يقدّم لكم فريق “باب الواد”، في هذه المقالة، مجموعةً من مختارات قراءاته لشهر آب الماضي، انتقيناها لكم من منابرَ مختلفة، والتي تنوعت بين أفكار مهدي عامل الفاصلة في تاريخ الماركسية العربية، مروراً بالكاتب والروائيّ الجزائريّ الطّاهر وطّار في الذكرى الثامنة على وفاته، انتقالاً إلى “بني مورس”، كنموذج لظاهرة المؤرخين الجدد في سياقها الحقيقي؛ وإعادة إنتاج الصهيونية المقنّعة، وأخيراً إلى عالم الموضة، وتدجين الرأسمالية لرموز المقاومة وتحويلها إلى سلعٍ استهلاكيةٍ وتفريغها من قيمها الأساسية.

مهدي عامل: الماركسية في إطارٍ عربيٍّ مهيبٍ

في هذا المقال الرصين الفذّ، والذي نشر في موقع “منشور”، يحدّثنا سفيان البالي عن أفكار مهدي عامل، التي تثير لدى قارئها رهبةً هائلةً بسبب جمالها المهيب، والتي قد توقعه في فخّ الخطابات الأيديولوجية المسايرة. مهدي عامل، مثقّفٌ عضويٌّ جدليٍّ مُنحازٌ للثقافة الشعبية المناضلة ضدّ الطبقات البرجوازية، ويناقض كلّ مظاهر الرجعية.

شكّل عامل نقطةً نظريةً فاصلةً في تاريخ الماركسية العربية؛ إذ يرى أنّ الثقافة حركةٌ وثورةٌ ضدّ السكون، وليست الحضارة عنده مفهوماً روحياً مستنداً على الفكر فحسب، وإنّما تتحدّد بناءً على ارتباطها الماديّ التاريخيّ ببنية المجتمع، من السياسة والعلاقات الاجتماعية ونمط الإنتاج. ويرى أنّ الفكر، وحدَه، رومانسيةٌ مائعةٌ أو فلسفةٌ مثاليةٌ ما لم تقم على أساسٍ ماديٍّ، يكون التناقض والتفاوت حاضراً دوماً فيه، كضرورةٍ محرّكةٍ للتاريخ والسياسة، التي تعدّ محوراً للوجود الاجتماعي، تنتجُ هذه الحركة من تطاحن الطبقات والصراع بينها، مُنتجةً طبقاتٍ مُهيمِنةً، وطبقاتٍ “مُهيمَناً عليها”.

ويرى عامل أنّ أزمة “الركود العربي” أزمةُ سكونٍ، يرى المستشرفُ الآتيَ منها بغموضٍ، بينما ينظرُ إلى الماضي بوضوحٍ، إذ يقول: “سِر في الزمن الثوريِّ، وحدِّق فيه بعين الفكر العلميّ، ترَ الواضح في الآتي”، ولا يجبُ الرجوع إلى الماضي لفهم أيّة حضارة؛ بل بدراستها من منطلق الواقع المعاصر، ولا بدّ، لجدوى تلك الدراسة، من طرح الحضارة في شكلها الطبقيّ؛ وإلا فإنّها ستعتمدُ لغة طبقةٍ واحدةٍ: الطبقة المُهيمِنة.

وفي نقد كلّ المنبهرين بحضارة الغرب، والقائلين بالفرق بين العقلين الشرقي والغربي؛ يُفنّد عامل بكون الفكر العلميِّ ذا طابعٍ كونيٍّ روحيٍّ لا يُنسبُ لأيّ الأمم حصراً. وفي كتابه “هل القلب للشرق والعقل للغرب؟”، يناقض عامل إدوارد سعيد في استشراقه الذي يحكم فيه على الشرق بالتعميم والقطع، ويعتبرُ المادي حِكراً على الغرب. ولهذا، فإنّ عامل يرفض فكرة الأمة، ويرفض بالضرورة أن يميّز هذه الأمة نوعٌ بعينه من الفكر، شرقياً أو غريباً على السواء؛ إذ إنّ الأمة تنحلّ في النهاية إلى طبقاتٍ، وفكرها إلى فكرٍ طبقيٍّ، قد يلتبسُ بفكر الطبقة المُهيمِنة، ومن ثمّ يُعمَّم.

