من لبنان، تكتب لنا الناشطة الفلسطينيّة إسلام الخطيب، عن الحراك الشعبي المستمر في المخيّمات الفلسطينيّة ضدّ الإجراءات الأخيرة لوزارة العمل اللبنانيّة التي تستهدف اللاجئين الفلسطينيين والسوريين.
خلال الشهرين الماضيين، وفي ظلّ سياقٍ تنافسيٍّ بين الأحزاب اليمينيّة لإثبات أيّها الأكثر “وطنيّةً”، وبعبارةٍ أخرى الأكثر “عنصريّةً”، بدأت وزارة العمل اللبنانيّة بتطبيق خطتها “لمكافحة العمالة الأجنبيّة غير الشرعيّة”، والتي تستهدف اللاجئات واللاجئين السوريين بشكلٍ خاصٍّ. وبحسب الحملة، فإنّها تسعى إلى” تنظيم” العمالة الأجنبيّة في كلّ المناطق اللبنانيّة، لتشرع بإغلاق المحلات التجاريّة المملوكة لسوريين وسورياتٍ. توازياً مع ذلك، نُشرت عدّة تقارير عن بدء عمليات ترحيل السوريين والسوريات إلى “المناطق الآمنة”، في ظلّ تبني الأحزاب اللبنانيّة وأجهزتها الإعلاميّة حملةً تحريضيّةً ضد العمّال السوريين.
لم تتوقّع أيُّ جهةٍ فلسطينيّةٍ رسميّةٍ خلال هذه الفترة بأننا، كلاجئاتٍ ولاجئين فلسطينيين في لبنان، ضمن هذه الخطة. يُعزى هذا التوقّع إلى تبني هذه الجهات خطابات الدولة والوقوع في ثنائية “اللاجئ الجيد”/اللاجئ السيء”. لكن سرعان ما تبدّلت المعطيات، بمداهمة وزارة العمل محلاتٍ تجاريّةً فلسطينيّةً منذ حوالي ستة أيامٍ، وطردها عمّالاً فلسطينيين بحجّة عدم امتلاكهم إجازات عملٍ، وبالتالي تصنيفهم كعمالةٍ غير شرعيّةٍ.
حرّكت هذه الأحداث، التي تصاعدت سريعاً، الرأيَ العام الفلسطيني في لبنان، ما دفع وزارة العمل إلى إصدار بيانٍ يشير إلى أنّ الحملة “لا تستهدف أحدًا”، ولا تعدو كونها قوانينَ “تُطبّق على الجميع دون استثناءٍ”، موضّحاً أنّ الفلسطينيين يحظون بـ”تمييزٍ إيجابيٍّ في لبنان”؛ إذ إنّ الفلسطيني “مُعفى من دفع رسوم إجازات العمل”، ويحظى بـ”تسهيلاتٍ” لا يملكها عاملٌ أجنبيٌّ آخر. غير أنّ بيان الوزارة لم يُجِب على سؤالنا الأساسي؛ وهو: كيف يمكن للوزارة تطبيق أحكام قوانين تبيّن بنفسها أنّ صفة العمالة الأجنبية لا تنطبق على العمّال الفلسطينيين؟ وكيف يمكنها تجاهل الخصوصيّة الفلسطينيّة في حملاتها الإجرائيّة بحقّ “العمالة الأجنبيّة”؟
يخضع اللاجئون الفلسطينيون والفلسطينيات في لبنان إلى نظام قانون عمل الأجانب القائم على مبدأ المعاملة بالمثل والإلزام بحيازة تصريح عملٍ، رغم عدم صحة تطبيقه عمليًّا في الحالة الفلسطينيّة. إذ إنّ المادة السابعة من الاتفاقية الخاصة بوضع اللاجئين لسنة 1951 تُعفي اللاجئين واللاجئات من مبدأ المعاملة بالمثل، وتسمح لهم بالعمل دون تصريح عملٍ بعد مرور ثلاث سنواتٍ على إقامة اللاجئ في دولة اللجوء. لكنّ عدم التزام الدولة اللبنانيّة بذلك يخلق عائقاً يحول دون حصول اللاجئات واللاجئين الفلسطينيين على تصاريح عملٍ، تحديداً في المهن النقابيّة. كما يؤكّد تبنّيها نهج إنكار وضع اللاجئات واللاجئين الفلسطينيين في لبنان، بغرض تسخيرهم لصالح أصحاب الشركات والتجارات.
