نبدأ مختاراتنا بالحديث عن وثائقي “نتفليكس” الجديد الذي يُعيد التحقيق في قضية اغتيال “مالكوم إكس”، ثمّ ننتقل لمكانة الأرض في صراعنا مع العدوّ الصهيوني باعتبارها جوهر الصراع ومحرّك الروح المقاومِة، ونختم بمقالٍ يتتبّع ثنائية الذات والجماعة في الشعر العربيّ. إعداد: شذى حمّاد

 

تتنوّع مختاراتنا في رادار لشهر شباط الماضي، نبدأها بالحديث عن وثائقي “نتفليكس” الجديد الذي يُعيد التحقيق في قضية اغتيال الثائر “مالكوم إكس”، ثمّ ننتقل لمقالٍ يتناول مكانة الأرض في صراعنا مع العدوّ الصهيوني باعتبارها جوهر الصراع ومحرّك الروح المقاومِة، ونختم بمقالٍ يتتبّع ثنائية الذات والجماعة في الشعر العربيّ وتفاعلها مع  التشكيلات الاجتماعية والسياسية بين مرحلتي الجاهلية والإسلام. قراءة طيّبة

 

*****

من قتل “مالكوم إكس”؟

(مسلسل وثائقي قصير)

أمام عدسة الكاميرا، ومن بين عناصر الشرطة، انسحب بهدوء المنفّذ الرئيسي لعملية اغتيال الشهيد الثائر “مالكوم إكس” (أو الحاج مالك شاباز) بعدما أفرغ رصاصات بندقيّته في صدره تماماً، فسقط القائد أمام جماهيره، وغادر المنصة للأبد، ولم تعُد خطاباته الثورية تهدر مجدداً. “من قتل مالكوم إكس؟” هو السؤال الذي تسعى أحدث الأعمال التي تعرضها منصّة “نتفليكس” للإجابة عنه، من إخراج “ريتشيل دريتزن” و”فيل بيرتيلسن” وإنتاج شركة “فيوجن”.

يتكوّن هذا الوثائقي الاستقصائيّ من ست حلقاتٍ،  يتابع فيها المخرجان عمل المؤرّخ “عبد الرحمن محمد” ورحلته التي امتدّت ثلاثين عاماً للكشف عن خفايا عملية اغتيال “مالكوم إكس”. يحاول العمل إثبات مسؤولية حزب “أمة الإسلام” عن عملية الاغتيال كنتيجةٍ لخلافٍ أيدولوجيّ نشأ بفعل تمسّك “مالكوم إكس” بعدم فصل السياسة عن الانتماء الدينيّ، مشيراً إلى أنّ الاغتيال تمّ أمام أعين ومسامع مكتب التحقيقات الفيدرالي وملوّحاً أنّه جاء بأمرٍ غير مباشرٍ من “إلايجا محمد”.

يعرض الوثائقي مراحل مختلفةٍ ومنتقاة من حياة “مالكوم إكس”، وما تخلّلها من تهديداتٍ بالقتل ومحاولات الاغتيال المعنويّ، قبيل تصفيته جسديّاً. وبلا شكّ، لا يُمكن للمشاهد إلا أن يطرح المزيد من الأسئلة بعد المشاهدة؛ لا يعِد المخرجان إلّا بالرغبة في “تصحيح سجلّات التاريخ”، دون الحديث عن محاسبة من تآمر ضدّ “مالكوم إكس” خلال حياته وعمل على تغييب فكره بعدها.

يلقي هذا الإنتاج الضوء على صمت السلطات الأمريكية وعدم ملاحقتها القتلة، معتبراً إيّاها شريكةً في العملية، لا سيّما في ظلّ كشف أحد القتلة المعتقلين عن هوية شركائه الذين لم تتمّ ملاحقتهم إلى يومنا هذا، محاولاً التركيز على المؤشّرات التي تؤكّد تورّط السلطات بعملية الاغتيال. فيكشف عن ملفات التجسّس التي وثّقها مكتب التحقيقات الفيدرالي، وما مارسته “الفرقة الحمراء” من تتبعٍ وملاحقةٍ يوميةٍ لـ “مالكوم إكس”، بدءاً من التنصّت على مكالماته الهاتفية وزرع العملاء، إلى الحضور المباشر في الاجتماعات والخطابات، وتسريب المعلومات والشائعات للصحف، ووصولاً لتتبّع تحرّكاته عن كثب ودراستها وتحليلها.

