يبحث محمد قعدان في التغيّر الذي فرضته المقاومة التاريخيّة، وصولاً إلى لبنان وفلسطين، على مفاهيم المكان والزمن والحركة المرتبطة بالمعركة العسكريّة غير المتكافئة، سعياً للإجابة على آفاق مواجهة النفق المُقاوم أتمتةَ المعركة، حجر أساس صناعة الحروب الغربيّة.

تمهيد

“أدرِك العدوَّ ونفسَك، في مائة معركةٍ لن تكون في خطرٍ أبداً”– سن تزو

“من الضروري جدّاً ألا نتمسّك تمسّكاً كاملاً بالقواعد والنصوص المُطلقة، وأن نفهم أوضاع القتال الفعليّ؛ إذ إنّ هذه الأوضاع ستتبدل طِبقاً للأوضاع السياسيّة، وتحقيق أهداف الشعب، ولا شكّ أنّ هذه التغييرات المُتدرّجة في الأوضاع تخلق أساليبَ جديدةً”– لينين

تخوض المقاومة العسكريّة في المنطقة العربيّة، وبالأخصّ في فلسطين، معركةً غير متكافئةٍ مع العدوّ الصهيوني منذ بداية الصراع، شنّ العدوّ خلالها حروباً عدّةً، دون أنْ نتمكّن بعد من إلحاق هزيمةٍ حاسمةٍ به نطرده على إثرها من فلسطين. لن تبحث هذه المقالة في تفسير ذلك، بل ستتمحور حول الجانب المعرفيّ للمعركة العسكريّة غير المتكافئة، في سياقاتٍ مختلفةٍ في العالم، والتي تُوصلنا بدورها إلى سياقنا العربيّ ومعركته مع العدوّ الصهيوني، والولايات المُتحدّة كداعمٍ رئيسيٍّ له.

ما أقصدهُ بالجانب المعرفيّ للمعركة العسكريّة غير المتكافئة، فهمُ الفعل والحدث العسكريّ بإطارٍ معرفيٍّ شاملٍ للمكان والزمن والحركة على الأرض، باعتبار أنّ النصر ملازمٌ لمن يتفوّق في خلق وإنتاج تكتيكاتٍ واستراتيجياتٍ تمكّنه من تعريف نفسه ومحيطه وعدوّه دون تبعيّةٍ معرفيّةٍ لفهم خصوصيّات المنطقة وإمكانيّاتها.

خلفيّةٌ تاريخيّةٌ

أدركتْ المعركة العسكريّة ضدّ منظومة “الجيش الحديث”، والتي تكوّنت في فترة الغزوات الاستعماريّة وتراكم رأس المال، نفسَها من خلال صناعات السكك الحديديّة، (1) تبعاً لحاجتها لنقل المُعدّات العسكريّة فضلاً عن جنودها، والتي ستُلبّي بدورها مهام الغزو ونهب الثروات في العالم. وقد أحدثت هذه السكك تغييراً في الزمن العسكريّ منذ 1870 بعد أن استخدمها الجيش الفرنسيّ بقيادة نابليون؛ والتي شاع استخدامها وتطوّرت لاحقاً لتضمن سرعاتٍ عاليةً مكّنت الجيوش من اللعب على حبل الزمن، (2) مُعتمِدةً على التقنية العالية للأسلحة والمُعدّات. آنذاك، كانت الجيوش مرتكزةً فوق الأرض؛ إذ لم تكن قد فكّرت بعد في اختراق الأرض وتطويعها والقتال من داخلها. كما كانت حركتها مُنظّمةً بشكلٍ هرميٍّ، نطراً لانطلاقها من المركز الأوروبيّ إلى الأطراف في الصين والهند والمنطقة العربيّة.

تأسيساً على ما سبق، كان على المقاومة التاريخيّة مجاراة العدوّ بإمكانيّاته وأساليبه وتقنيّته، ومعرفة منظومته العسكريّة، التي تشكّلت في القرن العشرين ضمن علاقات الآلة-الإنسان، بعدما بات الأخير خارج مجال آلة الحرب الضخمة، أو فقط أحد مُركبّاتها.*

وفي سياق الآلة العسكريّة الغربيّة، أصبح لِزاماً علينا ملاحظة التحدّيات الجديدة التي أنتجها سلاح القوّة الجويّة للعدوّ الغربيّ وسيطرته على المكان والزمن في المعركة؛ إذ يصعب على المقاومة مجاراة هذه القوّة والاشتباك معها. فضلاً عن ذلك، فقد تطوّرت القوّة الجويّة لتكون آلةً يجري التحكّم فيها عن بعد، فأصبحت “المعركة خارج الحرب”؛ إذ يقاتل الجنديّ الغربيّ من خارج منظومة الحرب، مغترِباً عن آلتها الضخمة التي تمارسها الأنظمة الغربيّة.

اقرأ/ي المزيد: إخراج المعركة من الحرب: العمليّات الجويّة المستقلّة في سلاح الجو الصهيوني

ولكي تستطيع فعلاً أن تقاوم وتصمد وتهاجم بتأثيرٍ على العدوّ، كان لا بدّ من التزام الجانب المعرفيّ للمقاومة بعدّة أشكالٍ لها، أهمّها وأكثرها تأثيراً “حرب العصابات” ضمن ظروفٍ جغرافيّةٍ مُناسبةٍ، كما في الصين وكوبا وغيرهما. سأركّز في هذا السياق على “النفق” كمكانٍ عسكريٍّ تحت الأرض، نظراً لتشكيله حالة دفاعٍ ضمن معركةٍ غير متكافئةٍ في مقاييس التقنيّة والعدد وتسارُع العمليّة العسكريّة.

يعود اهتمامي بالنفق في هذه المقالة إلى ارتباطه عضويّاً بإمكانيّات مقاومة العدوّ الصهيوني ضمن ظروفٍ جغرافيّةٍ غير مناسبةٍ في فلسطين ومحيطها، التي تعدّ غير متوائمةٍ مع شكل “حرب العصابات” المفتوحة كما كانت في الصين أو كوريا. على إثر ذلك، أحدثت المعرفة والممارسة العسكريّة المرتبطة بالنفق عند المقاومة المسلّحة في لبنان وفلسطين، اهتزازاً بموازين القوّة بين المقاومة والعدوّ الصهيوني، لتحقّق الردع والصمود والنصر في عدّة معارك.

