يرصد محمد قعدان في هذا المقال علاقة الجريمة المنظمة  بمسعى دولة الاحتلال المنظّم لتفكيك المجتمع الفلسطيني في الداخل المحتلّ وقمعه بهدف تسهيل الهيمنة عليه.

توطئة

تتواصل وللأسبوع الثاني عشر على التوالي فعاليات الحراك الشعبي في مدينة أم الفحم احتجاجاً على استمرار الجريمة في في الأراضي المحتلة عام 1948، وتواطؤ الشرطة الصهيونية مع الجريمة والمجرمين، بل ومشاركتها المباشرة في تنفيذ عدد من الجرائم. وقد بلغت هذه المظاهرات والاحتجاجات الحاشدة ذروتها فيما عُرف بـ “جمعة الغضب” في مطلع شهر آذار، متّخذةً طابعاً سياسياً وطنياً واضحاً تجاوز التقسيمات الاستعماريّة لفلسطين والخطاب المدني ضدّ الجريمة، يحمّل دولة الاحتلال بمختلف مؤسساتها وأذرعها الاستعمارية، وخاصّةً الشرطة، المسؤولية المباشرة عن تفشّي الجريمة وحماية أوكارها وعصاباتها. يرصد هذا المقال علاقة الجريمة المنظمة بمسعى دولة الاحتلال المنظّم لتفكيك المجتمع الفلسطيني في الداخل المحتلّ وقمعه بهدف تسهيل الهيمنة عليه.

تمهيد

تساءل الأستاذ المختصّ في علم الجريمة والعلاقات العامّة، “جاي إس ألبانيز” (Jay S Albanese)، “هل يتجمّع المجرمون حول فرص الجريمة أم أنّ الفرص الإجرامية تخلق مجرمين جُدداً؟”. يدفعنا هذا السؤال إلى إعادة التفكير في الفعل الإجراميّ ونشاط منظمّاته، في محاولةٍ لفهمه، خاصةً في ضوء عودة قضية النشاط الإجراميّ في الأراضي المحتلّة عام 1948 إلى الواجهة، ولكن وفقاً للسياق الاستعماريّ الاستيطانيّ الذي نعيش فيه. [1]

كيف نحدّد ونقرأ الظاهرة الراهنة في سياقٍ تتوفّر فيه الفرص والسياقات الإجراميّة، وأيضاً يتوفّر فيه مجرمون؟ تكمن الإجابة على سؤال “ألبانيز” في العلاقة الجدلية بينَ السياق والفرصة من جهة، وتوفر  مجرمين يخلقون فرصاً من جهةٍ أخرى. فما هي هذه الفرص إذن؟ كيف تتشكّل، وما هي ملامحها؟ وهل نستطيع تحديد وتعريف هذه الظاهرة، من أجل البدء بالحديث عن الحدّ منها ومحاربتها؟

يظهر تقرير إحصائي  لجمعيّة الشباب العرب “بلدنا” أنّ غالبيّة المستهدفين في العقد الأخير على يد الجريمة المنظمّة في الداخل المحتلّ هم من الشباب؛ أكثر من 40% منهم ما بين عمر 20- 30 عاماً، وأكثر من 25% منهم بين عمر 30-40 عاماً. تبيّن هذه الأرقام الاستهداف الممنهج والمستمرّ لممارسات الجريمة المنظّمة للشباب، كما تحمل هذه الممارسة (قتل الشباب) في طيّاتها دلالات سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة عديدة، فيُمكننا القول إنهّا أقرب لممارسات هدر وتفكيك مجتمعي تغذّي منظومةً ماليّة.  [2]