وبالانتقال لنقد الطائفية، يعتقد عامل أنّها لا تنتمي بالأساس للمجال الديني؛ بل إنّها موجودةٌ في البنى الاجتماعية المادية، ولم تكُن إلا أداةً لتمويه الصراع الطبقيّ الواضح في حرب لبنان الأهلية، وإحدى عناصر الهيمنة الطبقية للبرجوازية اللبنانية. ويعرّج عامل في هذا السياق على قضية فلسطين، ويرى أنّها لا تخصّ طائفةً بعينها، وإنّما الكلّ معنيٌّ بها عنايته بالوجود البشريّ الحرّ.

أخيراً، وفي ظلّ الصراع الطبقيّ، كان لا بدّ من وجود حزبٍ ثوريٍّ كفطرةٍ لممارسةٍ سياسيةٍ ثوريةٍ، في إحباطٍ لتأبيد أدوات السحق ضدّ الطبقات الخاضعة، وكذلك الحدّ من شروطٍ طبقيةٍ معيّنةٍ تُحكِم سيطرة أجهزة الدولة، ولهذا كان لِزاماً على الحزب الثوريّ أن يكون حرّاً من ذراع الدولة وغيرَ تابعٍ لتصوّراتها البرجوازية.

للقراءة، من هنا.

في الذكرى الثامنة لوفاة الطّاهر وطّار

أمام القطار، ألقى الشيخ عابد نفسَه بعد أن فشل بإقناع أهالي قريته بحقيقة “الشهداء يعودون هذا الأسبوع”، والتي وردته في رسالةٍ من الخارج، ليقف الدركيُّ أمام الناس المتجمهرين وقد حمل رسالة الشيخ عابد، معلّقاً بعد قراءتها: “إنّها فعلاً.. سبحان الله العلي العظيم”.

أصبحت قصة “الشهداء يعودون هذا الأسبوع” للكاتب الجزائري الطّاهر وطّار، والتي تتناولُ الحالَ الذي آلت إليهِ البلادُ بعد الثورة، من أبرزِ الأعمال الأدبية القصيرة، والتي تَعرّف من خلالها الكثيرون على الطّاهر وطّار وأدبياتِه التي رسّخت الرواية الجزائرية باللغة العربية، خلافاً للكتّاب الجزائريين الأوائل الذين كتبوا رواياتهم باللغة الفرنسية.

وفي الذكرى الثامنة لوفاة الطّاهر وطّار، يستعرضُ الكاتب محمد عليّ فقيه، في موقع “الميادين”، سيرةَ الكاتب الجزائري الطّاهر وطّار الذي خطا أولى خطواته الأدبية في الخمسينيّات بكتابة الشعر، وسرعان ما اعترف بفشله فيه، ليسافر إلى تونس في عام 1955، حيث سينشر أُولى قصصه باللغة العربية تحت عنوان “الحبّ الضائع”، والتي ستكون مفتاحَ انتقاله لكتابةِ الرواية المتمرّدة الرّافضة للواقع ومستجداته، خاصةً بعد الثورة الجزائرية، وليصبحَ من الأدباء الأكثر جرأةً على مواجهة “مواضيع المرحلة الساخنة”، وهو ما امتازت به روايته “اللّاز”، والتي رصدت تناقضاتِ الثورة الوطنية الجزائرية.

لم يكن وطّار لساناً لوطنه في رواياته وقصصه فحسب، بل كان أحد ثواره ومحاربيه أيضاً. ففي عام 1956، ترأس منصبَ “مراقبٍ سياسيٍّ” حتّى عام 1984، قبل أن يتمّ إقالته على خلفية إحدى قصصه القصيرة. كما تخلّل تلك الفترة التاريخية عمله في مجال الصحافة وتأسيسه أول أسبوعية في الجزائر المستقلّة بعنوان “الأحرار”، والتي ما لبثت السلطات في الجزائر إلّا أن أغلقتها، وهو المصير ذاته الذي لاقته فيما بعد أسبوعية “الجماهير” وأسبوعية “الشعب”.

