بدأت السلطات الأستراليّة منذ أيامٍ قليلةٍ حملةً لإعدام عشرة آلاف جملٍ رمياً بالرصاص، وذلك بعد أن اعتبرت الجمال البريّة أحد أسباب موجة الحرائق الأخيرة غير المسبوقة التي شهدتها القارة. واتّهمت الجِمال باستهلاكها كمياتٍ كبيرةً من المياه القليلة ورعيها الجائر، ولم تقف لائحة الاتهام ضد الجمال عند هذا الحدّ إنّما تعدّتها لتقول إنّ الغازات التي تطلقها من عوامل تفاقم الاحتباس الحراري! 

تأتي هذه الحملة الدموية الجديدة ضد الجمال استمراراً لعمليات القتل المتواصلة منذ سنواتٍ طويلةٍ ضد الإبل البرّية، والتي تعرّفها السلطات الرسمية كـ”آفةٍ زراعيةٍ” يجب مكافحتها، وتردف بأنّ عددها الذي يتراوح ما بين المليون والمليون ونصف أكبر بكثيرٍ من قدرة النظام البيئي للمنطقة الوسطى على الاحتمال. وإن كانت السلطات الأسترالية الاستيطانية تقدّم رزمةً من المبرّرات البيئية والثقافية والاقتصادية لتبرير حملة الإبادة هذه، إلا أنّ المبرّر الرئيسي هو الخسائر التي تسبّبها الجمال لمربّي الماشية البيض، فالجِمال تنافس الأبقار والخراف على المراعي والمياه، ولا تعترف بالسياجات التي تحيط بالمراعي فتدمّرها إذا ما اعترضت طريقها.

وعند ذكر السياجات، يطلّ التاريخ الطويل للاستيطان الإبادي برأسه من وراء ستار الخطاب البيئي والعقلاني للسلطة. ومن المضحك المبكي أن يصرّح المستوطنون البيض، بلكنتهم البريطانية البغيضة، في حملتهم لشيطنة الجمال تمهيداً لقتلها، أنّ الجمل في أستراليا حيوان غير “أصلاني”. ذكّرني هذا بأولاد عمومتهم من المستوطنين الصهاينة في بلادنا، وهم يتحدثون عن خطر طائر “الغراب الهندي” على النظام الحيويّ في فلسطين لكونه جنساً غازياً وليس “أصلانياً”. 

في بداية تطبيق ما سُمّيت بـ”الخطة الاستراتيجية للتحكّم بالإبل البرّية في أستراليا”، الاسم العلمي لحملة الإبادة، عارض أهل البلاد “الأبروجينلز” مبدأ قتل الجِمال بدون أن يكون هدف القتل الانتفاع من لحومها، وآمنوا بحق جميع الحيوانات بالحصول على حصّتها من الموارد الطبيعية في أستراليا الشاسعة. وهنا كان لا بدّ للسلطات الأسترالية شنّ حملات “توعيةٍ” بين “الأبروجينلز” حول أهمية برنامج إبادة الجِمال وفوائده حتى تمّ إقناعهم بالتعاون مع السلطات.   

جمل الاستعمار بما حَمل

للجِمال في أستراليا تاريخٌ دمويٌ طويل، فقد شكّلت لحظة استقدامها إلى القارة المستعمَرة من قبل البيض نقطة تحوّلٍ حاسمةً في المشروع الاستيطاني الأنجلوسكسوني للقارة. في العام 1847، بدأ المستوطنون البيض باستيراد الجِمال من شبه القارة الهندية بلوشستان والعراق واليمن وعُمان، بغرض استخدامها كوسيلةٍ للنقل تلائم مسعاهم لشقّ الطرقات والاختراق الاستيطاني في العمق الداخلي في أستراليا ذي المناخ الصحراوي، بعدما عجزت الخيول عن القيام بهذه المهمة بسبب عدم قدرتها على تحمّل العطش، فضلاً عن قدرتها المتواضعة على حمل العتاد والمؤن. ومع هذا، لم تكن قدرة الجمال على تحمّل العطش لأيامٍ والسير في الصحراء والأراضي الموحلة بعد الفيضانات، والحمولة الكبيرة التي يقدر الجمل على حملها، هي ما أهّل الجِمال لهذه المهمة الاستيطانية فحسب، وإنّما أيضاً الميزة الدفاعية التي منحها علوّ جسد الجمل لراكبه من حيث القدرة على الاستطلاع والمراقبة في عمليات غزو التخوم الأسترالية. 

وبعد مجموعةٍ من التجارب الفاشلة في التفاهم مع الجِمال، وجد المستوطنون البيض أنّه، ومن أجل الاستفادة القصوى من طاقات الجمال وقدراتها، من الأنسب استقدام سائسيها “الأصلانيين” معها من بلادها، وبهذا بدأ سائقو الجمال الأفغان والعرب والإيرانيّون والترك بالتوافد على أستراليا، والذين أطلق عليهم البيض اسم “أفغان” دونما تمييزٍ بينهم، واكتفوا لاحقاً باسم “غان”.

