تشكّلت معادلة الردع المستجدّة في القدس ما بعد انتفاضة الأقصى بشكلٍ تدريجي عبر ثماني سنوات، لتستقرّ على أربعة عناصر مركزيّة وهي: العمليات الفردية والاحتجاج الشعبيّ والتفاعل الخارجي والمقاومة المسلّحة. واليوم، إذ يسعى الاحتلال لاختبار هذه المعادلة مرّةً بعد مرّة، فلا بدّ من الوقوف عندها للتفكير والتأمّل، حتى لا يتمكن المحتلّ من جرّنا إلى اختزال عناصر معادلتنا الناشئة من رحم الجماهير رغم برامج وأد المقاومة المطبّقة بأشكال متفاوتة في مختلف ثنايا جغرافيا النكبة الفلسطينية.

كانت العمليات الفردية أوّل عناصر هذه المعادلة ما بعد انتفاضة الأقصى، والتي يُؤرّخ لنهايتها في شهر آب/ أغسطس 2005 مع بدء تنفيذ الانسحاب الصهيوني من برّ قطاع غزة. جاءت العمليات الفردية بعد ضرب بنية الفصيل الفلسطيني في الضفة الغربية، وبعد تجربة “دايتون” والسلام الاقتصادي التي هيكلت المصالح الفردية للناس لتصبح بعكس مصلحتهم الجماعية. فجاءت العمليات الفرديّة بالسكاكين والدهس لتشكّل التعبير العاري عن إرادة المقاومة، حتّى وإن جُرّدت من السلاح والبُنى الفوقية، وتطوّرت أحياناً لتشمل الكارلو المصنّع محليّاً أو “الإم 16″، من خلال أفراد يبادرون إلى التخطيط والتنفيذ ودفع الثمن منفردين، لا يحتوي عملهم في الغالب الأعمّ على عنصر تنظيمي أو على خطوط تواصل، ما جعل التنبؤ بعملياتهم في خانة المستحيل أمنياً، وجعل استجابة الاحتلال المركزية تجاههم برفع ثمن عملياتهم على عائلاتهم ومحيطهم الاجتماعي علّه بذلك يتمكن من ردع المبادرين المنتظرين لدورهم في المجتمع.

دخل هذا العنصر إلى الفعل في 2 تشرين أول/ أكتوبر 2015 مع انطلاق “هبة السكاكين” التي استمرت لثلاث سنوات تقريباً، وشارك فيها مبادرون من القدس والضفة الغربية والأراضي المحتلة عام 1948 والأردن وكانت القدس ساحتها الأساسية، وكان التحدي الذي دفع هذا الفعل الفردي إلى التفجُّر والمبادرة محاولةَ حكومة الاحتلال فرض التقسيم الزماني في المسجد الأقصى المبارك بحصر الدخول إليه في اليهود خلال الأعياد اليهودية، ومنع المسلمين بمن فيهم موظفي الأوقاف من دخوله، والتنكيل بالمرابطين والمرابطات على أبوابه، فانطلقت موجة العمليات تلك وتمكنت خلال ثلاثة أسابيع فقط من فرض التراجع على الاحتلال من خلال تفاهمات “كيري” التي أُعلِنت في عمان في 24 تشرين أول/ أكتوبر 2015، والتي أعلن المحتل بعدها منع اقتحام أعضاء حكومته وبرلمانه.

أما العنصر الثاني، فكان الاحتجاج الشعبي بأدواته البسيطة كالحجارة وإحراق العجلات وإغلاق الشوارع ورفع الأعلام، وهو يشكل التعبير الجماعي عن الإرادة العارية بأبسط الأدوات، وقد عاد إلى المشهد لأول مرة بعد انتفاضة الأقصى في شهر تموز/ يوليو 2014 في “هبّة رمضان” أو “هبّة أبو خضير” التي انطلقت عقب إحراق المستوطنين للفتى الشهيد محمد أبو خضير حياً، ولم تلبث هذه المواجهة أن انتقلت إلى جبهة غزة لتتحول إلى حربٍ شاملة. قد يدفع هذا إلى القول بأن هذا العنصر كان الأول في دخول المشهد من بعد انتفاضة الأقصى، إلا أنه في رمضان 2014 حضر بشكله الأولي الذي لم يلبث أن تطور وتبلور أكثر في 14 تموز/ يوليو 2017 مع هبّة باب الأسباط، مع رفض المرابطين الدخول من البوابات الإلكترونية والاعتصام على أبوابه لحين إزالتها، وهو اعتصام بدأ بأعداد قليلة لم تزد عن مئات، ثمّ لم يلبث أن تحول إلى حالة جماهيرية عفوية تجمع عشرات الآلاف، يبادر كل منهم للقيام على ثغره وأداء دوره دون الحاجة إلى قيادة وتوجيه، وكان هذا الاعتصام يزداد عدداً في كل يوم، ويزداد عناداً وإصراراً إذ لا تلبث نقاط القمع أن تعود عامرة بالمعتصمين بعده بدقائق.

