الحكومة العسكرية الصهيونية) مرسوماً يُلزم المشغّلين بتأمين موظّفيهم من الحوادث أثناء العمل، بما يشمل الطريق”. [226]

سعى “ميلسون” بمشاركته هذه المعلومات إلى تعزيز الجدل الدائر حول سياسات عدم التدخل التي طوّرها “ديان” وإشكالية تركيزها على مسائل أخرى خلافاً لـ “الثقافة السياسية”. [227] فيما يتلخّص دافع “معوز” في إقناعنا بجحود الفلسطينيّين، الذين “يميلون للتغاضي عن التحسينات الاجتماعية والاقتصادية، أو تقليلها، أو التشكيك فيها (مع استفادتهم في الوقت عينه) من المعايير الديمقراطية لـ “إسرائيل”… من أجل.. تصعيد النضال السياسي ضدّ الاحتلال”.

وبذلك، تنقلب حقيقة تدمير السياسات الصهيونية لاقتصاد الأراضي المحتلّة عام 1967، خاصةً قطاعها الزراعي. لهذا، لا تأتي مقابلة “ميلسون” مع صحيفة “بوسطن غلوب” مفاجئة، والتي يقول فيها: “في الحقيقة، لم يُهدم أي منزلٍ فلسطيني في الضفة الغربية، ويرجع ذلك جزئياً لتأثيري”. غير أنّه في الواقع، هُدمت أربعة بيوت في بيت ساحور وبيتٌ آخر في بيت لحم في 16 تشرين الثاني 1981، أيّ بعد أسبوعين من تسلّمه المنصب. [228]

وبصرف النظر عن الحيلة المستخدمة، فالأثر واحد: تمويه الحقائق القمعية للاحتلال وتبرئة النظام الاستعماري، و”الكولونيلات” العاملين في خدمته، وهو الأمر الذي يؤدّي غرضاً مزدوجاً: الأول، المساهمة في “البروباغاندا الإسرائيلية”، وبذلك جعل هذه الدراسات جزءاً من الدبلوماسية الدولية لـ “إسرائيل” في الأوساط الأكاديمية العالمية، والذي يعدّ منذ العشرينيّات أحد مهام الباحث الأكاديمي الصهيوني، وضمن وصفه الوظيفي حرفيّاً، تحت مسمّى “الهسبارا”. [229] بينما ينبع الهدف الثاني من الأول؛ فما دام سجلّ “إسرائيل” نظيفاً وصورتها “خيّرة”، سيكون الحفاظ على عضوية الضبّاط المستشرقين في “النادي الأكاديمي الدولي” ممكناً.

إنّ ما يجعل استشراق “الكولونيلات” فريداً هو علاقته الوثيقة “أكثر ممّا ينبغي” بالمشروع الصهيوني. فبينما يفرض الاستشراق مجموعةً من العلاقات الواضحة بين السلطة ومؤسساتها، لا يزال الاستشراق الأكاديمي مرتبطاً ظاهرياً بقواعد البرج العاجي؛ بمعنى أنّه لا يُمكن للاقتراب الشديد الوصول لمسألة الهوية، وأنّ المسافة والانفصال ضروريان للعمل “الجاد والمهني”، كما جادل “إريك هوبزباوم”: “أنّ المؤرّخين ملتزمون مهنياً بعدم الخطأ، أو على الأقل ببذل الجهد لكي لا يقعوا في الخطأ. ولكي تكون إيرلندياً فخوراً ومرتبطاً بأيرلندا، لا يتوافق بطبيعته مع الدراسة الجدية للتاريخ الأيرلندي. وأن تكون “فينيان” أو “أورانجمان”، فأستطيع أن أقدّر أنه غير متوافق بأكثر من توافق الصهيوني مع كتابة تاريخ اليهود؛ ما لم يترك المؤرّخ قناعاته المسبقة وراءه عند دخوله المكتبة أو عند الدراسة”. [230]

وسوف يكون من الصعب أن نتخيل مثالاً لـ “سياسيّ قوميّ ملتزم” أكثر من ضابطٍ عسكريّ اتّخذ قراراً بترك وظيفته الأكاديمية للخدمة في القوات مسلّحة. كما تجدر ملاحظة بذل “الكولونيلات” قصارى جهودهم للتأكيد على تنحية قناعاتهم جانباً [الموضوعية] قبل الخوض في أبحاثهم، في محاولةٍ منهم لإثبات بعض الليبرالية وإقناعنا باتّخاذهم المسافة اللازمة، مع التأكيد المشدّد على احترافهم وجديّتهم.

تبدو هذه الليبرالية كرغبةٍ خالصة في “السلام”. فقد استهلّ “معوز” منصبه متمنياً أن “يساهم عمله.. في التعايش السلميّ بين “الإسرائيليين” والفلسطينيين”، بينما وظّف “كوهين” العبارة ذاتها في تقديم عمله حول الأحزاب السياسية في الضفة الغربية تحت الحكم الأردني، آملاً أن “يقدّم الكتاب بعض المساهمات.. في الوصول الى تفاهم متبادل بين سكّان هذه الأرض المضطربة”. [231]

يفتتح “ميلسون” مقاله آنف الذكر بفقرةٍ تعريفية بذاته على أنّه ملتزمٌ مبدئياً بمعارضة أيّ شيءٍ “من شأنه كبح علاقات السلام الوليدة”. [232] في هذا المقال الذي يحمل عنوان “كيف تصنع السلام مع الفلسطينيين”، يحاول “ميلسون” تحوير النظر بينما يقوم جنوده، وقوّات “شارون”، في تهشيم رؤوس الفلسطينيين بـ “قبضة حديدية”، وتحويل جزءٍ كبيرٍ من لبنان إلى مقابر وأنقاض.

تُخفي هذه الليبرالية علاقات القوة الاستعمارية بفعاليّة. يقدّم لنا “كوهين” مثالاً آخر يبيّن هذه المسألة بشكلٍ أوضح، إذ يتقدّم بتوجيه الشكر “أخيراً وليس آخراً.. لجميع سكّان الضفة الغربية والقدس الشرقية الذين منحوني الكثير من وقتهم الثمين وساعدوني كثيراً في سدّ الفجوات في معرفتي”.   [233]

يروي أحد هؤلاء “السكّان”، وهو رئيس جامعة بيرزيت غابي برامكي، قصةً واحدةً تسلّط الضوء على الصداقة التي جمعت “كوهين” بالفلسطينيين. في إحدى التظاهرات الطلابية، طارد جنود الاحتلال الطلبة واقتحموا سكنهم الطلابي، بينما بدأت الهراوات تمطر على رؤوس الطلبة الذين عُثر عليهم فيها. كان الصحفي الأمريكي “جيمس وول” من بين الذين شهدوا الحادثة، ورافق برامكي للحديث مع الضابط المسؤول من أجل ترتيب مرور سيارات الإسعاف ونقل المصابين إلى المستشفى، لكنّها لم تصل، ونقل الأساتذة الطلبة المصابين بالسيارات.

“وما أن غادر الصحفي الحرم الجامعي، حتى وصل إليه القائد العسكري “أمنون كوهين”، برفقة ضابط الاتصال. كان يتكلّم العربية بطلاقة. أخذتُهما في جولة، وأظهرت لهما الضّرر الذي تسبّب فيه الجنود. بدا الانزعاج واضحاً على وجه القائد، لا بشأن ما جرى، إنّما لأنّ صحفياً أمريكياً قد شهده. وفي وقتٍ لاحق، جاء “كوهين” لزيارتي في مكتبي. ومن الواضح أنّه انتهز الفرصة لعرض مهاراته اللغوية، فبدأ يسخر من حقيقة أنّني دعوتُ الجيش للتحقيق في “آثار العدوان”. لم أجدها نكتة مضحكة. فأشرتُ بيدي إلى الهراوة الملطّخة بالدماء التي خلّفها جنوده وراءهم، وأخبرته بأنّني سأحتفظ بسلاح الجريمة”. [234]

أمّا بالنسبة للمسافة المطلوبة ما بين الأكاديمي ومبحوثيه، فيظهر كما لو أنّها تشير إلى التعهّد بعدم السماح للجنديّ في داخلهم بالتأثير على الباحث فيهم. على سبيل المثال، يخبرنا “ميلسون” في معرض حديثه عن تاريخ معهد الدراسات الشرقيّة في الجامعة العبرية بأنّ إحدى “السمّات الرئيسية لنموذج المعارف وحيثيات البحث والتدريس التي تتمثّلها هذه الأقسام في الجامعة العبرية هي الفصل التام ما بين المعرفة والتحيّز السياسي الشخصي”. [235] وبالمثل، ينوّه “معوز” بالقول:

“أودّ الإشارة إلى أنّه أثناء دراستي لهذا الموضوع وإعدادي الكتاب، استندتُ إلى خبرتي الشخصية ما بين عامي 1979-1980، كمستشارٍ للشؤون العربية لكلٍّ من وزير “الدفاع الإسرائيلي” “عيزر وايزمان” ومنسّق أعمال الجيش في “المناطق” الجنرال “داني مات”. وأعتقد بأنّ مشاركتي في صنع السياسة “الإسرائيلية” في الضفة الغربية لم تؤثّر على موضوعيّتي العلمية في تعاملي البحثي مع هذه المسألة الحساسة والمثيرة للجدل… فمن دون المساس باختصاصي العلميّ، تابعتُ دراسة قيادة الضفة الغربية بتعاطف، وقد مكّنني ذلك من إدراك الطابع المعقّد للمشاكل التي تواجهها”. [236]