كما يستعرض سعي الأجهزة الأمنية الأمريكية الحثيث لتفكيك الجماعات الأفروأمريكية السياسية واختلاقها الخلافات فيما بينها وتأجيجها، إضافةً إلى تورّطها المباشر في محاولة تنفيذ عمليات اغتيالٍ معنويةٍ لقادة الحزب، مسلّطاً الضوء على الخوف والتهديد الذي تولّد لدى السلطات الأمريكية بفعل تنامي قوة “مالكوم إكس” واتّساع تأثيره وشعبيّته، خاصةً بعد خروجه من حزب “أمّة الإسلام”  وتأسيسه الوحدة الأفريقية الأمريكية.

ومن خلال أبرز خطاباته، يتتبّع الوثائقي الخلافات التي نشأت بين “حزب الأمة” و”مالكوم إكس”، كاعتباره اغتيال “كينيدي” نتيجةً تقطفها السلطة بسبب ما تمارسه من عنصرية، فضلاً عن رفض الاكتفاء بالحقوق المدنية ونقده المباشر لشخصياتٍ كـ “مارتن لوثر كينج”. لكنّه يكتفي بعرض مجزرة “لوس أنجيلس”، وتصعيد “مالكوم إكس” مقابل تمسّك “إلايجا محمد” بهدوئه ومطالباته بعدم تصعيد الاشتباك مع السلطة، دون تطرّقٍ للجرائم الممنهجة العديدة التي ارتُكبت بحق الأفارقة الأمريكيين في أمريكا.

ويمكننا القول إنّ هذا العمل يتعامل مع شخصية “مالكوم إكس” كحالةٍ مؤقتةٍ واستثنائيةٍ شهدتها الولايات المتحدة الأمريكية، وقد انتهت باغتياله، معلناً أنّ الوقت قد حان لـ “تصحيح” سجل التاريخ وطيّ الصفحة. ومن الملفت تجاهله أثر “مالكوم إكس” ودوره في نشأة حركة “الفهود السود” و”القوة السوداء” وغيرها من الحركات الثورية التي نشأت في الستينيّات والسبعينيّات. ولا بدّ من التساؤل عن وقع الفيلم على الجيل الجديد من متابعي منصّة “نيتفليكس”، وخاصةً الأفارقة الأمريكيين.

عادت الكثير من القضايا المغيّبة في أمريكا، كقصّة الصحفي والناشط السياسي “موميا أبو جمال”، إلى الواجهة مع موجة الحراك السياسيّ الذي انطلق في التسعينيّات بهدف إثبات براءة أفارقة أمريكيين من تهمٍ لفّقتها السلطات الأمريكية. وفي السنوات القليلة الماضية، أُنتجت مجموعةٌ من الأفلام والأعمال ذات الصلة التي تتبع هذه الموجة، كالمسلسل الدرامي “عندما رأونا” (When They See US)، والذي عُرض مؤخّراً على “نتفليكس”، وتدور أحداثه المستقاة من قصة واقعيةٍ حول اتّهام خمسة مراهقين من أصولٍ أفريقيةٍ زوراً باغتصاب سيدةٍ بيضاء، ليقضوا سنواتٍ طوال داخل السجون الأمريكية قبيل الكشف عن مرتكب الجريمة الفعليّ.

النضال ما زال نضال الأرض

لم يتزحزح النضال يوماً عن الأرض، وللأرض، هذه العلاقة التي تشكّل “المصدر الفعليّ لروح المقاومة”. وقد سعت القوى الاستعمارية والرأسمالية لسلب الأرض واقتلاع أصحابها منها، مراهنةً بذلك على فقدان الشعوب المستعمَرة قدرتها على المقاومة. هذا الرهان هو ما تناقشه الباحثة أميرة سلمي، في  مقالٍ نُشر في مجلة “الآداب” اللبنانية، تتناول فيه فعل اقتلاع الفلسطيني وتهجيره من أرضه، وعلاقته بالأرض المسلوبة، ومقاومته المستمرّة للمخطّطات الاستعمارية.