لقد تجدّد هذا العنصر الفعال ومضى إلى الأمام أكثر مع هبّة باب الرحمة عام 2019، حينما تمكن منفرداً من إعادة فتح مصلى باب الرحمة خلال خمسة أيام من الاحتجاج والمواجهات بعد 16 عاماً من إغلاقه، وبعد تخطيط صهيوني طويل الأمد على اتخاذه مُنطَلقاً للتقسيم المكاني، ثم حضر بشكلٍ بدا معه أن جماهير القدس باتت تثق بقدرتها على فرض التراجعات على المحتل متى ما حضرت إلى الميدان، ففرضت ذلك ثلاث مراتٍ في رمضان 2021: في هبة باب العامود مطلع رمضان، ثم في حي الشيخ جراح وأخيراً في اقتحام 28 رمضان. لقد تطوّرت تلك الاندفاعات الشعبية العفوية إلى حراكات منع متكرّرة؛ تنطلق لتمنع المحتل من فعل محدّد، وتتمكن بالفعل من تحقيق هدفها فتنتهي، وتمهّد بنجاحها للاندفاع المقبل.

ثمّ جاء العنصر الثالث في التفاعل الخارجي مع المواجهة في القدس، مُشكّلاً عنصراً فعالاً يوصل صوت القدس رغم أن مواجهاتها كانت وما تزال تجد صعوبة شديدة في الانتشار نحو الضفة التي يقودها مشروع مُصمَّم لتخديرها ووأد إرادة الفعل فيها، وليشكل مدداً للروح المعنوية للمقدسيين في خروجهم إلى الشارع. لقد كان التفاعل الخارجي حاضراً في هبّة السكاكين 2015 منذ أسبوعها الأول، وفي 2017 تطور ليصل إلى مظاهرات حاشدة في الجمعة الأولى للهبة، ولعملية فردية في السفارة الصهيونية في عمان، وكان الأردن المركز الأبرز والأكثر حيوية لهذا التفاعل، يليه لبنان والمغرب، وكانت ساحات اسطنبول وكوالالمبور –وجاكرتا إلى حدّ أقل- حاضرة في تلك المحطات لتشكل بعداً إسلامياً واسعاً لهبات القدس، وقد وصل هذا التفاعل ذروته في رمضان 2021؛ إذ بدأت المواجهة من نقطة متقدمة من الاهتمام والتفاعل كانت قضية حي الشيخ جراح قد نجحت في صناعتها.

لقد انتقل هذا العنصر في رمضان 2021 من دور إيصال الصوت وإسناد الروح المعنوية للجماهير في القدس وفلسطين إلى فرض حالة عزلة على الصهاينة، واستعادة الإدانة الدولية الواسعة للاحتلال من حيث هو ظلم لا يحتمل معه الصمت أو المجاملة، وهو تطور يستعيد مكانة الحق الفلسطيني في قلب الاهتمامات العالمية رغم إرادة تغييبه وطمسه.

فيما يتمثّل العنصر الرابع في محاولة المقاومة في غزة الالتحام المبكر مع مشهد القدس في 2014 كي تكسر قواعد الاشتباك الغزّية المحلية التي يحاول الاحتلال حشرها فيها، فهذه المقاومة لم تنشأ لتنير الكهرباء وتدخل الوقود والدواء والطعام وتوسع مساحة الصيد، فهذه متطلبات وجودية لكل إنسان، بل نشأت وعينها على تحرير الأقصى والقدس وكل شبرٍ من أرض فلسطين. لم يسمح ميزان القوى في 2014 بفرض هذا الالتحام، وتمكن المحتل بمقدار النيران والقتل وطول أمد الحرب من إعادة المقاومة إلى أولوياتها الغزية رغم ما تمكنت من تحقيقه من إنجازات ميدانية وتحديداً في القتال البري، والذي كان جسراً ضرورياً للوصول إلى معادلة اليوم حين تمكّن من كي وعي “الجيش الذي لا يُقهر”، ليشكل استراتيجيته في الحرب التالية على تجنب الاحتكاك البري بكل أشكاله.

