يتناول المقال تجربة هيئة السلم الأهليّ في مدينة جنين، وبالتحديد في قرية السيلة الحارثيّة، والتي تشكّلت في عام 2016، بمبادرةِ عددٍ من الشخصيّات المقبولة اجتماعياً في القرية، بهدف حلّ مشاكل الدمّ والثأر وإصلاح ذات البين.

*الصورة الرئيسيّة: الشيخ محمد يوسف جرادات متوسّطاً ممثلَيْن عن عائلتي أبو دواسة وآل واكد في جلسة صلحٍ بين العائلتين، في مطلع العام 2018. (تصوير استديو ألوان- السيلة الحارثيّة)

توطئة

“يعرّف أفلاطون الإنسان بأنه “حيوانٌ سياسيٌّ”، وقد ترجمها مفكرونا بأنّه “حيوانٌ اجتماعيٌّ”، لأنهم ظنّوا بأنّ الصفة الجامعة للبشر هي الاجتماعيّة لا السياسيّة. لأنّه في هذه الحالة يكون السياسيون فقط هم البشر، أمّا سواد الناس الذين لا يعملون بالسياسة أو يفكرون فيها، فهم ليسوا بشراً. في حين أنّ الاجتماعيّة ليست صفةً خاصّةً بالإنسان، لأن كثيراً من الحيوانات أكثرُ اجتماعيةً من الإنسان، مثل نحل العسل. إنّ كون الإنسان سياسيّاً هي خاصيته، والمقصود بصفة السياسة، الرؤية والميل الذي يربط الفرد بمصير المجتمع الذي يعيش فيه، وهذه الصفة هي موضع تجلي الإرادة والوعي والاختيار عند الإنسان، بحيث يحسّ أنّ وضعه الاجتماعيّ مثل وضعه الطبيعيّ، أيّ أنْ يحسّ بموقعه في الطبيعة أو المجتمع ويعيْه، ويتدخل فيه مؤيّداً أو معارضاً أو مغيّراً لبنيته”. (بناء الذات الثورية، علي شريعتي)

يدفعنا الانطلاق من أنّ خاصيّة الإنسان سياسيّةٌ في جوهرها إلى البحث في أهميّة تسييس الفعل والجماعة الفاعلة، والتميّيز بين الفعل المُسيّس ونظيره التقنيّ المجرّد من سياقه السياسيّ. إذ ترتبط هذه الخاصيّة بقدرة الفرد على بناء ذاته والتأثير في تفاعلاته الاجتماعيّة والذوبان في الجماعة؛ ذوبانٌ يتيح له العمل على صلاح الجماعة وإخراجها من قابليّتها للاستبداد أو الاستعمار. بينما يتمّ عادةً إخراج الفعل التقنيّ، المجرّد من سياقه السياسيّ، من سياقه الثوريّ المؤثِّر والمُتأثِّر، وبالتالي تجريده من جوهره.

في المسلسل الدراميّ التاريخيّ اللبنانيّ “قيامة البنادق”، تدور الأحداث في جبل عامل، مُتقاطعِةً بين السياسيّ الوطنيّ والعاطفيّ، ومُعالِجةً مواقفَ أهالي جبل عامل المختلفة حِيالَ انتهاء مرحلة السيطرة العثمانية وبدايات الاستعمار الحديث في المنطقة.

هناك في جبل عامل، يقع شابّان في حبِّ الفتاة الجميلة جمانة؛ وهما عبّاس (ابن أبي حيدر) وسالم (ابن أبي سالم)، لتندلع مشاداتٌ كلاميّةٌ بينهما على إثر ذلك. أمّا هي، فترى في عبّاس زوجها المستقبليّ، لكنّ والدها يرفض زواجهما بسبب اختلافه مع والد عبّاس (أبي حيدر)، الذي يرفض تحرّر العرب من “استعمار” الدولة العثمانيّة واستبدادها عبر مُستعمِرٍ أجنبيٍّ ثانٍ، مؤمناً بوجوب تحلّيهم بالوعي والحكمة، بهدف التصدّي لأيّ تدخّلٍ خارجيٍّ. بالمقابل، يرى أبو جمانة في المستعمِر الفرنسيّ مُنقذاً ومُخلّصاً من الاستبداد العثمانيّ.

