انعكاساً لكل المعاش اليومي للفلسطيني تحت “سلطة الحكم الذاتي” من الاستغلال الاقتصادي والفساد المالي والوطني، تشكّلت شركات الاتصالات العاملة في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 من ذات المنطلق السياسي الذي أفرز سلطة سياسية واقتصادية وكيلة للعدو الصهيوني في الضبط والجباية والاستغلال الاستعماري.

بالربح الفاحش وثراء الشركتين الملاحظ من خلال تطوير مقراتهما، ورواتب موظفيهما مقارنة بغير ذلك من القطاعات، وغلاء الخدمة مقارنة بالكثير من الشركات في الدول المجاورة وفي دولة العدو؛ تكوّنت صورة سلبية عن شركات الاتصالات الفلسطينية. وقد انطلقت عدة حملات مناهضة لها، كانت أبرزها حملة “بكفي يا شركات الاتصالات” التي تشمل أكثر من مئة ألف مناصر. وتتركز معظم الانتقادات على ارتفاع أسعار المكالمات، وعدم الشفافية في التعامل مع الزبون. ويتهم الكثيرون هذه الشركات أنها تقوم بممارسات استغلالية لخداع الناس وإجبارهم على دفع مبالغ كبيرة مقابل خدمات عادية.

استغلال الزبائن

ما يبقى مجهولاً هو ماهية تعامل الشركة مع المستهلك والموظَّف، أي ما هي الآليات التي تستخدمها شركات الاتصالات لخداع المستهلك من جهة واستغلال الموظَّف من جهة أخرى، وسيفَصِّل هذا المقال بعضاً من هذه الوسائل الاستغلالية.

أولاً: الخط الرفيع

وهو أسلوب تستخدمه الشركات في اعلاناتها؛ حيث تخفي معلومات مهمة للزبون باستخدام خط رفيع في منشوراتها. على سبيل المثال: حين تطلق شركة الاتصالات حملة أو خدمة جديدة يتم ترويجها بسعر ما، ويتبين لاحقاً أن السعر بالفعل أعلى من ذلك؛ فقد روّجت شركة “الوطنية موبايل” على سبيل المثال حملة بعنوان “سوبر” وقالت إن أسعارها تصل إلى ١٥ أغورة للدقيقة، بينما تبيّن لاحقاً في الخط الرفيع أن السعر الحقيقي هو ٢٢ أغورة، والكلمة المفصلية في الدعاية هي: “ابتداء من”، حيث يتوجب على المشترك الاشتراك في خدمة أخرى بتكلفة إضافية للحصول على السعر المعلن، وهو ما لا يقوله الإعلان مباشرة. 

مثال إضافي لهذا الاسلوب هو العرض على مستخدمي الفاتورة هاتف نقال جديد بتخفيض “رائع” وبالتقسيط من دون فوائد، لكن ما لا يقرأه المستهلك والمكتوب بالخط الرفيع هو أن الهاتف أغلى بكثير من سعر السوق وأن التخفيض المزعوم في الإعلان هو محض خداع.

ثانياً: إخفاء معلومات وشروط الحملات

تصل الكثير من المشتركين رسائل أو مكالمات شبه يومية من قبل شركات الاتصالات بعروض “مخيفة” و”خيالية” تحثهم على تعبئة الرصيد مقابل هدية. تتصف هذه العروض الهادفة إلى زيادة استخدام المشترك للشبكة بالغموض، وتوقِع الكثير من المستخدمين بالفخ؛ مثلاً قد تصل للمستهلك رسالة تعرض عليه رصيداً على شكل “هدية” بـ٢٠٠ شيقل إذا شحن رصيده بـ ٢٠ شيكلاً، وتُخفى هذه الرسالة عن المستهلك أن “هدية” الـ٢٠٠ شيكل يمكن استخدامها ليوم واحد فقط. وتتميز هذه الاستراتيجية بالخداع على مستوىً عالٍ من التحذلق حيث أنه أحياناً لا يتم شرح كيفية استخدام الرصيد “المجاني”،  أو في أيّة ساعة من اليوم أو تجاه أيّة شبكة يمكن استخدام الرصيد “الهدية”.

ثالثاً: الحملات المؤقتة

تعتمد شركات الاتصالات على الحملات الترويجية بأساليب الدعاية المختلفة (راديو، لوائح عمارات، إعلانات على مواقع إلكترونية) مقابل ما تسميه “امتيازات” ضمن “برامج” جديدة مثل (الحملة الأخيرة من جوال) “للشباب الكوول” التي قد تستقطب الزبائن إليها لأسعارها أو لخدماتها المغرية، وبعد اشتراكهم في البرنامج ومن دون سابق إنذار تنتهي الحملة وتعود إلى السعر السابق، إذ تكتفي الشركة بالكتابة بخط رفيع يحدد مدة الحملة، وبذلك تكسب شركات الاتصالات زيادة في الاستهلاك عن طريق خداع مشتركيها بأنهم ما يزالون ضمن امتياز البرنامج الذي انتهت صلاحيته.