يسعى هذا المقال إلى طرح عدّة ثيمات متعلّقة بالجريمة المنظّمة في الداخل الفلسطينيّ، محاولاً نقاشها في جوانبها المتعدّدة، بهدف استيعابها في علاقتها مع الدولة الاستعماريّة ومنطق التراكم النيوليبراليّ المُهيمن وما يتخللهُ من دوائر السلاح وكاميرات المراقبة ومحطّات الشرطة، بالموازاة مع وجودِ المجرمين (بالتحديد  العائلات الإجرامية) الذين يخلقون فرصاً إجراميّة من خلال بنيةٍ تحتيّةٍ كهذه التي تؤسّس لها النيوليبراليّة. ويجدر التذكير  هنا إلى  أن المنظومة الاستعماريّة الاستيطانيّة الصهيونية تنتظم جميع سياساتها حول العمل على  محو الفلسطينيين، ومن هنا يمكننا القول إنّ إتاحة الجريمة المنظّمة والقتل المستمر للفلسطينيّ يتفق مع مسعاها الدائم  لمحو الفلسطينيّين.

ماذا نعني بالجريمة المنظمّة؟

“لنفكّر في طريقة الحياة السابقة لفرانك كوستيلو، الرجل الذي أُطلق عليه مراراً لقب زعيم الجريمة المنظّمة. عاش في شقة باهظة الثمن على ناصية شارع 72 “سنترال بارك ويست” في نيويورك. غالباً ما كان يُنظر إليه وهو يتناول العشاء في مطاعم معروفة بصحبة قضاة ومسؤولين عموميّين ورجال أعمال بارزين. كان يحْلِق كلّ صباح في صالون الحلاقة في ‘فندق والدورف أستوريا’. في العديد من عطلات نهاية الأسبوع، لعب الجولف في نادٍ ريفي على الشاطئ الشمالي، في “لونغ آيلاند”. باختصار، على الرغم من أنّ سمعته كانت معروفة للجميع، فقد كان يتنقل في نيويورك بشكل واضح وبلا خجل، وربّما كان منبوذاً من قبل بعض الناس، لكنّه كان في كثير من الأحيان مقبولاً، ويستقبله الصحافيون، ويحبّه الأطفال، ويملك جميع خصائص الرجل الناجح والحياة المريحة. في مجتمع يُعامل مثل هذا الرجل بهذه الطريقة، يتضح أنه كان للجريمة المنظَمة نفوذ”. [3]

ما يُحاول أن يخبرنا إيّاه “هنري روث” (Henry S. Ruth)، أحد القانونيّين المشاركين في برامج محاربة الجريمة المنظمّة في الولايات المتحدّة، أنّ مدى انخراط وترابط المجرمين في المجتمع يعكس النفوذ الذي يمتلكونه في مراكز القوّة للدولة والمجتمع، ويصف ذلك على أنّه “تقديم  الخدمات”. بمعنى آخر، هناك سياسيون بحاجةٍ لتمويل، أو رجال أعمالٍ على وشك الإفلاس، أو رجال شرطةٍ يتلقّون معاشاً إضافياً بشكلٍ أسبوعيّ، يُمكنهم “تقديم  خدمة” تجاهل الجرائم أو إتاحتها والسماح بها لقاء مبلغٍ معيّنٍ من المال.

فلسطينياً، تُعيننا هذه الإشارة على استيعاب العلاقات التي تتشكّل في القرى والبلدات “العربية” في الداخل المحتلّ، خاصةً حيث تتواجد محطّات الشرطة الصهيونيّة وتزداد نسب الجرائم. تخبرنا سهى عرّاف مثلاً، في ملفّها حول الجريمة المنظّمة الذي نُشر في موقع “عرب 48″، أنّ محطّات الشرطة الصهيونية هذه توفّر الحماية والحصانة للمجرمين في كثيرٍ من الأحيان.

بالمقابل، يشكل  كل من الخوف والقلق، كسمات  إنسانيّة، بنيةً تحتيّةً لعمل المنظمّات الإجرامية هذه، كما جاء في مقالة “روث”؛ إذ يُعتبر الخوف، كشعورٍ وجوديّ، أداةً مهمّةً لترسيخ الفعل والنشاط الإجراميّ، وتعوّل عليه هذه المنظمّات عموماً في ابتزاز الأفراد في عملهم ومهنتهم ومصالحهم وعائلاتهم. وفي السياق الرأسماليّ، حيث لا يجد الفرد أيّة حماية اقتصاديّة أو اجتماعيّة، تستغلّ المنظّمات الإجرامية الخوف من أجل توسيع نشاطها وضمان استمراره.