في الفصل الأول من هذا النصّ، سأعالج موضوعة المقاومة العسكريّة ضمنَ إطارها المعرفيّ الذي تُعرّف فيه عدوّها ونفسها، لتتمكّن عبر تكتيكاتٍ مكانيّةٍ وزمانيّةٍ من خلق إمكانيّاتٍ عسكريّةٍ جديدةٍ تخفض بدورها من قوّة العدو؛ أهمّها “النفق” الذي سنراجع مساره التاريخيّ في كلٍّ من فيتنام وكوبا وكوريا الشماليّة والصين.

فيما سيكون الفصل الثاني قراءةً في راهن حركات المقاومة العسكريّة في المنطقة: حزب الله وحماس؛ إذ سأسلّط الضوء على تجربة كلتيهما في الأنفاق، باحثاً في معاني وتأويلات المكان العسكريّ الذي تتحرّك المقاومة في نطاقه، فضلاً عن استكشاف قدرة اعتماد تأويلاتٍ مُغايرةٍ للمكان على إحداث التغيير في ميزان القوّة بين المقاومة والعدوّ الإسرائيليّ، على نحوٍ يحقّق كلّاً من الردع والنصر.

الفصل الأوّل: في المقاومة التاريخيّة

“أول سنين الملاحم العظيمة، والحوادث الجسيمة، والوقائع النازلة، والنوازل الهائلة، وتضاعف الشرور، وترادُف الأمور، وتوالي المحن، واختلال الزمن، وانعكاس المطبوع، وانقلاب الموضوع، وتتابع الأهوال، واختلاف الأحوال وفساد التدبير، وحصول التدمير، وعموم الخراب، وتواتر الأسباب، وما كان ربُّك مُهلكَ القرى بظلمٍ وأهلها مصلحون.”- الجُبرتي

ترينا كلمات الجُبرتي، المؤرّخ المصري إبّان الغزو الفرنسيّ لمصر في أواخر القرن الثامن عشر، بعينٍ ثاقبةٍ ما حدث من تغيّراتٍ في المفاهيم المعرفيّة، يتمحور معظمها حول الزمان والمكان عند “الجيش الحديث”، وأثرها على الواقع العسكريّ ومنظور المصريين لهذه المعركة غير المتكافئة. هنا، نلحظ التغيّرات التاريخيّة الأولى التي لحقتْ بالتقنيّة والعمليّة العسكريّة على حدٍّ سواء، والتي أنتجت حاجة “الطرف الآخر” لإطارٍ معرفيٍّ يحمل أيضاً مفاهيم الزمن والمكان، لكن من منظورٍ مضادٍّ للعدوّ الغربيّ؛ أي الحفر معرفيّاً في منظومته العسكريّة والكشف عن إمكانيّات اختراق آلة الحرب الاستعمارية الغربيّة.

تشكّلت أساليب الحرب الجديدة التي ابتكرتها حركات المقاومة وجيوش التحرير في المناطق المُستعمَرة، نتيجةً لخوضها معاركَ عدّةً مع الإمبرياليّة، وكذلك لخصوصيّة المكان والزمن في كلّ قارّةٍ وبلدٍ، والتي مثّلت عاملاً هامّاً  في تفجّر المعاني الجديدة (المكان، والزمن، والحركة) للمُقاومة. ويمكننا القول هنا إنّ “حرب العصابات” شكلّت قاسماً مشتركاً بين قوى المقاومة هذه، لتخلق ساحةً عسكريّةً موازيةً في الأنفاق، والتي لم تعتدْ عليها الجيوش الحديثة المُنظمة.

تنطلق هذه الأساليب من كونها تُحرِّر المُقاتلين والشعب القابعَيْن تحت الاستعمار من الهيمنة العسكريّة المعرفيّة. ففي دراسته، يطرح الباحث العسكري “آلان رييس” سؤالاً مفادُه: “هل يملكُ الجيش الأمريكيّ العقيدة المُناسبة لصدّ خطر المعركة تحت الأرض في الزمن المُعاصر؟”؛ (4) إذ ينبع سؤاله من يقينه بكون منظومة المقاومة العسكريّة وأساليبها تحت الأرض تشكّل إشكاليّةً هامّةً في العقيدة العسكريّة لدى “الجيش الحديث”. وفي معرض دراسته، يطرح الباحث عدّة أمثلةٍ فشلت فيها العسكريّة الأمريكيّة في مجابهة “النفق” كمكانٍ عسكريٍّ تحت أرضيٍّ، مضادٍّ لعقيدتهم وإمكانيّاتهم المتمرّسة فوق الأرض.

ففي أواسط القرن العشرين، بانت قدرة “النفق” عند المقاومة الكوريّة والصينيّة على إعادة السيطرة على المكان والزمن أمام هيمنة المنظومة العسكريّة الأمريكيّة؛ ففي أعقاب التدّخل الإمبرياليّ لأمريكا في قضيّة كوريا والصين الشعبيّة أو الحمراء (حديثة العهد منذُ 1949)، أمدّت الصين المقاومة الكوريّة بالمساعدات والقوّات العسكريّة لتدافع عن حدودها؛ لكنّها سرعان ما أدركت عجزها عن الصمود أمام التقنيّة الأمريكيّة وسلاح جوّها. لاحقاً، استدُخلت هذه المواجهة غير المتكافئة في وعي الصين الشعبيّة، لتُنتج الأخيرة إطاراً معرفيّاً جديداً إبان مواجهتها مع الإمبرياليّة اليابانية، مكّنها من من الاستعداد لمواجهةٍ عسكريّةٍ غير مُتكافئةٍ مُستقبلاً.

