في رادار لهذه المرة، اخترنا لكم قراءات من مقالاتٍ نُشرت في كلٍّ من نيسان وأيار، نبتدؤه بالحديث عن تشكيل اقتصاد السلطة الفلسطينيية بحيث يكون تابعاً ومرتهناً لاقتصاد الاحتلال، ثم نعرّج على الأفكار المؤيدة لدولةٍ ثنائية القومية في الحركة الصهيونية وتاريخ فشلها، ثم ننتقل للحديث عن نشأة أجهزة الشرطة ودورها الوظيفي في المجتمعات الرأسمالية الحديثة، فيما يتناول المقال الأخير أثر الجوائح في تشكيل التاريخ البشري، قراءة طيبة.

****

فلسطين: الاقتصاد المقاوم والاقتصاد المهادن

مع الإعلان عن استعدادية “نتنياهو” تنفيذ مخطّط “الضمّ” الصهيوني الجديد، وفي ظلّ الجائحة التي ضربت العالم بأسره وما ستخلّفه من أثرٍ اقتصاديٍّ على البلاد، تصطدم السلطة الفلسطينية مرةً أخرى بأزمة توفير الرواتب لموظّفيها، كما تفعل بشكلٍ دوريّ ومتكرّر. فقد سبقت أزمة الرواتب هذه أزماتٌ كثيرةٌ مشابهة، وتحديداً عند المنعطفات السياسية، والتي تثبت اعتماد السلطة شبه الكامل في توفير مواردها المالية على “المقاصة”، والتي هي بدورها مرهونةٌ بالقرار الصهيوني. هذا بالإضافة إلى كون سياساتها الاقتصادية حبيسة الجهات المانحة والمنظّمات الدولية، وتوظيف حاجتها المالية هذه كأداةٍ للابتزاز. خلفية هذه الحالة “المستعصية” يناقشها الباحث إبراهيم الشقاقي في مقاله المنشور في العدد الثاني من صحيفة “الخندق” اللبنانية.

ينطلق الكاتب من حقيقيةٍ تبدو بديهيةً، وهي أنّ الجبهة الاقتصادية هي إحدى أهمّ جبهات المواجهة بين الشعب الفلسطيني والاحتلال، ولا سيّما في هذه المرحلة التي تمثّل مفترقاً سياسياً خطيراً. لا يتردّد الكاتب في الإعلان دون مواربةٍ أنّ الفلسطينيين خسروا (حتى الآن) المعركة على هذه الجبهة، محلّلاً أبعاد وعناصر علاقة التبعيّة الاقتصادية.

وفي عرضه لنمط العلاقة القائمة مع الاحتلال، يشرح الكاتب حالة التبعيّة المزدوجة، سواءً لجهة اعتماد الاقتصاد الفلسطيني كلياً وبشكلٍ مباشرٍ على الاقتصاد “الإسرائيلي”، أو لجهة سوق العمل أو البضائع وسيطرة “إسرائيل” على الموارد والمعابر، وكذلك الارتباط غير المباشر وفق نظريّة المركز والمحيط، بحيث تتحرّك الموارد الطبيعية والبشرية من المحيط (فلسطين) باتجاه المركز (إسرائيل)، وتحرّك البضائع من المركز باتجاه المحيط، وما ينجم عن ذلك من انهيار القدرات الاقتصادية والإنتاجية للمحيط وانحصار قدراته الإنتاجية في المواد الخام والطاقة البشرية التي يطلبها المركز.

منذ بدايات احتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة سعت دولة الاحتلال على الدوام إلى تدمير عناصر الاقتصاد الفلسطيني وأهمها الأرض والموارد، وربط الاقتصاد الفلسطيني بـ “الإسرائيلي” وحاجاته، ووجدت في بعض الشرائح وخاصةً فئة الوكلاء من التجار (الكومبرادور) من يتقاطع معها في تنفيذ هذه الخطّة التي ظلّت هي السِمة السائدة لوصف العلاقة بين الاقتصاديْن، طوال عقودٍ حتّى في ظلّ وجود السلطة الفلسطينية. وقد شهدت هذه الحالة اهتزازاتٍ، كما حصل خلال الثمانينيّات في الانتفاضة، قُلبت فيها هذه العلاقة وكان العامل الاقتصادي أداةً للمقاومة. فدعت القيادة الموحّدة للانتفاضة للتحرّر منها عبر المقاطعة الصلبة للعمل والسلع، وإقامة التعاونيات، والامتناع عن دفع الضرائب، وحذّرت طبقة التجار الكبار من الارتباط بالعدوّ.

