عند تقييم نجاعة الاحتجاجات نميل لقياس تأثيرها الآنيّ، أي قدرتها على إحداث التغيير وتحقيق الهدف الذي خرج الناس من أجله؛ وقف العنف، وقف الحرب… إلخ. وعلى الرغم من أهمّية الهدف وأساسيّته في سيرورة الاحتجاج، فهو لا يتحقّق بالطريقة السببيّة المباشرة، أي أنّ السلطات، خاصّة الاستعماريّة، لا تغيّر سياساتها بمجرّد خروج أناس للاحتجاج. بل في السياقات الاستعماريّة والإمبرياليّة، يشكّل الاحتجاج مرحلة يقرّر فيها الناس التدخّل في سياسات السلطات التي تخضِعهم بالقوّة، وعلى هذا الأساس، تحاول السلطات قمع الاحتجاج فتحوّله بذلك إلى جبهة مواجهة، ولا مفرّ من ذلك. في هذه السياقات التي تتضمّن تاريخًا استعماريًّا طويلًا وجبهات مواجهة متعدّدة على مر الزمان والمكان، يأخذ الاحتجاج، مثله مثل سائر الجبهات، شكل سلسلة من المعارك «الأصغر» في هذه الحرب المفتوحة مع الاستعمار.

يطرأ تصعيد معيّن من جانب سلطات الاستعمار على شكل سياسة جديدة-وغالبًا أكثر عنفًا-في التعامل مع المستعمَرين، فتصنع المحتجّين الذين يحاولون دحرها. يموضع المحتجّون هدفهم هذا في سياق حربهم مع الاستعمار، أي يدرسون ما حدث ويحدث في سبيل تحقيق هدفهم المشترك، في باقي جبهات المواجهة على اختلافها. يفهمون كيف تتقدّم المواجهة فيها؛ كيف تجبَر قوّات الاستعمار على التراجع وأين ومتى تتمادى. ويدرسون توجّهات وتطلّعات من هم على الجبهات الأخرى. ويحاول المحتجّون التأثير بشكل استراتيجيّ بانسجام معها، للاستفادة من أثرها في تحقيق هدفهم. يقوم المحتجّون بفرض خطاب سياسيّ في الفضاء «المدنيّ» للاستعمار، يحاكي الخطاب السياسيّ في الجبهات المتصدّية له، فيلتحمون معها في ممارسة الضغط على سلطات الاستعمار لإجبارها على التراجع عن سياساتها، بخلق حالة من القلق والتمرّد السياسيّ في الفضاء المدنيّ. معنى ذلك، أنّ الهدف الرئيسيّ للاحتجاج (وقف العنف، وقف الحرب…) ينعكس في عدّة أهداف استراتيجيّة، تُفصّل على قياس ساحة المعركة، أو ساحة الاحتجاج.

تستند جبهة الاحتجاجات على فكرة استراتيجيّة أساسيّة؛ القوّة في الكثرة. يحاول المحتجّون فرض السيادة السياسيّة على المكان؛ أي فرض خطابهم ومطالبهم محصّنين بكثرتهم ومستمدّين شرعيّتهم منها. فتكون مشاركة أكبر عدد ممكن من المحتجّين شرطًا أساسيًّا لجعل التمرّد السياسيّ ذي تأثير حقيقيّ ينعكس على القضايا الكبيرة-وفي حالة المستعمَرين فهم غالبًا أكثر عددًا من المستعمِرين. لكنّ استقطاب الناس، الضروريّ ليحقّق الاحتجاج كامل إمكاناته ويتمكّن فعلًا من فرض مطالبه، يصبح بذاته هدفًا استراتيجيًّا في ظلّ ممارسة السلطات الاستعماريّة للقمع العنيف وغيرها من ممارسات الحرب النفسيّة والجسديّة على الجماهير لترهيبها من النزول إلى الشارع.

هنا يبرز دور ساحة الاحتجاج باعتبارها ساحة تدريب حيث يتشكّل الأفراد كمواجِهين؛ يكتشفون قدراتهم الجسديّة والعقليّة، ويتعلّمون مواجهة السلطات بشكل جماعيّ، بالطريقة التي تحقّق لهم انتصارات وتزيدهم نفوذًا في الميدان والفضاء العامّ. الانتصار الذي يتمثّل في التصدّي لمحاولات قمع الاحتجاج، والاستعادة الرمزيّة للفضاء العامّ، وفرض شرعيّة المطالب التي يحملونها. مثل هذه الإنجازات في الميدان تتجسّد مع الاستمراريّة، على شكل قدرة على حشد المزيد من المشاركين في كلّ احتجاج حتّى تحقيق الأرقام المأمولة، والتي تشكّل تهديدًا حقيقيًّا للسلطات لأنّها قد تطلق حالة من التمرّد لا يمكن تجاهلها.   