تمكّنت المُقاومة الصينيّة والكوريّة من إعادة الهيمنة على المكان عبر حفر الخنادق وتطويع الجبال لصالحها، بهدف التخفّي والمواراة عن أعيُن سلاح الجوّ الأمريكيّ وتجاوز خطره، لتشكّل هذه التكتيكات ضمن تحديدات “ماو تسي تونغ” ممارسةً وأسلوبَ تفكيرٍ لدى المقاومة العسكريّة، قائلاً: “ويتصرّف قادة العصابات بعمليّاتهم على ضوء أوضاع العدوّ، وطبيعة الأرض الجُغرافيّة، والأحوال المحليّة السائدة. وعلى القادة أن يكونوا على درجةٍ من اليقظةِ والوعي، تُمكّنهم من الإحساس بما يقع في هذه العوامل من تبدّلاتٍ، وأن يُجْروا التعديلات اللازمة في توزيع قوّاتهم بشكلٍ يتفق مع هذه التغييرات”. (5)

على ضوء ذلك، كان لا بدّ من اختلاف الخطط والتحرُّكات في كوريا وتبايُنها عمّا كانت في الصين، لتستطيع المقاومة الكوريّة، بإعادة سيطرتها على المكان، هيكلة موازين قوّةٍ جديدةٍ لصالحها، وتدفُّق العمليّات العسكريّة عبر الخنادق، والتي مكّنتها من إعاقة حركة العدوّ البريّة وكبحِ مُبادرته وتسارع عمليّاته العسكريّة؛ إذ استفادت المقاومة بذلك من الفواصل أو التأخيرات الزمنيّة لحركة العدوّ القادمة، (6) التي مكّنتها بدورها من كسب الوقت لتحرّكاتها اللاحقة. ولكي تكون في سياق إعادة الهيمنة على الزمن ولو جُزئيّاً، لم تقتصر أفعالها في المعارك العسكرية على الدفاع وحسب، وإنّما تجاوزتها لأفعال التقدّم والهجوم.

منذ “حرب تحرير الوطن” الكوريّة عام 1950، أعدّت المقاومة نظام الأنفاق على الأراضي الشماليّة لتكون مستعدّةً للدفاع ضدّ الهيمنة الإمبريالية، وأيضاً للهجوم وتحرير الأراضي الجنوبيّة (كوريا الجنوبيّة) من القواعد العسكريّة والهيمنة الأمريكيّة. مكّن نظام الأنفاق كوريا الشماليّة من تحقيق إمكانيّاتٍ هجوميّةٍ ودفاعيّةٍ، فأصبح بوُسعها نقل الجنود والشعب عبر الأنفاق من مناطق عسكريّةٍ إلى أخرى غير عسكريّةٍ والعكس، ليُكبِح التفوّق الجوّي الأمريكي على إثر ذلك.

كما نفّذت المقاومة عدّة جولات هجوميّة مفاجئة على العدوّ بأعدادٍ هائلةٍ من عناصرها، مُستغلّةً بذلك امتلاكها أنفاقاً طويلةً يصل طولها نحو عدّة أميالٍ. وفي الخطّة الدفاعيّة، أصبحت المقاومة تمتلك نقاطاً حادّةً محصّنةً عبر التلال والجبال؛ إذ وظّفت العامل الجُغرافيّ للأراضي الكوريّة لصالحها، لتصبح كلّ المواقع جاهزةً للإطلاق والاشتباك من عُلُوٍّ.

في السياق عينه، لا يمكننا إغفال أهمّ أسلوبٍ دفاعيٍّ في الحرب لدى المُقاومة الكوريّة، والممثّل في ممرّات الوادي التي اتخذتها المقاومة طرقاً رئيسةً مُغايرةً للتصوّر الأمريكي حول الجُغرافيا الكوريّة والقواعد العسكريّة الثابتة، ليخلق هذا التكتيك مفهوماً للمكان الدفاعيّ غير المقيّد بمكانٍ ما، مقابل ثباته في مفهوم جنود الإمبرياليّة. (7)

وفي مُقابلةٍ أجراها معهد الدراسات الفيتناميّ مع الجنرال الفيتنامي “جياب”، سُئل خلالها عن نقاط ضعف العدوّ، رأى “جياب” ضرورة استغلال هذه النقاط باعتبارها مُتيحةً أرضيّةً تكتيكيّةً جديدةً لدى قوى المقاومة، إذ قال: “ومن جانبنا، فإننا نرى واجبنا الأساسيّ القضاءَ على قوّة العدوّ البشرية، وطالما أنّ جيشنا ضعيفٌ، فإننا نهاجم الوحدات الصغيرة والمواقع الأقل أهميّةً، وبذلك تكون الخسائر التي تقع على العدوّ مُتزايدةً كلّ سنةٍ، إذ أصبحت مواجهتنا لقوات العدوّ أينما ظهرت، وتحديداً في المواقع الضعيفة نسبياً، واحدةً من أهمّ المبادئ في استراتيجيتنا القتالية”.(8)

وفي عام 1945، وفي سياق المقاومة الفيتناميّة تحديداً، بدأت المواجهة بين هذه المقاومة وفرنسا الإمبرياليّة التي خرجت مُنتصرةً من الحرب العالميّة الثانية، لتدخل الإمبريالية الأمريكية إلى جانبها بداية الستينيات لضمان الهيمنة الغربيّة على فيتنام. على وقع ذلك، تمتّعت هذه المقاومة مقابلهما بمرونة الأساليب العسكريّة وصمود الشعب والديمومة في القتال. أمّا السؤال الأهمّ الذي لا بدّ من طرحه هنا: ما هي الجذور المعرفيّة لهذه الأساليب العسكريّة التي تشكّلت من خلال القتال والمقاومة؟

في البداية كانت الأنفاق؛ إذ بادر الفيتناميون منذ الأربعينيّات، إبان مقاومة الفرنسيين، لحفر الأنفاق التي شكّلت شبكة اتصالاتٍ وهروبٍ ومحطّاً آمناً للمقاومين. كما هدفَ حفْرُ الأنفاق هذه إلى إقامة شبكة علاقاتٍ مستقلّةٍ مخفيّةٍ بين الفيتناميين، سعياً لخلق مكانٍ جديدٍ لإتمام العلاقات بين المقاومين، لتسجّل المقاومة نجاحها في تأويل المكان، ضمن محاولةٍ حثيثةٍ لزعزعة ميزان القوّة وتحقيق هيمنةٍ جُزئيّةٍ على المكان؛ ذلك مقابل إبعاد المدن أو (مُسطّح الأرض) كمسرحٍ وحيدٍ لعمليّات القتال وتكتيكاتها.