يمضي الكاتب بتوضيح مدى تعزيز السلطة الفلسطينية، من خلال سياساتها الاقتصادية والمالية، من حال التبعيّة هذه سواءً من خلال الاتفاقيات التي وقّعتها مع الاحتلال، أو من خلال الأداء الاقتصادي الذي لم يسعَ أصلاً إلى معالجة التشوّهات الهيكلية في الاقتصاد الفلسطيني، بل قبِل بالعلاقة المختلّة التي تقوم بالمسؤولية ذات التكلفة الباهظة عن إدارة حياة البشر وتسيير شؤونهم دون أن يرتبط ذلك بالمسؤولية عن الأرض والموارد، بل إنّ السياسات الاقتصادية للسلطة شجّعت هذا الارتباط والاعتماد من خلال سياسات تشجيع البنوك على تقديم تسهيلاتٍ لتنمية الحاجات الاستهلاكية للأفراد وليس لتعزيز الاعتماد والانفكاك عن الاقتصاد “الإسرائيلي”. هذا بالإضافة إلى الاعتمادية على المجتمع الدوليّ بالإنفاق الجاري وأجور القطاع العام، لا الاحتياجات التنموية فحسب.

يخلص الكاتب في مقاله إلى ضرورة تبنّي مفهومٍ معاكسٍ تماماً لما هو قائمٌ اليوم، وهو مفهوم المقاومة الاقتصادية، دون أن يستفيض في تفاصيل ومحدّدات هذا المفهوم. لا يعتقد الكاتب أنّ هناك حلّاً اقتصادياً لقضية سياسيةٍ أصلاً، بل على العكس، يؤكد أنّ الخطط الاقتصادية فشلت في تدجين الشعب الفلسطيني، لسوء حظ الذين آمنوا بالسلام الاقتصادي، وأنّ المقاومة، على مختلف الأصعدة، هي السبيل الوحيد للتحرّر.

للقراءة، من هنا

صهيونيون من أجل دولة ثنائية القومية: تاريخ الفشل

يعود تاريخ النقاشات الدائرة حول حل الدولة الواحدة وحل الدولتين إلى فتراتٍ مبكرة من الاستيطان اليهودي في فلسطين، بالتحديد في النصف الأول من القرن العشرين، حين طُرحت أفكارٌ فلسطينيةٌ ويهوديةٌ وإنجليزيةٌ، سعت إلى تسوية الصراع على فلسطين، وفق حلولٍ سياسية تمنح للصهيونية حقاً فيها.

صهيونياً، سعت مجموعةٌ من المنظّرين، من خلال فهمهم لطبيعة المسألة العربية على نحوٍ فاق غالبية القادة الصهاينة، كعائقٍ مُلحٍّ في وجه الصهيونية، إلى ترويج فكرتها الخاصة بقيام دولةٍ ثنائية-القومية؛ يهوديةٍ وعربيةٍ في فلسطين. وعلى الرغم من اختلاف دُعاة ثنائية-القومية في الشكل الذي ستبدو عليه الدولة اليهودية-العربية، فإن المبدأ الأساسي الذي انطلقت منه مقترحاتهم هو ضمان التكافؤ بين العرب واليهود في فلسطين، دون أن يتدخل أيّ طرفٍ في تحديد مصير “الآخر”. هذا ما تتناوله هذه الدراسة للباحث الصهيوني “بن ريف”، ترجمها أحمد مصطفى جابر ونُشرت على “بوابة الهدف”.

وأملاً في تحقيق هذه الرؤية، حاول دعاة هذا الاتجاه الحفاظ على نوعٍ من المفاوضات مع القادة العرب، واعتقدوا أن وجود العرب في فلسطين مجرّد عقبة، يمكن ترويضها بالترويج للعدالة والسلام وإدخال تحسيناتٍ زراعية وطبيةٍ ترضي الفلسطينيين قد تؤهِّل  وتسهّل على إثرها بالصهاينة.

