نتعرّف في هذا المقال المترجم على أصول النظام الصحي الصهيوني وتجربة الوحدة الطبية الصهيونية الأمريكية (هداسا كما تُعرف اليوم) لإنشاء خدمات للرعاية الصحية خلال الأعوام 1918-1923، فضلاً عن إشكالية العلاقة بصندوق المرضى الصهيوني “كوبات حوليم”.

ترجمة: محمد بركات 

توطئة

نضع بين أيديكم هذه المقالة المُتَرجمة، نتعرّف فيها على أصول النظام الصحي الصهيوني وتجربة الوحدة الطبية الصهيونية الأمريكية (هداسا كما تُعرف اليوم) لإنشاء خدماتٍ للرعاية الصحية خلال الأعوام 1918-1923. نلاحظ ارتباط هذا النظام الصحيّ بعاملين؛ أوّلهما نشوؤه لمواجهة الاحتياجات الطارئة والملحّة لموجات الهجرة اليهودية إلى فلسطين، والتي تزامنت مع تردّي الأوضاع الصحيّة فيها وانتشار الأوبئة الفتّاكة أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى، والثاني أنّه كان عملاً منظّماً لإرساء القواعد المادية للمشروع الصهيوني، وساهم في تأسيس بنيته التحتية.

 يُلقي النصّ أيضاً الضوء على إشكالية العلاقة التي جمعت المنظّمة الأمريكية “هداسا” بصندوق المرضى الصهيوني “كوبات حوليم”، حيث كان الصندوق متأثّراً بأفكار الصهيونية العمّالية، بينما حملت “هداسا” النظرة الليبراليّة للمجتمع الصهيوني الذي كان يجري التأسيس له. هذه الإشكالية لن تُحسم تماماً حتّى أواخر القرن العشرين، حين جرت خصخصة صناديق المرضى وتحريرها من سيطرة “الهستدروت”.

الدراسة للباحثين “شيفرا شفارتس” و”ثيودور بروان”، نشرتها جامعة “جونز هوبكنز” الأمريكية في عام 1998. يُمكنكم قراءتها بالإنجليزية من هنا

(الصورة الرئيسية: ممرّضات وأطباء الوحدة الطبيّة الصهيونية الأمريكية في مصر، في طريقهم إلى فلسطين، تمّوز 1918)

******

مقدّمة

عُقد اجتماعٌ في فلسطين في عام 1920، عندما كانت فلسطين تحت الحكم البريطاني، جمع بين الدكتور “ديفيد دي سولا بوول”، مدير الصناديق الخيرية الأمريكية لدعم المجتمع الصهيوني في فلسطين، و”أبراهام هارتسفيلد”، ممثّلاً عن صندوق المرضى “كوبات حوليم”، الذي تأسّس خلال الهجرة اليهودية الثانية إلى فلسطين. دار بينهما نقاشٌ حادّ حول مقدار الدعم الواجب تخصيصه من أجل توفير الخدمات الصحيّة للعمّال. وخلال هذا النزاع، فقد الدكتور “دي سولا بوول” هدوءه وصفع “هارتسفيلد”.

سبّبت هذه الحادثة سخطاً كبيراً، وأدّت الى ردٍّ فوريّ تمثّل بمقاطعة نشاط المنظّمات الأمريكية الصهيونية العاملة في مجال الخدمات الصحية في فلسطين. طالب العمّال بطرد الوحدة الطبيّة الصهيونية الأمريكية التي كانت تحت إدارة الدكتور “إسحاق روبينو”، والتي كانت تعمل في فلسطين تحت رعاية المنظمة الصهيونية النسائية الأمريكية “هداسا”، وكانت تموّلها التبرعات اليهوديّة الأمريكيّة.

تبحث هذه الورقة في نشاطات الوحدة الطبية الصهيونية الأمريكية في فلسطين في أوائل العشرينيّات من القرن الماضي، وكذلك في مواجهتها مع مختلف الأطراف الصهيونية المتواجدة في فلسطين، في إطار محاولتها تطبيق رؤيتها في “الطب المجتمعي”.