تعمل منظومة الخوف في جانبين؛ الأوّل، حينما يدفع الخوف على المصلحة التجاريّة للقبول بعروضٍ نقديّة من السوق السوداء، بينما يعمل في الجانب الثاني من خلال القبول بعروض تقدّمها المنظمّات الإجرامية، خاصةً تلك التي تقدّمها إلى السياسيين أو رؤساء المجالس المحليّة أو البلديّة أو موظّفي الشركات الكبيرة، وهنا يكون القبول بهذه العروض نابعاً من الخوف على حياة المعنيّ وعائلته.

بالتالي، تُعتبر السيولة النقديّة مدخلاً أساسيّاً للعلاقات ما بين نواة الإجرام من جهة والمجتمع وأفراده من جهةٍ أخرى. وهُنا نستطيع أن نذكر السياسيين وتمويل حملاتهم الانتخابيّة، وحاجة ورجال أعمال  لقروض نقديّة سريعة لتغطية ديونهم، وشباب مقبلين على الزواج، أو مدمنين، وغيرها من حالات اجتماعيّة واقتصاديّة تدفعها الحاجة إلى قبول عرضٍ لتمويل نقديّ سريع. بدورها، تتيح العصابات الإجراميّة وتقدّم هذه الخدمات المرتبطة بالسيولة النقديّة، والتي تُعدّ أداةً مهمّةً للبدء بتشكيل نواة إجراميّة تضمن استمراريتها، وذلك عبر مأسسة هذه العلاقات مع المجتمع بهدف الربح.

وهكذا، تتّضح أمامنا العلاقة ما بين خلق فرص إجراميّة وإنتاج مجرمين، وهي علاقة مستمرّة تتغلّغل في المحيط الاجتماعي وتستغل الإمكانيّات المتاحة والظروف، كما يتّضح ارتباط ممارسات المنظمّة الإجراميّة بنشأتها الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة.

لننظر إلى إحدى عائلات/ منظّمات الإجرام في الداخل المحتلّ كمثال، وهي “عائلة جاروشي”. ما هي الظروف التي تشكّلت فيها؟

يرى الدكتور “بنحاس يحزقيلي”، الرئيس السابق لـ”مركز جيش الدفاع الإسرائيلي للأبحاث الاستراتيجية والسياسات”، أنّ تشكّل العائلة كقوّة إجراميّة مركزيّة مرتبطٌ بأمرين؛ الأوّل أنّ لديها ذراعاً مهنيّاً شرعيّاً منخرطاً في الاقتصاد الصهيوني، والثاني أنّها تمتلك ذراعاً مسلّحاً ينفّذ المهمّات الخارجة عن القانون. ويصف “يحزقيلي” عمل هذه الأذرع الإجراميّة باعتباره وسيلة إقناعٍ لمنح العائلة مشاريع في قطاعات البناء أو تنظيف الشوارع أو غيرها.

ويعزو “يحزقيلي” تطوّر العمل الإجرامي لعائلة “الجاروشي” إلى ثلاثة عوامل، أوّلها؛ انتهاء “الحرب الدامية” مع المنظمّة الإجراميّة “عائلة كراجة” التي اشتدتّ في التسعينيّات. وثانياً، الفراغ الذي طرأ على  النشاط الإجرامي بعد محاربة المنظمّات الإجراميّة في “المناطق اليهوديّة”، الأمر الذي قاد إلى اتّخاذ المنظّمات العائلية الإجرامية المتحالفة مع “المنظّمات اليهوديّة”، كـ “عائلة جاروشي”، دوراً قيادياً أكملت من خلالها الأعمال التي بدأتها نظيرتها الصهيونية وسيطرت على مناطقها.