أما في عام 1925، انضوت جهود المنظرين لثنائية-القومية تحت إطار حركة “تحالف السلام أو بريت شالوم”. منذ البداية، واجهت الحركة الاتهامات بمعاداة الصهيونية بسبب موقفها من تقييد الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وصولاً إلى تفكك الحركة في عام 1933؛ بعد إعلان “بن غوريون” أنّ مطالب الحركة غير مناسبةٍ لدولةٍ يهوديةٍ يريد اليهود أن يكونوا فيها أسيادها وأسياد أنفسهم.

بانتهاء “تحالف السلام”، لم تكن ثنائية-القومية الصهيونية المنظمة قد انتهت بالفعل؛ إذ استمرّ النشاط ثنائي-القومية من قبل مجموعاتٍ مختلفةٍ، برزت من بينها منظمة “الوحدة איחוד”  كردّ فعلٍ على تبني الصهيونية، في عام 1942، والسعي وراء دولة يهوديةٍ كسياسةٍ رسميةٍ. تصوّرت “الوحدة” شرقاً أوسطاً بعد الحرب بدولةٍ تضمّ اتحاداً لليهود والعرب في فلسطين، والتي سيتم دمجها في اتحادٍ أكبر للدول العربية، واتحادٍ آخر لهذه الدول مع جميع دول العالم الحر.

على خلاف الانتقاد الموجّه لدُعاة ثنائية-القومية بسبب غياب الدعم العربي لبرنامجها، انخرط القادة العرب، في ثلاثينيّات وأربعينيّات القرن الماضي، في مبادراتٍ مختلفةٍ تهدف إلى التفاوض على اتفاقيةٍ يهوديةٍ-عربيةٍ على أساس فلسطين ثنائية القومية. ومن بين هذه المبادرات: مبادرة الخمسة، واقتراح “هيامسون-نيوكومب”، والمفاوضات مع “فلسطين الجديدة”. وفي حين تبادلت الجهات المختلفة اللوم على انهيار هذه المبادرات وفشل مساعيها، شكَّل اغتيال اثنين من المنخرطين في مثل هذه المبادرات، هما فوزي الحسيني وسامي طه، على يد أحد مؤيّدي الحاج أمين الحسيني، تعبيراً واضحاً عن موقف القيادة العربية الرسمي آنذاك،  ليس فقط في رفض دولةٍ يهوديةٍ، بل أيضاً لأي ترتيبٍ متكافئٍ بين العرب واليهود.

كان السعي وراء القوى الخارجية آخر المنافذ أمام التوفيقيّين في ظل تعنُّت القيادتين اليهودية والعربية، متّهمين إياهم بعدم إعطاء الأولوية للتعاون العربي-اليهودي. ورغم نجاحها في التأثير على الأمم المتحدة واللجنة الأنجلو-أمريكية، وضع إقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة لخطة التقسيم عام 1947 حدّاً لنشاط التوفيقيّين، ليقتصر عملهم بعد إعلان قيام الدولة اليهودية في أيار 1948، على دور الرقيب الأخلاقي على سياسة “دولة إسرائيل”.

للقراءة، من هنا

القمع والقتل والعنصرية مداخل لأصول الشرطة الحديثة

أثارت قضيّة مقتل الأمريكي من أصلٍ إفريقيٍّ “جورج فلويد” احتجاجاتٍ صاخبةً في شتّى أنحاء الولايات المتحدّة، وامتدّ تأثير هذه الاحتجاجات لينتقل إلى بريطانيا، ويتردّد صدى صرخات “فلويد” على أسماع ملايين البشر، كما على أجندات الحركات السياسية والاجتماعية، ليُعيد طرح الأسئلة المتعلّقة بعنصرية جهاز الشرطة إلى الواجهة مجدداً. اخترنا هذا المقال للكاتب الأميركي “ديفيد وايتهاوس”، الذي يعود لتأسيس أجهزة الشرطة في كلٍّ من بريطانيا والولايات المتحدة.