أراد “الكولونيلات” الانسجام مع “القالب المثالي” للباحث النزيه والبعيد عن موضوعه، واضُطروا لبذل ما في وسعهم لإثبات وجودهم في “موقعٍ استراتيجيٍّ” كهذا، خاصةً بالنظر إلى موقعهم الفعليّ في التسلسل الهرمي الاستعماري.  [237]
وإلى حدٍّ كبير، يغيب وجود “الكولونيلات” ودورهم في ميدان القتال عن كتاباتهم “المستقلّة” هذه، غير أنّه حين يظهر، يكون بمثابة إفادةٍ استراتيجيّةٍ تعزّز من مؤهلاتهم الاستشراقيّة. وعلى هذا النحو، تنعكس العملية التي يصفها “غيل إيال”، والتي يشقّ فيها المنهج الفيلولوجي طريقه إلى المجتمع الاستخباراتي الصهيوني ليعود إلى الأكاديميا مجدّداً، وذلك من خلال طريقتين:

تتلخّص الأولى في مناورةٍ كلاسيكيةٍ بتحويل الدفاع إلى هجوم. مثلاً، يقول “معوز” في مقدّمته آنفة الذكر: “أثق بأنّ هذا المنصب قد مكّنني فعلياً من اكتساب فهمٍ أعمق لمسألة الضفة الغربية، ومن  وجهة نظر مجتمعها الفلسطيني”. [238] وهكذا، يُنظر إلى وجود المستشرق في ميدان القتال على أنّه “موقعٌ ممتاز” يُمكن من خلاله معاينة “السكّان الأصليين” عن كثب.

وثانياً، أتاح لهم موقعهم في الدوائر الاستخباراتية الوصول إلى وثائق حسّاسة، لم يحلم بها المؤرّخون الكبار. على سبيل المثال، وفي ورقةٍ سياساتيّةٍ أعدّها عام 1984 حول “الأردن والضفة الغربية”، يستشهد “ميلسون” بوثائق حصل عليها “أثناء العمل”، أيّ خلال خدمته كمستشارٍ للحاكم العسكري؛ [239] ويقوم الكتاب الذي أعدّه “كوهين” حول الأحزاب السياسية في الضفة الغربية، بالكامل، على وثائق الاستخبارات الأردنية التي استولى عليها الصهاينة في حرب النكسة.

في الواقع، ومنذ حرب النكبة عام 1948، دعّم الكثير من المستشرقين الصهاينة سجلّاتهم الأكاديمية ببحوث في الأرشيفات المنهوبة. وحالها حال الأرض الفلسطينية، يُغض النظر عن هذه الطبيعة اللصوصية للإنتاج المعرفي ويتمّ تطبيع استخدامها بالكامل.

ج.     التصنيفات الاستعمارية في صميم روابط القرى

استندت بحوث “الكولونيلات” على المعرفة الاستشراقية الصهيونية حول المجتمع الفلسطيني، وساهمت في رفدها على حدٍّ سواء. وممّا يميّز الإنتاج المعرفي الاستعماري، في فلسطين كما في أيّ مكانٍ آخر، هو خلق وصقل “البُنى الاستعمارية، والجهود الرامية إلى تحويل العلاقات الاجتماعية والسياسية المتداخلة والمربكة للتصنيف إلى ثابتة ومحدّدة، وبالتالي جعلها أكثر جدوى للفهم والسيطرة الاستعماريّين. [240]

يحدّد هذا القسم “البُنى الاستعمارية” الرئيسية الكامنة في صميم فكرة روابط القرى، محاولاً إظهار كيفية استخدام هذه التصنيفات لتمثيل الفلسطينيين، والتي يجادل الباحث أنّها قادت “الكولونيلات” للاعتقاد بحقائق لم تكُن موجودةً خارج حدود أبحاثهم، محاججاً أنّ ذلك قوّض مشروع روابط القرى جزئياً، حتّى قبل  دخوله حيّز التنفيذ.

في مقالةٍ نشرها في عام 1972 عن قصّة “وليد العناء” لنجيب محفوظ، يقدّم “ميلسون” في أولى كتاباته خطوطاً عريضةً لهذه البُنى، اتّخذت شكل تحليلٍ للعلاقات ما بين شخصيّات القصّة القصيرة، متعاملاً معها على أنّها كنايةٌ تقود إلى فهم المجتمع المصريّ بناءً على “معرفة محفوظ الحميمة بمجتمعه”، و”حقيقة أنّ الكثير من المصريّين يروَن في قصص محفوظ تعبيراً عن مشاعرهم وأفكارهم … وهو ما يُكسبها نوعاً من “الصحة التوافقية”. [241] ولا توجد أسبابٌ للاعتقاد بأنّ “ميلسون” لم يوسّع تحليله للمجتمع المصريّ، المستمدّ من أعمال محفوظ، إلى المجتمع الفلسطيني.

وبحسب “ميلسون”، يمثل الزوج المستبدّ في القصّة (شخصية الأب) “النخبة الحاكمة”،  بينما “يتّسم موقف محفوظ في التعامل مع شخصية الأب بالتناقض الشديد .. فلا الأم ولا الأبناء (الجماهير) يتمرّدون ضدّه، ويحافظون على احترامهم له في كل الأوقات”. [242] لا يتأثر الحب بين الأب/الزوج وبقية الشخصيات، ولا يستطيع الادّعاء بأنّه يمثلهم، لأنّ سلطته تقوم على القوة القمعيّة. أما الشخصيات الرئيسية الثانية، فهي الزوجة الحامل التي تمثّل الشعب، وتتّصف بقبولها بقضاء (الله) وخضوعها السلبيّ”، وهو ما يفسّره “ميلسون” بأنّ “المجتمع المصري في الماضي كان يتّصف بهذا النوع من التديّن الساكن، ولا يزال منتشراً في العديد من شرائح الشعب المصري”. [243]

يضيف “ميلسون” على تحليله للقصة بالقول إنّه “لا يوجد أيّ تلميح في إطارها لأيّ قوة اجتماعية سياسية يمكنها أن تشكّل بديلاً أو معارضةً للنظام القائم”. [244] “يمثّل الرجل العجوز (الذي يجسّد المحافظين) رؤية عالمية مختلفة عن تلك التي تنتهجها القيادة الحاليّة، لكنّه لا يمثل معارضة سياسية”؛ [245] بينما “تقدّم والدة الزوجة شكوى ضدّ الزوج، تدّعي فيها أنّه جعل حياة ابنتها بائسةً بفعل تقلّباته المزاجية”. [246]  اعتقد “ميلسون” أنّه من أجل أن يكتب محفوظ نهايةً سعيدةً للقصة كان عليه أن يخدع نفسه، وذلك “لتشجيع قرّاءه وربما نفسه أيضاً”. [247]

تظهر التنميطات بشكلٍ واضح: شخصية الأب الرجعيّ الذي يحكم بالقوة المطلقة؛ والجماهير الهادئة المضطهدة التي لا يقودها أحد من تحت نير الطاغية وقمعه؛ والقيادة التقليدية العاجزة؛ والأمّ المعتدلة العقلانيّة، والتي ترتبط بيولوجياً بالجماهير ولكّنها ليست في وضعٍ اجتماعيّ يمكّنها من تحدّي الطاغية.

تعكس أوصاف الشخصيّتين الرئيسيّتين الخطابات التي بناها “الكولونيلات” حول منظمة التحرير الفلسطينية والأغلبية القروّية في كتاباتهم تماماً، ومع ذلك فقد عجزوا عن تضمين الطبيعة الديناميكيّة لأيّ منهم، ولا الجوانب الإنسانية للفلسطينيين، سواءً في المنفى أو تحت الاحتلال، وإرادتهم للمقاومة.

1.   التطرف والاعتدال وم. ت. ف

لا تمثّل منظمة التحرير الفلسطينية في دراسات “الكولونيلات” سوى  الإرهاب غير العقلاني والقمعي ضدّ “إسرائيل” والجماهير الفلسطينية. فهي النقيض الدائم للزعماء العرب والفلسطينيين “المعتدلين”، الذين لا يتمّ تعريفهم على هذا النحو إلا بقبولهم العمليّ المحتمَل للتسوية مع الصهيونية. تركّز مقالة “ميلسون” التي نُشرت في “كومنتري” عام 1981 على هذه الثنائية تماماً، فيقول:

“تخلق العقائدية (يُنظر: العروبة والكفاح المسلّح وعودة اللاجئين) والبراغماتية مجالين متداخلين تدار ضمنهما السياسة العربية، ويتنازع هذا القطبان السلوك السياسي الفعليّ في العالم العربي الذي يتأثّر بكليهما. ففي حين ينجذب الساسة العرب المتطرّفون إلى القطب العقائدي [المبدئي]، يؤيد السياسيون العرب الوسطيّون سياساتٍ تستجيب  لحاجات المجتمع الحياتية وتشدّد على ضرورة التعامل مع الظروف الواقعية” . [248]

ولنقارن هذا الاستنتاج بما توصّل إليه “كوهين”: “من الواضح تماماً أنّ كافة الأحزاب (السياسية في الضفة الغربية) … تركّز على القضايا السياسية أكثر بكثيرٍ من المسائل الاجتماعية المحضة … فكانت الإمبريالية وإسرائيل أكثر أهميّةً من الفقر أو الأميّة على سبيل المثال”. [249]

وبالطبع، فإنّ المستشرق أعلم؛ ضرورات المجتمع والفقر والأميّة هي مسائل براغماتيّة وليست سياسية؛ والإمبريالية والتحرّر من الاحتلال هي مسائل غير عقلانية ولا علاقة لها باحتياجات المجتمع.