عادة ما يجتمع المحتجّون على نيّة مشتركة في إعلان هويّة سياسيّة معيّنة؛ مبنيّة على عدد من البنود (الحرية، العدالة، المقاومة… إلخ) التي يشكّلونها بالهتاف، ويجمِعون عليها بترديده. ومن ثمّ يعلنون جملة من المطالب المترتّبة عليها (وقف العنف، وقف الحرب..). يهتف المشاركون مطالبهم وتدخّلاتهم في سياسات السلطة الاستعماريّة بصوت واحد، ويصعّدون في خطابهم بالتدريج حتّى يكلَّل الاحتجاج باستعادة رمزيّة للفضاء العامّ (برفع العلم، إعلان التمرّد…إلخ) في سبيل تحدّي السلطات وسيادتها. يتطلّب هذا التحدّي من المحتجّين اهتمامًا وانتباهًا وإصغاءً تامًّا لبعضهم البعض، ذلك لمراقبة التحرّكات الجماعيّة، والاستجابة لها بانسجام وفاعليّة من أجل إنجاز الاحتجاج كاملًا؛ من الهويّة والمطلب حتّى السيادة الرمزيّة. 

في المقابل، تستعدّ الأجهزة الأمنيّة للردّ على هذا التحدّي وقمعه، ومنعه من التصعيد والاستمرار. تقتنص الأجهزة الفرصة لتفريق الاحتجاج فتقوم بدراسة المجموعة جيّدًا للبحث عن نقطة يستطيعون ذلك من خلالها؛ كالبحث عمّن لديهم قدر من القياديّة أو الشجاعة (مثل الهتّافين، أو المنظّمين، أو الوجوه المألوفة في الاحتجاجات، أو متصدّري المجموعة…إلخ)، والذين بقمعهم أو اعتقالهم تستطيع ردع وتفريق الباقين. وإن لم يظهر هؤلاء أو إن كانت الأعداد كبيرة، عادة ما تقوم بتفريق المحتجّين بتهديد القوّة.  

تفرض هذه المواجهة على المشاركين التمتّع بحسّ أمنيّ عالٍ. قبل بدء الاحتجاج وخلاله وبعد انتهائه، يراقب المحتجّون عناصر الأمن وتحرّكاتها، بالتوزاي مع انتباههم لمجموعتهم وتحرّكاتها. يطوّر المحتجّون بذلك جهازًا أمنيًّا لرصد الخطر فيحاولون؛ رصد عناصر الأجهزة الأمنيّة ومراقبة زحفها نحوهم، حجب الهتّافين والمنظّمين عن أنظارهم، التنبّه للصفوف الأولى من المحتجّين وإسنادهم. كما يتنبّه المحتجّون جيّدًا لكلّ من يتحرّك حولهم تحسّبًا لتسلّل عناصر أجهزة الأمن متنكّرين كمحتجيّن أو مدنيّين، أو لاقتراب أناس مشكوك في عمالتهم للسلطات. تمكّن هذه الممارسة المحتجّين من حماية أنفسهم وغيرهم في نفس الوقت. وترفع إمكانيّة التفاهم المتبادل والعمل المنسّق بين الأفراد بشكل ذاتيّ، فقد أثبتت التجربة في العمل المقاوم، بأنّ الذين يتمتّعون بحسّ أمنيّ عالٍ، قادرون على إجراء محادثات ونقاشات طويلة دون كلمات، بالنظرات المتبادلة فقط. ذلك لأنّهم يكونون على اطلاع على كلّ ما يجري حولهم طوال الوقت، ويتوقّعون كلّ المخاطر الممكنة، ويتنبّأون بالتحرّكات ويدرسون الخطوات الممكنة في سياقها، وبالتالي لا يحتاجون من بعضهم سوى إيماءات وتوجيهات طفيفة. فتتطوّر عند المحتجّين قدرة على العمل بانسجام في الميدان والتصرّف بانتظام وحنكة، وضبط وتيرة التصعيد والتهدئة تجنّبًا للخسائر التي يتوقّعونها.

إذًا تتشكّل عند الأفراد نوع من المعرفة الضمنيّة؛ وقدرة عالية على التنبّؤ والتصرّف بفاعلّية عندما يتعلّم الأفراد توقّع احتياجات المجموعة وتصرّفاتها، والتي تحفظ لهم أهمّ ما يحتاجه الاحتجاج وهو النظام الداخليّ وتجنّبهم أهمّ ما يتجنّبونه وهي الفوضى. الأمر الذي يفيدهم في حالة حدوث قمع عنيف، حيث يحاول المشاركون الانسحاب بشكل منظّم قدر الإمكان والتفرّق ومن ثمّ إعادة التمركز. إنّ هذا الذي ينشأ ويتطوّر في ساحة الاحتجاج (وغيرها من الساحات) ما هو إلّا «حدس جمعيّ»، يتمثّل في القدرة على الانتظام دون الحاجة لمنظّم واحد مركزيّ معرّض للانكشاف من السلطات. حيث يتصرّف الجميع بروح واحدة، ويأخذون القرارات بالانسحاب وإعادة التجمّع وتبديل مواقعهم-كما يبدو-بصورة جماعيّة.