وكطريقةٍ لافتعال الفتن وإشغال الناس عن التوسّع اليهوديّ وتكاثف هجراتهم، يقتل “سمعان” اليهوديّ “سالماً”، ليفترضَ الجميع أنّ عباس هو القاتل، وبذلك تنشب فتنةٌ كبيرةٌ، تُكلّف أبا حيدر حرق منزله وتشريده وعائلته. عندما سمِع أبو حيدر أنّ ابنه متّهمٌ بالقتل، وأنّ أهل القرية قد حرقوا منزله أثناء تواجد زوجته وبناته فيه، قال لأبنائه: “من يصون الأرض، يصون العرض، عارفين شو لازم تعملوا يا شباب“، ليذهبَ الأبناء الثلاثة، ويستخرجوا أسلحتهم المخبّأة في مغارةٍ ما، ويكمنوا لتجريدةٍ عثمانيّةٍ، مشتبكين معها قبل أن يفرّوا من المكان، ليكونوا بذلك قد صدّروا غضبهم وتناقضهم الاجتماعي نحو عدوّهم.

ليس ما يحاول المسلسل تقديمه منسوجاً من الخيال، إنّما واقعٌ يوميٌ مُعاشٌ في حياة الشعوب المستعمَرة، يسعى فيه الاستعمار لإشغال المستعمَر بذاته، واستغلال تناقضاته الداخليّة بهدف تفكيك الروابط الاجتماعية، من أجل فرض سيطرته كمستعمِرٍ. وخيرُ ما تفعله الشعوب المستعمَرة هو تجاوز هذه التناقضات والتفرّغ للتناقض الرئيسيّ، الذي ستعالج مواجهته الكثيرَ من التناقضات الثانويّة، أو مواجهتها عبْر تصديرها نحو التناقض الرئيسي، كما فعل أبو حيدر.

بناءً على ما سبق، يحاول هذا المقال فهم أهميّة البنى الاجتماعيّة وتفاعلاتها، مع استحضار أهمية جانبها السياسيّ، وكيفيّة حمايتها من قابلية الاستبداد، فضلاً عن حسم علاقتها مع الاستعمار والتعامل مع تبعاته ومعوّقاته، من خلال استعراض نموذجٍ للبناء الاجتماعيّ في فلسطين. يتناول المقال تجربة هيئة السلم الأهليّ في مدينة جنين، وبالتحديد في قرية السيلة الحارثيّة، والتي تشكّلت في عام 2016، بمبادرةِ عددٍ من الشخصيّات المقبولة اجتماعياً في القرية، بهدف حلّ مشاكل الدمّ والثأر وإصلاح ذات البين.

اقرأ/ي المزيد: إحكيلي إحكيلي عن بلدي إحكيلي: السيلة الحارثية.

تداعيات تشكيل هيئة السلم الأهلي

في عام 2014، خرج الأسير أيمن جرادات، ابن قرية السيلة الحارثيّة، من سجون العدوّ، ضمن صفقة تبادل “حسن النيّة مع الرئيس محمود عباس”، بعد أن كان قد حُكم عليه بأربعة مؤبّداتٍ. وبعد 21 عاماً، خرج من السجن ليتلقى استقباليْن نقيضيْن؛ أحدُهما حافلٌ من أهل قريته والقرى المجاورة، والآخر من نوعٍ مختلفٍ تماماً، فحينما وصل بيته، وجد هديّةً مغلّفةً؛ كفنٌ أبيضٌ يحذّره من موتٍ قريبٍ ويشيرُ إلى موعد الانتقام والثأر.