ليس خافياً على أحدٍ مدى استغلال العمّال الفلسطينيين في لبنان، في ظلّ غياب أيّ نوعٍ من إجراءات وآليات الحماية وتحصيل الحقوق، نتيجةً لقيام المنظومة الاقتصاديّة في لبنان على العمالة “الأجنبية”. [1] لا يعدّ هذا الواقع المتفاعل اليوم جديداً؛ إذ كانت عمليّة إنشاء المخيمات وتوزيعها على الأراضي اللبنانيّة قرب المدن بدلاً من الحدود، تلبيةً لرغبة رجال الأعمال وحاجتهم إلى يدٍ عاملةٍ رخيصةٍ. [2] ففي نيسان 1949، وصل عدد اللاجئات واللاجئين الفلسطينيين في لبنان إلى حوالي 125 ألفاً، ما أثار “قلق” ميشال شيحا، القومي اللبناني والمؤدلج البارز للنظام الاقتصادي اللبناني، داعياً إلى إعادة توزيع اللاجئين على سوريا والأردن وغزة. وقامت، بالفعل، شاحناتٌ للجيش بنقل لاجئين فلسطينيين من جبل عامل إلى الحدود الشماليّة والشرقيّة مع سوريا؛ حيث رفضت السلطات السورية استقبالهم. [3]
موجز علاقة لبنان باللاجئ الفلسطيني
يعود بنا هذا إلى تاريخ العلاقة القانونيّة والمؤسساتيّة بين الدولة اللبنانيّة واللاجئين الفلسطينيين؛ فمنذ ذلك الوقت حتى عام 1969، تعرّض اللاجئون الفلسطينيون في لبنان إلى المراقبة المستمرة والقاسية، سواءً خارج المخيمات أو داخلها. ترافَقَ ذلك مع قمع كلّ محاولات التنظيم السياسي والاجتماعي، وحتى الثقافي والرياضي. ففي الخمسينيات، على سبيل المثال، لم يُسمح للشباب الفلسطيني بإنشاء فرق كرة قدمٍ أو الانضمام إلى الفرق الكشفيّة. [4] كما كانت المخيّمات الفلسطينيّة ترزح تحت قبضة الأجهزة الأمنيّة، لتنبني السياسة الرسميّة تجاه الفلسطينيين على قاعد الخوف من تسييس المخيمات الفلسطينيّة، والنظر إليها بوصفها نقاط تهديدٍ لأمن البلد، خاصةً لكون الحكومة في تلك الفترة “مواليةً للغرب”.
طوال هذه السنين، انبثقت سياساتٌ تتّسم بالاستخدام المتكرّر للإجراءات التعسفيّة غير المسوّغة قانونيّاً؛ كفرض إجازات عملٍ سنويّةٍ، يُلزَم العامل بتقديمها من جديدٍ في حال بدّل عمله خلال السنة. وربما دفعت هذه الإجراءات التعسفيّة الفلسطينيين إلى الانخراط في تشكيل قطاع عملٍ غير رسميٍّ داخل المخيّمات الفلسطينيّة؛ القطاع نفسه الذي تجري اليوم محاولة القضاء عليه.
استمرّت هذه السياسات القمعيّة حتى عام 1958، تحديداً حتى انتخاب اللواء فؤاد شهاب رئيساً للبنان، ومرور النظام السياسي اللبناني بأزماتٍ أجبرته على تقديم تنازلاتٍ وإجراء بعض الإصلاحات البسيطة، شملت تسهيلاتٍ قُدّمت إلى قطاع العمل الفلسطيني. غير أنّ هذه السياسة لم تعنِ تحوّلاً جذريّاً في معالجة قضايا اللاجئين الفلسطينيين، إنّما اتّسمت بالاستنسابيّة بدلاً من تبني نهجٍ واحدٍ واضحٍ كما السابق؛ حيث لم يُسمح بأيّ شكلٍ من أشكال النشاط أو التنظيم السياسي.