أمّا صورة الراديكاليّين مقابل المتطرّفين فتعدّ مركزيّةً في تحليلات “الكولونيلات” وسياساتهم. حتّى لو اعتبرهم “ميلسون” أقطاباً متداخلة، فإنّ احتماليّة حدوث أيّ شيء عدا “المانوية – المثنوية” هو احتمالٌ غير مرجّحٍ عمليّاً؛ “حتّى بافتراض أنّ بعض … قادة منظمة فتح مستعدّون للتوصّل إلى حلٍّ وسط مع “إسرائيل”، فهم عرضة  للترهيب، أو الإطاحة بهم أو اغتيالهم على يد زملائهم من القادة العسكريّين”.  [250]

هناك تفسيرٌ آخر لدعم الناس لـ “المتطرّفين” وهو سببٌ مقنعٌ، على الأقل بقدر الخوف من الاغتيال و”المشاعر المعادية لليهود منذ الإسلام القديم”. [251] إذا كان بعض الفلسطينيين في الضفة الغربية “مؤيدين لمنظمة التحرير الفلسطينية، فهم إرهابيون ومعادون للسامية وملتزمون بتدمير “إسرائيل”، كما يقول “ميلسون”. [252]

ويُلحظ اشتداد سخط المستشرقين من “تطرّف منظمة التحرير” في أعقاب الانتخابات البلديّة في 12 نيسان 1976، وهو أمرٌ مفهومٌ كونها اللحظة التي يُنظر إليها على أنّها نقطة تحوّلٍ دلّت على صعود منظمة التحرير الفلسطينية في الضفة الغربية، والذي يتضّح مع فوز “مؤيّدي منظمة التحرير” بـ 148 مقعداً من إجمالي 191 مقعداً بلدياً في الانتخابات. ومع ذلك، يحتاج هذا الاستنتاج إلى توضيح.

فكما نوقش في المقدّمة، يميل الاتجاه السائد في الأدبيّات والذي ساهم المستشرقون فيه بشكلٍ كبير، للنظر إلى منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها كياناً متجانساً، تنطلق قاعدته الميدانية والتنظيمية من بيروت وتصل من خلالها “مخالب” المنظّمة إلى الضفة الغربية لتخطيط العمليات السرية وتدبير الهجمات المسلّحة والفوز بالانتخابات. ولكن، كانت المنظّمة بعيدةً كلّ البعد عن التجانس والانسجام، وخاضت الفصائل والتنظيمات المنضوية فيها صراعاتٍ داخلية حادّة (خاصةً في حركة فتح التي هيمنت على قيادة المنظّمة)، ولم تكُن فترة السبعينيات استثناءً؛ فقد افتُتح العقد بخلافاتٍ حادّةٍ حول كيفية التعامل مع القمع الأردني لـ “أيلول الأسود”، والتي أعقبتها انقساماتٌ عميقةٌ حول غياب  المساءلة عن المجازر والأفعال التي ارتُكبت في الأردن ما بين عامي 1970-1971.

ظهر الانقسام الكبير داخل المنظمة تحديداً حول الأراضي المحتلّة (عام 1967)، بعد تبنّي جلسة المجلس الوطني الفلسطيني في القاهرة في حزيران 1974 برنامج “النقاط العشر”، الذي تضمّن “الحلّ المرحليّ”؛ يعنى استبدال هدف تحرير كامل فلسطين بهدف، أو قبول، تحرير أي جزءٍ منها لإعلان دولةٍ فلسطينية عليه. وعلى إثر ذلك، شكّلت مجموعةٌ من الفصائل بقيادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين “جبهة الرفض”، عارضت فيها بشكلٍ رئيسي فتح والجبهة الديمقراطية، التي طرحت فكرة التحرير التدريجيّ وضمنت تبنّيها. وقد جاء ذلك جزئياً نتيجة ضغط قادة الضفة الغربية الذين تمّ ترحيلهم،  كعبد الجواد صالح من البيرة، ولكن أيضاً كخطوةٍ نحو الاعتراف الدوليّ المتزايد، والذي تحقّق في غضون أشهرٍ من تبنّي المجلس الوطنيّ للبرنامج السياسي المرحليّ (النقاط العشر).

وإلى جانب تباين التوجّهات بين مكوّناتها، ثمّة مبالغةٌ في تقدير نفوذ المنظّمة وتأثيرها المباشر على الأرض المحتلّة. ويمكن فهم هذه المبالغة بالنظر إلى أنّه تمّ رفع الشعار الخلافيّ “منظّمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني” في فلسطين؛ وهو الموقف الذي تبنّته جامعة الدول العربية بالإجماع في الرباط في القمّة العربية في تشرين الأول 1974 التي عُقدت في أعقاب جلسة القاهرة للمجلس الوطني الفلسطيني، على الرغم من احتجاج الأردن الأوليّ عليه. وفي نفس القمّة، “وافق العرب على بندٍ ضمني اعتبر الضفة الغربية وقطاع غزة الدولة الفلسطينية المستقبليّة، وكان بالتالي اعترافاً ضمنيّاً بدولة “إسرائيل”.  [253]

وبعد أسبوعين فقط من قمّة الرباط، توجّه عرفات بخطابه الشهير (البندقية وغصن الزيتون) للجمعية العامة للأمم المتحدة، لتصعد بعدها منظمة التحرير الفلسطينية في غضون بضعة أشهرٍ خلال العام 1974 وتصبح الممثل المعترف به دولياً للشعب الفلسطيني، مشيّدةً مكانتها بوصفها القوة الفلسطينية الأكثر تنظيماً، والقادرة على حشد اللاجئين الفلسطينيين والعرب والأجانب في النضال من أجل تحرير فلسطين.

وفي ضوء ذلك، أصبحت منظمة التحرير الفلسطينية من الناحية الرمزيّة تمثّل النضال الفلسطيني في داخل فلسطين وخارجها، واختلط دعم م.ت.ف بالرغبة والنضال من أجل الاستقلال والحرية. ولا ينبغي هنا النظر إلى هذا الدعم على كونه نتاج الجهود التنظيمية والتخطيطية للمنظمة وفصائلها، إنّما كتعبيرٍ عن روح المستعمَر المقاومة للاستعمار. لذا، كان المرشحون الذين فازوا بأغلبيةٍ ساحقةٍ في الانتخابات البلديّة في عام 1967 مؤيّدين لمنظمة التحرير، بمعنى أنّهم كانوا متمسّكين بما أصبح يشكّل الإجماع العربي والفلسطيني، ألا وهو أن المنظّمة هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، دون أن يعني ذلك أنّهم تلقوا أوامرهم من قيادة المنظّمة في الخارج.

في الواقع، هناك سجلٌ طويلٌ مليءٌ بالخلافات والفرقة بين قادة البلديات في الضفة الغربية وقادة الفصائل التابعة للمنظمة في بيروت. [254] وبحسب الأجهزة الأمنية “الإسرائيلية”، فإنّ 30% من الفلسطينيين الذين تمّ اعتقالهم في النصف الأخير من السبعينيّات أثناء محاولة تنفيذ عملياتٍ مسلّحة ضدّ أهدافٍ “إسرائيليةٍ” داخل الأراضي المحتلّة لم يكونوا منتمين لمنظمة التحرير الفلسطينية. [255] كما يظهر مستوى الانفصال المؤسسي والتنظيمي بين قاعدة عمليات المنظّمة وانتفاضة 1981-1982 في تصريحٍ لوزير خارجيتها، فاروق القدومي، واصفاً الانتفاضة بأنّها كانت “شبه مفاجأةٍ لقيادتنا”. [256]

وعلى الرغم من أنّ الكتّاب غير الصهاينة هم غالباً من يرتكبون هذه المغالطة، بمعادلة منظمة التحرير الفلسطينية بالحركة الوطنية في الأراضي المحتلّة، غير أنّه كان لتأثيرات الاستراتيجيّين المستشرقين “الإسرائيليّين” أهميّةٌ تاريخيّةٌ كبيرة في هذا الصدد. وليس المقصود هنا أنّه لا يوجد أساس واقعيّ لادّعاءات المستشرقين “الإسرائيليّين” حول منظمة التحرير.