ويستعرضُ الفقيه في ختام مقاله أبرز روايات وطّار، بدءاً من رواية “الزلزال” التي يراقب خلالها التحوّلات الزراعية للبلد، والصِدام العميق بين الثورة والمناوئين لها، إلى رواية “العشق والموت في الزمن الحراشي”، والتي تؤرخ مرحلة الثورة الزراعية والتسيير الاشتراكي للمؤسّسات، ثمّ رواية “الحوات والقصر”، تلتها “عرس بغل”، فـ “للدولة الإسلامية”، فيما برزت روايته “تجربة في العشق” عام 1989، بتناول إيديولوجيا البورجوازية الصغيرة القائمةعلى الازدواجيّة، تبعها عام 1996 برواية “الشمعة والدهاليز”، إضافةً لروايات أخرى صدرت في نهاية التسعينيّات.

لم يقعد وطّار، والمعروف بلقب “أبو الرواية الجزائرية”، عن الكتابة إلّا في عام 2010، ليغادر الرواية العربية إلى الأبد، وقد ترك كنزاً مهماً من الروايات والقصص الأدبية، نجح خلالها بالتمردّ عن المألوف، وتوثيق المراحل التاريخية المتعددة من الثورة الجزائرية وما تلاها.

للقراءة، من هنا.

“بني موريس” المؤرّخ الاستيطاني الجديد: كان علينا طردهم جميعاً

في هذا المقال المنشور على “بوابة الهدف الإخبارية”، يحدّثنا أحمد جابر عن “بني موريس”، الذي يصنّف نفسه كمؤرّخٍ جديدٍ، وهو أيقونةٌ للكثيرين في اليسار الصهيوني، وحتّى لبعض الليبراليين الفلسطينيين، نال شعبيته في مطلع التسعينيّات؛ بعد نشر كتابه “ولادة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين”. أثبت “بني موريس” في كتابه جرائم الكيان الصهيونيّ في النكبة استناداً إلى وثائقَ سرّيةٍ تمّ الكشف عنها بعد عقودٍ من التعتيم؛ أيّ بعد انتهاء الفترة القانونية الكافية قبل إتاحتها للباحثين، وهو ما تداعت له ظاهرة المؤرخين الجدد، والتي لم تكن لتأتي إلّا في سياق انتصارٍ صهيونيٍّ أخضع مسار التسوية للشروط الأمريكية-الصهيونية فترة الثمانينيّات، فلم يكن من ضيرٍ في إعادة إنتاج روايةٍ تاريخيةٍ جديدةٍ تنقد الرواية الرسمية الصهيونية عام 1948.

بينما يتأسّف “بني موريس”، في مقابلةٍ قريبةٍ له، على عدم طرد جميع الفلسطينيين عام النكبة، يتأسّف كذلك على صفقة شاليط، وعلى عدم قصف إيران، ويزعم أنّ “الجيش الإسرائيليّ نموذجٌ أخلاقيٌّ”، وهو، رغم ذلك، يصرُّ أنه ما يزال يسارياً. ولا داعيَ للاستهجان؛ بل لعلّها الحقيقة الأكثر جلاءً عن كون اليسار الصهيوني مُنحطّاً، وعن استحالة انفكاك أيّ “مثقفٍ صهيونيٍّ” عن انتماءاته وعنصريّته المتوغّلة. 

ثمّ يعيد رواية التاريخ وتأويلاته مرةً أخرى، داعماً بذلك الرواية الرسمية الصهيونية ومناقضاً ذاته، ويؤكّد أنّ الفلسطينيين “أجبرونا على قتلهم” عام 1948، زاعماً أنّ عدداً قليلاً فقط من الفلسطينيين قتلوا، مقارنةً بما يجب، كوننا نتحدّث عن حربٍ داميةٍ! ليس هذا فحسب، ما حدث آنذاك فعلاً، حسب ادّعائه، أنّ قسماً من هؤلاء الفلسطينيين لم يستطيعوا الصمود، بينما صمد الصهاينة، فاستحقّوا الأرض!