اتّخذ النشاط والتنظيم السياسي الفلسطيني شكلاً واضحاً ومحدّداً في لبنان بعد أعقاب حرب 1967؛ حيث أنتجت هزيمة الجيوش العربيّة وزعزعة الثقة في الأنظمة العربيّة فراغاً سياسيّاً عاماً أتاح للتنظيم الفلسطيني فرصةَ ملئهِ. باتت المقاومة الفلسطينيّة، بالإضافة إلى تبني المصطلح نفسه، رايةَ حشدٍ للجماهير العربية، وموقعاً مهماً لانتشالها من حالة الخذلان والهزيمة؛ إذ صارت الجماهير تتطلّع إليها بوصفها الرمز الذي تُستعاد من خلاله الكرامة العربيّة.
لكن لم تطُلْ هذه الحالة كثيراً في لبنان؛ إذ بين حزيران 1967 ونيسان 1969 تصارَعَ التنظيم السياسي الفلسطيني هناك مع جبهتين: الأولى كانت محاولة اختراق المخيمات في ظلّ السيطرة الأمنية المُحكمة عليها، والثانية مرتبطةٌ بالتموقع العسكري في جنوب لبنان، لتتخبّط الدولة مع أجهزتها في التعامل مع هذا الواقع الجديد الذي فرض نفسه. وعلى الرغم من اعتبار بعضهم أنّ مفهوم الدولة اللبنانيّة كدولةٍ لم يكن واضحاً في تلك الفترة، إلا أنّه يمكننا الادّعاء أنّ الدولة كانت تفرض سلطتها “كدولةٍ” من حيث الإشراف والرقابة وتحديد العلاقة مع اللاجئين الفلسطينيين. حيث إنّ تجليات الانقسام الحاد داخلها لم تعنِ بالضرورة عدم تبلوّر مفهوم الدولة وقتها، إنّما يمكن قراءتها كتعبيرٍ عن رغبات وطموحات الجهات السياسيّة اليمينيّة في السياسة اللبنانية بالمجمل.
فيما بعد، أسّس اتفاق القاهرة عام 1969 لمرحلٍة جديدةٍ من العلاقات اللبنانيّة-الفلسطينيّة؛ فلم تعد تخضع المخيمات الفلسطينيّة للمؤسسات السياسّية اللبنانيّة، إنّما حازت نوعاً من أنواع الحكم الذاتي، الذي لم يكن ليتمّ دون تضامن الرأي العام اللبناني مع الفلسطينيين وقضيتهم. لاحقاً، أدّت الحرب الأهليّة إلى بلورة علاقةٍ جديدةٍ بين الفلسطينيين والدولة اللبنانّية، خاصةً بعد خروج فتح من لبنان وانتهاء الحرب الأهلية؛ إذ تبنّت قطاعاتٌ من المجتمع اللبناني خطابَ فزّاعة التوطين لخلق رُهابٍ عامٍّ يحول دون منح الفلسطينيات والفلسطينيين حقوقهم المدنيّة والاقتصاديّة.