ينقل تقريرٌ نشرته “الرأي”، في 18 كانون الثاني 1981، إعلان الفصائل الفلسطينية في “جبهة الرفض” بأنّه سيتمّ اغتيال المتعاونين مع “إسرائيل” ومصر، ويذكر التقرير أنّه تمّ قتل 427 متعاوناً وجرح 1275 آخرين منذ عام 1967. ومن المؤكّد أنّ فصائل المنظّمة انخرطت في التعبئة الوطنية، وفي تهميش بل وقتل المتعاونين مع النظام الاستعماري، ولكنّ المغالطة تكمن في قراءة دور منظّمة التحرير باعتباره القوة المحرّكة الحصرية للحركة الوطنية.

استند هذا الاعتقاد إلى قراءةٍ خاطئةٍ للمقاومة الفلسطينية على أنّها مدفوعةٌ بـ “متطرّفين خارجيّين”، ما أفضى إلى استراتيجيةٍ تهدف إلى قطع العلاقات ما بين الضفّة الغربية وم.ت.ف واستبدالها بـ “معتدلين” محليّين مطيعين، وشمل ذلك إجراءاتٌ كمنع مبالغ ماليةٍ كبيرةٍ من الدخول، بالإضافة إلى تدمير المنظّمة بغزو لبنان. وكما يتّضح لنا من استمرار نموّ الحركة الوطنية في الضفة الغربية مع مرور عقد الثمانينيّات، لم تؤتِ هذه الخطوات ثمارها المنشودة.

2.   الجماهير الريفية الهادئة

تشكّل الخطاب الصهيوني حول القرية الفلسطينية طيلة مدّة فرض الحكم العسكري “الإسرائيلي” على الفلسطينيين ومنذ عام 1948. وبحلول ترقية المستشارين – المستشرقين إلى رتبة “الكولونيل”، كان حضور القرية كـ “موضوعٍ للخطاب” قد بات راسخاً. [257] وبينما كان سبعون بالمئة من سكّان الضفة الغربية يعيشون خارج المدن، أظهرت الحسابات البسيطة أنّه بكسب هذه الفئة من السكّان سيكون النصر في متناول يد المستعمِرين. كان العنصر المركزيّ في تمثيل القرية العربية هو أنّها متخلّفة، مليئة بالأميّين، ويهيمن عليها الصراع بين عصبيات الحمائل؛ [258] وقد استرعى هذا “السوق” [الحقل الاجتماعي الريفي] العناية الصهيونية أكثر من سكّان المدينة.

وفي معرض شرح أساليب التحديث التي انتهجتها “إسرائيل” على نحو “إنساني” في الضفة، يوضّح “معوز” أنّ الافتراض القائل إنّه ينبغي لهذه السياسات المستنيرة “تخفيف المشاعر الوطنية الفلسطينية والمعادية لـ “إسرائيل” هو افتراضٌ وجيه فيما يتعلّق بقطاعاتٍ كبيرةٍ من السكّان، لا سيّما الفلّاحين ومجموعاتٍ معيّنةٍ من العمّال.. [ولكن] يصعُب تطبيقه على معظم سكّان المدن المثقفين سياسيّاً”. [259]

بدوره، عمل “ميلسون” على تأريخ أسباب تضاؤل “الوطنية غير العقلانيّة” لدى الفلّاحين، معتبرا إياها صدعاً يُمكن استغلاله استراتيجيّاً. يسلّط الضوء في مقدمّة المجلّد الذي حرّره عن المجتمعات العربية على أهم النقاط التي أثارها بنظره مؤّلفو الأوراق التي جمعها، ويركّز ملخّصه للفصل الذي تناول به “يهوشوع بورات” بدايات الحركة الوطنية الفلسطينية على موضوعٍ واحدٍ بعينه:

“عزّزت إصلاحات التنظيمات العثمانية من مكانة وجهاء المدن على حساب شيوخ الريف… ولهذه الحقيقة أهميّة حاسمة في تاريخ الحركة القومية العربية برمّتها في فلسطين، حيث هيمنت قيادة المدينة… وعلى الرغم من قبول عموم القرويّين بقيادة المدينة، يبدو أنّ الصلات بين هاتين المجموعتين الاجتماعيّتين كانت ضعيفةً للغاية”. [260]

يتلخّص النمط السائد للعيش الريفيّ الفلسطيني بالسكونية، ويفتقر القرويّون إلى بديلٍ عمليّ مع عدم رضاهم بنصيبهم وبـقيادتهم (المدينية) المتطرّفة. هذه الفكرة تنعكس فيما يقوله “كوهين”، الذي يُرجع في تفسيره استمرار وجود الأحزاب السياسية في الأردن بعد حظرها إلى “وجود مخزونٍ من المؤيّدين الذين عجزوا عن العثور على بؤر بديلةٍ لولائهم وانتمائهم”. [261] وهذه هي بالتحديد الثغرة التي حاولت “إسرائيل” أن تملأها باعتبارها وكيلاً للغرب، ليطرح “ميلسون” استراتيجية روابط القرى، والتي هي أيضاً لم تخلُ من القصور.

كان الفلسطينيّون الأكثر تضرّراً من السياسات “الإسرائيلية” في الضفة الغربية هم أولئك الأكثر اعتماداً بينهم على الأرض ومواردها: القرويون “الهادئون”؛ فُصلوا بعشرات الآلاف عن أراضيهم، وتمّ استغلالهم إمّا كعمالةٍ رخيصةٍ في المشاريع “الإسرائيلية”، أو كعمالةٍ ماهرةٍ في دول الخليج، أو كقرويّين عاطلين عن العمل وبلا أرض. وعلى امتداد أراضيهم المسلوبة، أصبح بوسع سلالةٍ جديدةٍ من المستعمِرين أن تعيث دماراً بأصحاب الأرض. إذ لم يرَ مستوطنو الضفة الغربية، المسلّحين والذين يتمتّعون بقدرٍ كبيرٍ من الحصانة، مكاناً للفلسطينيّين في فلسطين، واعتبروا، شأنهم شأن “الليكود”، أنّ مكان الدولة الفلسطينية يقع في الجهة المقابلة من نهر الأردن.

سبعون بالمئة من العمالة الفلسطينية في الداخل المحتلّ (أيّ أكثر من نصف القوة العاملة في الضفة الغربية) كانت من أصولٍ ريفيّة.  [262] وما بين عامي 1970 و1987، انخفضت نسبة العاملين في الزراعة من 42.4% إلى 26%، كما انخفضت في نفس الفترة نسبة الإنتاج الزراعي من 35% من الناتج المحليّ الإجمالي للضفة الغربية إلى 19%. [263] وأسفرت القيود التي فرضها حزب “الليكود” بعد عام 1977 عن انخفاض الصادرات الزراعيّة الفلسطينيّة بنسبة 40% بين عامي 1977 و1984، [264] بعدما كانت الزراعة الفلسطينية تصدّر حواليّ 59% من إنتاجها إلى دولٍ عربيّة أخرى عبر الأردن. [265] وبحلول العام 1993، “لم يكُن بوسع 26% من سكّان الريف في الضفة الغربيّة الحصول على المياه، وكان لدى أقل من 10% [من هؤلاء السكّان] إمكانية الوصول إلى شبكات الصرف الصحيّ، بينما توفرت لـ 50% منهم فقط خدمات جمع النفايات”. [266]

والواقع أنّ النظرة الاستشراقيّة التي جرى ترسيخها حول الفلّاحين الفلسطينيّين، باعتبارهم هادئين بطبيعتهم، قد مكّنت من ظهور وتنفيذ استراتيجيةٍ من شأنها النظر إلى هؤلاء القرويّين المهجّرين والمفقَرين، الذين يعيشون تحت الاحتلال العسكريّ، كفاعلٍ رئيسيٍّ لتطبيع هذا الاحتلال. إضافةً إلى ذلك، فإنّ بُنى الحياة القرويّة التي أتاحت رؤية الفلّاحين على أنّهم هادئون – على الرغم من غرابة هذه الفكرة وعدم دقّتها بالنظر إلى قيادتهم ثورة الثلاثينيّات – قد تحوّلت بالكامل بفعل السياسات الاستعمارية “الإسرائيلية”. لم تتوافق القرية الفلسطينية في عام 1981 مع تلك الموجودة في مخيّلة المستشرقين الصهاينة.

ج·      روابط القرى التي ابتدعها “ميلسون”

تناولتُ بالبحث حتّى الآن التصنيفات الاستعماريّة التي شكّلها المستشرقون الصهاينة بشكلٍ عام، و”الكولونيلات” الذين شغلوا منصب مستشار الحكومة العسكريّة للشؤون العربيّة في الضفّة الغربيّة بشكلٍ خاص. بادر “ميلسون” للإجابة على سؤال “من يستطيع قيادة القرويّين الفلسطينيّين بعيداً عن استبداد منظّمة التحرير ونحو طريق الاعتدال؟”. ومن وجهة نظره، كان هناك معتدلون في الضفّة، وهي غالبيةٌ صامتةٌ قوّضتها سياسات “ديّان”.

رأى “ميلسون” أنّه يتحتّم على “إسرائيل” إيجاد و”تشجيع أولئك الفلسطينيين الذين اعترفوا [بها] علانيّةً”؛ [267] “أولئك المستعدّين للعمل ضمن ما تُمليه ضرورات الأمر  الواقع وقيوده… والجاهزين للتوصّل إلى تسوية”، “فهُم بحاجةٍ لدعمٍ معنويٍّ وسياسيٍّ ضد المتطرّفين”؛ [268] ويجب تمكينهم من اتّخاذ الموقع  الذي يستحقّونه، وهو قيادة “سلطةٍ محليّةٍ” فلسطينيّة”.

