نقدّم لكم في زاويتنا الشهريّة “رادار”  ثلات مقالاتٍ، اخترناها لكم من منصّاتٍ مختلفةٍ، كانت قد نُشرت في شهر تموز الماضي، تدور في فلك الصراع على الأرض والموارد الطبيعية، والفاعلية السياسية والاجتماعية. نبدأها بدراسةٍ من تونس تتناول الصراع حول الأرض والدولة في مواجهة المجتمع المحلي، من خلال تجربة الحركة الاجتماعية في جمنة، انتقالاً إلى المغرب وما تعانيه من استنزافٍ وسوء إدارةٍ للموارد، وما يترتب عليه من أزماتٍ اقتصاديةٍ، وننتهي بالحديث عن محافظة المهرة اليمنيّة وما تشهده اليوم من صراعاتٍ على النفوذ الجيوسياسيّ الذي تسعى له كلٌّ من السعوديّة والإمارات وعُمان. قراءة طيّبة

****

جِمْنَة: الصراع حول الأرض الدولة في مواجهة المجتمع المحلي

على الرغم من تناول دراسات “ما بعد الثورة” لدور المجتمع المدنيّ والحركة النقابيّة في قضايا العدالة الاجتماعيّة والتفاوت الاقتصاديّ والمناطقيّ، إلّا أنّ هذه الورقة تنكشف على تجربةٍ مغايرةٍ وفريدةٍ من الفاعلية السياسيّة والاجتماعيّة، تعبّر عن تاريخٍ طويلٍ من التهميش الاقتصاديّ والسياسيّ للريف التونسيّ، وما قابله من وعيٍّ صلبٍ ومقاومةٍ عنيدةٍ.

يتناول الباحث والناشط علي كنيس في هذه الورقة مسار الحركة الاحتجاجيّة في واحات جِمنة في ولاية قبلي، جنوب غربيّ تونس، وجهود الجمنيين في استعادة أراضي مزرعة “المعمَّر/ستيل”، متتبّعاً تاريخ هذا الصراع منذ الاستعمار الفرنسيّ إلى سياسات الدولة ما بعد الاستقلال، وصولاً إلى الثورة التونسيّة والحركة الاجتماعيّة التي انبثقت عن الاحتجاجات التي تلت الإطاحة ببن علي.

نُشرت هذه الورقة ضمن ملف “سوسيولوجيا الفعل الجماعي في تونس”، الصادر عن المنتدى التونسيّ للحقوق الاجتماعيّة والاقتصاديّة، حول أشكال الفعل الجديدة والفاعلين الجدد، مع تنويه الباحث إلى كون الحركة الاحتجاجيّة في جِِمنة فاعلاً قديماً وأحد أشكال الفعل الجديد في تونس. وينطلق كنيس في دراسته من ضرورة إنتاج معرفةٍ ملتزمةٍ، وبصفته باحثاً وناشطاً، ليجمع بين التحليل الشامل لمسارات الفاعلين في تطوّر الحركة الاجتماعيّة من جهةٍ، والبحث الميداني المعمّق من جهةٍ أخرى. كما يأتي موضوع الدراسة ضمن محاولة إعادة فهم سياق التحرّكات الاجتماعيّة، في سياقٍ ما بعد ثوريٍّ، بما يحثّ على إعادة النظر في المسألة الاقتصاديّة بعد الثورة ومساءلة السياسات الاقتصاديّة، والتي تمّ تغييبها لصالح المسألة السياسيّة، وفقاً للباحث.

شكّلت الثورة التونسيّة في عام 2011 فرصةً تاريخيةً أمام أهالي جمنة للتنظيم محلّياً واستعادة التصرّف في هنشير “المعمَّر/ستيل”- (وهنشير كلمة في العاميّة التونسيّة تعني المزرعة أو الضيعة الفلاحيّة)؛ ففي 12 كانون الثاني، استردّ أهالي جمنة الأرض بعد اقتحامها مطالبين الدولة باسترجاعها.  لم يأتِ ذلك كمطلبٍ وليد اللحظة أو الحاجة، إنّما استرداداً لحقٍّ تاريخيٍّ عمره من عمر الاستعمار الفرنسيّ، والذي لم ينسَ الأحفاد ما فعله بأجدادهم.