منذ ذلك الوقت، بات الحديث في حدّ ذاته عن حقّ الفلسطينيين في العمل خطوةً أولى نحو التوطين بالنسبة للدولة. وكان لاستخدام فزّاعة التوطين تبعاتٌ عمليّةٌ؛ ففي 3 نيسان 2001، أصدر البرلمان اللبناني القانون رقم 296 الذي عدّل المادة الأولى من المرسوم، ليمنع الفلسطينيين بشكلٍ خاصٍّ من التملّك والوراثة. تنصّ المادة على أنّه “لا يجوز تملّك أيّ حقٍّ عينيٍّ من أيّ نوعٍ كان لأيّ شخصٍ لا يحمل جنسيةً صادرةً عن دولةٍ مُعترفٍ بها، أو لأيّ شخصٍ إذا كان التملّك يتعارض مع أحكام الدستور لجهة رفض التوطين”. لكن خلال العقود الماضية، سعت التنظيمات السياسيّة التقدميّة اللبنانيّة والفلسطينيّة إلى إيجاد طريقةٍ لمواجهة العنف الممنهج ضد اللاجئين الفلسطينيين، ولربما هذا ما نفتقده اليوم؛ الرؤية المشتركة والتضامن المُترجم إلى عملٍ قاعديٍّ وعضويٍّ وتنظيميٍّ حقيقيٍّ.
ما وراء “الامتيازات الإيجابيّة”!
وفي عام 2010؛ أي بعد خمس سنواتٍ من تشكيل لجنة الحوار اللبناني- الفلسطيني، وثلاث سنواتٍ من الحرب على مخيم نهر البارد وتدميره، اعترفت الدولة اللبنانيّة “بخصوصيّة” العاملات والعمّال اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، وذلك بعد عقودٍ من غياب مصطلح اللاجئين الفلسطينيين في النصوص التشريعيّة اللبنانيّة. إذ أصدرت الدولة القانون رقم 128، والقاضي بخضوع اللاجئ الفلسطيني دون سواه إلى أحكام قانون العمل اللبناني لجهة تعويض نهاية الخدمة وطوارئ العمل، لكن دون الاستفادة من تقديمات صندوقَيْ ضمان المرض والأمومة والتقديمات العائليّة. كما نصّ القانون على وجوب إفراد حسابٍ منفصلٍ ومستقلٍّ لدى إدارة الضمان الاجتماعي للاشتراكات العائدة للعاملات والعمّال اللاجئين الفلسطينيين. بينما استثنى القانون رقم 129، حصراً، الأُجَراء الفلسطينيين من شروط المعاملة بالمثل ورسم إجازة العمل.
تصف الأحزاب اللبنانيّة هذه القوانين، التي لم تتحوّل إلى مراسم تطبيقيّةٍ أصلاً، بأنّها “تسهيلاتٌ” و”امتيازاتٌ إيجابيّةٌ” لصالح الفلسطينيين في لبنان، على الرغم من أنّ هذه التسهيلات لا تهدف سوى لدفع الشركات والمؤسسات إلى التصريح عن عدد الموظفين “الأجانب”؛ فهي في الحقيقة لم تحقّق أيّاً من مطالب الفلسطينيين التي سبق ورفعوها إلى لجنة الحوار اللبناني-الفلسطيني، خلال حملة حقّ العمل المدعومة من أكثر من ثمانين منظمةً فلسطينيّةً ولبنانيّةً مدنيّةً.
إنّ الإجراءات الأخيرة التي اتّخذها وزير العمل بحقّ اللاجئات واللاجئين الفلسطينيين في لبنان لا يمكن فصلها عن إجراءاتٍ سابقةٍ اتّخذتها الحكومة من حرمان الفلسطينيات والفلسطينيين من أبسط حقوقهم؛ كحقّ التملّك، بالإضافة إلى تعقيد حقّ التنقل وإدخال مواد البناء للمخيمات وتأسيس جمعياتٍ مدنيّةٍ، وفرض حصارٍ على المخيمات عبر الأسلاك الشائكة والجدران المرتفعة، والتعامل معها بوصفها “بؤر إرهابٍ” يُولد أهلها مع استعدادٍ وراثيٍّ لـ”العمل الإرهابي”؛ إذ يستخدم هذا المصطلح ضد الفلسطينيين بشكلٍ خاصٍّ. تجعلنا كلّ هذه المعطيات ندرك أنّ الإجراء الأخير لم يكن مساراً استثنائيّاً، إنّما يأتي تتويجاً لتبني الأحزاب اللبنانية، بمختلف “ألوانها” وبمختلف المحطّات التاريخيّة، خطاباتٍ تحريضيّةً ضد اللاجئين الفلسطينيين؛ إذ يمكن اعتباره تكثيفاً للعلاقة التاريخيّة التي رسمتها الدولة وحدّدتها مع اللاجئ الفلسطيني، مُشهِرةً “فزّاعة التوطين” بوجهه.