يتناول “وايتهاوس” في مقالته المطوّلة، المنشورة على موقع “الهامش” وترجمها للعربية نصير عبد الله، الظروف التاريخية لنشأة أجهزة الشرطة في المجتمعات الرأسمالية الحديثة، وبالتحديد في بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية في النصف الأول للقرن التاسع عشر. وعلى الرغم من التباين الطفيف في الأسباب والظروف التاريخية لتأسيس الشرطة في البلدين، يوضّح المقال بجلاءٍ ارتباطَ تأسيس الشرطة بمصالح الطبقة الحاكمة في ضبط المجتمعات الرأسمالية الناشئة على مقاس مصالحها وظروف استغلالها للعمال، سواءً العمّال الإنجليز المنتزعين من الريف والمنضمّين لصفوف الطبقة العاملة وظروفها شديدة البؤس في إنجلترا، أو العمّال السود وذوي البشرة السمراء في أميركا. وفي الحالتين، كانت وظيفة الشرطة هي السيطرة على الطبقة العاملة ومنعها من التمرّد على شروط استغلالها، ومراقبتها، وضمان استمرار شروط الاستغلال لصالح الطبقة المسيطرة.

وفي مقدمته للمقال، يلفت المترجم نصير عبد الله انتباه القرّاء إلى ضرورة إرجاع وجود أجهزة الشرطة إلى سياقاتها التاريخية، وتبديد التصوّرات الخاطئة التي تزعم أنَّ الشرطة “جهازٌ طبيعيّ عابرٌ للتاريخ والمجتمعات”، محذّراً من تعميم السياق الأميركي وإسقاطه على بلداننا، والذي أكسبته الحالة الاستعمارية الاستيطانية سماتٍ خاصة. كما يستعرض المترجم في مقدّمته عدداً من الأمثلة لدعم وجهة نظره؛ فيكشف الطبيعة الطبقية والقمعية للشرطة التي تلاحق العمّال المقيمين، مُظهراً اختلاف المعاملة على أساس العِرق، فضلاً عن الدور التربويّ الذي تلعبه الشرطة في خدمة الطبقات الحاكمة وتسخير المجتمع لخدمتها. ويلفت المترجم أيضاً إلى اختلاف السياق الأمريكي عن الإنجليزي، مشدّداً على أنّ هذه الكيانات ظلّت تتحوّل وتتغيّر “رهينة الصراعات السياسية المستمرّة داخل البلاد وخارجها، دون أن تتغيّر وظيفتها الجوهرية”. وفي الحالتين، لا يُمكن إسقاط النموذجين (بلد استعماري، وبلد استعماري استيطاني) على البلدان العربية.

وعودةً إلى المقال الأصليّ، يُشير “وايتهاوس” إلى أنّه تمّ استحداث جهازي الشرطة في إنجلترا وأميركا بفارقٍ زمني لا يزيد على بضعة عقود، ما بين عامي 1825 و1855 ميلادية تقريباً. لم تُستحدث هذه المؤسّسة الجديدة استجابةً لارتفاع نسبة الجريمة، ولكنّها جاءت حصراً من أجل مواجهة ثلاث حالاتٍ ملموسة ومحدّدة، وهي: إضرابات العمّال في إنجلترا، وما أُسمِيَ “أعمال الشغب” في شمال الولايات المتحدة وتحديداً في نيويورك، ثمّ لمواجهة تمرّد الأفارقة المُستعبَدين في جنوب الولايات المتحدة.