أمّا العامل الثالث، فهو التنظيم العائلي الاجتماعي للمنظّمات الإجرامية العربيّة، والذي جعل منها بنية متماسكةً وصلبة أمام محاولات الشرطة الحثيثة اختراق العائلة ومكافحتها عبر جمع الدلائل لجرائمها وعملها. إذ من الصعب على جهاز الشرطة زرع عُملاء داخل المنظّمة، بسبب الهيراركيّة (التسلسل الهرمي) العائلية لدى هذه المنظّمات، وتُعتبر عائلة جاروشي نموذجاً لذلك. فعلى حدّ وصف أحد عناصر الشرطة الصهيونية، تُعتبر أية محاولة  للتصادم  مع عائلة جاروشي بمثابة شن عمليّةٍ عسكريّةٍ، إذ عليها أن تتضمّن حشد المئات من رجال الشرطة والقوّات الخاصّة. [4]

ويبيّن لنا تشكّل عائلة جاروشي، كمنظمّة إجراميّة، خصائص محيطها العربيّ والسياق المتعلّق  بالصراع في السياق الاستعماري. فعندما يتعلّق الأمر بنشاطٍ إجراميّ في مناطق يهوديّة، فلن تكون أهداف أجهزة الدولة الاستعماريّة المتمثلة باضعاف المنظّمات الإجرامية والقضاء عليها على القدر نفسه.  أي أنّ أثر السياق  الاجتماعيّ والسياسيّ في استمراريّة النشاط الإجراميّ الفلسطيني في الأراضي المحتلّة عام 1948، وهذا الحياد الإيجابيّ “الإسرائيلي”، قد تحوّل تدريجيّاً إلى علاقات نفعية وتقارب؛ ففي عام 2003 على سبيل المثال، تبلورت علاقات ما بينَ العائلة وحزب الليكود، بالتعاون مع “عمري شارون”، ابن الرئيس السابق لحكومة الاحتلال “أريئيل شارون”، بالإضافة إلى علاقاتٍ ربطت العائلة مع عضو الكنيست السابق “دافيد بيتان”، وتلقّي الأخير مبالغ منها لسداد ديونه في السوق السوداء، كما كشفت تحقيقات ملّف 1803 التي نُشرت نتائجها في عام 2017.

منطق الربح وسياسة الهدر

ترى التنظيرات الأكاديميّة وفقاً للباحث “ألبانيز” أنّ ظاهرة الإجرام المنظمّ تتجسّد في ثلاثة مركبّات أساسيّة وهي: أولاً،  اتخاذ القرارات بشكلٍ هرميّ، كونها منظمّة هيراركيّة يقوم نشاطها على التسلسل الهرميّ وأوامر تراتبيّةبينَ رئيسٍ ونائب رئيس ومسؤولين ثانويين وومنفذين. والمركّب الثاني هو أنّها تسعى للربح وتراكم راسمال من خلال   نشاطاتها الاجرامية؛ العنف المخدرات والسوق السوداء ، سواءً بمراكمة النقد أو المعادن الثمينة . وثالثاً، أن يتمّ النشاط الإجرامي بشكلٍ غير قانوني وسري.

ويبيّن أنّ نشاط المنظمّات الإجراميّة يعمل وفق  المنطق الرأسماليّ للربح والتراكم، إلّا أنّها تمارس ذلك عبر  أطرٍ غير قانونيّة وخارج الدوائر الاقتصاديّة الرسمية . في السياق الراهن في الداخل المحتلّ، نجد تعاوناً أو تسهيلاتٍ من قبل الشرطة وأجهزة إنفاذ القانون للتجارة غير القانونيّة، والتي تدرّ أرباحاً للمنظمّات الإجراميّة، متمثلة بتجارة السلاح. هذه التجارة التي تتسبّب  بهدرِ أرواح عشرات الشباب (والفلسطينيين عموماً) سنويّاً.

كما تجدر الإشارة إلى أن مجال النشاط  الاقتصادي   للمنظمّات الإجراميّة، في تجارةِ السلاح  محصور في المجتمع الفلسطيني في الداخل،  ويترافق مع هذه التجارة قيام هذه المنظمّات بفرض إتاوات ومبالغ ماليّة على أصحاب المحال والمتاجر والمصالح مقابل “الحماية” ، ناهيك عن أعمال أخرى غير قانونيّة كتجارة المخدّرات بجميع أشكالها وتبييض الأموال؛ أيّ تحويل “رأس مال إجرامي” إلى رأس مال قانونيّ من خلال الاستثمار في العمليّات والدوائر الاقتصاديّة المشروعة.

