في السابع عشر من آذار 2017 وعلى بعد كيلومترات من مدينة القدس؛ في قرية الولجة بالتحديد، زُفَّ الشهيد باسل الأعرج إلى مثواه الأخير، منغرساً في تراب الولجة التي أحبّها وأحبّته. عند وصولنا للقرية، هالنا مشهد جدار الفصل، إذ تقبع على بُعد أمتارٍ منه بيوت مستوطنة “هار جيلو” التي ترتسم في أعلى التلة كإمارةٍ كولونيالية مخيفة؛ منازل منسلخة عمّا حولها مقارنةً بالعمارة التقليدية للقرية الفلسطينة، تنذر بالوعيد وتوحي بالغلبة.

وقفتُ على صخرةٍ  متأملاً المشهد، مُفكِّراً  بتأثير المكان في تشكيل ظاهرة الباسل، وكيف استطاع الإفلات من كل أدوات الهيمنة المكانية التي يمارسها العدوّ الصهيوني للسيطرة على وعي الفلسطيني وتجذير الهزيمة فيه، ليفاجئني صديقي بسؤاله عن عدم وجود قرميد على سطوح منازل مستوطنة “هار جيلو”، محاكاةً لبقية المستوطنات. حرّضني هذا التساؤل على العودة إلى التاريخ، لعلّني أعثر على الإجابة.

 قبل مائة عام في التاسع من ديسمبر 1917، هُزمت وحدات الجيش العثمانية في مدينة القدس أمام القوات المتحالفة تحت قيادة الجنرال إدموند اللنبي، وتم تعيين الكولونيل “رونالد ستورز” حاكماً عسكرياً. كان ستورز يرى في عودة اليهود إلى فلسطين فعلاً خلاصياً وعدالةً تاريخيةً، كما كان ينظر الى القدس من زاوية دينية- استشراقية. عمل جاهداً ليضع بصمته على معمار القدس، ويكون حلقةً من سلسلةٍ طويلةٍ من البناة – وفقاً للمصطلحات الهيرودية-  الذين أسهموا في بناء المدينة، فاستدعى المهندس وليام ماكلين لوضع مخطط لإعادة التعمير.

  بعد أسبوعين، قدّم ماكلين تقريراً أولياً لتبدو البلدة القديمة ككتلة صخرية نفيسة معروضة في قلب حديقة مستديرة الشكل، وتحفة أثرية توراتية دبّت فيها الحياة. وبعد أسبوعٍ من مغادرة ماكلين، أعلن ستورز تجميد كل أعمال البناء في القدس وحظر الجبس والطين والحديد المموج من قائمة مواد البناء المسموح استعمالها، مُصرّحاً أن الحجر الجيري المحلي هو ما يجب استخدامه في تشييد المباني الجديدة والملحقات والسطوح في الجزء المحيط بالبلدة القديمة، على اعتبار أن الحجر  ينطوي على إرثٍ توراتيٍّ، ويساهم استحدامه في تعزيز الرمزية الاستشراقية للمكان.

على الرغم من جميع التحولات السياسية والتكنولوجيا المستخدمة في مواد البناء، حافظ  الصهاينة على تطبيق “قانون ستورز” في مدينة القدس عبر إصدار قانون موحد يقضي بالتطبيق الصارم لاستخدام الإكساء الحجري في المناطق المتسعة بكاملها، لتتماشى مع المغازي السياسية المتغيرة في كل حين، وإسباغ القداسة على المدينة بأكملها ليتسع نطاق قداسة القدس.

كان قانون ستورز أشبه بعيني ميدوسا* المفترستين، إذ أحال كل البنيان في الأحياء الجديدة؛ بما فيها مراكز التسوق ورياض الأطفال والكُنُس والمكاتب والقاعات الرياضية والإسكان على رأس القائمة إلى حجر، وانضوت الأحياء الريفية البعيدة الواقعة خارج الحدود التاريخية للقدس تحت عباءة الهوية الدينية الجامعة للمدينة.

كانت مستوطنة “جيلو” التي تقع أقصى جنوب القدس من ضمن الأحياء الجديدة التي تم التوسّع فيها، ليتم التعامل معها كأنها ضاحية سكنية وليست جزءاً من نسيج المستوطنات، نظراً لوقوعها ضمن حدود الإدارة المحلية للقدس التي اتسعت كثيراً، بغض النظر عن طبيعتها أو نظامها الاقتصادي أو بعدها عن المركز.

نشهد في تلك المستوطنة تعمداً في استخدام حجر القدس في عملية الإكساء الحجري، مُحاولةً لتصدير بيئة البلدة القديمة نحو الخارج للمحافظة على النسيج المعماري للقدس لتتوافق مع تصورات المحتل التوسعية. في ذات السياق، عبّر المصمم المعماري لجيلو  avraham yaski عام 1977 عنها، بالقول: “هي جزء من الجدار الذي يغلف القدس .. المدينة ذات الحدود الواضحة “، مضيفاً: “بُذلت جهودٌ لخلق الشعور بأنها جزء عضوي من القدس، وليست ضاحيةً سكنيةً”

لم يمثّل الحجر بالنسبة إلى بناة المدينة المتعاقبين الجوهر المادي للمكان، بل لطالما كان مرتبطاً بدلالة روحانية وقدسية بلا شكّ، فليس مفاجئاً تماماً أن يضطلع كساء من الحجر الجيري البسيط بدور الوحي الروحي الديني إلى حدٍّ ما في القدس، حيث يسود مناخٌ يعرض فيه أحد الصناعيين، على سبيل المثال، حجر القدس في كتيبات الترويج الخاصة به على أنه “حجرٌ نفيس مقدودٌ من جبال القدس المقدسة .. تحفةٌ تجود به الطبيعة”، فيما يصفه ناقد معماري إسرائيلي كجوهر “لا تحمل ملامحه بصمة القرن العشرين… زاخرٌ بالمشاعر يذكرنا بحقيقة أن الإنسان ليس إلا تفصيلاً طفيفاً في دورة حياة سرمدية عظمى”.

عودٌ على بدء، ففي مثل هذا اليوم من العام الماضي، بدا نعش الباسل الذي يطوف حوله المشيّعون والعشّاق مُسيّجاً للفضاء من حوله؛ بالجدار والمستوطنة، وكأنّ الجنازة المهيبة التي احتضنت جثمانه والمعنى الذي أفضى إليه كانت لحظةً تبدّد  إيحاءات المستوطنة في الغلبة علينا؛ كانت لحظةً تمدّ يدها لنعوش الشهداء، تحطّ في بطن المواجهة، تحفر عميقاً في تراب الولجة، تقبض على سدة الباسل من علٍ وتمحو الغريب من المكان.

……………….

* ميدوسا: أسطورة من الميثولوجيا الإغريقية تحوّل كلَّ من ينظر إلى عينيها إلى حجر.

المرجع:

وايزمان، ايال. 2017، “أرض جوفاء: الهندسة المعمارية للاحتلال الإسرائيلي”، القاهرة: مدارات للأبحاث والنشر، ترجمة باسل وطفة.