كتب الجنرال “جياب” في مذكراته عن انتصارٍ حققته المقاومة على الحملة الفرنسيّة الاستراتيجيّة التي توجّهت لتحطيم القاعدة العسكريّة (فيت باك)، والتي اعتُبرت من أهمّ المعارك التي حملَ فيها الشعب سلاحه ليُقاوم، إذ شكّلت بحسب “جياب” نهاية ميزان القوّة الأوّل، وبداية تشكّل القوّة الفيتناميّة بعد ثلاثة أعوامٍ منذ بداية الغزو الإمبريالي. (9) لاحقاً، وبعد نصف شهرٍ من هذه المعركة، قرّرت اللجنة المركزيّة للحزب الشيوعي الفيتنامي بوجوب تشكيل ميزان القوّة الجديد بدايةَ مرحلةٍ جديدةٍ من تحفيز المُقاومة وحرب العصابات وحفر الأنفاق والاعتماد عليها كمُحرّكٍ أساسيٍّ للتضييق على تواجد الفرنسيين في فيتنام وتحرير الأراضي.

اقرأ/ي المزيد: حرب البراغيث: هزيمة أمريكا في فيتنام

استمرّت الحرب في فيتنام طويلاً لتتابع الغزوات الإمبرياليّة من الفرنسيّة إلى الأمريكيّة.  بالمقابل، تابعت المقاومة تطوير الإمكانيّات والتكتيك والاستراتيجيّة لتغيّر ميزان القوّة لصالحها. ففي عام 1960، الذي تشكّلت فيه جبهة التحرير الوطني، رمِّمت الأنفاق وأَجرِيَت إصلاحاتٌ موسّعةٌ. هكذا، استطاعت المُقاومة جعْل الأنفاق تكتيكاً عسكرياً غير مألوفٍ، مُعيدةً إنتاج المفاهيم الأساسيّة للمكان والزمن والحركة في العمليّات العسكريّة والحياة اليوميّة، والتي  شملت بدورها  المستشفيات والأماكن الترفيهية، وحتى المطبخ وعمليّات الطهو. (10)

أحدثتْ التغيّرات التي لحقتْ بمعنى المكان كنتيجةٍ لبناء منظومة الأنفاق، تغيّراتٍ في معنى الزمن في سياق العمليات العسكرية؛ إذ إنّ بداية العمليّة وانتهاءها باتا مغايرَيْن لأساليب الجيش الحديث في الزمن العاديّ للعمليّات العسكريّة المُتسلسلة، حيث تُعرّف المُقاومة الزمن من خلال عمليّاتٍ خاطفةٍ سريعةٍ، ثم العودة إلى مكان المعيشة تحت الأرض، وبهذا المعنى تستخدم المقاومة الأداة الزمنيّة لصالحها في التخفّي والمفاجأة.

نظام الأنفاق الفيتناميّ

في عام 1965، عندما وضعت الولايات المُتحدة جنودها قرب قرية كوتشي، التي كانت منظومة الأنفاق فاعلةً فيها، تلقّوا الكثير من ضربات “عمليّات الأشباح” كما سمّوها؛ إذ كانوا يكتشفون كلّ صباحٍ جُثث جنودٍ وضُباطٍ لهم قتِلوا ليلاً. (11) بالمقابل، لم تألُ الإمبرياليّة الأمريكيّة جهداً في محاولة فهم ما كان يجري هناك، غير أنّ “عمليّات الأشباح” التي لم تنقطع حالت دون ذلك، فرغم قطع الأمريكيين الماء والغذاء، ومحاصرتهم التجمّعات السكنيّة وحرقهم الغابات، إلا إنّهم لم ينجحوا في فهم ما يجري. بذلك، استطاعت المقاومة صياغة معرفةٍ عسكريّةٍ محليّةٍ للمفاهيم الفلسفيّة الأوليّة (المكان والزمان)، والتي مكّنتها من الصمود والقتال والنصر.

لم تحمل عقيدة الجيش الأمريكيّ معاني “النفق” كمكانٍ عسكريٍّ، خصوصاً أنّ مفاهيم الزمن والحركة عند المُقاومة باتت مُغايِرةً لما درسوه عنها كتكتيكٍ عسكريٍّ أو استراتيجيّةٍ. لهذا أربكتهم هذه التغيّرات الطارئة في المعركة مع جبهة التحرير الوطنيّة الفيتناميّة (VC)، والتي مكّنت المقاومة من التخفّي والقيام بعملياتٍ خاطفةٍ، وكذلك قنص الجنود الأمريكان دون أن يتمكّن الأخيرون من رصدهم.

على إثر ذلك، بدأت القوّات الأمريكيّة بإعداد متطوّعين في محاولةٍ للدخول إلى الأنفاق وفهمها، كتمهيدٍ لفهم المقاومة وطُرقها وأساليبها وتدميرها لاحقاً. وجُهِّزت وحدةٌ عسكريّةٌ سُمّيت “فئران الأنفاق”، لتكون التجربة بالنسبة لها صعبةً ومُخيفةً ومُقلقةً، إذ قيل عن هذه التجربة: “من حينٍ لآخر، في ظلّ الإجهاد، فإنّ أعصاب “فأر الأنفاق” تنكسّر، ويتمّ جرّه من النفق وهو يصرخ ويبكي. حالما يحدُث هذا، لن يُسمح لهُ أبداً بالرجوع إلى النفق مرةً أخرى”. (12) هكذا، تمكّنت المقاومة من خلق انطباعٍ تستأثر فيه بقوةٍ ما ضدّ الجيش الأمريكيّ، وسببُ ذلك يرجع إلى التكتيك والاستراتيجيّة عند جبهة التحرير الوطنيّة الفيتناميّة التي خرقت مفاهيم المكان والزمن، كما هي في عقيدة الجيش الأمريكيّ.