في عام 1992، قُتل عدنان أبو جاسر. تعددتْ الرواياتُ حول دوافع القتل، لكنّ أصابع الاتهام جميعها كانت تُشير إلى أيمن جرادات، مُدركاً بدوره منذ اللحظة الأولى لخروجه من السجن أنّ عائلة المرحوم أبو جاسر لا تزال تعتقد أنّه قاتل ابنها وتطلُب الثأر. لم تتوقف رسائل العائلة عند هدية الكفن، بلّ أُطلق النار على حفل زفاف جرادات، ووصلتهُ مختلف رسائل التهديد، ليدركَ مجدداً أنّه مهددٌ بالقتل في أيّة لحظةٍ.   

من طرفها، عرضتْ السلطة الفلسطينيّة، متمثّلةً بالرئيس محمود عباس وقيادات جهاز الأمن الوقائي، على الشاب جرادات إقامةً في شقةٍ في منطقة البيرة، داخل حدود “المربع الأمنيّ”، لكنّه رفض الطلب، بقولٍ يُنقل على لسانه: “أنا طلعت من السجن مشان آجي ع سجن ثاني؟ أنا بدّي أعيش بين قرايبي وأهل بلدي، أنا بدي أنزل عالحارة وأشتري جاجة وبندورة، بديش سجن ثاني”.

عاد أيمن جرادات إلى السيلة الحارثيّة في عام 2014، وعاش فيها بقلقٍ وحذرٍ شديديْن دون أن تُغلق صفحة الثأر مع عائلة أبو جاسر. وبعد ثلاث سنواتٍ، وتحديداً في شهر شباط عام 2016، استغلّت عائلة المرحوم أبو جاسر حفل استقبال أسيرٍ آخر في القرية كان قد أمضى 14 عاماً في سجون العدوّ، مستغلّةً كثافة الناس في الحفل، و”شرعيّة” حمل السلاح، وأقدمتْ على قتل أيمن جرادات.

قُتل أيمن، وجنّ جنون عائلته، فهاجموا بيوت عائلة أبو جاسر وحرقوا وهدموا البيوت فارغةً، واعتبروا جميع أفرادها مسؤولين عن قتل ابنهم أيمن. غادرت عائلة أبو جاسر القرية مباشرةً بعد ذيوع خبر مقتل أيمن.

وفي شهر آذار، تطوّرت المشكلة بين العائلتين لتتحوّل إلى عمليات تبادلٍ لإطلاق النار، فبدأتْ كلُّ عائلةٍ باقتناء السلاح وتكثيفه. وعلى إثر ذلك، ومع مطلع شهر نيسان، بدأتْ الأجهزة الأمنيّة بحملات تفتيشٍ واعتقالاتٍ لمصادرة السلاح المُنتشر في القرية، واندلعتْ اشتباكاتٌ بين مسلّحي القرية والأجهزة الأمنيّة بعد كلّ اقتحامٍ، ما أدى في نهاية المطاف لمقتل الشاب عادل جرادات (19 عاماً) برصاص الأجهزة الأمنيّة، في تموز عام 2016.

وفي خضمّ هذه الأحداث، يُمكننا القول إنّ الجهات الرسمية لم تكن تمتلك طرحاً لحفظ أمن القرية أو تنظيمها مجتمعيّاً، كما لم تقدّم أيّة محاولاتٍ جادّةٍ لحلّ الخلاف بين العائلتين. بلّ على العكس، ساهم تدخّلها في تأجيج الخلاف وإراقة المزيد من الدماء، مُقتصراً دورها على عرض بدائل أمام أيمن جرادات، قبيل مقتله، للخروج من القرية، فضلاً عن اقتحام ومداهمة القرية بهدف السيطرة على السلاح الذي انتشر فيها، في محاولةٍ لاحتكار العنف والسلاح من جهةٍ، و”تأمين” القرية وإفراغها من السلاح من جهةٍ أخرى.