الصمت السياسي
من الواضح أنّ ثمّة حيرةً وتخبّطاً بين الأحزاب السياسيّة في لبنان، وحتى داخل وزارة العمل نفسها، بخصوص الإجراء الأخير. لا تنحصر هذه الحيرة في الأحزاب اليمينيّة فحسب، بل تحضر أيضاً بين الأحزاب المندرجة تحت تحالف ٨ آذار في لبنان. فحتى هذه اللحظة، لم يصدر أيُّ بيانٍ أو تصريحٍ رسميٍّ باستثناء ما أعلنه رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري عن ضرورة معالجة الوضع بصيغةٍ قانونيّةٍ تمنع أيّ لغطٍ مستقبلاً أو إنشاء وضعٍ مماثلٍ لاحقاً.
ويجدر الإشارة هنا إلى أنّ وزير العمل لم يتّخذ أيّ قرارٍ جديدٍ لكي يتراجع عنه، إنّما وظّف استنسابيّته في التعريف والتفسير، بدأ بتطبيق قرارٍ موجودٍ بالفعل ضد اللاجئين الفلسطينيين في ظلّ حملةٍ أوسع تستهدف العمال السوريين بشكلٍ خاصٍّ. وفي ضوء القرار، وفي حال افترضنا أنّه يتوجّب على الفلسطينيين الحصولُ على إجازات عملٍ اليوم، كيف يمكن أن يتمّ ذلك، في ظلّ شروطٍ تعجيزيّةٍ من الصعب تحقيقها لحيازة إجازة عملٍ؟! إذ إنّ الحصول على إجازة عملٍ يرتبط بطبيعة الحال بالحصول على إقامةٍ، التي يتعذّر تطبيقها عمليّاً في حالة اللجوء الفلسطيني في لبنان.
على وقع ذلك، فإنّ اللاجئين الفلسطينيين في لبنان ممنوعون من العمل في أكثر من 21 قطاعاً مهنيّاً، من بينها الطب والنقل العام والصيد، ما يدلّل على أنّ تخمين المهن المتاحة للعمل بالنسبة لهم مهمةٌ صعبةٌ لا يمكن بلوغها. يتضافر هذا الواقع مع ماكينةٍ إعلاميّةٍ لبنانيّةٍ نشطةٍ تعزّز على الدوام فكرة أنّ الفلسطينيين “منافسون” حقيقيّون في سوق العمل، على الرغم من عدم توفّر أيّ أرقاٍم تثبت صحة ادّعاءاتها.
ففي الواقع، تُعتبر “الأونروا” المشغّلَ الأكبر للفلسطينيين في لبنان، وتشغّل معظم المنخرطين منهم في أعمال الياقات البيضاء (الأعمال الإداريّة). لكن مع ذلك، تستمر بروباغندا التخويف من التوطين واحتلال سوق العمل في لبنان منذ عام 1949؛ لعلّ أبرز العناوين التي تُنشر اليوم في الوسائل الإعلاميّة اللبنانيّة يحاكي ما نشرته جريدة “البيرق” في أيار 1973 عن الوجود الفلسطيني في لبنان: “الفلسطينيين تحوّلوا إلى جيش احتلالٍ”.