انتقلت ملكيّة الأرض للدولة بعد الاستقلال، حاول الجمنيون خلالها استرجاعها عبر تشكيل تعاضديةٍ فلّاحيةٍ، وما كان بالسلطات إلا أن عرضت عليهم شراء الواحة، لا الأرض، لتستثمر المبالغ التي جمعها الأهالي في مشاريع وشركات الدولة، في ما وُصف بـ”استعمارٍ فلاحي ثانٍ”. وفي السبعينيّات، تراجعت الدولة عن سياسة التعاضد وأحالت الأرض إلى شركة “ستيل” بعدما قايضت الأهالي بالتنقيب عن المياه في المنطقة الصحراوية، والتي يمثّل زرع النخيل فيها النشاط الرئيسيّ، مقابل التخلّي عن الأرض. ومن هنا اكتسب هنشير “المعمَّر” اسم شركة “ستيل”، والتي ستسغلّ الأرض لمدّة 30 عاماً، سيصفها الجمنيون بأنّها لم تكن أفضل من فترة الاستعمار.

لم يكن ممكناً تفويت فرصة استرجاع الجمنيين لهنشير “المعمَّر/ستيل” خلال الثورة، لتتّخذ هذه الحركة الاحتجاجية شكل التنظيم المحليّ، ويتمّ تشكيل إدارةٍ مؤقتةٍ انبثقت عن اللجنة المحليّة لحماية الثورة ودعمها.

وفي عام 2012، تأسّست جمعيّة حماية واحات جمنة، كإطارٍ لتسيير الأرض والحوار مع السلطات، يدير هيئتها عشرة أعضاءٍ من جمنة، جميعهم أعضاء في اللجنة المحليّة لدعم وحماية الثورة. ردّت الدولة على محاولات التنظيم الذاتي باقتراحٍ من وزير الفلاحة التونسي آنذاك، يقدّم بديلاً قانونيّاً من خلال تأسيس شركة إحياءٍ وتنميةٍ فلّاحيةٍ لتسيير الأرض، وكُلّفت هيئة الجمعية باختيار أعضائها. لكنّ أهالي جمنة رفضوا ذلك خشيةً من تصرّف أعضاء الشركة بالأرض لمنفعتهم الخاصة، وتمّ حل الشركة.

تمضي الدراسة باستعراض أثر الإقصاء السياسي واستغلال المناطق الريفية في مراكمة الفقر وغياب الاستقرار الغذائي، فضلاً عن مشقّة وصول الفلّاحين للموارد، والتي عزّزتها سياسات الدولة بدعمها لتوسّع رأس المال الخاص في الأراضي الفلاحية، ضمن طرحه كبديلٍ عن الاستثمار الحكومي المباشر. ساهمت هذه العوامل في إشعال الاحتجاجات في الريف التونسي ضدّ سياسات التفقير والإقصاء والاستهداف الممنهج للأراضي الفلّاحية. ويجسّد نضال أهالي جمنة  ما يكابده صغار الفلّاحين ضد التهميش والاستبداد الاقتصادي في مواجهة النخب السياسية والاقتصادية المتنفّذة في البلاد.

ومنذ عام 2012، تُواصِل جمعيّة حماية واحات جمنة تسيير الأرض، وتضمّ مجموعةً متمايزةً من الأعضاء الذين يحملون توجهاتٍ فكريةً مختلفةً وخلفيّاتٍ علميةً متفاوتةً، كما يمتلكون تجارب سياسيّةً ونقابيةً وزراعيةً متنوعةً. ويجادل الكاتب في ورقته أن تنوّع الانتماءات الاجتماعيّة والعائليّة للجمعيّة، خاصةً في مجتمعٍ محليٍّ يولي أهميةً كبيرةً للعلاقات الاجتماعيّة، قد أهّلها للعب دورٍ قياديٍّ في سعيها لتحقيق تآزر اجتماعيٍّ وتضامنٍ أساسه المصلحة العامة المحليّة. كما تحاجج الورقة أنّ هذا الإطار المحلّي، والذي أخذ بعداً وطنياً لاحقاً، مكّن هذه المواجهة لتتطوّر من حركةٍ احتجاجيّةٍ مطلبيّةٍ إلى حركةٍ اجتماعيّةٍ تحرّريّةٍ ذات هويّةٍ سياسيّةٍ واضحة المعالم. وبذلك، يكون التصدّي للسياسات الاستعمارية، التي كرستها الدولة والسياسات الاقتصادية النيوليبرالية، استكمالاً للصراع من أجل التحرّر.