“الصلح خير”

“خطبتي إليكم في هذا اليوم، عن حالةٍ نعيشها وتمسّنا جميعاً، عن حادثةٍ حدثت وقد أوقعتنا في أمورٍ كثيرةٍ، لا نجد أنفسنا قادرين على الخروج منها، ومن باب الإعذار إلى الله سبحانه وتعالى، ومن باب الخوف والمحبّة والاحترام لآبائنا وأمّهاتنا وإخوتنا وأخواتنا وأبنائنا وبناتنا، ومن باب الوقوف في وجه الشرّ والفتن والفوضى والفساد، كان لا بدّ في لحظةٍ من اللحظات- وقد حانت- أن نتحدّث، وأن نتكلّم، وأن نرفع أصواتنا، وأن نفعل شيئًا…” (الشيخ محمد يوسف جرادات).

في نهاية شهر أيّار من العام نفسه (2016)، قُتل الشاب أحمد جرادات (27 عاماً) بظروفٍ غامضةٍ في مخيّم شعفاط. هنا، خرج الأب المكلوم بمقتل ابنه، وهو الشيخ المناضل محمد يوسف جرادات، بخطبة جمعة دعا فيها إلى ضرورة وأد الفتنة وإنهائها بأقلّ الخسائر. كانت الخطبة بياناً سياسيّاً اجتماعيّاً ثوريّاً، تحدث فيها الشيخ جرادات عن كلّ مجريات الأحداث منذ قتل أيمن، حتى فقدانه لولده، موجّهاً رسالةً لكلٍّ من عائلة الجرادات وعائلة أبو جاسر، بعفوه وصفحه عن دمّ ابنه، مؤكّداً استمرارَه، من خلال تشكيل هيئة السلم الأهلي، في العمل على القضاء على جميع أشكال الفتنة الداخليّة وإنهاء المشاكل والخلافات في بلدة السيلة الحارثيّة. كما وجّه في خطبته رسالةً للأجهزة الأمنيّة، قائلاً:

“رسالتنا إلى الأجهزة الأمنية لأنّها صارت بالمشهد، الأجهزة الأمنيّة الفلسطينيّة مهما اختلفنا معها، هي أنا وهو وابن اخيك وابن عمك، حتى لو اختلفنا، حتى ولو آذونا، هذه مسألةٌ يجب أن نعترف بها، ونحن نعتبر أنّ أيّ اقتتالٍ داخليٍّ بين الفلسطينيّين، وأيّاً كانت المبرّرات، هو خيانةٌ لفلسطين وخيانةٌ لدماء الشهداء وخيانةٌ للأقصى، لا يجب أن يكون هناك إطلاق نارٍ متبادل، ولا يجب أن يكون اقتتال، ولا يجب أن تكون حملات كالتي شهدناها، هذه مظاهر فقط شهدناها من اليهود وهمّ يقتحمون هذه البلد بعد ما قام به سامي وأنس وإياد ومحمد الزطام وغيرهم من الأبطال، هذه المظاهر كنّا نراها أيّامها، أمّا أن نرى ما رأيناه فهذا شيءٌ مستهجنٌ، وهذا عملٌ كبيرٌ، إذا كان هناك خارجون على القانون كما تُسمونهم، فليكن، ابعثوا دوريةً تُحاول اعتقالهم، ما الذي جرى الآن؟ لماذا بهذا الشكل؟ نحن لسنا أعداءً لكم وأنتم لستم أعداءً لنا … السلاح الذي اشتُري من أجل قضية أيمن يجب التخلّص منه حالاً، اللي عمللنا اشي بسلاحه يتفضل يقوللنا انا عملت كذا كذا، هذا سلاح الاستعراضات عيب، عيب أن يجري ما يجري … وندعو إلى حلّ المشكلة بالحكمة والتعقّل”.

