حمل منفذّا عمليّة الخضيرة رصاص من عيار 5.56 مم، المُلائمة للأسلحة من طراز بندقيّة M4 (وهي بندقية هجومية تمّ تطويرها كنسخةٍ أصغر حجماً من البندقية الهجومية الأمريكية M-16A2)، تُستخدم «إسرائيلياً» منذ 2001؛ من قبل «الجيش» ووحدات «مكافحة الإرهاب» والشرطة الصهيونية و«حرس الحدود».

نُقلت وأغرَقت هذه الأسلحة البلدات والأحياء العربيّة في الداخل الفلسطيني المحتلّ عام 1948، بهدف زيادة حجم الشرخ والمحو على العديد من الأصعدة. واستخدمت وما زالت في العديد من حالات القتل الداخليّة، على خلفيّات مرتبطة غالباً بصراع عائليّ/ سوق سوداء وقروض/ فرض إتاوة، وهذه العوامل وغيرها شكّلت بنيةً متكاملةً خلال عقدين، وتكثّفت في العقد الأخير منذ 2010، في نشاطات التدمير الذاتيّ للمجتمع.

وعلى هذا الأساس، شدّد المختص في قضايا الجريمة والسموم وليد حدّاد – في كل مناسبة يخرج فيها إلى الإعلام- على أنّ دولة الاحتلال وأجهزتها القانونيّة رسمت خطّاً فاصلاً بين «السلاح الجنائيّ» الذي يُستخدم في قتل الفلسطينيّ للفلسطينيّ، و«السلاح الأمنيّ» الذي يوجه إلى الجماعة الاستيطانيّة. لذا، قد تغضّ عينيها هذه الأجهزة عن «تسريب الأسلحة» من قواعد ومعسكرات الجيش، حيث فائض الأسلحة لديها، طالما تصبّ في خدمة الجنائي.

 

إذن، لِمَ تقلق؟ فليقتل الفلسطينيّ ويدمّر مجتمعه بيديه، فهذا هو الغرض، أن تصبح إبادة الفرد الفلسطينيّ الواقع تحت إطار «المواطنة الكولونياليّة» – بتعبير نديم روحانا وأريج خوري صباغ- بدون تكلفةٍ حقوقيّة أو إعلاميّة، وتتحوّل الإبادة إلى «ممارسة ثقافيّة داخليّة»، كما حرب البسوس ومعارك كُليب وجسّاس.

وفعلياً، فإنّ عديد الأسلحة التي بحوزة المجتمع الفلسطيني في الداخل المحتل، من عائلات وأفراد وبلدات وأحياء، يُقارب نصف مليون قطعة، وفقاً لتقديراتٍ نُشرت قبل بضع أعوام، تأتي غالبيّتها من معسكرات وقواعد «الجيش». وبما أنّ عمليّة إفراغ هذا الكمّ الهائل تحتاج إلى مبالغ تفوق ثمنها، استبدلت «الشرطة» الإفراغ الفعليّ للأسلحة ببياناتٍ واهمة تنشرها على حساباتها على منصّات التواصل الاجتماعي كلّ أسبوع، فتنشر صورةً لخمسين قطعة هنا «قبضنا عليها بفعلِ خبراتنا وقدراتنا»، أو عشرة قطع جديدة هناك كانت على وشك أن تدخل إلى دوائر الجريمة «قبضنا على القطع المهرّبة، بفعلِ نباهتنا»، وقبل أيام قليلة، نشرت صورة لقطعٍ وجدتها في حيّ عربيّ بالرملة.

عن قراءة أدواتنا النضاليّة

طالما شدّدت القيادة العربيّة الفلسطينيّة الواقعة تحت مظلة «المواطنة الكولونياليّة»، على النضال والكفاح الشعبيّ غير المسلّح، وفي كلّ الفترات بدءاً من عصيان الحكم العسكريّ 1954- 1960؛ ويوم الأرض 1976؛ وانتفاضة الحجارة 1988- 1992؛ وانتفاضة الأقصى 2001- 2004؛ والمظاهرات ضدّ مخطّط برافر 2011؛ وهبّة الكرامة 2021). وعلى هذه الخطى مشت أيضاً أكثر الحركات جذريةّ ووطنيّةً ويساريّةً، وعلى رأسها حركة الأرض منذُ ستينيّات القرن الماضي التي استلهمت مشروع جمال عبد الناصر، وتبعتها «حركة أبناء البلد»، وأضِف إلى ذلك «الجبهة الحمراء»، وهي حركة ماركسيّة جذريّة ديمقراطيّة ضمّت أفراداً يهوداً، واعتقلَ أفرادها على إثر لقاءات في الخارج مع ممثّلي منظمّة التحرير الفلسطينيّة وغيرها من اتهامات، وصولاً إلى الحركة الإسلاميّة الشماليّة التي حُظرت على خلفية نشاطاتها المكثّفة في الدفاع عن المسجد الأقصى؛ ووضعت لبنات أساسيّة لمشروع «المجتمع العصاميّ». ناهيكَ عن الأحزاب العربيّة الفلسطينيّة المنخرطة في الكنيست من الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ والتجمّع الوطنيّ الديمقراطيّ (علماً أن حركة الأرض قدّمت أوراق بهدفِ الانخراط الكنيست إلّا أنها حظرت بحجة معتقداتها السياسيّة).