يأتي المقال في ضوء الإعلان عن “صفقة القرن”، وكشْف العدوّ الصهيوني وحليفه الأمريكي عن سعيه لتحديد وجود الفلسطيني في مساحاتٍ محدودةٍ ومجتزئةٍ من أرضه، في محاولةٍ لفرض معادلةٍ جديدة، وإعادة تشكيل الجغرافيا بما يتناسب مع المساعي الاستعمارية. مخططٌ يسعى لمنح اعترافٍ بوجودٍ فلسطيني في تجمّعاتٍ محاصرةٍ، ويعِد بضخّ المزيد والمزيد من الأموال والفتات والمساعدات المالية للسلطة الفلسطينية، وما سيرافق ذلك من برامج تنميةٍ سبق وتمّ الإعلان عنها في مؤتمر المنامة.

وفي مقابل المحاولات الاستعمارية والرأسمالية المستمرّة لدفع الفلسطيني لنقد أدواته ومقاومته ومسلّماته، إنّ ما يجري  في الحقيقة يدحض، يوماً بعد يوم، هذا الوهم الاستعماري. فأمام كلّ محاولةٍ استعماريةٍ للاقتلاع، يزيد تمسّك الإنسان بمصدر الحياة الأوّل: الأرض، فيأخذ منها الحياة ويُعيدها إليها في حلقةٍ طبيعيةٍ مستمرّةٍ؛ هذه العلاقة الغائبة عن القوى الاستعمارية القائمة على قتل الحياة واستنزاف مواردها.

يوضّح المقال كيف أنّ جرح الاقتلاع والتهجير هو جرحٌ مفتوحٌ لا يلتئم ولا يطبّع؛ حالةٌ مستمرّةٌ من الألم كما يصفها غسان كنفاني، وستظلّ بعينها سبباً لاستمرار المقاومة، فهي “الشرط الذي وُلدت منه الثورة الفلسطينية”. ومع إعادة شنّ الحرب على الفلسطينيّ اللاجئ ومحاولة مسخ قضيته من “قضية أرضٍ إلى قضية حاجاتٍ مادّيةٍ وأساسية”، تطمح قوى الهيمنة والاستكبار بتحويل الفلسطيني في أرضه إلى عاملٍ لا أرض له، على أمل أن يمسي مجرّد قوة عملٍ تباع وتشترى. بيْد أنّ هذا الجرح المستمرّ هو بحدّ ذاته “تفعيلٌ مستمرٌّ لحالة عدم الانصهار في عالم المال”، كما تحاجج سلمي.

ولذا، توضع خطط التنمية التحديثيّة التي تستهدف الإنسان ساعيةً لتحويله إلى سلعةٍ تُباع وتُشترى، وتُستدخل السلطة والمؤسسات في العلاقة القائمة بينه ومجتمعه كذلك. إلا أنّ هذه المحاولات تلقى مقاومةً شعبيةً مستمرّةً ترفض تقديم أيّ تنازلٍ. إنّ مقولة “فلسطين مش للبيع” ليست مجرّد شعار، بل موقفٌ يوميّ ومستمرّ تتمّ ترجمته إلى فعلٍ ومقاومةٍ شعبيةٍ وفرديةٍ تعيق وتحبط المساعي الاستعمارية، وأقرب مثالٍ على ذلك هو ما يُسطّر في جبل العُرمة، حيث يعتصم أهالي بلدة بيتا متصدّيين بصدورهم لمحاولات اقتلاعهم من أرضهم.