ولكن حتّى لو تمكّن الصهاينة من العثور على شخصياتٍ كهذه في القرى، ألحّ السؤال حول كيفية إيصالهم لموقع القيادة والتخلّص من “المتطرّفين الحاليّين”؟ كان الحلّ لدى “ميلسون” أيضاً. تلخّص السبيل إلى السيطرة على الضفّة الغربيّة باستنساخ نظام المحسوبيّة الأردني (والبريطاني والعثماني)؛ “في مثل هذا النظام، تكمن القيمة الكبرى بالنسبة للشخصية العامة في القدرة على الوصول والتوسّط لدى السلطة المركزيّة”.  [269]

بالتالي، ومن خلال تفويض هذه النخب الجديدة غير المسيّسة بصلاحياتٍ وسلطاتٍ معينة متعلّقةٍ بحياة الفلسطينيّين، والتي تملك “إسرائيل” السلطة المطلقة لتقديمها، ينتقل ثقل مكانة “الشخصيّة العامة” من “المتطرّفين” الذين هيمنوا عليها ما قبل مرحلة “ميلسون” إلى “المعتدلين العصريّين” الذين كانوا أشبه بنجيب محفوظ.

لم يحظَ هذا الطرح بتوافقٍ بين “الكولونيلات”. فقد زعم “كوهين”، على سبيل المثال، أنّ الهاشميّين فقط همّ من يمكنهم تقديم ثقلٍ موازنٍ محتمَل لمنظّمة التحرير. [270] بينما ردّ “ميلسون” بالقول إنّ “تدمير منظّمة التحرير الفلسطينية هو شرطٌ مسبق، وليس نتيجةً (للسياسات الإسرائيلية)؛ [271] فلن يكون الأردن الحل الصهيونيّ لمسألة المنظّمة. وعلاوةً على ذلك، تمتّع النظام الملكيّ الأردني بمكانةٍ متصّدرةٍ كنموذجٍ في الاعتدال العربي في نظر “ميلسون”، وهو ما يوضّحه على النحو التالي:

“جعلت حدود الأردن الطويلة مع “إسرائيل” التعاملَ مع الوضع بطريقةٍ براغماتيّةٍ أمراً ضرورياً بالنسبة لصنّاع القرار في الأردن.. مع وجود دولةٍ يهوديّةٍ إلى جانبهم… وفي قبولهم العمليّ بوجود “إسرائيل”، كان صنّاع السياسة الأردنيون يلجأون في الواقع إلى مفهومٍ راسخٍ في التقاليد السياسية والقانونية الإسلامية، وهو “الضرورة”. وإذا ما ترجمنا هذا المفهوم الإسلاميّ إلى مصطلحاتٍ سياسيّةٍ حديثة، يُمكننا القول إنه قدّم تصوّراً لالتزامٍ يقابل التطلّعات العقائدية [المبدئية]”. [272]

لم يعتبر “ميلسون” تفاعل الأردن مع “الضرورة” كعمليةٍ سياسية ديناميكيّة، بل تجاهل تعريف السياسة بـ “فن الممكن”، وفضّل بدلاً من ذلك فهم عملية صنع القرار في الأردن بوصفها نابعةً من مفهومٍ إسلاميّ جامد، أصبح معروفاً بموجبه موقف الأردن تجاه السياسات “الإسرائيلية” على أنّه لا يتغير. وعلى هذا، ليس من المفاجئ أن يشكّل قرار الأردن بمحاربة روابط القرى في 10 آذار 1982 صدمةً كبيرةً لـ “ميلسون”. [273]

فقد ميلسون بقناعته بالموقف الأردني الثابت القدرة على  إبصار  حقيقةٍ مفادها أن سياسات نظامه الاستعماريّ كانت سبباً في تقويض النفوذ والمصالح الأردنية في الضفّة بشكلٍ كبير، والأهم من ذلك، أنّه ولأسبابٍ تتعلّق بـ “الضرورة” أيضاً، قد لا يقف النظام الأردنيّ مكتوف الأيدي أمام استمرار تآكل مصالحه بسبب نظامٍ لم يرَ في الأردن أكثر من وطنٍ بديلٍ للشعب الفلسطيني.

كما جادل “كوهين” بأنّ “الحفاظ على قادةٍ زائفين على المدى الطويل هو أمرٌ مستحيل”. [274] لم يكُن وحده الذي أبدى اعتراضه، بل كذلك “شلومو غازيت” الذي عيّنه “ديان” مسؤولاً عن الأراضي المحتلّة عام 1967، وشغل رئيس المخابرات العسكرية “الإسرائيلية” في 1974-1978. ففي مقالةٍ نُشرت في مجلّةٍ عسكريّةٍ في عام 1970، والتي تعدّ من الوثائق المكتوبة القليلة التي تفصّل السياسات “الإسرائيلية” الرسميّة تجاه الأراضي المحتلّة عام 1967، يقول “غازيت” إنّ لا شيء يُمكنه “إثارة اشمئزاز الحكومة العسكرية “الإسرائيلية” أكثر من “كفيشلينغ” [الخائن المتعاون مع العدوّ]، منتقداً روابط القرى التي أنشأها “ميلسون” بربطها بـ “فيدكون كفيشلينغ” في النرويج، [275] [الذي قاد الحكومة الفاشية المتعاونة مع النازيّين في النرويج خلال الحرب العالميّة الثانية].

أجاب “ميلسون” على ذلك بإعادة التأكيد بحزمٍ على نظريّته حول الوصول والتوسّط لدى السلطة المركزيّة، مستخدماً هذه المرّة سلطة كلمةٍ عربيّةٍ واحدة؛ الواسطة، مجادلاً في محاضرةٍ قدّمها في معهد “فان لير” أنّ “جميع العلاقات الاجتماعيّة العربية مبنيّةٌ على “الواسطة”، ومن المستحيل الحكم من دونها”. [276] لم ينشأ خلاف “كوهين” حول تحليل المجتمع الفلسطينيّ أو تشخيص المشكلة، إنّما على كيفيّة معالجتها بشكلٍ فعّال.

وببساطة، لم يكُن استشراق “ميلسون” و”الكولونيلات” هو ما هيمن على تقديرهم. ذلك أنّ التصنيفات التي عملوا على تشكيلها، مقترنةً بموقعهم القريب من السلطة وموقفهم الأيديولوجي، جميعها عوامل جعلت من رؤيتهم للواقع كما هو أمراً متعذّراً. واقعٌ كهذا يتطلّب تعاطف، وربّما تضامن، وهو الأمر الوحيد الذي لا يتعامل معه هؤلاء المستشرقين والاستراتيجيّين الاستعماريّين، وما انحازوا ضدّه أيدولوجياً وتلقّوا تدريباً أكاديميّاً لتفاديه؛ ألا وهو أنّ “إسرائيل” لا تولّد شعوراً بالظلم والاضطهاد عند الفلسطينيّين فحسب، بل هي تجسّده كواقع بشكلٍ صارخ.

خاتمة

تمكّن الفلسطينيون في الانتفاضة المنسيّة التي اندلعت بين عامي 1981 و1982  من هزيمة مشروعٍ “إسرائيليّ” لفرض “سلطةٍ محليّة” عليهم. وقد كان هذا المشروع في ذروته مدعوماً بكامل قوّة الجهاز الاستعماري العسكريّ والسياسي والاقتصادي “الإسرائيلي”، إلى درجة أن مهندسه، العقيد المستشرق البروفيسور “مناحيم ميلسون”، كان متيقناً تماماً من نجاحه.

استند هذا اليقين إلى تحليلٍ استشراقيٍّ انبثق عن عقودٍ من المعارف الاستشراقيّة الصهيونية حول الفلسطينيّين المستعمَرين. وحجب هذا اليقين الاستشراقيّ كلّاً من إنسانية الشعب الذي هدف إلى قمعه؛ تلك الإنسانيّة التي دفعت الفلسطينيّين إلى وضع حياتهم على المحكّ من أجل هزيمة هذا المشروع، فضلاً عن التحوّلات الاقتصاديّة التي أحدثتها السياسات الاستعماريّة الصهيونية، والتي كان لها دورٌ أساسيّ في التحوّل إلى استراتيجيّة إنشاء “سلطةٍ محليّة”. وقد لعب الاستشراق الصهيونيّ دوره كوسيطٍ لحلّ التناقض ما بين الاستعمار السياسي والاستعمار الاقتصادي، حيث ظهر المستعمَرون كمنتصرين، ولو مؤقتاً.