سنلاحظ أيضاً في معركة كوبا التحرّرية من الإمبريالية وأدواتها، بقيادة “فيديل كاسترو” و”تشي غيفارا”، بأنّ الثوار امتلكوا معنىً مُغايِراً لمفاهيم الزمن والمكان قياساً بنظيرهم، الجيش الكوبيّ وأداة الإمبرياليّة الأمريكيّة. يحدّثنا “ريجيس دوبريه” عن بداية تشكّل عصابات الثوّار في كوبا بوصفها “سباقاً ضدّ الساعة” مع الجيش الكوبي المُنظّم على هيئة الجيوش الغربية. يحمل الوصف مضموناً لمعنى الزمن، ويكمل: “إن العصابات المسلحة تريد أن تكسب الوقت، في حين يريد الجيش ألّا يضيّع دقيقةً واحدةً”. (13)

تنظر العصابات الثوريّة المسلحة إلى الزمن باعتباره أفقيّاً رحباً يسعُهم فيه التعلّم وبناء التكتيكات الصغيرة والتقدّم بسلاسةٍ وحذرٍ؛ كي تحافظ على الإنجازات الصغيرة التي حقّقتها، على عكس الجيش الكوبيّ الذي اتّخذ منظوراً عمودياً ضيّقاً للوقت، كي يُلقي الضربات القويّة والحاسمة خلال وقتٍ قصيرٍ، ولا يحتمل صبراً بين الضربة وأختها.

كان تشكيل منظورٍ مُغايرٍ للمكان قياساً بما تبنّاه “الجيش الحديث”- وفي هذه الحالة الجيش الكوبي- مُتعلّقاً بالحركة الدائمة. وفي حين أنّ المنطقة العسكريّة الحديثة التي تُقيمها الجيوش تُعبّر عن حالة ثباتٍ وأمانٍ، أدركت العصابات المسلّحة بالمقابل التكلفة الصعبة لإقامة قواعدَ عسكريّةٍ ثابتةٍ، إذ تجعلها تحت السيطرة والمُراقبة، ويتضاعف خطر تقويضها وهدم ثورتها. لذلك، تمركزت قاعدة السلوك لديها على “التصرّف كما لو كان العدوّ يعرف مكان الثوّار”، (14) فلم يتّخذ الثوّار مكاناً ثابتاً لهم، وبذلك تغيّر مفهوم المكان (العسكريّ) لديهم من مكانٍ ثابتٍ إلى آخرَ مفتوحٍ يتيحُ حركةً دائمةً بين الجبال، إذ يستمرّ الحال على التحرّك المُستمرّ إلى أن تتغيّر موازين القوى في المنطقة. يروي لنا “ريجيس دوبريه” عن المُجريات التي أدّت إلى تأويل المكان (من ثابتٍ إلى مُتغيّرٍ) في ظلّ موازين قوةٍ لصالح الجيش الكوبي:

“في نهاية عام 1957، تواجدت فرقتان ثوريّتان في جبال سييرا مايسترا: فرقة فيديل كاسترو المؤلفة من مئةٍ وعشرين رجلاً، والفرقة التي سلّمها فيديل إلى تشي غيفارا، وأطلق عليها اسم الفرقة 4 للتشويش، وهي مؤلفةٌ من أربعين رجلاً. في شهر تشرين أول، حاول تشي غيفارا إرساء قواعد أرضٍ حرّةٍ في وادي «الهمبريتو» بواسطة هذه الفرقة التي أصبحت مُكوّنةً في ذلك الحين من ستين رجلاً. فأقام فيها مُعسكراً ثابتاً، وبنى فرناً للخبز، ومُستشفى، ومحلاتٍ لصنع الأحذية، إلخ.. ثم أحضرَ آلةً ناسخةً، طبع عليها الأعداد الأولى من “الكوبانو ليبيري”. وحسبما يقول غيفارا نفسه، فقد بدأ برسم خرائط كهرومائيةٍ على النهر الذي يمرّ من الوادي. وخلال عدّة أسابيع، كانت قوات “سانشيز موسكيرا” تُهاجم هذه القاعدة التي لم يكن من المُمكن إنقاذها رغم أنّ الاستعدادات الدفاعيّة كانت قد تمّت. ولم يعد لدى الثوار القوّة الكافية للدفاع عنها. وأصيب تشي غيفارا في رجله، واضطر للانسحاب إلى الداخل. وعلى كلّ حالٍ، فإنّ هذه المُحاولة لإقامة قاعدةٍ عسكريّةٍ لم تؤدِّ إلى نتائج خطرةٍ؛ إذ كانت قاعدة كاسترو في الجوار، على مسافةٍ تسمح لها بُمساندة قاعدة غيفارا. ولو كانت القاعدة مُنعزلةً لانتهتْ التجربة نهايةً سيئةً جداً”. (15)

أوشك خطأ غيفارا وعدم التيّقظ لمعاني المكان والثبات في هذه المرحلة على أن يكلّفهم الثورة. وفي ظلّ خصوصية الجغرافية الكوبيّة، كان لا بدّ من تأويل المكان بشكلٍ مُغايرٍ عن المعاني العسكريّة للجيش الكوبيّ؛ كي تتمكّن قوّة المُقاومة من البروز وتغيير الموازين. إجمالاً، يمكننا القول إنّ ديناميكيّة المُقاومة في التاريخ ورؤيتها للمكان والزمن خارج منظومة “الجيش الحديث” والعوائق التي يفرضها الواقع على منظومةٍ كهذه، مكّنتها مجتمعةً من فرض قوّةٍ جديدةٍ على المعركة، في وُسعِها أن تصمد وتردع وتنتصر في سياقاتها المختلفة.