إنّ ابتعاد الجهات السياسيّة أو الجهات “الحليفة”عن المواقف المُعلنة مُقلقٌ، لكنه ليس بجديدٍ. فهي في هذه المواقف – كما اعتدنا – “تحبّ فلسطين وتكره الفلسطيني”؛ ذلك على الرغم من أنّ تمكين الفلسطيني في لبنان والدفاع عن حقوقه الأساسيّة كلاجئٍ، ليسا بمنفصلَيْن عن التطلّعات السياسيّة نحو التحرير والعودة، والقيمة الأساسيّة للقتال ضد العدوّ، خصوصاً أن قضية اللجوء الفلسطيني هي عصب القضية الفلسطينيّة عموماً. كما أن ما يحتاجه الفلسطيني اليوم ليس ديباجةً خطابيّة؛ فالواقع يقول إنّ البيانات وحدها لا تكفي، وإنّ أيّ بيانٍ لا يترافق مع عملٍ جديٍّ لمعالجة وضع اللاجئين في لبنان، بما في ذلك الفلسطينيين السوريين، لن يكون إلا جزءاً من خطاباتٍ مكرورةٍ حفظها الفلسطينيون عن ظهر غيبٍ، كما حفظها أهلهم على مدى العقود الماضية.
بالتالي، يبقى السؤال مُشرعاً بوجه القوى اللبنانيّة التي تعرّف نفسها بهويّتها التقدميّة، بما في ذلك الأحزاب والتجمعات اللبنانية اليساريّة، التي تنظّم تحرّكاتٍ بشكلٍ دوريٍّ منذ أشهرٍ من أجل إقرار الموازنة، واحتجاجاً أيضاً على سياسة التقشّف الجديدة: لماذا لا يوجد موقعٌ للعنف الاقتصادي ضد اللاجئين الفلسطينيين على لائحة أولوياتكم، على الرغم من أنّ ثمّة فرصةً للعمل الجماعي الحقيقي لترجمة شعار التضامن كفعلٍ على الأرض؟
خارطة الفاعلين الجدد
يمكننا القول إنّ ردّة فعل الفلسطينيين والفلسطينيات في لبنان هي المحور الأساس الذي يجب الإضاءة عليه في الحراك الأخير، سواءً داخل المخيمات أو خارجها. فمنذ إغلاق أوّل محلٍ تجاريٍّ فلسطينيٍّ، بدأ سكان المخيّمات بتنظيم تظاهراتٍ في أزقّة المخيّمات، تحديدًا في عين الحلوة، بدون أمرٍ أو توجيهٍ من أيّ فصيلٍ فلسطينيٍّ، على عكس ما يحاول الإعلام تصديره.
وبعد يومين من انطلاق الاحتجاجات، صرحّت “السلطة الوطنية في رام الله” بأنّها أصدرت تعليماتٍ للفلسطينيين بعدم القيام بأيّ احتجاجاتٍ خارج المخيمات. واللافت هنا أنّ الفلسطينيات والفلسطينيين حاولوا بالفعل تنسيق مسيرةٍ من خلال ائتلاف حقّ العمل، المكوّن من عددٍ من المنظمات الفلسطينيّة واللبنانيّة، من الكولا في بيروت إلى المجلس النيابي اللبناني، لكنّ الأجهزة الأمنيّة حالت دون ذلك، لينحصر التحرّك تحت جسر الكولا.
إنّ السلطة الفلسطينيّة، كالسلطات اللبنانيّة، تخاف انتقالَ الحراكات الفلسطينية المستقلّة من الحيز الفلسطيني الخاص إلى الحيز اللبناني العام؛ من غير المرئي إلى المرئي، ومن الانعزال إلى الاندماج. إنّه الخوف من أن يتحوّل “الآخر” غير الفعّال إلى هويّةٍ مُعترفٍ بها تحمل ثقلاً تاريخيّاً. وهذا ما يحاكي التحرّكات التي شهدتها المخيمات في 2015 ضد تقليص خدمات الأونروا؛ حيث حاولت الفصائل الفلسطينية احتواء التحرّكات وإسكات صوت الفلسطينيين.
لا تزال الاحتجاجات الفلسطينيّة مستمرّةً لليوم السادس في جميع المخيمات، مُستخدمةً استراتيجيّاتٍ متعدّدةً؛ كالمسيرات والاعتصامات المفتوحة ونصب الخيم والإضراب؛ إذ إنّ أبواب المحلات التجاريّة موصدةٌ منذ بدء التظاهرات. أمّا على صعيد التنظيم، فمن المثير للاهتمام تطويرُ الأفراد أنفسهم أساليبَ تواصلٍ وتنظيمٍ بديلةً عضويّةً وقاعديّةً أثبتت أنّ محاولات عزل المخيمات عن بعضها البعض قد باءت بالفشل.