نشرَ مكتب “مراقب دولة إسرائيل” (State Comptroller of Israel) تقريراً حول تعامل الشرطة مع انتشار السلاح غير المرخّص، لافتاً إلى أن معظم الأسلحة المنتشرة في المجتمع العربي  لها  ثلاثة مصادر رئيسية: سرقات من جيش الاحتلال، وتهريب من الأردن، وإنتاج محلّي في الضفّة الغربيّة، فضلاً عن أسلحة أخرى تأتي من سرقة منازل وسيارات.

ووفقاً لبيانات الشرطة الصهيونية، في عام 2016، كانت هناك زيادة بنسبة 75% في عام 2016 مقارنةً بعام 2015 في عدد قطع  الأسلحة المسروقة من قواعد الجيش ، ممّا يشير إلى ارتفاع الطلب على قطع الأسلحة القياسية بين المجرمين والمنظّمات الإجرامية ومصنّعي الأسلحة المؤقتين إلى أن وصلت ما يقارب نصف مليون قطعة سلاحٍ منتشرة في المجتمع العربيّ، وتضمّنت السرقات أيضاً أسلحةً مثل القنابل اليدوية والصواريخ، كما أظهرت بيانات الشرطة أنّ سرقة مثل هذه الأسلحة ازدادت بنسبة 200% في عام 2016 عن السنة التي سبقتها. [5]

واعتُبر الطلب المرتفع على قِطع السلاح (المسدّسات) سبّباً للازدياد في سعر القِطع المسروقة من جيش الاحتلال التي وصلت ما بين 8000- 10000 شيكل، ممّا حفّز قيام ورشات صناعة محليّة منخفضة السعر كـ “سلاح كارلو” في الضفّة الغربيّة، والتي تصل إلى 3500-6000 شيكل تقريباً. ولفت التقرير إلى أنّ الشرطة والأجهزة الأمنيّة الصهيونية لا تنسّق فيما بينَها، ممّا يؤدي إلى انخفاض نجاعةِ عملهم، وهو ما يُمكننا اعتباره ضمن “التسهيلات”.

وبالإضافة إلى تجارة السلاح، جاء في تقرير “ذي ماركر” في عام 2016، أنه وفقاً لمصادر استخبارات الشرطة، “تقدّر عائدات المنظمات الإجرامية [العربيّة واليهوديّة] في “إسرائيل” والخارج؛ من الكازينوهات في أوروبا وتجارة الماس في أفريقيا، بنحو 50 مليار شيكل سنوياً. وتتراوح الشركات المملوكة للمنظمات الإجرامية من تجارة الرمال إلى المقامرة عبر الإنترنت ومن تهريب الكوكايين إلى شركات التنظيف”. [6]

وفي هذا الخصوص، يشكّل الربح الذي يعود إلى المنظمّات الإجراميّة النشطة في القرى والبلدات والمدن العربيّة في الداخل المحتلّ من تجارة السلاح، سواءً المسروق أو المصنّع محليّاً، حافزاً مهماً أو مخرجاً مُربحاً للعديد من الشباب المفقَر في الداخل المحتلّ، ويكون في الوقت ذاته هدراً لهم. إذ يصبح النظر إلى قطعة السلاح اقتصادياً كوسيلة إنتاج، كما الأرض أو المصنع على سبيل المثال. وبدورها، تصبح قطع السلاح جُزءاً من عمليّة تراكم الربح؛ ففي حال لديكَ قطعة سلاح متوسطة الحال مصدرها من جيش الاحتلال واقتنيتها بقيمة 10 آلاف “شيكل”، فهي تتيح لك المشاركة بعمليّات وتهديد وفرض إتاوات، كتابعٍ للمنظمّة الإجراميّة أو بشكلٍ مستقلّ. وتعتبر هذه الممارسات هي الأكثر انتشاراً في المجتمع الفلسطيني في الأراضي المحتلة عام 1948، وينتجُ عن ذلك تراكم ماليّ إضافيّ عن قيمة قطعة السلاح. إذن، أصبحت قطع السلاح وسيلة إنتاج أساسيّة ومهمّة عند العديد من الشباب راهناً، في ظلّ الغياب [السلب] المستمرّ لأراضي الفلسطينيين؛ وسيلة الإنتاج التاريخيّة للمجتمع.