ثمّ يتوغّل أكثر، ويقول إنّ روايته هذه مبينةٌ على أساس التوثيق التاريخي، والوثائق العربية لم تكن موجودةً تقريباً في السياقات التي كتب فيها، في إشارةٍ لعدم وجود ذاكرةٍ أو إرثٍ عربيٍّ، مقابل وفرة الوثائق الصهيونية، زاعماً أنّها الحقيقة كونها الوحيدة المتوفّرة، ومُتجاهلاً الأعمال الهامّة لمؤرخين فلسطينيين.

بهذا يضع “بني موريس” ظاهرة المؤرخين الجدد في سياقها الحقيقيِّ؛ حيث يعيد إنتاج صهيونيته الخاصّة المُقنّعة ومحدّداتها، ويثبت أنّ الموضوعية المُدّعاة حول المؤرخين الجدد ما هي إلّا أسطورةٌ، يكشف الزمن ،كما فعل مع “بني موريس”، حقيقة استحالتها.

للقراءة، من هنا.

صناعة الموضة في العالم وأبعادها الرمزيّة

تواصلُ المنظومةُ الرأسمالية الاستيلاء على الرموز المقاومة وتدجينها وتحوليها إلى سلعٍ استهلاكيةٍ مفرغةٍ من قيمها الأساسية، وأحياناً مناقضة للهدف الذي وجدت لأجله. أتاحت العولمة لهذه السلع الاستهلاكية أن تتخطى الحدود وتنتشر حول العالم تماشياً مع الأحداث، وبرغم الاختلافات الثقافية، ليرتبط تطور الموضة بالأحداث السياسية، وتستغل الرأسمالية الرموز الثقافية والمقاوِمة وتسيّرها بما يتوافق مع النمط الاستهلاكي، وهو ما أخضعت له، على سبيل المثال، الكوفية الفلسطينية وصور “تشي جيفارا”، على أيدي مصممين صهاينة وغربيّين.

في مقالٍ نُشِر على موقع “انحياز”، ترصدُ مريم البريبري تحوّلَ رموز المقاومة إلى سلعٍ استهلاكيةٍ تجوب العالم “كموضة” تتماشى معها المجتمعات وتخضع لها. ومع التطور التكنولوجي الذي صاحب العولمة الرأسمالية، ازداد ارتباطُ الملابس وصرعاتها بالأحداث العالمية والحروب. وكان من أبرز وجوه ذلك “عسكرةُ اللباس”، وهي الموضة التي تجتاح الشارع اليوم بألبسةٍ تتشبّه باللّباس العسكري بلونه الأخضر القاتم وما يرتبط به ويرافقه كالأحذية، والتي تمنح مرتديها رمزيّة القوّة والتفوق، فيما تزداد قوّة رمزيّة هذه الموضة بإضافة حروفٍ ورموزٍ ومسميّات، تختزل قيم الحرية والانعتاق والصمود، سيندفع نحوها المستهلكُ العالميّ. كما ستمنح القوات العسكرية الأمريكية، على سبيل المثال، الإعجابَ والافتخارَ بعدما كانت ترمز للاستعمار والاستغلال والقتل.

تخرج صناعةُ الموضة، بوسائلها وأدواتها الرأسمالية العدّة، من مصانع الماركات العالمية للملابس والنسيج، والتي باتت تتّخذ مقرّاتها في الدول الفقيرة، حيث الأيدي العاملة الرخيصة جداً، والتي يتمّ انتزاع كافة حقوقها الأساسية، كحقّ الأمومة وساعات العمل المحدودة، لتباع القطعة الواحدة من تلك الملابس بسعرٍ يتخطى أجرة العامل الواحد في بنغلادش، على سبيل المثال.

تظهر موضة اللباس كأداة تأثيرٍ غير مباشرة تستغلها الرأسمالية، فعلى الرغم من الاختلافات الثقافية وغيرها، تجادل البريبري بأنّ “القوانين الاستهلاكية تفرض ذاتها على الجميع وتتغلغل في أحشاء المجتمعات دون رغبةٍ منه ودون مقاومة في كثير من الأحيان”. وتخلص بالتأكيد إلى ارتباط صناعةِ الموضة بمنظومة الرأسمالية المُعَوْلَمة، وقِيمها السّائدة، واعتبار الموضة أداةً لإفراغ قيم المقاومة من مضمونها ومدخلاً لاستغلال ونهب مُفقَّري بلدان الجنوب.

للقراءة، من هنا.