وفي عام 2016، ومع اقتراب موعد بتّ الدولة في القضية، توجّهت الأنظار في تونس إلى تجربة جمعيّة حماية واحات جمنة، وتباينت مواقف الفاعلين السياسيين والاجتماعيين التقليديين، من أحزابٍ سياسيةٍ ونقاباتٍ، بين الرفض والدعم المبدئيّ أو الخجول. تضع الدراسة خريطة الفاعلين تحت المجهر، وتتّخذ من “الحملة الوطنيّة لدعم جمنة” نموذجاً على الفاعلين غير التقليديين، والتي برز دورها بشكلٍ كبيرٍ في إسناد جمنة؛ إذ تراوح نشاطها بين الانخراط الفعليّ الميدانيّ والتعبئة، فضلاً عن الإسناد التفاوضيّ. ولا يُغفل الكاتب طرح تحدّي شكل تنظيم “الحملة” في المرحلة السياسيّة الانتقاليّة في تونس، والذي يأتى بدوره تعبيراً عن عجز الأحزاب السياسيّة عن لعب دورٍ فاعلٍ، خاصةً لدى الفئات الشبابيّة.

اتّبعت جمعيّة حماية واحات جمنة أسلوباً تشاركياً في تسيير الأرض، يلخّصه أحد أعضاء هيئتها بوحدة الأرض ورفض تقسيمها أولاً، ومساهمة جميع الجمنيين ثانياً، وضخّ الأرباح وتعميمها للمصلحة العامة ثالثاً. وبهذا، تقدّم جمنة نموذجاً اقتصاديّاً محليّاً فريداً يتحدّى السياسات النيوليبراليّة ويطرح بديلاً لها، ويزعج  البرجوازية في تونس بالتأكيد. كما كان للجمعيّة تدخّلٌ ملموسٌ بتطوير البنية التحتيّة التي تحتاجها البلدة، في ظلّ تراجع توفير الدولة للاحتياجات الأساسية، وتجاوز هذا التدخّل المستوى المحليّ ليصل إلى بقيّة بلدات ولاية “قبلي”.

واليوم، تضغط الجمعيّة باتجاه تمرير صيغةٍ قانونيةٍ جديدةٍ تتلاءم والنمط الاقتصاديّ الذي تتبعه وتتمسّك به في جمنة؛ لعدم انسجام الصيغة الحاليّة مع تجربتها. ومع ذلك، ترى الورقة أنّ التوجه التشريعيّ في سنّ القوانين يقدّم حلولاً شكليةً دون مراجعة السياسة الاقتصاديّة الكامنة وراء إرادة السلطة السياسيّة. وفي الوقت ذاته، يتواصل الجدل حول مصير الأرض، بين محاولات الدولة استرجاعها، واعتبار ما حصل استيلاءً لا استرداداً، وصولاً إلى محاولات التوصّل إلى حلولٍ قانونيةٍ. والمؤكد أنّ التجربة نجحت بإثارة مطالب متعلقّةٍ بالأرض والنمط التشاركيّ والمنفعة العامة في مناطق أخرى، كولاية صفاقس.

وأخيراً، تدعو الورقة إلى ضرورة فهم الحركة الاحتجاجيّة التي تشهدها المجتمعات العربيّة منذ 2011، وفاعليّة الحركات الاجتماعيّة سياسيّاً اليوم، بما يتجاوز السقف المطلبي وتحقيق سياساتٍ جديدةٍ، إلى فهم موقع السياسات الاقتصاديّة والاجتماعيّة من النظام العالميّ، وسبل التحرّر منها.