لاحق الإعدام رمياً بالرصاص الجِمال في أستراليا منذ أول وجودٍ لها في القارة المستعمَرة، فقد كانت نهاية الجمل الأول، والذي سمّاه البيض “هاري” ووصل أستراليا في عام 1847، الإعدامَ رمياً بالرصاص. ففي أثناء حملةٍ استكشافيةٍ استيطانيةٍ، كان المستوطن الطليعي “جون” صاحب الجمل منهمكاً في حشو بارودته بالرصاص عندما دفعه “هاري” فجأةً فانطلقت رصاصةٌ فجرت أصابعه وأسنانه، ومات بعدها بحوالي الشهر بسبب إصابته بـ “الجارجرينا” قبل أن يترك وصيته الأخيرة بإعدام الجمل “هاري” رمياً بالرصاص، وبهذا أبرأ “جون” “هاري” ممّا رماه به المثل العربي “أحقد من جمل”.

في العام 1857، انطلق الأنجلوسكسوني “توماس ألدر” في رحلةٍ عبر الصحراء محمولاً على الجمال من القاهرة إلى القدس، تعرّف خلالها على قدرات الجمال ومواهبها، ويبدو أنّ رحلته هذه فتحت عينيه على قدرات الجمال التي يمكن الاستفادة منها في استيطان أستراليا. وبعد عودته، دشّن الاستيراد التجاري للجمال بعدما كانت تستورد بشكلٍ فردي، وأنشأ المزرعة الأولى لتربية الجِمال واستيلادها في أستراليا. 

وهكذا، بدأت الجمال يسوقها “الغان” بأداء المهمة التاريخية في إعانة “الرجل الأبيض على حمل عبئه” في شقّ الطرق وخطوط التلغراف ومدّ سكك الحديد في العمق الأسترالي، ومنها الخط العابر للقارة من ميناء “أوغستا” إلى ميناء “دارون” في الشمال، والبالغ طوله 2900 كم. وكان يُطلق حتى زمنٍ قريبٍ على المقطع الأول من الخط اسم “الغان” تخليداً لسائقي الإبل الأفغان. وحملت الجِمال المؤن والمعدّات ورجال الشرطة والسياجات، وخاصةً المواد الأولية “للسياج ضد الأرانب” التاريخي، والأهم من ذلك كله المساهمة الفاعلة في “حمّى” استخراج الذهب في العام 1851، والتي شكّلت عاملاً حاسماً في تطوّر الاقتصاد الاستيطاني في أستراليا.

أُعجب المستوطنون بالجِمال وقدرتها على الحمل والتحمّل، وأُعجبوا بـ”الأفغان” سائسي الجمال المنضبطين في عملهم، إذ لا تتوقف المسيرة الاستعمارية التي تجرّها جِمالهم إلا لأداء الصلاة، ثمّ يطوون سجاداتهم وتستمر المسيرة. بدأت شخصية “الأفغاني” تتحول إلى شخصيةٍ رومانسيةٍ في المخيّلة الاستعمارية البيضاء، “العمالقة الشجعان قاهري الصحراء بالبوصلة والقرآن”، كما وصفوهم. وبالطبع، لم يكن الإعجاب “والرمسنة” سوى أحد تجلّيات العنصرية البيضاء إزاء الأفغان المسلمين الذين سكنوا في أكواخ بعيدةٍ عن البيض قريباً من السكان الأصليين، وقد أثمر هذا القرب حالات زواجٍ بين الفئتين المستعمَرتين، واعتنق بعض السكان “الأصلانيين” دين سائقي الجمال الذي يطلب من المؤمن الجديد به تغيير سلوكه لا تغيير هويته، على عكس ما عناه اعتناق دين الرجل الأبيض، وبنى الأفغان أينما حلّوا مسجداً، وإليهم تعود أقدم مساجد أستراليا إلى يومنا هذا.

وكالعادة، ما من نهاياتٍ سعيدةٍ في قصص الاستعمار، بقي “الغان” وثقافتهم محلّ إعجاب وتقدير المستوطنين البيض إلى أن استنفذوا دورهم في شقّ الدروب في البراري التي لم يقدر عليها المستوطنون البيض. وبعد حوالي خمسين عاماً من قدوم “الغان” واحتكارهم لمهنة النقل البريّ، أعلن المستوطنون البيض الحربَ عليهم وتولّى هذه المهمة سائقو عربات الخيول السداسية البيض، بعدما عجزوا عن منافسة الأفغان في أسعار النقل ومجاراتهم في تفانيهم في العمل. عندها بدأت حملةٌ منظمةٌ لشيطنة الأفغاني وجمَله، ووصفه بـ”البدائي الوسخ” الذي يلوّث برك المياه هو وجِماله، ويسعى للاستحواذ على نساء البيض. ولم يتأخّر الجهاز القانوني كثيراً بالالتحاق بالحرب على الأفغان وجِمالهم، فصدر في العام 1902 قانونٌ يحدّ من حركة الجِمال وإلزام أصحابها بالحصول على تراخيص لها وفرض ضرائب عليها، كما قلّدهم أبناء عمومتهم الصهاينة قبل سنتين في إصدار قانون ترخيص وتعقّب جمال “النقب”.