رابعاً: الجوائز

أو ما يمكن توصيفه بصفة القمار الحلال، وهي حملات الجوائز التي تشمل السيارات والهواتف الذكية والمبالغ النقدية، وجميعها مصممة من أجل زيادة أرباح الشركة من خلال تلبية المستخدمين لشرط الاشتراك؛ حيث لا يمكنك الدخول إلى الكازينو للعب القمار دون مبلغ من المال تراهن به، والرهان هنا عبارة عن رسوم اشتراك بالحملة، واستهلاك أعلى “يضاعف الفرص”، فيصبح “المقامر” المشترك لاهثاً نحو الجائزة الكبرى باستهلاك أعلى يضمن بدوره للشركة أرباحاً عالية، فيما يتنافس المشترك مع مئات الآلاف من المشتركين الطامعين بالجائزة. كما تتحكم الشركات بمن يربح الجوائز بطريقة تضمن فيها تسويق نفسها؛ مثلاً قد تلاحظ الشركة أن المشتركين في منطقة معينة هم من زبائن الشركة المنافسة الأخرى، فتقوم بمنح الجائزة لمشتركٍ في تلك المنطقة كي ترفع أسهمها لدى المشتركين مما يزيد من الإقبال عليها، وفي القمار دوماً “الكازينو لا يخسر”.

المنافسة بالفساد/ خاضع لشروط السلطة

بعد كل هذه الوسائل، تعتبر شركات الاتصالات خداعها للمشتركين أمراً عادياً، ومعظم المستهلكين يعرفون أنهم يدفعون أكثر من قيمة الخدمة المقدمة، وخاصةً عندما تكون أسعار الخدمات أعلى بخمسة أضعاف من الدول المجاورة، وهو ما يشير إلى واقع الشركات الرأسمالية في سياق نظام استعماري يتحكم بالاقتصاد ويوزع الاحتكار على الشركات المختلفة، مما يمنحها القدرة على رفع أسعارها، فيصبح الشعب “سوقاً أسيراً” لا يستطيع إلا الشراء من هذه البضائع.

فالمنظومة الاقتصادية المتفشية تسمح لشركات الاتصالات تحديد أسعار باهظة تمكّنها من تحقيق أرباح  تصل إلى ٨١ مليون دينار. وهذه هي ذات المنظومة التي تجبر الموظف على أن يفكر ألف مرة قبل الانخراط في أي عمل سياسي؛ لأن التضييق الاقتصادي أحد أهم وسائل مكافحة التمرد “الناعمة” التي تشغل كافة جوانب حياة الناس بالعمل والبقاء.

تعمل شركتا جوال والوطنية بحالة دائمة من التنافس الافتراضي، حيث أن (جوال) هي الشركة الأكبر، والمتمتعة بسبق الاحتكار للسوق الفلسطيني وترى مهمتها في الحفاظ على الرقم الأكبر من المشتركين. أما شركة الوطنية فهي أقل حظاً بعدد المشتركين، وتهدف إلى الاستيلاء على مشتركي منافستها، والمحافظة على مشتركيها أيضاً.

ظاهرياً ومن خلال “حروب الإعلانات”، فإن هذا التنافس وحدوده مرسومة عبر الدوائر الحكومية. فهو ليس قائماً على إرضاء المشترك بل إرضاء الوزارات والشخصيات الحكومية، بالإضافة إلى الصفقات مع السلطات الصهيونية. بكلمات أخرى، تكتسب شركات الاتصالات قوّتها التنافسية ليس من خلال تطوير الأداء بل من خلال الفساد. على سبيل المثال أُبرِمَت صفقات سياسية مع السلطات الصهيونية لحصول شركة الوطنية على تصاريح لتغطية غزة، ومن الجهة الأخرى تقوم شركة جوال بتعطيل سن قوانين تتيح للمستخدم إمكانية إبقاء رقمه لدى التحويل إلى شبكة أخرى. كما أن الشركتين تدفعان رواتب “بلا عمل” لمسؤولين في السلطة الفلسطينية و”الحزب الحاكم” بشكل اعتيادي من أجل تأمين المساعدة في الدوائر الحكومية. وتوجد أمثلة كثيرة من هذا القبيل، حيث تعمل شركات الاتصالات على “التفوق” في الفساد، لتصبح خدمة المشتركين قضية ثانوية.