للقراءة، من هنا

موارد المغرب المستنزفة والمسكوت عنها

“فوسفاط وبحران… ونعيش بقهر” هتافٌ لا يزال يتكرّر في معظم تظاهرات المغرب، في تعبيرٍ صارخٍ عمّا يعايشه الشعب المغربيّ من قهرٍ وإفقارٍ بسبب صناعة الدولة وتفريطها في الثروات والموارد وسوء إدارتها لها. وهو ما يتحدث عنه الكاتب سعيد لوفقير، في مقالٍ نُشر في “السفير العربي”، يتناول فيه موضوعة موارد المغرب المستنزفة، تحديداً الموارد المائيّة المتمثّلة بالأنهار التي لا يتقاسمها مع المغرب أحدٌ من جيرانها، إلا أنّ حصّة الفرد المغربيّ من منسوب المياه في نقصٍ مستمرٍ

ويبيّن المقال أنّه في سبيل معالجة أزمة المياه، تعمل السلطات المغربيّة على تنفيذ مشروع “المخطط الوطني للماء”، هادفةً إلى إقامة ثلاثة سدودٍ سنوياً، وتحلية مياه البحر بسعةٍ أعلى ممّا تشهده اليوم، بجانب إعادة استخدام مياه الصرف الصحيّ، وانتهاءً بتحويل المياه من أحواض تواجد الأنهار الرئيسيّة في الشمال الغربيّ إلى أحواض الوسط الغربيّ.

في خضمّ هذه الأزمة، لم تسلَم مياه المغرب من طمع الشركات التجاريّة التي تبيعها بأسعارٍ تتجاوز ثلاثة أضعاف السعر العام في السوق، إضافةً لاستغلالها المياه الجوفية بشكل غير قانونيِّ، ما دفع المغربيّين لمقاطعة تلك الشركات وتكليفهم خساراتٍ عاليةً جداً في بضعة أشهرٍ. ونتيجةً للمقاطعة، لجأ المغاربة إلى استيراد المياه المعدنيّة الإسبانيّة والترويج لها، لترتفع نسبة استيراد المياه المعدنيّة لنسبةٍ تصل إلى 45% منذ عام 2018.

يشير الكاتب إلى عدم انحصار موارد المغرب في الموارد المائيّة فحسب، إنّما تُعتبر المغرب من الدول الغنيّة بالفوسفات. حيث يُدار الأخير من خلال “المجمّع الشريف للفوسفات”، أحد مؤسسات الدولة، وعادةً ما تُستثمر عائداته لاحتواء الأزمات السياسيّة التي تمرّ بها البلاد، مثلما ساهمت في تهدئة واحتواء الاحتجاجات في الشوارع المغربيّة في ثمانينيّات القرن الماضي. وإذ يعبّر هذا، من ناحيةٍ، عن حيويّة دور الفوسفات سياسيّاً، إلّا أنّه يكشف، من ناحيةٍ أخرى، اعتراءه كثيراً من السريّة، والتعتيم على إيراداته ومصروفاته، وعدم التصريح بحجم دخله السنويّ، فضلاً عن عدم امتلاكه سجلّ تدقيقٍ ماليٍّ.

لا تتوقّف ثروة المغرب الطبيعيّة عند هذا الحدّ، إنّما تمتلك أيضاً مورداً غذائياً عالياً، نظراً لإطلالتها على بحريْن، التي تعني بالضرورة سمكاً وفيراً، من شأنه أن حوّلها إلى دولةٍ رئيسةٍ في تصدير السمك. في ضوء ذلك، تعقد المغرب مع الاتحاد الأوروبي شراكةً في الصيّد البحريّ بينهما، ألقت بدورها بظلالها على موقف أهالي البلاد إزاءها، الذي انقسم بين القبول والرفض. فبينما رأى المؤيدون الشراكة مجزيةً وتعود بالمال على خزينة الدولة، اعتبر المعارضون الشراكة “غير منصفةٍ” مقارنةً بالمردود المادّي الضعيف، فضلاً عمّا تمثّله من خضوعٍ لاشتراطاتٍ غربيةٍ لقاء ثروةٍ حيويّةٍ.