بدأتْ الدعوة لهذه التحرّكات بشكلٍ عضويٍّ وفرديٍّ، إمّا من خلال دعواتٍ فرديّةٍ عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أو عبر دعواتٍ جماعيّةٍ من قِبل سكان الأحياء داخل المخيمات. لكن سرعان ما بدأت تشمل أيضاً المنظّمات والمؤسسات الأهليّة الفلسطينيّة، وبشكلٍ خاصٍّ النسائية منها؛ كالنجدة والتضامن، فضلاً عن المنظّمات اللبنانية-الفلسطينية؛ كائتلاف حقّ العمل، والمجموعات المستقلّة، والأندية الثقافيّة والطلابيّة المختلفة داخل المخيمات وخارجها.
فمثلاً، انتشرت مبادرة كتابة “فلسطين” ورسم العلم على العملات اللبنانيّة بشكلٍ سريعٍ بين اللاجئات واللاجئين الفلسطينيين داخل لبنان وخارجها، بعدما دعا إليها بعضُ الأفراد على “فيسبوك”. كما انتشرت الهتافات الموحّدة بين مختلف المخيمات، بشكلٍ مثيرٍ للدهشة؛ إذ إنّ توحيد الهتافات بين المخيمات لطالما تطلّب تنسيقاً مسبقاً نمطيّاً على صعيد الفصائل. لكنّ التنسيق الأخير تمّ بشكلٍ عضويٍّ، من خلال مجموعات “واتساب” الإخباريّة للمخيمات.
تقودنا هذه المسألة للقول إنّ فعالية واستمرارية هذه التحرّكات جديدتان نسبيّاً. ففي حراك 2015 ضدّ تقليصات الأونروا، بدأت الدعوات من المجموعات المستقلّة، غير أنّ الفصائل الفلسطينيّة نجحت باحتوائها، لتنتهي بعد 10 أيام من التظاهر المتواصل. أمّا اليوم، فلا تزال التحرّكات مستمرةً، بالرغم من محاولات الاحتواء المتواصلة بأشكالٍ وأطرٍ مختلفةٍ؛ سواءً عبر ركوب سفارة السلطة الفلسطينية في بيروت موجة الحراك الأخير – على الرغم من أن السلطة نفسها طلبت من الفلسطينيين التروي – أو عبر دعوة الفلسطينيين والفلسطينيات إلى عدم التحرّك خارج حدود المخيمات، أو من خلال تخفيض سقف الخطابات الفلسطينيّة المحليّة، التي شملت مطالبها منحَ الفلسطينيين كاملَ حقوقهم المدنيّة والاقتصاديّة، ومطالبة السلطات اللبنانية بوضع تعريفٍ قانونيٍّ واضحٍ للاجئين الفلسطينيين في لبنان.
إنّ ما يحصل اليوم في المخيمات الفلسطينيّة في لبنان يؤشّر إلى باكورة إنتاج قيادةٍ بديلةٍ عن تلك النمطيّة، التي بإمكانها تجاوز القضايا المطلبيّة إلى قضايا أكثر سياسيّةً تتّصل في عناوينها مع مختلف أماكن التواجد الفلسطيني، على صعيد تطوير خطابٍ تحرّريٍّ شاملٍ يُشرك المخيمات تحت مظلّتها من الناحية العمليّة.