العون الطبي قبل الوحدة الطبيّة الصهيونية الأمريكية

في بدايات عام 1916، وضمن أولى خطوات تنظيم العون الطبي لليهود في فلسطين، ناشدت القيادة الصهيونية اليهود في أميركا لإغاثتهم مالياً وطبياً، نظراً لسيطرة القوات العثمانية على معظم المستشفيات والإمدادات الطبية، والتحاق العديد من الأطباء بالخدمة. أيضاً، أثّرت الضائقة المادية التي تسبّبت بها الحرب على صحّة المجتمع الصهيوني؛ انتشرت الأوبئة بشكلٍ سريع، مات الآلاف بسبب الجوع ونقص الرعاية الطبية، وآخرون كُثر حاولوا الهروب إلى مصر من خلال الطيران. في حزيران 1916، اجتمعت المنظّمة الصهيونية العالمية في كوبنهاغن وناشدت الصهاينة في أمريكا لإرسال إغاثةٍ طبيةٍ فوريةٍ إلى اليهود في فلسطين.

وصلت أنباء هذه الأزمة الصحية الحادّة إلى قادة الصهاينة من مثل “حاييم وايزمان”، رئيس المنظمة الصهيونية العالمية، وإلى القاضي “لويس برانديز”، أبرز قادة الحركة الصهيونية في تلك الفترة، واتُّخذ قرارٌ بإرسال الإغاثة الطبية. أُوكل تنفيذ هذه المهمة إلى المنظمة الصهيونية النسائية الأمريكية “هداسا” بحكم خبرتها السابقة في فلسطين.

عندما دخلت الولايات المتحدة الأمريكية الحرب في 1917، توقف برنامج “هداسا” عن تقديم العون الطبيّ بشكلٍ مفاجئ بسبب منع الأمريكان من دخول فلسطين. وبعد الاحتلال البريطاني للقدس بفترةٍ قصيرة، تواصلت “هداسا” مع الجيش البريطاني في كانون الأول 1917، وتمّت الموافقة البريطانية على إدخال المساعدات في آذار 1918 بعد تدخلٍ شخصيٍّ من “برانديز”.

“هداسا” في فلسطين

تأسّست “هداسا” في مدينة نيويورك عام 1912، على أيدي 15 سيدةً بقيادة “هنريتا سولد”، بهدف “تشجيع المؤسسات والمشاريع اليهودية في فلسطين وتعزيز المثل اليهودية”. عرّفت “سولد” الهدف وراء نشاط منظّمة “هداسا” في فلسطين كالتالي: “ليست خيرية! نحن ذاهبون إلى “أرض إسرائيل” مسلّحين بخبرة النساء اليهوديّات الأمريكيّات في العمل الاجتماعي – الخيري؛ نخطّط لجلب الإنجازات الطبية الأمريكية لهذه الأرض … إذا كنّا قادرين على جلب النظام لهذا البلد الذي تعمّه الفوضى المطلقة، لا يُمكن لأحدٍ بأن يتّهمنا أنّنا جمعية خيرية”.

ذهبت أولى ممرضات “هداسا”، واللواتي أطلق عليهنّ “بنوت صهيون”؛ أي بنات صهيون، إلى فلسطين في عام 1913، بتمويلٍ من عائلة “ناثان ستروس” لفتح مركزٍ لرعاية الأم والطفل. ممرضتان من “هداسا” عملتا في القدس حتى اندلعت الحرب العالمية الأولى، ثمّ غادرتا بعدها إلى الولايات المتحدة.

“كوبات حوليم”

تمّ تأسيس صندوق المرضى الصهيوني، والذي عُرف لاحقاً بـ”كوبات حوليم” وأصبح تابعاً لـ “الهستدروت”، في فلسطين خلال موجة الهجرة اليهوديّة الثانية (ما بين 1903-1914). أُسّس الصندوق الأول عام 1911، على يد مجموعةٍ من اليهود الذين تمتّعوا بمثل اشتراكيةٍ لتحقيق الحلم الصهيوني على “أرض إسرائيل”. كان هدفهم أن يصبحوا عمّالاً في المستوطنات الزراعية التي أُنشئت ما بين 1882-1900، ومعظمهم قدِموا من المجتمعات اليهودية في جنوب روسيا.