لا بدّ من التنبيه إلى مجموعة من النواقص التي اعترت هذا البحث، من بينها أنّه لم يتمّ الرجوع إلى مصادر باللغة العبريّة، وذلك أحد أوجه القصور كونه تناول الاستشراق الصهيوني بشكلٍ موسّع. والأهم من ذلك، أتّه كان من الممكن إثراء تاريخ انتفاضة 1981-1982 بشكلٍ كبيرٍ من خلال التاريخ الشفوي لتلك الفترة، والذي لا يُمكن سدّ الفجوة بين الأدبيات والسرديّة الفلسطينية المقاوِمة للاستعمار جزئياَ إلا بالرجوع إليه. إذ لا يملك التاريخ الشفوي القدرة على تعريفنا بمختلف الأحداث للأشخاص المنخرطين فيها فحسب، بل أيضاً في حالة كهذه بشكلٍ خاص، والتي يكون فيها السجل الوثائقي غير كافٍ، يُمكن للتاريخ الشفوي أن يخبرنا الكثير عن القضايا الطبقيّة والجندرية، وتلك المتعلّقة بالأجيال، التي لعبت دوراً محوريّة في العمليّات المرتبطة بتجربة روابط القرى والانتفاضة ضدّها.

مثلاً، هل كان الأهالي داعمين لمشاركة أبنائهم في المظاهرات؟ هل اختلف الأمر طبقيّاً؟ وهل اختلف بالنسبة للنساء والفتيات؟ هل كانت لزعماء روابط القرى خلفيّاتٌ طبقيّة مماثلة؟ وهل من قاد المقاومة ضدّهم في قراهم كانوا من خلفياتٍ طبقيّة مختلفة؟ هذه بعض الأسئلة التي يُمكن للتاريخ الشفوي للانتفاضة المساعدة في الإجابة عليها، ولا يُمكن للدراسة الأرشيفيّة ذلك. غير أنّ بعض هذه التوتّرات قد تظهر في إنتاجات أدب الواقع الاجتماعيّ في تلك الفترة، كرواية “الصبّار” لسحر خليفة التي تبرز فيها هذه الديناميكيات. [277]

وبالإضافة إلى ذلك، قادني النطاق المحدود لهذه الدراسة بعيداً عن المنهج المقارن بين السلطات المحليّة التي فرضتها “إسرائيل”. فحالة شيوخ بدو النقب، وروابط القرى التي فُرضت على قطاع غزة بالتزامن مع فرضها في الضفة الغربية، وجيش لبنان الجنوبي جميعها نماذج يُمكنها أن تثري فهمنا لتطوّر الاستراتيجية الاستعمارية الصهيونية حول بدائل الحكم الذاتيّ بصيغتها “الإسرائيلية”. علاوةً على ذلك، وبينما استخدمتُ الحالات الإفريقية التي درسها محمود ممداني، يعدّ فرض السلطات المحليّة الأصليّة استراتيجيّة استعماريّةً مستخدمةً على نطاقٍ واسعٍ في جميع أنحاء العالم، خاصةً منذ القرن التاسع عشر. الدراسة المقارنة لمثل هذه الحالات التاريخيّة، من استعمار الفلبين إلى “الموهوك”، من شأنها تعزيز فهمنا للاستعمار عامةً، والحالات الصهيونية خاصةً، لا سيّما بالنظر إلى أن فصولها الأخيرة التي لم تكتب بعد.

تنطوي الأهمية المضمَرة – حتى الآن –  لهذه الدراسة على أنّه، ورغم فشل روابط القرى كمشروعٍ سياسيّ بفعل انتفاضة 1981-1982، نجحت “إسرائيل” في فرض سلطةٍ محليّة على الفلسطينيين في الضفة الغربية (وإلى حدٍّ ما في قطاع غزة) منذ عام 1993. فبعد هزيمة روابط القرى بفترةٍ وجيزة، اضطُرّ الاستراتيجيون الصهاينة للعودة إلى “المشكلة الفلسطينية”، تحت ضغط استمرار تصعيد التنظيم الشعبيّ والمظاهرات الفلسطينيّة.

وفي حين أظهر معارضو حزب “الليكود” في حزب العمل مزيداً من المرونة في التعامل مع “المناطق”، مستكشفين خياراتٍ من شأنها السماح للأردن بالقيام بدورٍ سياسيّ أو شُرَطيّ، وحتّى احتمالية السماح بإلحاق أجزاءٍ من الأرض بالسيطرة الأردنيّة (كما اتّضح في خطّة آلون)، فقد أصبحت استحالة التنازل عن السيادة الصهيونية على أيّ جزءٍ من الضفة الغربية عقيدةً أساسيّة في السياسة “الإسرائيلية”، وقد ظلّت كذلك منذئذٍ.

وفي الواقع، لم يشتمل “خيار الأردن” – الذي ناقشه حزب العمل في منتصف الثمانينيات بعد مشروع “ريغان” عام 1983 – أيّ خيارٍ جادّ لتسليم الأراضي. وفي الغالب، كان يُنظر إلى الأردن باعتباره نظاماً يُمكن الاستعانة به وإيكال بعض الخدمات الأمنيّة والإدارية المتعلّقة بفلسطينيّي الأراضي المحتلّة عام 1967 إليه. [278] ومع اندلاع انتفاضة 1987، تلقّى خيار الأردن ضربته الأخيرة، ليتنازل الملك الأردني رسميّاً عن أيّة مطالب بشأن الأراضي المحتلّة، معلناً “فكّ الارتباط” في 31 تمّوز 1988. [279]

انبثقت الصيغة الجديدة لاستراتيجية السلطة المحليّة بدافع الخوف الصهيوني من إصرار القيادة المحليّة للمجتمع الفلسطيني على تصعيد المقاومة ضدّ النظام الصهيوني. كان الجسم الوحيد الذي يتمتّع بشرعيّةٍ تمنحه الفرصة للتحوّل إلى “سلطةٍ محليّة” ناجحة هو منظّمة التحرير الفلسطينيّة عينها.

وفي تونس البعيدة، كانت قيادة منظّمة التحرير الفلسطينية تواجه مأزقها الخاصّ؛ فقد فقدت أكبر داعميها مع تفكّك الاتحاد السوفياتيّ والعراق، واستخدمت دول الخليج دعم هذه القيادة لاحتلال صدّام حسين للكويت كذريعةٍ لطرد مئات الآلاف من العمّال الفلسطينيّين، والذين اعتمدت المنظّمة والفلسطينيون في البلاد ولبنان على حوالاتهم المالية بشكلٍ كبير. كانت القيادة الشرعيّة الوحيدة للشعب الفلسطينيّ على وشك الإفلاس، وتواجه نفس التهديد الذي يواجهه عدوّها: أن تتسلّم  قيادة الانتفاضة المحليّة شعلة الشرعيّة. ولعلّها المرة الأولى التي تجتمع فيها “إسرائيل” وقيادة منظّمة التحرير الفلسطينية على هدفٍ مشترك.

كانت خرائط تقسيم الأراضي التي وقّع عليها رئيس منظّمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، في حديقة البيت الأبيض، مطابقةً لخطط “شارون-دروبلس” قبل عقدٍ من الزمان. وأيضاً، كانتا لصلاحيات الممنوحة للسلطة الوطنية الفلسطينية المنشأة حديثاً مطابقةً لما استلمه “مناحيم” ميلسون” في الإدارة المدنيّة عام 1981. وكما يذكر “ميلسون” في خطابٍ ألقاه في جامعة “يو.سي بيركلي” في أعقاب توقيع اتفاقية “أوسلو”: “في المستقبل، لن يحمل أي خريجٍ جامعي ألقاب مثل “رئيس الإدارة المدنية”، وذلك لأنّ الحكومة العسكرية تعمل على تفكيك ذلك الجزء من نظام الخدمة العسكريّة”. [280]

وضعت منظّمة التحرير الفلسطينية توقيعها على اضطلاعها بدور “السلطة المحليّة”، كتلك التي تصوّرها “ميلسون” جزئياً. ترك الموظفون اليهود مناصبهم في الإدارة المدنيّة للاحتلال، وأصبح موظّفو السلطة الفلسطينية هم من يشغلون هذه المناصب. واستحالت منظّمة التحرير الفلسطينية، التي قاتل المتظاهرون روابط القرى باسمها ودفاعاً عن شرعيّتها، هي نفسها الرابطة القرويّة، باسم تلك الشرعيّة وباسم هؤلاء المتظاهرين.