باشرت هيئة السلم الأهليّ عملها في القرية في عام 2016، ساعيةً نحو حلّ مشكلة دمٍّ نزفت منذ أكثر من اثني عشر عاماً بين عائلة أبو الرشيد وعائلة أبو الفلفل. وكان أمام الهيئة تحدٍّ كبيرٌ لإنجاز مراسم الصلح؛ إذ أدرك أعضاؤها أنّ نجاحهم في حلّ هذه المشكلة سيشكّل مدخلاً داعماً لحلّ مشاكلَ عدّةٍ بعدها، فتستجيب العائلات الأخرى للصلح عندما ترى من سبقها نحوه.

وبالفعل، تمكّنتْ هيئة السلم الأهليّ من حلّ خلاف عائلتي أبو الرشيد وأبو الفلفل، مستندةً إلى عدّة أسسٍ، أهمُّها ترسيخ مبدأ العفو عند الناس وإيقاف الظلم وتحقيق الحدّ الأدنى من العدل، فضلاً عن الابتعاد عن اتّهام أيّ شخصٍ بعينه بتهمة القتل؛ لتجنّب ترحيل الدمّ مستقبلاً. فاشتملتْ بنود الصُلح على أن تُسامح كلّ عائلةٍ بحقها، وأن تدفع إحدى العائلات مبلغاً محدّداً للعائلة الأخرى. وبدورهم، ساهم أهالي القرية، والقرى المجاورة، في جمع المبلغ الماليّ المطلوب.

لم يكُن مستغرباً اقتحامُ قوات الاحتلال للقرية في تلك الليلة ومصادرة نصف المبلغ المالي الذي حصلت عليه العائلة تبعاً للاتفاق؛ أيّ نحو 60 ألف دينارٍ، بدعوى أنّها أموالٌ إرهابيةٌ، إذ إنّ التغلّب على صراعٍ داخليٍّ، طال سنواتٍ عديدةً، سيُزعج العدوّ بالضرورة.

نجحتْ هيئة السلم الأهليّ بحلّ أوّل مشكلةٍ في القرية، ما كشف عن تعطّش أهالي القرية لجسدٍ أهليٍّ مثيل، فسارعوا بتقديم المساندة والدعم، إمّا بالتعاطف والثناء أو إتمام حفل الصلح، وتنظيم الحفل والتبرع بمستلزماته من ضيافةٍ وكاميراتٍ وسمّاعاتٍ وكراسي.

بعد ذلك، باشرت الهيئة بالعمل على حلّ مشكلة عائلتي الجرادات وأبو جاسر، والتي اعتُبرت شائكةً أكثر من غيرها بعد أن راح ضحيّتها خمسة قتلى. بذلت الهيئة جهداً كبيراً لعدّة أشهرٍ من خلال جلساتٍ مكثّفةٍ، ولساعاتٍ متأخرةٍ من الليل. ويقول أحد أعضائها: “في شباب اضطرّوا يكسروا صيامهم في رمضان الساعة 2 الفجر”، في إشارةٍ للجهد المضني الذي بذلته الهيئة لإتمام الصلح. وفي 8 نيسان 2017، أعلنت هيئة السلم الأهليّ توصّلها إلى توقيع هدنةٍ بين العائلتين، كمقدمةٍ لإتمام عملية إصلاح ذات البين. وكان هذا ثاني نزاعٍ تمكّنت الهيئة من حلّه.

لم تكن خطوات العمل معلومةً لدى هيئة السلم الأهليّ عند تشكّلها، ولكنّ وضوح الفكرة والهدف مكّنها من مراكمة الخبرات والخطوات وكسب ثقة أهالي القرية ودعمهم، استناداً إلى قيم التراحم التي نادت بها، فضلاً عن إعادة ترسيخ قيمٍ دينيّةٍ تُشجع الصلح وتنهي عن الثأر.