كما يبيّن المقال أنّ تصدير السمك للخارج أدّى إلى ارتفاع سعره في الأسواق المحليّة، الذي لا يشكل بدوره سبباً وحيداً في الارتفاع، إنّما يُعزى الأخير، أيضاً، لوجود السماسرة والوسطاء في بيع السمك المفرّق؛ فثمّة هوّةٌ كبيرةٌ بين البيع بسعر الجملة وسعر المفرّق. ويعرّج الباحث على نوعَيْ الصيد، ما بين تقليديٍّ، وساحلي في أعالي البحار، والذي يعتمد على صيّادين من قرى الساحل، ليضعنا في صورة معاناة الفئة الأخيرة من مخاطر شديدةٍ لا تمتلك تأميناً ضدّها، ولا تستفيد من التعويضات على فترة “الراحة البيولوجيّة”.

وعلى الرغم من دعم السلطات للصيادين الصغار عبر برنامج “إبحار”، فإنّ تنفيذ المشروع لم يسرِ كما كان مخططّاً له لأسبابٍ إداريّةٍ وبيروقراطيّةٍ. كما لا تحقّق “امتيازات” السلطات حاجاتهم ومطالبهم، والمتمثّلة بضمّ الصيادين إلى صندوق الضمان الاجتماعي؛ إذ لا توفّر لهم قوت يومهم ولا تقيهم من مشقّة ومخاطر طبيعة العمل. بالمقابل، تحاول السلطات التمويه والتغطيّة على سوء أوضاع الصيّادين التقليديّين، من خلال خلطها بين الصيد الساحليّ والصّيد التقليديّ؛ إذ يتمّ الصيد الساحلي من خلال سفنٍ مختلفةٍ ويمضي لأميالٍ أكثر عمقاً في البحر، ويحقّق أرباحاً أعلى. أمّا فيما يتعلّق بالصيد في أعالي البحار، فيستهدف أنواعاً نادرةً من السمك، ما يعني ارتفاع سعره والحاجة إليه في الأسواق الدوليّة، الأمر الذي يترتّب عليه ارتفاعاً في الدخل الخاص بالصّيادين.

من جهةٍ أخرى، يعاني قطاع الصيد عدّة أشكالٍ من الفساد. فعلى الصّعيد التقنيّ، لا يخلو المشهد من خروقاتٍ كإفراغ كميّاتٍ غير صالحةٍ من الأسماك في البحر. فيما يشمل الفساد المالي والإداري رأس هرم الساسة والاقتصاديين، والذين يتعاقدون بدورهم مع شركاتٍ أجنبيةٍ بهدف تزويدهم بمعداتٍ متطوّرةٍ للصيّد مقابل مبالغ ماليّةٍ طائلةٍ.

يخلُص الكاتب، مستشهداً بعلو أصوات المغربيين خلال تظاهرات عام 2011  من أجل محاربة الفساد في هذا القطاع ومحاسبة المتورّطين فيه، إلى أنّ الموارد الطبيعية لم تكن يوماً شحيحةً في البلاد، لكن سوء التدبير والاستنزاف صنعا أزمتها، الأمر الذي ينذر ببقائها قضيةً حاضرةً وملحّةً.

للقراءة من هنا

المهرة اليمنية: من العزلة إلى قلب العاصفة الجيوسياسيّة”

المهرة، ثاني أكبر محافظةٍ في اليمن، تنقسم إلى تسع مديريّاتٍ، تحدّها عُمان من الشرق، والسعوديّة من الشمال، ومحافظة حضرموت من الغرب، وبحر العرب من الجنوب. تعتمد في إيراداتها على صيد الأسماك، والزراعة وتربية الحيوانات، والإيرادات الجمركية الناتجة عن المنافذ الحدوديّة للمحافظة مع عُمان، ويحكمها نظامٌ قبليٌّ عشائريٌّ.

في مقالٍ نُشر في موقع “مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجيّة”، يُعرّفنا الكاتب يحيى السواري على محافظة المهرة ومحطاتها التاريخيّة الحاسمة، إضافةً إلى أهميتها الاستراتيجيّة التي جعلتها مثار تنافسٍ ما بين أطرافٍ عربيّةٍ عدّةٍ، وميدان صراعٍ تتنازع عليه. كانت المحافظة، حتى عام 1967، كياناً منفصلاً عن بقيّة اليمن الحديث، وكان يحكمها سلطانٌ يتم اختياره بالإجماع بين قبائل المهرة التي ترتبط بعلاقات نسبٍ مع محافظة ظفار العمانية، كما تمتلك العديد من العائلات جنسياتٍ مزدوجةً.