*****

الهوامش

[1]  يُنظر على سبيل المثال: (al-Azraq 2009, 28, Qumsiyeh 2011, 128).
[2] Scott, David. “Colonial Governmentality.” Social Text, no. 43 (Autumn 1995): 193.
[3] للاطّلاع عليها عبر هذا الرابط (استُرجعت بتاريخ 30 آذار 2012)
[4] مقابلة هاتفية أجراها الباحث في آذار 2012.
[5] Cashdan, Ben. “Colonial Law and Ideology-Israel and the Occupied Territories.” In Palestine: Profile of an Occupation, Khamsin, 57-81. London: Zed Books, 1989.
[6] هذه النسخة التي تمكّن الباحث من الاطّلاع عليها.
[7] Qumsiyeh 2011, Assaf 2004, Hiltermann 1991, Nassar and Heacock 1990, King 2007, Jamal 2005, Aronson 1990); studies of aspects of the Israeli occupation of the West Bank (Gordon 2008, Aruri 1983, Shehadeh 1985, Palumbo 1992, Aronson 1990.
[8] Chomsky, Noam. Fateful Trangle: The United States, Israel and the Palestinians. London: Pluto Press, 1999.
[9] Nusseibeh and David 2007, al-Ashhab 2009>
[10] Woolfson 1981.
[11]  Sharon and Chanoff 1989.
[12] Kimmerling 2003.
[13] Aronson 1990, 4
[14]  Gordon 2008, 115.
[15] يُنظر على سبيل المثال: (Abraham 1983).
[16] Sandler and Frisch 1984, esp pp. 79-101
[17] Y. Sayigh 1997, 47
[18] البند التاسع من ميثاق منظّمة التحرير لعام 1968.
[19] من الأمثلة على هذه الكتابات، لكن من القلة القليلة التي تضمّنت تحليل ومناقشة روابط القرى:  (Suleiman 1986).
[20] Seale 1992, 46.
[21] ومن الأمثلة على هذه الكتابات، خاصةً الضخمة في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، المقالات الواردة في: Curtis, et al. 1975 ؛Rafael 1987.
[22] Maoz 1984, Milson 1986, Milson 1981
[23] Farsoun and Landis 1990, 16
[24] King 2007, Qumsiyeh 2011, Pearlman 2011
[25] Semyonov and Lewin-Epstein 1987, Portugalli 1989, Farsakh 2005, Nitzan and Bichler 2002.
[26] Farsakh 2005
[27] Aruri 1983, Khamsin 1989, Nassar and Heacock 1990
[28] Mamdani 1996, 4-8.
[29] مرجع سابق، ص 9.
[30] مرجع سابق، ص 60.
[31] مرجع سابق، ص 4.
[32] Stoler and Cooper 1997, 19.
[33] Tamari 1983, 378
[34] Taraki 1990, 66
[35] Barghouthi and Giacaman 1990, 79).
[36] مرجع سابق
[37] في الأول من تشرين الثاني 1967، أصبح إنشاء جميع الإمدادات والشبكات الكهربائية مرتبطاً بالحصول على تصريحٍ عسكريّ، بموجب الأمر العسكري رقم (159).
[38] يُنظر مثلاً: Robinson 1993.
[39] Taraki 1990, 62.
[40] يُورد يزيد صايغ مثالاً على هذه الممارسة، ويقول “إنّه مع ازدياد المنافسة، لجأت فتح إلى إقامة نقابات “صورية” بين فئات من العمال مشكوك في حقيقتها، مثل “بائعي أشرطة الكاسيت وموزّعي الخبز”، وذلك كي تضخم العضوية الشكلية في الاتحاد العام للنقابات الخاص بها”؛ (Y. Sayigh 1997, 478).
[41] للاطلاع على قرارات ومواقف الفصائل التي شكّلت هذا التحوّل يُنظر: Y. Sayigh 1997، 471-478؛ وحول تأثير هذا التحوّل على الحركة النسويّة، والذي لا يأتِ صايغ على تناوله، يُنظر: Jad 1990, 131-133.
[42]  Swedenburg 1990, 23.
[43]  Y. Sayigh 1997, 478.
[44] Nusseibeh and David 2007, 192.
[45] Graham-Brown 1984, 87
[46] (al-Azraq 2009, 29)، كما يُمكن قراءتها كاملةً عبر هذا الرابط (استُرجع بتاريخ 17/1/2021)
[47] للمزيد حول النهضة الثقافية ودور المجلّات الأدبية والصحافة، يُنظر: (Taraki 1990, 62-66)؛ الرقص والفولكلور: (Rowe 2010, 111-132)؛ المسرح: (Snir 1995, 38-49)؛ الشعر: (Ashrawi 1978)؛ الموسيقا: (Jamjoum 2011). وحول دور الصحافة الفلسطينية تحت الاحتلال، تُوصي ليزا تراكي بالاطّلاع على “صحافة الوطن المحتلّ”، لرضوان أبو عيّاش.
[48] لقراءة تحليلٍ أشمل بشأن الأمر العسكري رقم (947)، يُنظر: Kuttab and Shehadeh 1982, 9, 59-63, Benvenisti 1987, 127-142.
[49] Richardson, Man on the Spot 1982, 5.
[50] Palumbo 1992, 158
[51] .Lesch and Tessler 1989, 265.
[52] Tamari 1983, 48-49.
[53] مرجع سابق، ص 48.
[54] نُفّذت محاولة اغتيال يوسف الخطيب في 17 تشرين الثاني 1981، وأدّت إلى مقتل ابنه كاظم، وإصابة يوسف بجراح توفي متأثّراً بها بعد عدّة أيام في مستشفى “إسرائيلي”. وبعد بضعة أسابيع، خلفه ابنه جميل كزعيمٍ لرابطة قرى رام الله في الثامن من كانون الأوّل.
[55] جديرٌ بالذكر أنّ هذا القرار الأردني كان من اللحظات الأقل تذكّراً في انتفاضة 1981-1982. في الواقع، نظر العديد ممّن كانوا منخرطين في ذلك الوقت إلى روابط القرى كمبادرةٍ صهيونية – أردنية مشتركة، وهو ما يتسلّل إلى بعض الأدبيّات، يُنظر مثلاً: (Suleiman 1986, 182-184). ومن المرجّح أن يكون لهذا علاقة كبيرة بتاريخ مصطفى دودين وارتباطه السابق مع النظام الأردني.
[56] يلفت سليم تماري النظر إلى أن المشاريع الإنمائية التي نفّذتها روابط القرى كانت “دائماً ما تربط المناطق الريفيّة غير المطوّرة بشبكات الكهرباء والمياه “الإسرائيلية”؛ (Tamari 1983, 47).
[57] مرجع سابق.
[58] مرج سابق، ص 46-47.
[59] Palumbo 1992, 159.
[60] Hirst 1984, 391.
[61] Palumbo 1992, 160.
[62] مرجع سابق، ص 161.
[63]  Chomsky 1999, 58-59.
[64] R. Khalidi 1989, 70.
[65] Gazit 2003, 235.
[67] Tamari 1983, 381.
[68] مرجع سابق، ص 52-53.
[69] [70] مرجع سابق.
[71] Bargouti 1990.
[72] Palumbo 1992, 168.
[73] Gazit 2003, 230-231.
[74] Mamdani 1996, 17.
[75] مرجع سابق، ص 3.
[76] Doumani 1995.
[77] يُنظر على سبيل المثال: Hadawi 1989, 48-51, Stein 1984.
[78] Mansour 1988, 71.
[79] Massad 2001, 12.
[80] Mansour 1988, 73.
[81] Farsakh 2005, 99.
[82] Awartani 1988, 74.
[83] Samara 1989, 8.
[84] [85] Metzer 1998, 142; Mansour 1988, 73.
[86] [87] المرجعان السابقان.
[88] Awartani 1988, 141.
[89]Ruedy 1981, 49.
[90] Rynhold 2001, 40
[91] مرجع سابق، ص 42.
[92] Peres 1980, 896.
[93] مرجع سابق، ص 893.
[94] Cashdan, 60.
[95] Badil and COHRE 2005, 93.
[96] Mamdani 1996, 109-137.
[97] King 2007, 112.
[98] مثله مثل “موشيه ديان”، تلقّى “يغال آلون” تدريباً على يد “أورد وينغيت” في الوحدات الصهيونية الخاصة، والتي قادها الأخير في قمع الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939). أصبح “آلون” في عام 1945 قائداً لقوات “البالماخ”، وقاد العديد من عمليات التطهير العرقي خلال حرب 1948، من بينها واحدة من أولى مجازر العصابات الصهيونية في النكبة، والتي وقعت في قرية الخصاص قضاء صفد في 19 كانون الأول 1947. كان “آلون” أحد قادة حزب “مباي” وثمّ “أحدوت هعفوداه”، وشغل مناصب عديدة في الحكومة الصهيونية كنائب رئيس الوزراء، ورئيس وزراء الحكومة بالنيابة، ووزير العمل ووزير الخارجية.
[99] Ruedy 1981, 51.
[100] Allon 1976, 44.
[101] Allon 1976, 49-50.
[102] توصيات “آلون”، كما يوردها: Efrat 1988, 36.
[103] مرجع سابق، ص 37.
[104] Allon 1976, 48.
[105] Roy 1995, 106-107.
[106] نجد لمحة عامّة عن تراجع نفوذ الأردن في الضفة الغربية في: Sahliyeh 1988.
[107] MERIP 1977, 22.
[108] خطّة “ديان” و”غاليلي” في الملحق رقم 2: W. W. Harris 1980.
[109] Milson 1986, 17.
[110] Gazit 2003, 47-92.
[111] تجدر الإشارة أيضاً إلى أنّ “ديان” برّر هذا النهج لمرؤوسيه بالقول إنّه لا ينبغي “ارتكاب  نفس الخطأ الذي ارتكبه الأمريكيون في فييتنام”؛ Gordon 2008, 49.