الفصلُ الثاني: في الراهن العربيّ

“لأنّ الحرب، بوصفها إنتاجاً وشكلاً من الصراع الطبقي، هي الفرن الذي يخلق فائض القيمة، فإنّ الإمبرياليّة كانت تميل دوماً إلى تصوّر نوعٍ من التنمية يقود إلى مزيدٍ من الحرب.” – علي القادري

أصبحت الحرب في الواقع العربيّ ضروريّةً لديمومة المنظومة الرأسماليّة وتراكم رأس المال عند الأقطار المتحكّمة أو “المراكز”، وخاصّةً عندّ الولايات المُتحدّة، كما يحدّثنا الاقتصاديّ علي القادري. (16)  ففي ظلّ واقع الحرب المفروضة على المنطقة العربيّة، تبقى المقاومة العسكرية الخيار الوحيد المتاح أمامنا كشعبٍ وأمّةٍ؛ كضرورةٍ مُلحّةٍ للبقاء والحياة أمام آلة الحرب الضخمة التي تقودها الولايات المتحدّة وشبكتها العسكريّة في العالم، ومنها الدولة الصهيونيّة.

سأحاول، في هذا الفصل، استعراض نماذج المقاومة في لبنان وفلسطين، وإمكانيّة صمودها وانتصارها في ظلّ تفوّقٍ عسكريٍّ وتقنيٍّ لصالح العدوّ، سواءً عند الدولة الصهيونيّة أو الولايات المُتحدّة كعدوٍّ واحدٍ مُتّحدٍ من حيثُ العقيدة العسكريّة. ويرجع سبب ذلك إلى قدراته التقنيّة العالية كعامل تفوّقٍ، بجانب إطاره المعرفيّ الناظم لعنصري المكان والزمن، فضلاً عن اعتماده على التقنيات الجوية والأتمتة (إخراج الإنسان من المعركة). بالمقابل، صاغت المقاومة في لبنان وفلسطين أساليبَ وتكتيكاتٍ وإستراتيجيّاتٍ من منطلقاتٍ مغايرةٍ عن العدوّ؛ إذ صِيغت علاقاتٌ جديدةٌ بين العمليّة العسكريّة والمكان والزمن للتأثير على العدوّ والحلقات الأضعف عنده، وأثر ذلك على موازين القوى.

حافظت شبكة الأنفاق التي شكّلها حزب الله في شمال فلسطين، منذ تسعينيّات القرن العشرين، على توازن القوّة وكثافة العمليّات والاشتباك مع العدوّ، حتى معركة التحرير عام 2000؛ حيث تطوّرت شبكة الأنفاق بشكلٍ مُلازمٍ لتطوّر الصراع مع العدوّ، من مستودعٍ للأسلحة وصواريخ (أرض-أرض)، ومن التخفّي جرّاء صواريخ العدوّ وتقنيّته العالية، إلى “النفق” كمكانٍ للهجوم، وإلى منصّات إطلاق الصواريخ. (17)

نفقٌ استخدمه "حزب الله" لمهاجمة العدوّ الصهيوني- صحيفة "الإندبندنت" البريطانيّة

لم تكن المفاجأة التي أحدثتها قدرات المُقاومة في معركة تموز 2006 باتّخاذها منظومة الأنفاق كمكانٍ عسكريٍّ يعيد التوازن أمام التفوّق الجوّي وحسب، بل أيضاً كان معبّراً عن مدى صمودها واستمراريّتها بالهجوم رغم قصف العدوّ. يرى “شاؤول شي”، الباحث في معهد السياسات والاستراتيجيّة، بأنّ استمرارية القصف بشكلٍ أوتوماتيكيٍّ عبر وحداتٍ مُستقلّة، هي ما أحدثتْ المفاجأة الحقيقية. (18)

تكوّنت منظومة المقاومة في هذه المعركة، كما يصفها سيف دعنا، من شبكات أنفاقٍ ومخازن عتادٍ وذخيرةٍ وتدريب مقاتلين وجهاز قيادةٍ وسيطرةٍ، وأيضاً اتصالاتٍ وسلاح إشارةٍ، ليتمكّن حزب الله من القصف مع تتابع الهجمات خلال وقتٍ قصير نسبيّاً لا يتعدى الـ28 ثانيةً:

“طوّر حزب الله نظاماً بسيطاً، ولكنه دقيقٌ وفعالٌ جداً لإطلاق الصواريخ، يتكامل فيه عمل ثلاث مجموعاتٍ مكّنها من إطلاق الصواريخ خلال 28 ثانيةً فقط؛ فما أن تقوم مجموعة المراقبة بإعلان خُلوّ المنطقة من طائرات الكيان الصهيونيّ حتى تقوم مجموعةٌ صغيرةٌ بنصب الراجمات والانسحاب بسرعةٍ، لتقوم مجموعةٌ ثانيةٌ بنقل الصواريخ إلى منطقة الإطلاق حيث الراجمات، ومن ثمّ الانسحاب بسرعةٍ أيضاً، بعدها تصلُ المجموعة الأخيرة إلى الموقع وتقوم بتجهيز الصواريخ وإعدادها للإطلاق عبر جهاز التحكم عن بعدٍ أو عبر جهاز توقيتٍ، ثمانيةٌ وعشرون ثانيةً فقط، وتكون الكاتيوشا في السماء في طريقها إلى فلسطين حيثُ العدو”. (19)

هكذا، استطاعت المقاومة الصمود والردع والحسم أمام العدوّ، وخلق لغةٍ عسكريّةٍ تخصّها. ففي دراسةٍ أعدّها عسكريّون صهاينة، جاء فيها أنّ:  “النظريّة الأمنية غير قادرةٍ، للمرة الأولى، على مواجهة عدوٍّ يكون موجوداً في الوقت نفسه في مجالين: أرضيٌّ وتحت أرضيٍّ”. (20) بالتالي، حينما نلمس اهتزازاً في النظريّة الأمنيّة أو العقيدة العسكريّة عند العدوّ لمُجابهة خطرٍ لا يفهمهُ ولم يدرّسه في كليّاته الحربيّة وتدريباته بعد، نعلم بأنّ المقاومة استطاعت فعلاً تغيير موازين القوّة على أساس إنتاج معرفةٍ مُغايرةٍ وجديدةٍ لمواجهة تفوّقٍ جوّيٍ لدى العدوّ، مطوِّعةً الجُغرافيا المحليّة لصالحها.