يعود “وايتهاوس” في تحليله لنشوء جهاز الشرطة إلى الأشكال التي كان عليها أسلوب فرض النظام أو السلطة في المجتمعات الإقطاعية، ومع النموّ المتسارع للمدن بفعل هجرات الأقنان وانتزاع الأراضي من الفلّاحين، احتدم التنافس كذلك بين المؤسّسات الحرفية، ليجد كثيرٌ من الحرفيّين أنفسهم في مصافّ العمال الذين لا يملكون شيئاً. في المقابل، ساهمت “الاكتشافات الجغرافية”، والتي تمثّلت بغزو الأمريكيتين ونهب خيراتهما واختطاف الأفارقة للعمل في المزارع الاستعبادية، في نموٍّ غير مسبوقٍ للثروات، وما صاحب ذلك من تغيّراتٍ اجتماعيةٍ وسياسية اقتصر دور الدولة فيها على حماية حقوق الطبقات الأغنى.  وحتّى ذلك الوقت، لم يكُن هناك جهاز شرطةٍ، ولم تكُن الحالة مهيّأةً للتعامل مع التحوّلات الجديدة وما رافقها من اضطرابات، ولكنّ الطبقات الأغنى بدأت باللجوء إلى العنف أكثر فأكثر بغرض قمع الشرائح الفقيرة. كان الجيش يُؤمَر بإطلاق النار على الحشود المتمرّدة، وقد اعتقلَ الضبّاطُ قيادات التمرّد وشنقوهم.

كانت تلك إذن بداياتُ احتدام الصراع الطبقي في إنجلترا، ولكنَّ الأوضاع بدأت بالتغيُّر حقيقةً حين أقلعت الثورة الصناعيّة. في المقابل، مرّ الفرنسيون في الفترة ذاتها بثورةٍ سياسيّة واجتماعيّة، الأمر الذي أفزع الطبقة الحاكمة البريطانيّة من احتمال اتّباع العمّال الإنجليز خُطى أقرانهم الفرنسيين، ولذلك حظروا النقابات المِهَنية وأيّ تجمعٍ لأكثر من 50 شخصاً.

لم تفلح هذه القيود في منع العمّال من الاحتجاج والتظاهر، فقد خرج العمّال الإنجليز في مظاهراتٍ وإضراباتٍ حاشدة في الفترة بينَ 1792 و1820، ردّت الطبقة الحاكمة عليها بإرسال الجيش للتصدّي لها، ما قاد إلى أحداث مانشستر عام 1819، حيث أُرسِل الجنود للتصدي لحشدٍ تعداده ثمانون ألفاً، وأصابوا المئات وقتلوا أحد عشر شخصاً، فيما عُرف بمجزرة “بيترلو”. لم يؤدِّ هذا القمع الدمويّ إلى إخضاع الحشود، بل إلى تأجيج موجةٍ أوسع من المظاهرات.

بعد عشرة أعوامٍ من المجزرة، لجأت الطبقة الحاكمة إلى تشكيل مؤسساتٍ جديدة للسيطرة على الوضع، إحداها كانت شرطة لندن. صُمِّمت قوّات الشرطة خصيصاً بهدف إلحاقِ عنفٍ غير مُميتٍ بالحشود، وذلك بتفرقِةِ الجماهير مع الحرص على تجنّب صنع الشهداء. وبالطبع، فأيُّ قواتٍ مُنظَّمَةٍ لممارسة العنف الروتيني ستقتل بعض الناس بالتأكيد، ولكن مقابِل كلّ شخصٍ تقتله الشرطة، نجد مئات الممارسات العنفيّة غير المميتة، وهي محسوبةٌ وموزونةٌ بحيث تروّع الجموع دون تأجيج ردّ فعلٍ جماعيّ غاضب.أما الوظيفة الأخرى للشرطة، فهي مراقبة الناس وترويعهم باسم محاربة الجريمة، والتصدّي للإضرابات وأعمال الشغب والمظاهرات الضخمة.

ينتقل كاتب المقال إلى الجانب الآخر من المحيط الأطلسي للحديث عن تأسيس الشرطة في نيويورك، مشيراً إلى حقيقة أنّ معظم الاعتقالات كانت بسبب جرائم لا ضحايا لها، وهي ما تسمّى “نشاطات وقت فراغ الطبقة العاملة”، والتي باتت تشبه تعريف علم الجريمة لـ “الجرائم على النظام العام”.  كانت الشرطة بشكلها الأولي غير المحترف ولا المتفرغ (العسس) تراقب ما يجري في الشارع من تفاعلاتٍ بين العمّال والعبيد المحرّرين والهاربين، حيث مثّل الشارع البيئة الخصبة لتفاعل الأفكار والعقائد الجديدة التي تعبّر عن بدء اكتشاف الطبقة العاملة لنفسها ولإمكانياتها وقوّتها. ووسط كلّ ذلك، تواجدت فئاتٌ خارج سيطرة الطبقة الحاكمة وأصحاب المشاريع الحرفية، حيث برز البحارة بشكلٍ خاص باعتبارهم فئةً مؤهّلةً لإثارة الشغب والتحريض على الاضطرابات، واللافت أنّ أوّل مرسومٍ ذا طابعٍ بوليسي كان مرتبطاً بمنع البحّارة من البقاء في الشوارع والمرافئ.