هذا هو الخيار التاريخيّ للمجموعة الفلسطينيّة في هذا الجزء من الجغرافيا الفلسطينية التي احتلّت عام 1948، والذي تمّ اتخاذه وتعزيزه لعوامل عدّة سياسيّة واجتماعيّة وأمنية. وبالطبع لا أنفي هنا وجود حالاتٍ مسلّحة متفرّقة انخرطت في الفعلِ المسلّح الفلسطينيّ العامّ، كما اتضح جلياً في انتفاضة الأقصى، حيث تشكّلت عشرات الخلايا. إلّا أنني أشدّد هنا على نشوء وتبلور هذه الحالة السياسيّة والاجتماعيّة وهيمنتها، ومظاهر هذا التشكّل/ التشكيل السياسي للجماعة الفلسطينية في فلسطين المحتلة عام 1948، التي وجدت نفسها وحيدةً ومكسورةً ومحكوماً عليها بالإعدام، تنتظرُ مصيرها، إلا أن الفاعليّة للحركات أو الأنوية الوطنيّة ودور الحزب الشيوعيّ المعترف به قانونيّاً في هذه المساحة، جعلَ من الممكن تخطّي هذه المرحلة، مرحلة الحُكم العسكريّ.

 من المهم أن نتقصّى جدليّة ما حدث في العقدين الأخيرين؛ استراتيجيّة صهيونية عامّة لزيادةِ حجم الجريمة والعنف من خلال إغراق المجتمع في السلاح، وإتاحة سوق السوداء، وبناء منظومة أمنيّة و«جاسوسيّة»، لضبطها أي ضبط حدود استخدام السلاح ضد من؟ وهنا ينبثق السؤال: هل تستطيع هذه المنظومة فرض سيطرة كاملة على جميع إمكانيّات هذا السلاح؟

وفي هذا السياق علينا النظر إلى عمليّة الخضيرة التي نُفذت في 27 آذار 2022، على أنها عملياً ورمزياً أوّل عمليّة نرى فيها الكمّ الهائل من الأسلحة والذخيرة التي تجهز بها الشابّان الفحماويان خالد وأيمن اغبارية، منفذّا العمليّة، إذ أنّها كما تظهر الصور تبلغ أكثر من 1000 طلقة من عيار 5.56 للسلاح الآلي، ومسدسات معتمدة لتسليح الشرطة الصهيونية من طراز “يريحو 941″، مما يدلّل بوضوح على «عدم وجود أيّة مُشكلة» في حيازة السلاح، فهذه العملية من ناحية التسليح عمليّة تشكلت في سياقات فرضها الاستعمار كأدوات قمعٍ وقتلٍ ذاتيّ لمجتمعنا.

الاستعمار هو الوحيد الذي يتحمّل المسؤوليّة تاريخياً وراهناً وعمليّاً وسياسياً… عن إغراق مجتمعنا بالسلاح المعدّ لقتل أنفسنا، فينزلق تدريجياً وترتدّ الحالة ليُصوَّب نحو الشرطة والجنود.

هذا التحوّل الاستراتيجيّ في كلّ الأحوال قد يصبّ إيجابياً لصالحِ مجتمعنا؛ إمّا أن «تنحرف» شيئاً فشيئاً أهداف هذه الطلقات عن أطفالنا وشبابنا وشابّاتنا ورجالنا ونسائنا، وإمّا أن تتحوّل سبباً لمواجهةٍ داميةٍ بين الشرطة ودوائر الجريمة وتهريب السلاح، ما يعطي القوى الوطنيّة فرصةً لبناء وتنظيم أنفسهم من جديد، على أساساتٍ جديدةٍ واختراق احتكار العمل السياسيّ من قِبل تجّار أصوات الكنيست.

الأسئلة المفتوحة

الأسئلة الأهم تقع على عاتق من هُم في موقع القيادة الفلسطينيّة تحت سقف «المواطنة الكولونياليّة» (الأحزاب، اللجان شعبيّة، ولجنة المتابعة العليا، واللجنة القطريّة لرؤساء السلطات المحليّة): ماذا ستفعلون لتحصين المجتمع وحماية البلدات والمدن، والأهم تحصين الأحياء في المدن الساحليّة؟ ما الخطوات التي ستقدمون عليها سياسياً، لمجاراة الأحداث الأخيرة، وعلى رأسها «التسليح العامّ» بأعداد كبيرة للمستوطنين في كلّ أماكن تواجدهم؟ 

وما هي الخطط والرؤى في حال اندلعت معارك في ساحات البلدات العربيّة الفلسطينيّة، عند إقدام الشرطة وباقي الأجهزة الاستعماريّة مثلاً على حرب الضرورة ضدّ الجريمة المنظمّة… فهي كما نعلم جميعاً لن تُقدم عليها كما في «نتانيا» أو غيرها بأقلّ الخسائر، بل ستُقدم عليها بعنفٍ شديد ودون اكتراثٍ لأحد أو للدماء؟