اقرأ/ي: حرب العقول والأفئدة: تجربة تموز 2006

أمّا على صعيد قطاع غزّة، فيضعُ الباحث “شاؤول شي” أمامنا أربعة عوامل ساعدت على تطوير شبكة الأنفاق في غزّة من منظور العدوّ، قائلاً: “منذُ الثمانينيّات حُفرت أنفاق التهريب على حدود مصر، ونمت الخبرات في أساليب حفرها، ساعدها في ذلك أرضها المستوية وتربتها السلسلة نسبيّاً، على عكس تجربة المقاومة في لبنان، فضلاً عن تجربة العمليّات العسكريّة منذ 2001 وردود العدوّ التي نبّهت المقاومة إلى ضرورة مجاراتها لتفوّقه الجويّ ومحاولتها قلب الموازين”.

أمّا العامل الثالث فتمثّل في الضغط على جيش العدوّ للخروج من غزّة؛ لتتمكّن المُقاومة من العمل والنشاط والحفر بحرّيةٍ. بينما شكّلت حرب لبنان الثانية ونصر حزب الله من خلال منظومة مُقاومةٍ تحت أرضيّةٍ عاملاً رابعاً لهذا التطوّر. (21) حفّزت هذه العوامل التاريخيّة المقاومةَ على إخضاع مفاهيم الزمن والمكان للظرف المحليّ الفلسطينيّ لتُعيد التوازن وتصمُد فيما مرّت به من فتراتٍ حرجةٍ.

وفي الدراسة التي أجراها الباحث رامي أحمد حول الدور الاستراتيجيّ للأنفاق في معارك غزّة الأخيرة، (22) نرى بأن المقاومة العسكريّة تمكّنت من تحقيق أمرين: أولّهما، التخفّي والمُباغتة وضرب المفاصل الضعيفة عند العدوّ. وثانيهما: إعاقة العمل العسكريّ والتقنيّ عند العدوّ وعرقلته عن استخدام إمكانيّاته.

على وقع ذلك، اخترق “النفق” كمكانٍ عسكريٍّ ظرف الجغرافيا الفلسطينيّة الضيّقة لحرب العصابات الكلاسيكيّة، ما جعله تكتيكاً عسكريّاً ملازماً للاستراتيجيّة، فلا يمكن الفصل بينهما لتحقيقٍ إنجازاتٍ صغيرةٍ تستطيع من خلالها المقاومة اختراق إمكانيّات العدوّ وضربه في نبضه.

تأتي هذه الأنفاق نتيجةً لعملٍ مُكرّسٍ؛ إذ إنّ “عناصر المقاومة الذين يعملون في حفر الأنفاق، لا يعرفون تفاصيلها الداخلية، ويحضرون إليها في أحيانٍ كثيرةٍ بشكلٍ سرّيٍّ، ودون معرفتهم بالمكان الذي دخلوا إليه أو خرجوا منه، لضمان السرّية وعدم افتضاح أمر النفق. ولدى كلّ فصيلٍ مسلحٍ، تحديداً حماس والجهاد الإسلامي، وحدةٌ للأنفاق تكون مهمّتها حفر النفق وترتيب جدرانه الداخلية وتمتينها، ومن ثمّ تسليمه حال جهوزيّته لقيادة المناطق، وهي التي تتولّى المسؤولية عنه.” (23)

يشكّل كل ما سبق نقاط قوّةٍ جديدة لدى المُقاومة، مكّنتها من عمليّاتٍ مُباغِتةٍ ومؤثّرةٍ، ومن استعادة السيطرة على الزمن أيضاً؛ بمعنى تحديد زمن البداية والنهاية، فالعمليّة لم تعد مُتعلّقةً بالعدوّ وقواعده وبنيته العسكريّة، كما سنرى في العمليّات التالية.

ركّزت العمليّات العسكريّة للمُقاومة في غزّة جهودها على المواقع العسكريّة والاستخباراتية للعدوّ منذُ بدايات 2001 إلى عام التحرير وإخراج جيش العدوّ من غزة؛ لنشهد في عام 2001 أوّل عمليّةٍ فدائيّةٍ نسفت موقع “ترميد” العسكري الصهيونيّ الواقع على الحدود المصريّة، مُستفيدةً بذلك من الأنفاق المُعدّة للهروب. وفي عام 2003، نفّذت المقاومة عبر النفق عمليّة نسف برجٍ عسكريٍّ صهيونيٍّ بالقرب من الحدود المصرية.

أمّا في العام 2004، فجرتْ العمليّة الأكثر تعقيداً، حيث استهدفت المقاومة موقعاً عسكريّاً استراتيجيّاً للعدوّ، وتكمن أهميّته للعدوّ في وظيفته؛ تقسيم قطاع غزّة إلى شماليٍّ وجنوبيٍّ كردٍّ على اغتيال القائدين الشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي، لتستطيع المُقاومة بذلك هزّ أركان النظريّة الأمنيّة للعدوّ. (24) بالمحصّلة، صاغت عمليّات الأنفاق التي تلت خروج العدوّ، مرحلةً جديدةً من القوّة والردع، في الأسر والصمود أمام التقنيّات العالية والحرب الجويّة للعدوّ.