في 2021 كانت الحالة مختلفة، وكان ميزان النار من حيث النطاق والكثافة والقدرة على تعطيل الحياة وإحداث الأضرار أكثر اتزاناً، وجاء التحام الجبهات وانتشار عناصر القوة هذه إلى الداخل المحتل عام 1948 وتعزيز معادلة التفاعل الخارجي بالمسيرات إلى الحدود ومحاولات اختراقها لتصنع مشهداً متكاملاً أقرب إلى صورة “معركة يوم القيامة” التي يتخوف منها العقل الصهيوني ويسعى جاهداً إلى تجنب حصولها، حيث تتفجر كل الجبهات في وجهه لتوصله إلى حالة تهديدٍ وجودي.

والتفكير في حركية هذه المعادلة وعلاقة أطرافها ببعضها البعض يوصل للاستنتاجات التالية:

أولاً: لقد تشكلت هذه العناصر الأربع عبر الزمن ومن خلال تجارب متتالية، وكانت تتضافر وتتزامن في بعض المواجهات كما في هبة باب الأسباط 2017 وأحداث رمضان ومعركة سيف القدس في 2021، لكنها كانت تتجلى منفردة أحياناً كما في هبة السكاكين 2015 أو في هبة باب الرحمة 2019، أي أن هذه العناصر لا تكون حاضرة جميعاً في كل مواجهة بالضرورة، وأن حضور أحدها كان كافياً لفرض تراجعات صهيونية في بعض الحالات، لكنها حين تحضر مجتمعة ومتناغمة فإنها تفرض تراجعات أكبر وأشمل كما في 2017 و2021، كما أنها تتطور وتتعمّق عبر الزمن وتزداد قدرة وتأثيراً.

ثانياً: عنصرٌ واحد من هذه العناصر يقع تحت التحكم المباشر لإرادة سياسية وهو السلاح في غزة، أما عناصر العمليات الفردية والإرادة الجماهيرية والتفاعل الخارجي فهي عناصر لا تتحكم بها أي إرادة مباشرة، وهي أقرب إلى أن تتفجر بسبب نضوج ظروفها الموضوعية اعتماداً على المبادرة الفردية والانطلاق الجماهيري العفوي، وقد يعني هذا أن الميل لاستحضار العنصر المتحكم به يمكن أن يختزل العناصر الأخرى للمعادلة إذا جاء مستعجلاً، أو بات اللجوء إليه خياراً مُستسهلاً، بحيث لا يتيح المجال لتوفر الأسباب الموضوعية لحضور العناصر الخارجة عن السيطرة. بلغة أخرى؛ لقد تمكن الفعل المسلح المقاوم من البناء على الإرادة الجماهيرية وتعزيزها لأنه انطلق بعد تفجرها، بعد أن انطلقت هي وتصدت للتحدي بكامل العنفوان والتضحية، فبنى عليها ولم يكن بديلاً عنها، ولا بد من مواصلة التدخل انطلاقاً من هذه المعادلة لحين تطويرها.

ثالثاً: لا بدّ من تعديل يسمح بإدخال عناصر أكثر إلى خانة الإرادة المباشرة، فحضور إرادة المقاومة في العمل الفردي ممكن لكن لا بد له من آليات عمل مختلفة؛ وهذا ما لم يتمكن الفصيل الفلسطيني من التوصل له حتى الآن بكل أسف. كما أن الاندفاعات العفوية المتتالية يمكن لها أن تتطور من كونها مؤقتة لتصبح انتفاضات طويلة الأمد إذا ما حضر عنصر التنظيم في الحراك الجماهيري.

 وعملياً نحن هنا أمام خيارين: إما الاستعداد لاستدامة الانطلاقة العفوية التالية حتى تتحول إلى حالة انتفاضة تفرض إنجازات شاملة، وهذا له ظروف واشتراطات؛ وإما الاستعداد للانطلاقة العفوية التالية لفرض أكبر قدرٍ ممكن من التراجعات خلالها، وبناء الإنجازات بالتراكم والتكرار، فتصل الاندفاعات الشعبية المتتالية مع الزمن وتراكم التراجعات المتتالية إلى ما كان يمكن لانتفاضةٍ من عدة شهور تحقيقه، لكن بزمنٍ أطول وطريقة مختلفة من التكيف تنتقل من التحكم إلى المواكبة والاستثمار، وهذا ما بات الفصيل الفلسطيني يطور إمكاناتٍ في اتجاهه مؤخراً، ولعل هذا يتطلب التوقف عنده بحد ذاته في مساحة أخرى تستقرئ الاحتمالات والواجبات ما بعد الهبة الشعبية في رمضان ومعركة سيف القدس التي تلتها وبنت عليها، ففرضت توازنات جديدة غير مسبوقة في هذا الصراع، ما زلنا بحاجةٍ لاستجلائها.