وفي عام 1886، أصبحت السلطنة محميّةً بريطانيّةً بعد احتلال بريطانيا لليمن الجنوبيّ، لكن لم ينتج عن ذلك حكمٌ بريطانيٌ مباشرٌ في المهرة، نتيجةً لمعاهداتٍ موقّعةٍ بين سلطان العفرار والبريطانيين، تنصّ على عدم السماح لأيّ قوةٍ أجنبيةٍ بتأسيس وجودٍ لها في المهرة. ظلّت المنطقة سلطنةً مستقلّةً حتى قامت ثورة الجبهة القوميّة للتحرير -ذات الميول الماركسيّة- والتي طردت القوّات البريطانيّة من اليمن الجنوبيّ.

لعبت ثورة ظفار في عُمان (1962-1976) دوراً في تحديد أهميّة المهرة الأمنيّة بالنسبة لمسقط؛ إذ أدّت الثورة إلى تحسين علاقة السلطان قابوس بن سعيد مع أهالي المهرة، وتقديم امتيازاتٍ عدٍّة لهم. أمّا السعوديّة، فسعت قديماً إلى بناء نفوذٍ لها في المهرة عبر سياساتٍ عدّةٍ؛ مثل تجنيس عددٍ كبيرٍ من أهالي المهرة، ليتجدّد ذلك حديثاً من خلال الانتشار العسكري الواسع كجزءٍ من طموحاتها المتداولة لبناء خطّ أنابيب نفطٍ يمرّ عبر المحافظة إلى بحر العرب، بهدف تقليل تكاليف نقل النفط، وتجاوز مضيق هرمز الذي بدوره يشكّل خطراً إيرانيّاً على نواقل النفط السعوديّة.

ونتيجةً للعزلة السياسيّة وطبيعة النظام القبلي، لم تكن المهرة اليمنيّة عرضةً للاستقطاب السياسيّ أو الاجتماعي قبل ثورة 2011. أمّا بعد الثورة الشعبيّة، حضر ممثلون من المهرة مؤتمر الحوار الوطني عامي (2013-2014)، ليبدأ انخراطهم الفعليّ في العمل السياسيّ، ويعارضوا مقترح الخطة الفيدرالية الساعية إلى تقسيم البلاد إلى ستة أقاليم اتحاديةٍ.

وبعد سيطرة الحوثيين على صنعاء عام 2014، تحالفت المهرة مع الرئيس هادي والحكومة اليمنيّة المعترف بها دولياً، وأيّدت التدخّل العسكريّ الإقليميّ بقيادة السعوديّة والإمارات لمواجهة الحوثيين ودعم حكومة هادي، الذي فرّ من البلاد عبر المهرة إلى عُمان. ونتيجةً لانهيار جهاز الدولة اليمنيّة وهروب الرئيس هادي إلى عُمان، تعرّضت المهرة وغيرها من المحافظات إلى عواقب اقتصاديّةٍ جسيمةٍ. وبدأت السلطة المحليّة بتطوير حلولٍ مستقلةٍ لضمان الاستقرار الاقتصاديّ للمحافظة.

وفي آب 2015، وصل ممثلون إماراتيون إلى المهرة؛ بغية دعم السلطة المحليّة والحفاظ على الأمن في المحافظة من خلال تجنيد وتدريب ألفين من أبناء المحافظة، لكن سرعان ما نشأ صراعٌ على السلطة والسيطرة على القوة الناشئة؛ إذ اقترح الإماراتيون أن يتم التجنيد بإشراف شيوخٍ محليين، أمّا محافظ المهرة فأصرّ على أنْ يكون التدريب تحت إشراف السلطات المحليّة، ليُحلّ الصراع، في النهاية، عبر تشكيل لجنةٍ من مسؤولين محليين وأجهزة الأمن، على أن تؤدّي الإمارات دوراً إشرافيّاً فقط.

وبعد ذلك، أقال الرئيس هادي علي ياسر وحلّ بن كده مكانه؛ ما عزّز العلاقات بين السلطة المحليّة والإمارات، ووافق بن كده بدوره على تدريب أفواجٍ جديدةٍ على أيدي ضباطٍ إماراتيين، وزادت الإمارات من دعمها للسلطة المحليّة من خلال جمعيّة الهلال الأحمر الإماراتي وما تقدّمه من خدماتٍ لأهالي المنطقة، لكنّ ذلك لم يستمر؛ إذ حاولت الإمارات وضع القوات المشكلة حديثاً تحت سيطرتها، مهمّشةً دور السلطات المحليّة.