ويرصد “وايتهاوس” تطوّر الأعمال الحرفية والمنافسة في الرأسمالية الصاعدة وارتباط ذلك بأشكال التنظيم الاجتماعي وما شهده المجتمع من صداماتٍ، بعضها ذو طابعٍ عرقي، وحيث كثرت حالات هروب العبيد من ملّاكيهم ومحاولات السلطات إعادتهم، أو قمع الاحتجاجات وأعمال الشغب التي تُعتبر أكثر الأشكال النضالية شيوعاً.

وعلى الرغم من نجاح الطبقات الحاكمة في حرف احتجاجات أبناء جلدتهم من العمال نحو تعبئتهم ضدّ أعراق أخرى (الإيرلنديين والسود مثلاً) إلا أنّ كثيراً من الاحتجاجات الجماهيرية الواسعة في هذه الفترة جمعت آلاف الناس من أعراقٍ مختلفة من أجل مطالبهم بتحسين ظروف العمل والأجور، ما أقلق الطبقات الحاكمة ودفعها  إلى إجراء إصلاحاتٍ على نظام عمل الشرطة (العسس) وإنشاء قسم شرطة مدينة نيويورك عام 1845، والذي اتّخذ طابعاً أكثر “مهنية” وتراتبياً عسكرياً، وبات جهازاً محترفاً من الأفراد المتفرّغين، وأكثر طواعية لحاجات الطبقة المسيطرة.

في الجنوب الأميركي، كان تأسيس الشرطة في مدينة شارلستون، في ولاية كارولينا الجنوبية، أكثر ارتباطاً بأوضاع العبيد بمن فيهم أولئك الذين اشتروا حريتهم بعملهم، فقد كانت المدينة مركزاً لتجارة العبيد، ويلاحظ الكاتب أنّه مع تطوّر الحرف، والمنافسة الضارية بين الصناعيّين، لجأ بعض ملّاك العبيد إلى تشغيل المستعبَدين في مشاريع حرفيةٍ وصناعية بحيث يستحوذون على مردود عمل هؤلاء العبيد، لتتغيّر أُسس العلاقة بين الطرفين، ناهيك عن التغيّر في العلاقات بين العبيد أنفسهم. فـلِفتراتٍ طويلة من الوقت، لم يعُد العبيد تحت إشراف الأسياد المباشر، وتمكّنوا من الحصول على أموالٍ لأنفسهم تفوق الرّسوم التي دفعوها للأسياد وتتجاوزها.

بدأ العديد منهم بتسمية هذه الرسوم بـ “رسوم الحرية”، وأصبح بمقدور كثير من العبيد العيش خارج أماكن سكن أسيادهم والزواج، بل إنّ الأفارقة السود عمدوا إلى تأسيس حياةٍ جمعيّةٍ خاصة بهم، كإنشاء الكنائس الخاصة بهم. ومع هذا الوضع الاقتصادي والاجتماعي المستجد، نشأ جهازَ الشرطة الحديث في شارلستون، وكانت له وظيفتان: أولاً تعقّب السكان السود ومراقبتهم، وثانياً الاستعداد الدائم للسيطرة على الحشود، وتحديداً السود.

كما يربط الكاتب بين تطوّر بناء أجهزة الشرطة وتطوّر التعليم العام ومؤسساته؛ إذ تهدف المدارِس إلى “تعويد الأطفال على الالتزامات التي تتضمّنها أماكن العمل الرأسمالية، منها الخضوع لقوانين صارمةٍ تحدّد الأوقات الملائمة للقيام بكلّ شيء”. ويلفت الكاتب إلى أنّ مفاهيم المواطنَة الصالِحة التي نشأت مِن حركة إصلاح التعليم متوازية تماماً مع مفاهيم علم الجريمة، التي كانت قيد الاختراع، الهادفة إلى تصنيف الناس في الشوارع. فكان على الشرطة ألَّا يُركّزوا على الجريمة، بل على صِفات مُرتكبيها، وهي طريقة تشخيصٍ مدعومةٌ بما يُزعم أنّها أُسسٌ علميّة.

