منذ العام 2014 والقدس تعيش حالة اشتباك مستمرّة مع الاحتلال، ما أن تهدأ حتى تشتعل من جديد تحت عناوين وقضايا يتكثّف فيها الصراع مع الاحتلال؛ هبّة الشهيد محمد أبو خضير، البوابات الإلكترونية، اقتحامات المسجد الأقصى، الشيخ جراح، باب العامود، وصولاً إلى تشييع الشهداء شيرين أبو عاقلة ووليد الشريف، وما بينها من حالة اشتباكٍ يوميّ في شوارع القدس وأزقتها وأحيائها. في كلّ مرة، تتفوق القدس على ذاتها في أدائها النضالي المشتبك إبداعاً ومباغتةً للعدو من حيث لم يحتسب، ومن ثمّ في إرباك حساباته وإجباره على التراجع عن خطواته التصعيدية العينية، في مواجهة لا تنقصها البطولة الملحمية، يسطر فيها الشباب المقدسي كل مرة فصلاً جديداً في سفر الصمود والتصدي، وتدخل فيها إلى حيز التداول العام كلمات ومصطلحات تكثّف رمزياً هذه المواجهة كـ«علامة مسجلة» لكلّ مواجهة من مثل «خاوة، جكر، شمط» وتتحوّل إلى علامة من علامات الهوية المقدسية. 

ولكن،

في اليوم التالي للمواجهة، تعود الحياة إلى طبيعتها في المدينة، وطبيعتها تعني استهدافها الدائم بأعقد عمليات الاحتلال الاستيطاني والهندسة الاجتماعية التي لا تتوقف، والتي تمس كل مناحي الحياة بأدق تفاصيلها، التعليم و«أسرلة» المناهج، البناء والسكن، قانون التسوية (الطابو)، الدمج الاقتصادي وتفكيك الاقتصاد المقدسي، الاختراق المجتمعي للمؤسسات الاجتماعية التابعة للاحتلال، تسريب العقارات والتي عادةً ما تزيد «إسرائيل» من جرعة ممارستها القمعية البنيوية هذه بعد كل مواجهة، وتقوم بأخذ الدروس والعبر ومن ثم تحوّلها إلى رزمةٍ من السياسات الاستعمارية الجديدة. في المقابل، يظهر دائماً عجزنا الكامل في مواجهة هذه الملفات، وهكذا ترسخت المعادلة، «إسرائيل» قد تتراجع تكتيكياً ولكنّها تتقدم استراتيجياً في عملية تهويد المدينة.

 قد يقول قائل، هذا هو الوضع الطبيعي في مواجهة الاحتلال، أي احتلال، من حيث كونها مواجهة ذات طبيعة غير متكافئة دوماً، وأنّ هذا هو القانون الحاكم لهذه المواجهة، وأنّنا لا نستطيع مواجهة العدو: الدولة والتخطيط والأجهزة الاحتلالية المتشعبة بذات الوسائل والنفس الطويل، وأنّ هذه المواجهة البطولية تجري في ظلّ تقاعس بل وتواطؤ عربي وفلسطيني، وبالتالي ليس بالإمكان أفضل ممّا كان. وقد يجادل آخر بأن أيّ عمل مؤسساتي بعيد المدى لمواجهة الاحتلال في قضايا التهويد الكبرى، سيتمّ استهدافه بسهولة وتفكيكه، وقد يضيف آخر أنّ حالة المقاومة الباسلة لشباب القدس تثبت فشل كلّ ما قامت به «إسرائيل» لتدجين المدينة وشبابها ومن ثمّ الركون إليها.

في هذه الأيام التي نحيي فيها الذكرى 74 للنكبة، يبدو أننا لم نع درس النكبة إلى الآن، لم تكُن النكبة كما الصورة النمطية لها هزيمة بالضربة القاضية، وإنّما كانت هزيمة بالنقاط، كانت النكبة محصلة لعددٍ لا نهائي من المعارك تمتدّ من المواجهة العسكرية مروراً بالاقتصاد، وحسن التخطيط وبناء المؤسسات…، ولم تكُن النكبة ممكنة فقط بسبب تفوّق العدو وتآمر الأنظمة العربية، وإنّما كانت ممكنة أيضاً بسبب قصور ذاتي وإشكاليات داخل المجتمع الفلسطيني على مستوى الرؤية ومن ثمّ الممارسة. ومن هنا لا يمكن لأيّ عارفٍ بحال القدس إلا أن يقول إن هنالك الكثير ممّا يمكن عمله ويتعلق بنا لا بالعدوّ، ودون أن نقلّل من أهمية الاختلال الهائل في موازين القوى بين طرفي الصراع في الإمكانيات والقدرات. ولكن أيضاً لا يمكننا التقليل من مسؤوليتنا الذاتية في مسألتي المحاسبة المجتمعية وغياب الرؤية الشمولية بعيدة المدى للنضال في القدس، غير المحكومة بردات الفعل، ما يطلق عليه بالاستراتيجية، رغم أن هذه الكلمة أصبحت مبتذلة مع كل التداول الخطابي الفارغ لها، وكونها ابتذلت لا يعني أنها غير صحيحة، ولا يعني غياب نقاش نقدي جادّ حولها بعيداً عن المجاملات وتسجيل الحضور والاحتفاليات.

قد تبدو كل صعوبات العمل الاستراتيجي بعيد المدى مثبطة، سواءً الذاتية منها أو المتعلقة بالاحتلال، ولكنّ ذلك بالتأكيد لا يمنع أن تكون حاضرة دوماً في أي نقاش وحديث عن المدينة، خاصةً في لحظات توهجها النضالي. وهناك الكثير يمكن عمله في هذا المجال، حتى في ظلّ هذا الوضع الصعب، إذا ما تحولت قضايا القدس الاستراتيجية إلى عناوين فعلية للنضال لا تقل أهمية عن مواجهة الخطوات العينية هنا وهناك مع الاحتلال. في المواجهات المصيرية، لا يكفي الاحتفاء وتكاثر التقارير الإعلامية والممارسات الخطابية حول البطولة والإشادة بها مع أهميتها، ولا يكفي الحديث عن وحشية الاحتلال وقمعه مع أهميته وصدقيته، وإنّما علينا تحويلها أيضاً إلى مناسبة نقدية للحديث عن مكامن قصورنا وفسادنا وممكنات الفعل طويل النفس في لحظة انغماسنا بالحدث البطولي وملحميته.

على سبيل المثال، في الوقت الذي ننهمك في فضح وإدانة الاحتلال لاعتدائه على مؤسساتنا الطبية، علينا أن لا ننسى بأن «أزمة داخلية» حقيقية تعصف باثنتين من كبرى مؤسسات القدس الطبية الوطنية أوصلتهما إلى حافة الانهيار!