استغلال العاملين
(بالاستناد إلى مقابلة مع إحدى العاملين في شركة الوطنية موبايل)

بما أن التكلفة الحقيقية للشركات هي دفع فاتورة الفساد للمتنفذين من أجل الحصول على الامتيازات القانونية، تستغل هذه الشركات حاجة المستهلك، وتفرض عليه أسعاراً باهظةً. هذا هو الجانب الأول من عملية تحصيل الأرباح للشركة، أما الجانب الثاني فيخصّ سياسة الشركات تجاه موظفيها، فتعمل هذه الشركات على استغلال العمال بأقل قدر ممكن من الرواتب باتباع سياسات تضمن أقل تكلفة للشركة.

في سياق اقتصادي تصل فيه البطالة إلى ما نسبته ٢٦٪، (وفقاً لبيانات جهاز الإحصاء المركزي، تمثل هذه النسبة الفلسطينيين في الضفة والقطاع) تصبح المنافسة على الوظائف شرسة، وتزيد هذه المنافسة على سوق العمل من قدرة شركات الاتصالات على استغلال موظفيها. إن ضغط الشركات على عمالها أمر اعتيادي في الرأسمالية، فتتطلب منافسة الشركات على السوق تخفيض أسعار منتجاتها، والطريقة الوحيدة لفعل ذلك من دون تخفيض نسبة الربح هي من خلال تضييق الشركات على عمالها؛ عادة من خلال تخفيض الأجور أو زيادة ساعات العمل. وفي حالات الشركات الأضعف مثل الوطنية موبايل، تضطر الشركة إلى تصعيد وتيرة استغلالها من أجل الإبقاء على حالة تنافسية، فتبتكر أساليب ضغط عديدة على موظفيها، ومن المهم توضيح هذه الأساليب ونتائجها على الموظف.

أولاً: الساعات الإضافية غير المدفوعة

يتم الضغط على الموظف من أجل العمل لمدة تفوق ساعات يوم العمل العادي (8 ساعات)، من خلال تعزيز التنافس بين الموظفين أنفسهم؛ فبالنسبة للمدير، الموظف الذي يغادر مكان العمل بعد إتمام ساعات الدوام الرسمية يتم النظر إليه كموظف كسول لا يريد العمل رغم أنه ينجز مهماته. وسرعان ما يوبخ المدراء هؤلاء الموظفين، طالبين منهم العمل أكثر، فإما أن يرضخوا لذلك أو يتم طردهم من العمل. وبما أن هذا النهج معروف لكل الموظفين، يضطر الموظف إلى العمل لساعات أطول ليحافظ على عمله، أو ليحصل على ترقية مالية أو إدارية. وبالتأكيد تتم هذه الممارسات في ظل غياب نظام الدفع الزائد أو التعويض عن الساعات الإضافية، فلا يتجاوز المقابل فرصة الحصول على ترقية إن وجدت مما يبقي الموظف في حالة عدم أمان، وصراع تنافسي مع الموظفين الآخرين بلا مقابل واضح.

هنالك حالات يتم التعويض فيها عن ساعات العمل الإضافي، وفي هذه الحالة تكون الرواتب الأساسية للموظفين منخفضة جداً، بحيث يضطر الموظف لبذل ساعات عمل أكبر، حتى يحصل على ما يعوض انخفاض راتبه الأساسي. ومن طبيعة الإدارة الاستغلالية للعمال، ومن أجل توفير تكاليف أجور العمال يتم الضغط على الموظفين لإنجاز أعمال أكبر ضمن ساعات أقل حتى لا يتم تعويضهم عن الساعات الإضافية.

ثانياً: أكذوبة الضغط المؤقت

في الفترات ذات الوتيرة العالية من التنافس، يطلب من الموظف التكافل مع الشركة واستحمال وتيرة أعلى من ساعات العمل. ليتبين لاحقاً أن الوتيرة لا تنخفض، وإن حاول الموظف العودة إلى وتيرة العمل السابقة تتم معاقبته. كي لا يتأخر الموظف عن الدوام بشكل دائم، فيضطر لتصعيد وتيرة عمله حيث يكتسب القدرة على تنفيذ عمله بوقت أسرع بعد مدة من الزمن؛ مما يؤدي إلى خداع الموظف في القبول بكمّ  أكبر من المتفق عليه من العمل.