على صعيدٍ آخر، كانت علاقة بن كده جيّدة مع عُمان، بعدما كان لاجئاً سياسيّاً فيها، وبدأ توطيد العلاقة بغية زيادة النفوذ العُماني في المنطقة، والذي تمثّل في تقديم دعمٍ اقتصاديٍّ إضافيٍّ لاستكمال شحنات الديزل التي كانت قائمةً. وفي بداية عام 2017، أبلغ بن كده المسؤولين الإماراتيين أنّ القوات المهريّة لن تتلقى أوامرها إلّا من السلطات المحليّة، وكان مدعوماً بذلك من السلطات العمانيّة.

ونتيجةً لتطور العلاقات المهريّة العُمانيّة، دعمت الإمارات تشكيل مجلسٍ انتقاليٍّ يدعو إلى انفصال محافظات اليمن الجنوبيّ السابق بهدف زيادة نفوذها في المنطقة. أمّا السعوديّة، فشنّ جيشُها حملةً لزيادة نفوذه في محافظة المهرة، مبرّراً ذلك بحجّة وقف تهريب الأسلحة عبر المحافظة، لكنّ هذا التمدّد لاقى معارضةً مهريةً شديدةً؛ إذ رفض المهريّون التواجد السعودي في المنطقة. ومن أجل الوصول إلى موقفٍ جماعيٍّ من أهل المهرة أمام التواجد السعوديّ، عقدوا اجتماعاً كان أبرز نتائجه السماح بالتواجد السعوديّ شريطة عدم تحويل المطار إلى ثكنةٍ عسكريّةٍ، وضرورة التنسيق بين القوات السعوديّة والسلطة المحليّة.

كما أقامت السعودية ثكنةً عسكريّةً في المطار، مخالفةً الاتفاق الذي جرى بينها وبين السلطات المهريّة المحليّة، وعملتْ على تكثيف تواجدها في المهرة من خلال تدعيم بنيةٍ تحتيّةٍ استخباراتيّةٍ لها في المنطقة، واستجلاب المزيد من الجنود السعوديين، إضافةً إلى فتح عدّة مراكز ومديريّاتٍ عسكريّةٍ في مناطق مختلفةٍ في المهرة.

على إثر ذلك، بدأ المهريون بالاحتجاج ضدّ التواجد السعوديّ، واستقبلوا السلطان بن عفرار الذي ألقى بياناً كان الأول من نوعه في الاعتراض على الوجود السعوديّ في المنطقة. ونتيجةً لهذا البيان، أصبح المهريون أكثر جرأةً في اعتصاماتهم الرافضة للوجود السعوديّ في المهرة.

اشتدّ التوتر بين المهريين والسعوديين نتيجةً لعزم فريقٍ هندسيٍّ سعوديٍّ ترسيمَ طريقٍ إسفلتيٍّ بالقرب من المنطقة الحدوديّة حول الخرخير شمال شرقيّ اليمن. إذ خشي المهريون من أن يكون هذا المشروع مقدمةً لإحياء رغبة السعودية في بناء خطّ أنابيب نفطٍ يعبُر المحافظة.

على الرغم من تصاعد التوتّر بين مؤيدي ومعارضي الوجود السعوديّ، إلا أنّه لم يتطوّر إلى عنفٍ ماديٍّ إلّا في وقتٍ متأخرٍ، وذلك بعد اندلاع اشتباكاتٍ بين السكّان المحليين وخفر السواحل المدعوم سعودياً، بينما كان يعتصم المهريون احتجاجاً على إنشاء موقعٍ عسكريٍّ على طول الطريق الذي يربط الأنفاق بالغيظة. ونتيجةً لتصاعد التوتر بين السعودية وأهالي المهرة، بدأ الجيش السعودي بالتدخّل في المنطقة، لكنّه لا يزال يعاني من عقباتٍ شديدةٍ بفعل المقاومة المحليّة.

للقراءة، من هنا