“وفي 25 حزيران 2006 أسرت ثلاثة فصائل فلسطينية؛ هي كتائب القسام وألوية الناصر صلاح الدين التابعة للجان المقاومة الشعبية وجيش الإسلام، الجنديّ الصهيونيّ “جلعاد شاليط”، في عمليةٍ سُمّيت بـ”الوهم المتبدّد”، عبر نفقٍ إلى الشرق من مدينة رفح. وخلال عدوان 2014، نفّذت كتائب القسام سلسلة عمليات تسللٍّ خلف خطوط الاحتلال الإسرائيلي من خلال الأنفاق؛ كان أبرزها اقتحام موقع أبو مطيبق العسكري إلى الشرق من وسط القطاع، وموقع ناحل عوز العسكريّ شرقي مدينة غزة، وموقع 16 التابع للمخابرات الإسرائيلية قرب معبر بيت حانون ـ إيرز شمال القطاع.” (25)

ختاماً، يمكننا القول إنّ هذه المعرفة الجديدة التي اكتسبتها المقاومة، عبر فهم أثر المكان والزمن على ميزان القوّة، وإدراكها مركزيّة النفق أمام التفوّق الجوّي للعدوّ، ساهمت  في الحفاظ على ديمومة المقاومة وتطوّرها، لتشمل اليوم أرض فلسطين التاريخية المسلوبة، مشكّلة تهديداً دائماً لدولة العدوّ في عمقها.

*****

الهوامش

*محاضرة خالد عودة الله بعنوان: “أتمتة منظومات الأسلحة ومستقبل الحروب الاستعمارية”، أشيرُ إليها لتحديد العلاقة بين الآلة والحرب والإنسان والتغيّرات التي حصلت على العلاقة. الجزء الاول، الجزء الثاني.
** “حرب العصابات” كما ظهرت في أدبيّات المقاومين سواءً في الصين عند “ماو تسي تونغ” في كُرّاس “حرب العصابات”، أو كوبا في تحليلات “ريجيس دوبريه” للثورة الكوبيّة في كتاب “ثورة في الثورة”، نجد مركزيّةً لثلاثة أمورٍ في المقاومة العسكريّة: المكان العسكريّ، وعلاقته مع الزمن والحركة؛ أيّ خيار المكان سواءً فوق الأرض أو تحتها، وتأثيرهُ على إمكانيّات الحركة الدائمة أو الثبات والتخفّي أحياناً، وبذلك تحديد زمنِ العمليّة العسكريّة بعمليّاتٍ خاطفةٍ أو مواجهاتٍ محتدمةٍ تصل في بعض الأحيان لتحرير المناطق والأراضي. وهكذا، تتيح “حرب العصابات” عملاً عسكريّاً مُتحررّاً من ضوابط وعوائق “الجيش الحديث” لتُعيد موازين القوّة لصالحها.

المراجع

1-  لوكسمبورغ، روزا. “الشروط التاريخيّة للتراكم”. تُرجِم النص للعربيّة في كتاب: “عن الثورة والحزب وأفول الرأسماليّة”- نصوص مختارة. 2016.
2- مقالة على موقع الجزيرة في قسم الموسوعة بعنوان: “خطوط الإمداد.. شرايين حياة الجيوش”.
3-أيوب، محمود شعبان، مقالة بعنوان: “الفرنسيون بعيون الجُبرتي”.
4-رييس، آلان، دراسة منشورة باللغة الإنجليزية بعنوان: “تحليل تاريخيّ للنفق العسكريّ ونظرة مُعاصرة”. 1997. ص4.
5- تسي تونغ، ماو، كرّاس “حرب العصابات”.
6- رييس، آلان، دراسة منشورة باللغة الإنجليزية بعنوان: “تحليل تاريخيّ للنفق العسكريّ ونظرة مُعاصرة”. 1997. ص14-15.
7- المصدر نفسه. ص28.
8- الجنرال، جياب. “مذكرات الحرب”. سجلها “هيو ماي” في عام 2004. ص31-32.
9- المصدر نفسه. ص177-178.
10-القطب، ناديا، مقالة على موقع “الحدث” بعنوان: “ما هي أنفاق فيتنام التي أشار لها هنية في خطابه يوم الجمعة؟”.
11- المصدر نفسه.
12-دراسة منشورة في مدرسة الدراسات العليا البحريّة (naval postgraduate school). بعنوان: “العدو في الأسفل: إعداد القوات الأرضيّة للحرب تحت الأرضيّة”. 2013. ص70.
13-دوبريه، ريجيس،” ثورةٌ في الثورة”. ترجمة “دار الآداب”. الطبعة الأولى 1983. ص81.
14- المصدر نفسه. ص81.
15- المصدر نفسه. ص82.
16-القادري، علي، مقالةٌ مُترجمةٌ على موقع “متراس” بعنوان: “التنمية تحت تهديد الحرب في العالم العربي”.
17- زيادة، أحمد جمال، مقالةٌ على موقع إضاءات بعنوان: “أرض إسرائيل المحروقة: هل انتهت أنفاق حزب الله؟”.
18-شي، شاؤول، ورقةٌ بعنوان: “البُعد تحت الأرضيّ كمُركبٍ للنظريّة الأمنيّة”. معهد السياسات والاستراتيجيّة (IDC Herzliya).
19-دعنا، سيف، مقالةٌ على موقع الأخبار بعنوان: “مقاومة حزب الله في تموز: الأعجوبة الهندسية”.
20- مقالةٌ على موقع “روسيا اليوم” بعنوان: “حزب الله وخفايا الأنفاق العابرة للحدود”.
21- شي، شاؤول، ورقةٌ بعنوان: “البُعد تحت الأرضيّ كمُركب للنظريّة الأمنيّة”. معهد السياسات والإستراتيجيّة (IDC Herzliya).
22- أحمد، رامي، “استراتيجية الأنفاق لدى المقاومة الفلسطينيّة في إدارة حرب غزّة” عام 2014. منشورةٌ على موقع الجامعة الإسلاميّة-غزة. عام 2015.
23-  خليل، ضياء، مقالةٌ على موقع “العربي الجديد” بعنوان: “أنفاق غزة… المقاومة تحفر في الأرض لضرب المحتل”.
24-أبو مصطفى، جهاد، مقالةٌ على موقع “السفير” بعنوان: “إسرائيل تكره أنفاق غزّة: شجرة خطرة وكثيرة الغصون”.
25- خليل، ضياء، مقالةٌ على موقع “العربي الجديد” بعنوان: “أنفاق غزة… المقاومة تحفر في الأرض لضرب المحتل”.