وعودةً للدور الرسميّ، حرصت الجهات الفلسطينيّة الرسميّة على الاطلاع على بنود اتفاقيات الصلح التي أشرفتْ عليها هيئة السلم الأهليّ في القرية، مقتصراً دورها على “مباركة الصلح” من خلال حضور محافظ جنين، وبعض ممثلي الأجهزة الأمنية، لمراسمه، فضلاً عن تواجد قوات الشرطة لـ “ضبط” الحفل خشية استغلاله من قِبل أحد الأطراف لتنفيذ اعتداءٍ ما.

واصلت الهيئة عملها على حلّ مشاكل الدمّ والثأر التي امتدّت لعشرات السنين في قرية السيلة الحارثيّة، وتمكّنت خلال ثلاث سنواتٍ فقط، وبفضل جهودها وصبرها، من حلّ ثماني مشاكل من أصل عشرة، ولا تزال مصرّةً على بذل قصارى جهدها لإتمام حلّ المشكلتيْن العالقتيْن. تنامى دور الهيئة، وتعدّى حلّ مشاكل الدمّ والثأر، وصولاً لدور الوساطة والتدخّل بالنزاعات والخلافات الماليّة وغيرها، فأصبحت مقصداً يلجأ له كلُّ من يتعرّض لمظلمةٍ أو مشكلةٍ لحلّ النزاع بين المتخاصمين.

وكإطارٍ مجتمعيٍّ اكتسب وزناً وثقةً بين أهله، تحمّلت الهيئة مسؤوليّةً اجتماعيّةً تهدف لأسمى ما يُمكن العمل عليه وتنظيمه مجتمعيّاً؛ وهو حلّ الصراعات الداخليّة وحفظ الأرواح. فعملتْ على نشر قيم الصفح والتسامح، وردّ الاعتبار لقيم التقاضي. ونجحتْ، خلال فترةٍ وجيزةٍ، في تعزيز اللحمة والتماسك المجتمعيّ والوحدة الوطنيّة بين أهالي القرية، مُحاولةً خلق نظامٍ ذاتيٍّ لإصلاح ذات البين، ومتجاوزةً غياب جهةٍ رسميّةٍ مسؤولةٍ عن فضّ المنازعات وحلّها بما يضمن رضى الأطراف وحفظ السلم الأهليّ وحقن الدماء.

كلمة أخيرة

تتصاعد أهمية تجربة هيئة السلم الأهليّ في كونها جزءاً من منظومة القضاء العشائري الأصيل في فلسطين، ومتقدمةً عليه في المرجعيّات والممارسات بعد أن وقعت التجربة العشائريّة في فخّ الاحتواء من قبل المستعمِر ووكلائه عبر التاريخ. وفي حال سقوط “الشرعيّات” في الحالة السياسيّة الفلسطينيّة، فإن التجربة الاجتماعيّة في السلم الأهليّ ساعدت على إعادة اللحمة الاجتماعية، وتفادي التفكّك الذي يُذكيه المستعمِر.

وكون الصراع بين المُستعمِر والمُستعمَر ينعكس على مجتمع الأخير، ويمتدّ ليشكّل صراعاتٍ داخليّةً في أحيانٍ كثيرةٍ، فإنّ دور هيئة السلم الأهليّ، متمثّلاً في قدرتها على التغلّب على النزاعات الداخليّة، يُصبح ذا قيمةٍ وطنيّةٍ تساهم في مقاومة التفكيك الاجتماعيّ، فضلاً عن تحصين المجتمع الفلسطينيّ من الاقتتال الداخليّ والتشرذم لصالح المستعمِر. كما تخبرنا هذه التجارب بأنّ الرعب الذي يُبثُّ في قلوب الناس حول اقتتالٍ داخليٍّ قادمٍ، فيما إذا فقدت الحالة السياسيّة والأمنيّة الاستعماريّة القائمة سيطرتها على مجتمعاتنا، ما هو إلّا محض إرهابٍ لتثبيت هذا الوجود فحسب.