وما أن دار أوّل محركٍ في المركبات التي تعمل على الوقود في أستراليا حتى صدر في العام 1925 قانون “القضاء على الجمال” والذي يُلزم الأفغان بقتل جمالهم رمياً بالرصاص. أحبّ الأفغان جِمالهم وأشفقوا عليها، فلم يقتلوها رمياً بالرصاص كما أمرهم القانون، وإنّما أطلقوها في الصحراء في بلاد الله الواسعة مثلما فعل الحارس في مأساة “أوديب”… 

ومنذ ذلك الحين وجِمال الأفغان تجوب الصحاري وتتكاثر وتتكاثر وتخرّب السياجات وتغضب رعاة البقر. أما الأفغان، فبدأوا بالعودة إلى بلادهم بفعل الحملات المنظّمة لملاحقتهم وشيطنتهم والتضييق عليهم في أرزاقهم ووصولاً إلى منعهم من الحصول على الجنسية، ولم يبقَ منهم إلا القليل في أستراليا.

(جنود أستراليون من "فيلق الهجانة الملكي" بالقرب من يافا خلال الحرب العالمية الأولى)

“فيلق الهجانة الملكي”

أنشأ الإنجليز في العام 1916 فيلق الهجانة الملكي أثناء حربهم في قمع الثورة السنوسية في الصحراء الغربية في مصر ضدهم، ولعب هذا الفيلق لاحقاً دوراً مفصلياً في الحملة الإنجليزية على فلسطين خلال الحرب العالمية الأولى، وخاصةً في معارك سيناء وغزة وبئر السبع. وما إنْ بدأت الحرب حتى عَمَد عبد الواحد “أمير الأفغان”، الذي بنى إمبراطوريةً ماليةً من تجارة الجمال والنقل في أستراليا، إلى الاتصال بوزير الدفاع البريطاني لإمداد فيلق الهجانة الملكي بـ 500 جملٍ من خيرة جماله. ويبدو أنّ عبد الواحد وجد في الحرب فرصةً ذهبيةً لإظهار صدق انتمائه و”وطنيته” الأسترالية في ظلّ الحملة على الأفغان، وذلك مع تصاعد حالة العداء ضد “لابسي العمامات” بعد هجوم رأس السنة 1915، حينما نفّذ اثنان من الأفغان يحملان الراية العثمانية هجوماً على قطار ركابٍ وأطلقوا النار على المسافرين ما أدى إلى مقتل أربعةٍ من البيض.

ولكن كما تقول الأغنية “قلبي يريد البيض والبيض ما يرداني” ، لم تقبل وزراة الدفاع سوى ستة جِمالٍ من عبد الواحد، وذلك على ما يبدو لإثبات أنّهم لم يعودوا بحاجةٍ إلى الأفغان وخبراتهم في الحصول على الجمال وسيّاستها بعد أن استحوذوا على المعرفة والخبرة وصيّروها مكوّناً من هويتهم الحربية “الوطنية”، بدليل أنّ فيلق الهجانة الملكي احتوى على فرقتين ونصف مكونةٍ من الجنود الأستراليين، من أصل أربع فرقٍ، والباقي من جنودٍ بريطانيين ومن نيوزليندا، وبلغ عديده 4000 مقاتلٍ و4800 جمل .

حملت الجِمال جنود المشاة الأستراليين وبطاريات المدفعية من عيار 2.75 بوصة ومفارز رشاشات “الفيكرز “، والتي بدونها لم يكن الانتصار البريطاني في الحملة على فلسطين ممكناً. وما إن صارت جبال القدس ميدان المعارك مع العثمانيين، ولم تعُد الجمال ذات فائدةٍ في البيئة الجبلية استُبدلت بالخيول. ومع كلّ ما قدّمته من خدماتٍ “جليلةٍ”، لم تسلم من لسان الجنود الذين وصفوها في مذكّراتهم بأنّ “رائحتها كريهة “وركبتها” غير مريحةٍ وكسولة، وهذه الصفات تدفع الرجل الأبيض إلى الجنون…”

*****

المراجع:

 

Clark, Arthur. “Camels Down Under.” Aramco world 39.no1(1988)؛ (استُرجع في 10/1/2020، رابط).
Hart, Quentin, and Glenn Edwards. “Outcomes of the Australian Feral Camel Management Project and the future of feral camel management in Australia.” The Rangeland Journal 38, no. 2 (2016): 201-206؛ (استُرجع في 9/1/2020، رابط).
Hente, Corinna. “The king of the Cameleers- the rebellious patriotism of Abdul Wade؛  (استُرجع في 9/1/2020، رابط).
Jones, Philip, and Anna Kenny. Australia’s Muslim cameleers: pioneers of the inland, 1860s-1930s. Wakefield Press, 2010.
Ulrichsen, Kristian Coates. The first world war in the Middle East. Hurst, 2014