إن ما تقدّم ذكره مرتبطٌ في السياق الاستعماريّ الاستيطانيّ ونمط التراكم النيوليبرالي الراهن؛ فمن ناحية، تستمر الدولة الصهيونية في مصادرة الأرض واحتكار استخدامها والتعاطي معها، وتتيح من الناحية الأخرى وسيلة إنتاج أخرى [تدميريّة] وهي قِطع السلاح. ولذلك، ليست الدولة معنيّةً بمحاربة الجريمة في الداخل الفلسطينيّ، إلا من خلال آليات تعيد إنتاج هيمنة أشدّ قوّة واختراقًا للمجتمع الفلسطيني تهدف أساساً إلى تفكيكه، وأيضاً في الوقت ذاته، تعطيها إمكانات الربح والتراكم عبر صناعاتها الأمنيّة والعسكريّة.

تأتي آليات إعادة إنتاج هذه الهيمنة عبر الاهتمام المكثّف في زيادة عدد محطّات الشرطة وكاميرات المراقبة والنشاط الأمني في الحيّز العربيّ، كجزءٍ من النسق النيوليبراليّ العالميّ المعتمِد أساساً على تجارة السلاح والتكنولوجيّات الأمنيّة عموماً، والهدر البشريّ الناتج عن ذلك. [7] بالتالي، تشكّل الدوائر والنظم الاقتصاديّة القانونية/غير القانونيّة للسلاح والتجارة بها عموداً رئيسيّاً لهذه المنظمّات ونشاطها في المجتمع العربيّ. بالموازاة، تفيد هذهِ التجارة المخطّط الاستعماري الاستيطانيّ، من خلال المحو والهدر المستمرّ والمكثّف للمجتمع سياسياً وماديّاً [أي القتل]، وهُنا وبشكلٍ خاصّ نجد تشكّل العلاقة النظريّة بينَ المتغيّرات الثلاثة؛ الدولة الاستعماريّة واستهدافها للمستعمَرين الفلسطينيين أولاً، والعائلات الإجراميّة ثانياً، والتراكم النيوليبراليّ ثالثاً.

******

الهوامش:
[1]  ALBANESE JS. The Causes of Organized Crime: Do Criminals Organize Around Opportunities for Crime or Do Criminal Opportunities Create New Offenders? Journal of Contemporary Criminal Justice. 2000;16(4):409-423.
[2]  جمعية الشباب العرب “بلدنا”، جامعة كوفنتري- بريطانيا. تِسع سنوات من الدّم- تقرير إحصائيّ عن جرائم القتل لدى فلسطينيي الـ48. 2020
[3]  Ruth HS. Why Organized Crime Thrives. The ANNALS of the American Academy of Political and Social Science. 1967;374(1):113-122.
[4] موقع  الدكتور بنحاس يحزقيلي، “تاريخ الجريمة المنظمّة في إسرائيل”، رابط.
[5]  مراقب الدولة. تعامل شرطة إسرائيل مع حيازة الأسلحة غير القانونيّة وحوادث إطلاق النار في بلدات المجتمع العربيّ والبلدات المختلطة. 2018.
[6] ذي ماركر. “كم من المال تساوي عائلات الجريمة في اسرائيل؟”، 18/06/2016، باللغة العبريّة، رابط المقالة.
[7] David Lloyd & Patrick Wolfe (2016) Settler colonial logics and the neoliberal regime, Settler Colonial Studies, 6:2, 109-118.