[112] الاقتباس لـ “شلومو غازيت”، ورد في: Gordon 2008, 48.
[113] Milson 1981, 17-19, Gazit 2003, 45-68.
[114] Samara 1989, 10-11.
[115] Government of Egypt 1982, 17.
[116] Samara 1989, 22.
[117] Farsakh 2005, table 5.1, p. 100.
[118] Samara1989, 22.
[119] Gazit 2003, 167-168.
[120] Gordon 2008, 101.
[121]  Gazit 2003, 165.
[122] Sahliyeh 1988, 29.
[123] Maoz 1984, 12.
[124] [125]مرجع سابق.
[126] Gordon 2008, 104.
[127] للمزيد عن التدخل الصهيوني في الانتخابات، يُنظر: MERIP 1976؛ للمزيد حول النقاشات الفلسطينية قبل عقدها، يُنظر: Matthews 1998, 17-19؛ وحول هذه النقاشات بعد الانتخابات، يُنظر: Journal of Palestine Studies 1976.
[128] Y. Sayigh 1988, 267.
[129] Shalev 1992, 60-61.
[130] Farsakh 2005, table 6.3, p. 126.
[131] Ruedy 1981, 57.
[132] Nitzan and Bichler 2002, 123-124.
[133] Hiltermann 1991, 17-18.
[134]L. Harris 1988, 191.
[135] أقفل الأمر العسكري رقم 7 (8 حزيران 1967) كافة المصارف العاملة في الضفة والقطاع وحظَر جميع المعاملات التجارية والنقدية؛ وأتاح الأمر العسكري رقم 9 (10 حزيران 1967) إمكانية الولوج إلى البنوك والمؤسسات الائتمانية، بالإضافة إلى القدرة على تجميد الأرصدة وحذف سجلّات المحاسبة؛ ومنع الأمر العسكري رقم 36 (18 حزيران 1967) إجراء المعاملات النقدية المباشرة وغير المباشرة بالعملة الأجنبية والذهب؛ وهلُمّ جرّا.
[136] Shehadeh 1985, 23.
[137] Farsakh 2005, 103.
[138] Shadid 1988, 129.
[139] مرجع سابق.
[140] مرجع سابق، ص 127.
[141] Samara 1989, 9, Farsakh 2005, 105.
[142] Samara 1989, 15.
[143]  Farsakh 2005, 105.
[144] مرجع سابق،  ص 105-106.
[145] Farsakh 2005, 109.
[146] Samara 1989, 16-17; Farsakh 2005, 104-106.
[147]  Samara 1989, 10.
[148] مرجع سابق، ص 16.
[149] Portugalli 1989, 78.
[150] Hiltermann 1991, 97
[151] Nitzan and Bichler 2002, 27, 128-132.
[152] Ruedy 1981, 52.
[153] Nitzan and Bichler 2002, 27.
[154] Shalev 1992, 303.
[155] Ruedy 1981, 54.
[156] Hanieh 2003, 11.
[157] Farsakh 2005, 55 .
[158] Benvenisti and Khayat 1988, 61-62, 113.
[159] Benvenisti 1987, 20-21.
[160] لنظرة عامة عن الحركة الاستيطانية، يُنظر: Zertal and Eldar 2009.
[161] Kahan 1987, 113.
[162] Benvenisti 1987, 130.
[163] Farsakh 2005, 225, n.3.
[164 [165] مرجع سابق.
[166] Hamed and Shaban 1993, 140.
[167] Farsakh 2005, 44.
[168] Shadid 1988, 125.
[169] Shelley 1989, 33.
[170] Shalev 1992, 18.
[171] للمزيد، يُنظر: Semyonov and Lewin-Epstein 1987, Portugalli 1989؛ حول استغلال العمالة الفلسطينية وتوزيعها يُنظر: Shelley 1989؛ وحول سياسات “الهستدروت” تجاه العمّال الفلسطينيين، يُنظر: Shalev .1992, 60-80
[172] Shalev 1992, 60; Shelley 1989, 48.
[173] Farsakh 2005, 119, 232 fn. 4.
[174] Farsakh 2005, 37.
[175] مرجع سابق.
[176] Yusif Sayigh 1988,  270-271.
[177] مرجع سابق.
[178] مرجع سابق، ص 466.
[179] Dakkak 1988, 290.
[180] مرجع سابق،  جدول 13.2، ص 292.
[181] Samara 1989, 20.
[182] Maoz 1984, 129.
[183] Thompson, 231.
[184] Samara 1989, 13.
[185] Rubin 1982, Sandler 1988, 55, Said 1992, 206-207.
[186] اقتباس لـ “بيغن”، ورد في: Hirst 1984, 385.
[187] Efrat 1988, 75.
[188] اقتباس لـ “دروبلس”، ورد في: Benvenisti and Khayat 1988, 64.
[189] Farsakh 2005, 58.
[190] Efrat 1988, 79).
[191] مرجع سابق.
[192] Shadid 1988, 126.
[193] Farsakh 2005, جدول 3.2، ص 62.
[194] Gazit 2003, 81.
[195] Benvenisti 1987, 144-145.
[196] Eyal 2002, 667.
[197] Eyal 2002, 664.
[198] Said 2003, 246.
[199] مرجع سابق، ص 224.
[200] مرجع سابق، ص 326.
[201] Eyal 2002, 657-659.
[202] مرجع سابق، ص 653.
[203] بحسب رفيقه في السلاح “شلومو غازيت”؛ Gazit 2003, 106.
[204] نفّذت وحدة المظليّين (202) إنزالاً عسكريّاً على ممرات ميتلا في مصر، حيث قتل 38 جندياً صهيونياً وجُرج أكثر من مئة، ممّا أعاق مسيرة “شارون” العسكريّة حتى منتصف الثمانينيّات؛  (Kimmerling 2003، 55-56). ويُمكننا الافتراض بأن العلاقة الشخصيّة بين “شارون” و”ميلسون” تعود، على الأقل، لتلك الفترة، نظراً لمشاركة “ميلسون” في العملية، يُنظر: (Rabinovitch 2007).
[205] Milson 1975, vi.
[206] Rabinovitch 2007.
[207] لم يُكمل “شارون” درجته الجامعيّة، حيث تمّ استدعاؤه لتشكيل وحدة (101) خلال دراسته؛ (Sharon and Chanoff 1989, 76-78).
[208] Milson 1970, Milson 1972, Milson 1999.
[209] Milson 1973.
[210]Milson 1972.
[211] Milson 1972.
[212] Eyal 2002, 670, 677-678.
[213] Gazit 2003, 78 fn.4.
[214] مرجع سابق.
[215] Milson 1981, 35.
[216] Said 2003
[217] (Milson 1972, 32.
[218] Cohen 1982, 8.
[219] Milson 1972, 341.
[220] Milson 1972, 36 fn.24.
[221] Massad 2007, 12-13.
[222] Milson 1972, 27.
[223] Kimmerling 1995, 56.
[224] Cohen 1982, 10.
[225] Milson 1973, viii.
[226] Maoz 1984, 127-128.
[227] Milson 1986, 17-18
[228] مرجع سابق، ص 18.
[229] Chomsky 1999, 58-59.
[230] للمزيد، يُنظر Eyal 2002, 65-67, 79-83.
[231] Hobsbawm 1990, 12-13.
[232] Maoz 1984, xiv, Cohen 1982, 11.
[233] Milson 1981, 25.
[234] Cohen 1982, 11).
[235] Baramki 2010, 72-73.
[236] Milson 1996, 181.
[237] Maoz 1984, xiv .
[238] Maoz 1984, xiv
[239] Eyal 2002, 692 fn.51.
[240] Stoler and Cooper 1997, 10.
[241] Milson 1972, 324.
[242] مرجع سابق، ص 330، 344.
[243] مرجع سابق، ص 340..
[244] مرجع سابق، ص 247.
[245] Milson 1972, 347.
[246] مرجع سابق، ص 339.
[247]  Milson 1972, 344.
[248] Milson 1981، 31.
[249]  Cohen 1982, 24.
[250]  Maoz 1948, 207.
[251] Milson 1986, 19.
[252] اقتباس لـ “ميلسون”؛ Maoz 1984, 198
[253]  Mahmoud 1985, 64.
[254] للمزيد حول هذه الخلافات وتفاعلاتها، يُنظر (Matthews 1998).
[255]  يزيد صايغ 1997 ، 471.
[256] Hirst 1984, 392.
[257] للمزيد حول تاريخ تشكيل وتوظيف “القرية العربية” كـ “موضوع خطاب”، يُنظر “غيل أيال”، نزع السحر عن الشرق، الفصل الخامس.
[258] لا يُستثنى سكّان المدن الفلسطينيين من النظر إلى القرويّين على أنّهم أميّون ومتخلّفون، وهو ما يشير له أحمد سامح الخالدي بوضوح في مقدّمته في “أهل العلم والحكم في ريف فلسطين”. (الخالدي 1968)
[259] Maoz 1984, 127.
[260] Milson 1973, x.
[261] Cohen 1982, 21.
[262] Samara 1989, 16; Shelley 1989, 34.
[263] Diwan and Shaban 1999, Table A1, pp. 96-97
[264] مرجع سابق.
[265] Farsakh 2005, 104.
[266] Gordon 2008, 90.
[267] Milson 1986, 21.
[268] Milson 1981, 35.
[269] Milson 1981, 31.
[270] Sandler and Frisch 1984, 153.
[271] مرجع سابق.
[272] Milson 1981, 31.
[273]  Richardson, Leagues out of their Depth 1982, 3-4.
[274] Rubin 1982, 184.
[275] Maoz 1984, 211, fn.77, Chomsky 1999, 59-60.
[276] Benvenisti 1987, 147-148.
[277] Khalifah 1985.
[278] للمزيد، يُنظر:Aruri 1985.
[279] للمزيد، يُنظر: Massad 2001, 261.
[280] Pearl 1995.