للقراءة، من هنا

التعبيرُ عن الذّات والجماعة بين شعر الجاهليّة والإسلام

لا شكّ أنّ علاقة الذات الفرديّة بالجماعة هي علاقةٌ تاريخيةٌ منذ بدء المجتمع الإنساني. تظهر الذات الفرديّة تارةً وتخفت تارةً أخرى أمام ظهور ذات الجماعة. ولا شكّ أنّ الأمر مرتبطٌ في الحاليْن بطبيعة المجتمع وخصائصه الاقتصادية والاجتماعية، وعلاقاته الداخلية، خاصةً علاقات السيطرة والصراعات داخل المجتمع، وبين مجتمعٍ معيّنٍ ومجتمعاتٍ أخرى، وحتّى صراع الإنسان مع الطبيعة.

وينطبق ما سبق على الشعر العربي الذي يُعتبر أقدم شعرٍ موثّقٍ ومؤرّخٍ بنفس اللغة لأكثر من ألفٍ وخمسمئة عامٍ؛ منذ المهلهل وحتى يومنا هذا. في هذا المقال الذي نُشر على منصّة “معنى”، يتتبّع ياسين اعطية العلاقة بين التعبير عن الذات الفرديّة والجماعة في الشعر العربي، بارتباطها بطبيعة العلاقات القائمة بين التشكيلات الاجتماعيّة والسياسية التي ظهرت بين مرحلتي الجاهلية والإسلام إلى حدود العصر الأمويّ.

لطالما كان الشعر مدخلاً لاستكشاف الذات وعاطفتها والتعبير عنها، وتشكّل أشعار الصعاليك في فترة ما قبل الإسلام مثالاً على الأنماط الشعرية ذات الأبعاد الذاتية، فضلاً عن الأفكار الثورية ونزعات التحرّر من الفوارق الطبقية والتزامات القبيلة.  ولم يطغَ ذلك على أشعارهم بشكلٍ كامل، فظلّوا ينطقون بلسان قبائلهم، ويتغنّون بأمجادها ومآثرها ويفتخرون بها، ويعبّرون عن قيمها وأخلاقها، كقول عروة بن الورد:

فراشي فراش الضيف، والبيت بيته        ولم يلهني عنه غزال مقنع
أحدّثه، إنّ الحديث من القِرى             وتعلم نفسي أنّه سوف يهجع

أمّا في صدر الإسلام، فقد برزت الحاجة للتعبير عن هموم الجماعة السياسية والدينية، ليطرأ تغيّرٌ على نمطية القصيدة العربية على مستوى الأغراض، وتتقدّم مضامين الدين والسياسة. وقد برز حينها تياران: تيارٌ ديني ذاتيّ يعبّر فيه الشاعر عن ذاته ومواقفه تجاه الدين والإسلام، وتيارٌ يميل إلى الجماعة ليكون لساناً معبّراً عنها.  فمثلاً، أصبحت قصائد حسان بن ثابت بعد دخوله الإسلام لساناً للدفاع عنه، كقوله في مدح الرسول:

نبيٌ أتانا بعــد يأسٍ وفترة مــن الرسل     والأوثانُ في الأرض تعبد
فأمسى سراجاً مستنيراً وهادياً           يلـوح كما لاح الصقيل المهند

وكذلك الأمر في العصر الأمويّ، إذ سيطرت المضامين السياسية على حيزٍ كبيرٍ من الشعر العربي، فأخذ يعبّر الشعراء عن مواقفهم السياسية والفكرية تجاه النظام والحكم، كما في القصيدة التي يرثي فيها مالك بن الريب نفسه ويتأمّل في اختياراته السياسية والفكرية. وقد دفع بروز الجانب السياسي في هذه الفترة لانتظام الشعراء في أحزابٍ سياسيةٍ وفرقٍ دينية، ممّا انعكس على أشعارهم بالتأكيد.

ومن خلال تتبّع ثنائية الذات والجماعة في حركة الشعر العربي والتمعّن فيها، تتبيّن قدرة العوامل والتفاعلات الاجتماعية المحيطة في التأثير على القصيدة ومضمونها، وانعكاس ذلك على خصائصها الفنية وأساليبها، وصولاً لتشكيل الذائقة الشعرية عينها.

للقراءة، من هنا