ثالثاً: موظفو الدوام الجزئي وموظفو التعاقد قصير المدى

تفرض الشركة – ومثلها شركات الاتصالات الأخرى – مقاييس أداء صارمة وعالية جداً للموظفين وفق نظام الدوام الجزئي والتعاقد قصير المدى. وتتم مراجعة وتقييم أداء الموظف بشكل دوري، فيشعر الموظف أنه مراقب دائماً وواقع تحت خطر الإقالة والاستغناء عن الخدمة. كما تستغل الشركة حالة عدم الثبات التي تُفرض على الموظف، وتساومه دائماً بفرصة تثبيته في وظيفته. في المقابل، لا يكون مستوى الخبرة المطلوبة عالٍ وتكون الفترة التدريبية لأداء الوظيفة قصيرة، مما يسهّل استبدال الموظف.

كما تتميز هذه الوظائف بانخفاض رواتبها وارتفاع عائداتها للشركة؛ حيث يتقاضى موظفو مبيعات العروض على سبيل المثال، وهم في الغالبية موظفون ذوو تعاقد قصير، أجرة ساعة أقل من الحد الأدنى لأجرة ساعة العمل الاعتيادية، وبالطبع لا يتقاضى هؤلاء عن أي يوم لا يعملون به (الجمعة مثلاً)، ولا يتمتعون بامتيازات الموظفين العاديين كالتأمين الصحي. وعلى الرغم من أن هؤلاء الموظفين ينتجون للشركة قرابة ١٥ ضعف ما يتقاضونه، إلا أنهم أسهل من يتم الاستغناء عنهم إن لم يصلوا إلى أهداف المبيعات التي تفرضها الشركة عليهم. 

رابعاً: تفكيك النقابات

إن استغلال العمال بالوسائل المذكورة أعلاه يصبح عملية سهلة في غياب نقابةٍ لعمال هذه الشركات؛ على سبيل المثال كانت لشركة الوطنية نقابة تضبط الإدارة حين تحاول الضغط على الموظفين، وكانت أيضاً تطالبها بحدّ ساعات العمل، أو توفير التأمين الصحي لكل الموظفين. ولكن في سياق وجود توجه واضح لإضعاف النقابات في سوق العمل، تُترك النقابات ضعيفة وعرضة لهجمات الإدارة. وهذا ما حدث في حالة شركة الوطنية؛ ففي غياب قانون يحمي النقابات من هذا التلاعب، فكّكت الإدارة النقابة من خلال إفساد بعضٍ من مسؤوليها النقابيين من خلال ترقيتهم بشرط تركهم للنقابة، وطرد من لم يستطيعوا إفساده، وبهذه الطريقة تم ترهيب من تبقى من العمال الناشطين في النقابة، وردع أي عمل نقابي مستقبلي.

ورد في التقاليد الشعبية الفلسطينية مصطلح “حنيّة الحمير” أي حنان الحمير، وهو يعني استغلال الدواب التي وضعت حملها وهي في فترة إرضاع أبنائها بأن تؤخذ إلى جلب الحطب أو الماء من مكان بعيد، ثم تترك لوحدها لتعود إلى البيت تحت وطأة شعورها الفطري نحو أبنائها الذين يجب أن ترضعهم، فتسرع الحمير خطاها نحو المنزل مدفوعةً بشعورها الفطري بالإرضاع، فيما يستفيد صاحب الدابة من سرعتها في تحميل المزيد من الأحمال عليها دون أن تكلّ أو تملّ.

وبنفس الطريقة، يرى المستغِلون للعمال في قطاع الاتصالات مهمتَهم في استغلال الزبائن المستفيدين من خدمتهم بحكم حاجتهم إليها، واستغلال الموظفين المحتاجين لرواتبهم للاستعانة بها على غلاء الحياة والمعيشة. كل هذا في بيئة لا يسمح فيها بتداول أي نقاش سياسي وطني بين الموظفين، فبدايةً من تفكيك النقابات والمدافعين عن حقوق الموظفين كما ذكرنا، وليس حصراً على منع طرح أي حوار وطني في بيئة العمل، تبني الشركات تبعيةً لدى موظفيها تقوم على فردانية الموظف وقصْر “انتمائه” للتسلسل الوظيفي، وحلم الترقية القائم على الاجتهاد في استغلال الزبائن، وجلب دخل أعلى للشركة لا يأخذ منه الموظف إلا حصة قليلة كما هي حالة الاستغلال العامة في كل الشركات الرأسمالية.

كل ما سبق من سياسيات هذه الشركات يحيل إلى تحييد شريحة واسعة من الموظفين عن العمل الوطني الجمْعي، والانتماء للقضية الأولى التي هي أم المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، فتزرع حلم الاستقرار والخلاص الفردي بالتدرج والصعود الوظيفي و”تحقيق الذات” بعيداً عن المجموع الأصيل.