مع الاستمراريّة، يطوّر المحتجّون أنظمة عمل غير معلنة تشبه عمل «الخلايا السرّية»؛ حيث يأخذ شخص ما توجيهات معيّنة مثل مكان جديد لإعادة التمركز على سبيل المثال، وينقلها بسرّية إلى مجموعة من معارفه الثقة (الخليّة). وغالبًا يعطيها لكلّ منهم على انفراد أي دون أن يعرفوا بعضهم البعض بالضرورة. من ثمّ، يأخذ كلّ واحد منهم بدوره هذه التوجيهات، وينقلها بسرّية إلى مجموعة من معارفه الثقة والذين بدورهم ينقلونها بسرّية إلى معارفهم وهكذا. بهذه الطريقة لا يعرف أحد مصدر التوجيهات، كلّ شخص يأخذها من شخص دون أن يدري من المخطّط، وبالتالي يبدو وكأنّ المجموعة تتصرّف بانسجام بشكل تلقائيّ. 

هذا الأداء يصعّب على الأجهزة الأمنيّة تحديد المنظّمين أو الأفراد «المخضرمين» في الميدان وتصيّدهم واعتقالهم بهدف تفريق وتشتيت الاحتجاج ومنع تكراره. ذلك لا يعني أنّ السلطات غافلة، فالأجهزة الأمنيّة تدرس وتراقب وتصوّر المحتجّين باستمرار وتحدّث آليّاتها في التعامل معهم. لذا يراعي المحتجّون الحذر في الطريقة التي ينقلون بها التوجيهات وطريقة تصرّفهم أمام أجهزة الأمن، فلا يتحدّثون مع بعضهم خاصّة مع من زوّدهم بالتوجيهات. كما ويمثّلون بدقّة وطبيعيّة شخصيّات قد تكون بعيدة عن شخصيّاتهم الواقعيّة لكي لا يوفّروا لأجهزة الأمن أيّ معلومات دقيقة يستطيعون من خلالها تكوين خطط ردعٍ مستقبليّة. 

هنا تبرز ركيزة أخرى للاحتجاج بصفته جبهة؛ وهي النظرة البعيدة. أحيانًا يكون الخروج من المعركة بدون خسائر في ذاته إنجازًا إن فرضت الظروف حتميّة الخسائر، خاصّة إن كانت هناك رؤية استراتيجيّة لتأثير القمع على الاستمراريّة. تفضّل السلطات قمع الاحتجاجات قبل بدءها، لكنّ هذا أيضًا جزء من المسار والتمرين والحافز والهدف الاستراتيجيّ الذي تقرّره الجماعة، وهو الخروج من كلّ جولة من المعركة، بإنجازات تمكّنها من إعادة الكرّة بصورة أفضل. فخطط الردع والخطط المستقبليّة والدراسة الميدانيّة ليست حكرًا على السلطات وأجهزة الأمن. 

يقوم المحتجّون بدراسة سلوك السلطات ميدانيّا وجغرافيّا، والتعرّف على نقاط ضعفها وحدودها وميولها في تصعيد القمع أيضًا. كما ويدرسون جغرافيا المكان والمسارات وأماكن الانسحاب والاحتماء المتوفّرة لهم وتلك المتوقّعة من أجهزة الأمن والمعروفة لديهم. وقد يذهب المحتجّون حدّ إرسال أفراد وخلايا مراقبة تراقب المكان قبيل الاحتجاج بساعات، وذلك لكشف وحدات الأمن والدعم الخفيّة التي نصبت عدّتها في مخابئ قريبة لمراقبة المحتجّين وتصيّدهم. وتأتي نتيجة هذه الدراسة على صورة سياسات تمويه وردع في الاحتجاج القادم، لتكون نتيجته إيجابيّة وبنّاءة في مسار تحقيق الاحتجاج كامل إمكانيّته. 

هكذا يكون كلّ احتجاج فرصة مهمّة لتشكيل «الشارع»، وتدريبه على المواجهة المدنيّة. في جوهرها، تحقّق الاحتجاجات أكثر من أهداف سياسيّة فوريّة؛ فتجارب «المقاومة المشتركة» تطوّر عند الأفراد حدسًا مستدامًا للانخراط في النضالات من أجل التحرّر.