يخلص “وايتهاوس” إلى أنّ الشرطة والقانون والتعليم والعمل الخيريّ هي كلّها أدواتٌ في يد أصحابِ القوة المُمَكَّنِينَ من استخدامِه، بغرضِ التأثير على مجريات الأحداث. فالشركاتُ مُمكَّنةٌ من استخدام هذه الأداة لقُدرِتها على توكيل محامين ذوي التكلفة الباهظة، والسياسيون وأعضاء النيابة العامة والشرطة أيضًا مُمَكَّنونَ من توظيف القانون.

للقراءة، من هنا

كيف تُسهم الجوائح في تشكيل التاريخ البشري

في هذا المقال المنشور في موقع “حبر“، وترجمه أحمد زيد، تستعرض الكاتبة “إليزابيث كولبرت” بعض النماذج التاريخية حول الدور الذي تلعبه الأوبئة في تغيير مسارات البشرية، وفي كتابة التاريخ والتلاعب بالأنظمة السياسية.

وفق الكاتبة، يُؤرّخ للطاعون الجستنياني-نسبةً إلى الإمبراطور البيزنطي “جستنيان”- بوصفه الجائحة الأولى التي شهدتها البشرية، والتي ظهرت في مصر عام 541. في العام التالي، ضرب الطاعون القسطنطينية، عاصمة الإمبراطورية البيزنطية آنذاك. ألقى الطاعون بثقله على “جستنيان” وحكمه، وإن كان الإمبراطور قد نجا بعد إصابته بالطاعون، فإنّ حكمه لم يشفَ بعد ذلك أبداً؛ إذ قوّض الوباء العديد من إنجازات “جستنيان” التي منحته لقب “أحد أعظم قادة الدول على مرّ التاريخ” بحسب دراسةٍ حديثة.

في كثيرٍ من الأحيان، صاحبت الأوبئة الحروب، تماماً كما حدث حين التقط الرومان مرض الجدري قرب ما يعرف اليوم ببغداد، حين ذهبوا لمحاربة أعدائهم البارثيين سنة 162. وفي حالاتٍ أخرى كثيرة، حملت القوى الاستعمارية الغربية (من بينها منظمة الأمم المتحدة التي نقلت الكوليرا إلى هايتي في عام 2010)  “أوبئة الأرض البكر”، وهو مصطلحٌ يشير إلى تفشّي الأوبئة في مناطق لم تكن موجودةً فيها من قبل، وبالتالي فإن شعوب هذه المناطق عاجزةٌ مناعياً أمام تلك الأمراض، إلى الهند والصين وأفريقيا والأمريكستين، ففتك المرض بالشعوب المستعمَرة بسرعةٍ عجز الغزاة أنفسهم عن مجاراتها.

وفي مقابل دور الأوبئة في “مأسسة الصحة العامة” ومساهمتها في “شرعنة تنامي السلطة بين يدي الدولة الحديثة”، أثارت الأوبئة أعمال شغبٍ واحتجاجاتٍ ضدّ صُنّاع القرار والمسؤولين والأطباء، ستُسهم لاحقاً في اندلاع ثوراتٍ وصياغة تحوّلاتٍ سياسيةٍ تعيد رسم الخرائط الجغرافية والسياسية إلى الأبد.

ترى الكاتبة أنّ وقوع كوارث الحاضر يحفّز النظر إلى كوارث الماضي أملاً في استخلاص العبر. ولكن، ورغم هذه الحصيلة من التجارب، تبقى الاختلافات والتباينات بينها التحدّي الأكبر، وهو ما يدفع الكاتبة لاستنتاج أنّ جائحة “كوفيد-19” الراهنة ستكون موضع دراساتٍ تاريخيةٍ كثيرةٍ.

للقراءة، من هنا