تحدّيات اللحظة التاريخيّة
عادةً ما يُصنِّف المجتمع المحلّي اللبناني الفلسطينيين والفلسطينيات على أنّهم ضيوفٌ غيرُ مرّحبٍ بهم؛ فهم “الآخر” الذي يخافه الجميع، لكنّهم في الآن نفسه يسعون لاستيعابه. كما ينظر إليهم بوصفهم عديمي الجنسية ومنتفعين من وكالات الإغاثة بالنسبة للمجتمع الدولي، خصوصاً على صعيد الأونروا وتقليصاتها الخطيرة من ناحية الإغاثة والتعليم والخدمات، والتي تموضع الفلسطيني اللاجئ على أنّه “منتفعٌ”، دون توضيح العلاقة القائمة بين “الأونروا” واللاجئين، والديناميكيّات التي تؤثّر في السياق، لتحوّل اللاجئين بذلك من جماعةٍ سياسيّةٍ متمسّكةٍ بهويّتها وحقّها في الأرض والعودة، إلى جماعةٍ “هشّةٍ” مُنتفعةٍ في إطار علاقةٍ زبائنيّةٍ، تستخدمها أًطر التمويل لتحقيق غايات ابتزازٍ سياسيٍّ. ونتيجةً لذلك، استحال اللاجئون ومخيماتهم مساحةً سياسّيةً للرهان والتفاوض بالنسبة للسلطة والفصائل الفلسطينيّة.
إنّ كلّ هذه التصنيفات، على الرغم من تحوّلها وتبدّلها تاريخيّاً، إلّا أنّها لم تبدّل علاقة المجتمع الفلسطيني في لبنان بهويّته. فصحيحٌ أنّ هذه الهوية باتت في بعض السياقات ليست سوى تعبيرٍ عن القمع الذي يتعرّض له المجتمع أو الجماعة، غير أنّ المجتمع يفهمها ويدركها من خلال إدراكه لحقّه في العودة، بجانب إدراكه لهياكل القمع التي يشتبك معها، والتي إمّا تعزّز التمسك بالثقل التاريخي للهوية أو تخفيه.
أخيراً، أرى من الضروري اليوم التركيزَ بشكلٍ دقيقٍ على ما يحدث داخل المخيمات الفلسطينية في لبنان وخارجها. فالحراك الحالي سياسيٌّ ومطلبيٌّ ينطلق من التمسك بالهويّة وحركتها التاريخيّة بالدرجة الأولى، وهو ما يظهر جليّاً في الهتافات: “لا تهجير ولا توطين// بدنا العودة على فلسطين” و”بعد الذل والحصار// بدك نركع لقرار؟“.
لربما هذه هي اللحظة التاريخيّة التي نقرأ عنها؛ اللحظة التاريخيّة التي تجمعنا وتتطلّب منّا جميعاً أن نعترف بمشروعيّة الحراك داخل المخيمات وخارجها، وندعمه ونتضامن معه تضامناً حقيقيّاً يتعدّى الشعارات والبيانات المتكرّرة، متجاوزاً التعاطي مع اللاجئين بوصفهم مجرّدَ “ضحايا” يعبّرون عن “غضبهم” من “تجويعهم”، نحو النظر إليهم – أو إلينا – كمناضلين في حراكٍ سياسيٍّ واسعٍ ضد العنصرية والتهميش ضدّ كل اللاجئين و”الأجانب”؛ ضد ّنظام الكفالة وعقود العمل العبوديّة؛ ضدّ إغراقنا في ثنائيّة “اللاجئ الجيد”/”اللاجئ السيء”؛ ضد ّسلطة أوسلو التي تكرّر ما فعلته بالأمس مع فلسطينيي العراق مع فلسطينيي لبنان اليوم؛ ضدّ الأنظمة العربيّة التي انتفعت من اضطهادنا على مدى 71 عاماً، وضدّ الاحتلال وأدواته.
****
الهوامش:
[1] كمال ديب، يوسف بيدس وامبراطورية إنترا وحيتان المال في لبنان، 2015، ص 260.
[2] نصري انطوان دياب، سنة المصير: 1948 المواجهة اللبنانية الإسرائيلية، 1992.
[3] فواز طرابلسي، صلات بلا وصل، 1999، ص 284.
[4] حسام الخطيب، حدود مقفولة وجسور مفتوحة، شؤون فلسطينية، 1973.