أثّر التغيّر الشديد في المناخ، وظروف الحياة البدائية، والأعمال الشاقة، وسوء التغذية لاحقاً على صحتهم. العديد منهم مرض ومات بسبب الإهمال والنقص في الرعاية الصحية السليمة. لم تشعر سلطات المستعمرات، والتي كانت تدير تقديم خدمات الرعاية الصحية، بأنّها ملزمةٌ بتقديم الرعاية الصحية للعمّال.

كانت المراكز الصحية في المستعمرات تقدّم الخدمات الطبية للعمّال بأسعارٍ باهظةٍ، والتي كانت تتجاوز قدرات معظمهم المادية. هذه الظروف أدّت إلى نشوء خدمةٍ صحيةٍ بديلةٍ للعمال سُمّيت بـ”صندوق المرضى”. تمثّل هدفها الأساسي في تقديم خدماتٍ صحيةٍ رخيصةٍ وسهلة المنال للعمّال اليهود، تكون قائمةً على العون المتبادل ورسوم العضوية.

بدأت هذه الجهود التنظيمية بالامتداد لاحقاً إلى كافة المستعمَرات. في كانون الأول من عام 1911، أنشأت “منظّمة المزارعين في يهودا” أوّل مركزٍ لصندوق المرضى، ثمّ ثلاثة مراكز شبيهةٍ ما بين عامي 1912 و1918 في “يهودا والسامرة” والجليل. شملت الخدمات التي كان يتمّ تقديمها الأطباءَ والأدوية والعلاج في المستشفيات، وكانت متاحةً أمام الأعضاء وعائلاتهم. كما سُمح للمهاجرين اليهود الجدد بتلقّي الخدمات الطبيّة مجاناً لمدّة شهرين.

في البداية، عملت الصناديق كوكلاء تأمينٍ، وكانت مسؤولةً عن الربط ما بين العمّال المؤمَّنين ومزوّدي الرعاية الصحية؛ العيادات الخاصة والصيدليات التجارية بشكلٍ أساسيّ. في صيف عام 1914، ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى، بدأت هذه الصناديق بتقديم خدماتٍ للرعاية الطبية الأساسية إضافةً إلى التأمين؛ فافتتحت العيادات، ووظّفت الممرّضات (ولكن ليس الأطباء)، وعملت على تزويد الأدوية التي كان يتمّ شراؤها وتوزيعها على العيادات، بينما تمّ التعاقد مع أطباء خاصين مقابل أجرٍ ماديّ.

وعلى عكس صناديق المرضى في الدول الأخرى، والتي أُنشئت في أعقاب الثورة الصناعية في المناطق الحضرية التي يتركّز بها العمّال، أُنشئ صندوق المرضى الصهيونيّ في المستعمرات الزراعية. مثّلت هذه المستعمرات النموذج، وكانت محلّ تركيز العمل الطبي لـ “كوبات حوليم”، والذي كان قائماً على العيادات الصغيرة في المستعمَرات الزراعية ومناطق العمّال، ممّا مكن كلّ مريضٍ من الحصول على الرعاية الطبية في مكان إقامته لاحقاً، وإنشاء علاقاتٍ شخصيةٍ مع طبيب العيادة.

في عام 1917، اتّحدت صناديق المرضى الصهيونية في منظّمةٍ واحدةٍ سميت “كوبات حوليم كلاليت”، وتوحّدت مالياً في عام 1921، بعد أربع سنواتٍ من النقاش والصراع. كان على “كوبات حوليم الموحّد” أن يعمل في إطار الاتحاد العام للعمّال اليهود “الهستدروت”، الذي تأسّس رسميّاً عام 1920. اشتُرط على كل منتسبٍ لـ”كوبات حوليم” أن يكون منتسباً للاتحاد العام. في عام 1918، وصل عدد أعضاء “كوبات حوليم” إلى حوالي 3 آلاف عضوٍ، وكان لديه 40 فرعاً.

وعلى الرغم من التطلّعات للعمل بشكلٍ مستقلٍّ، لم تكُن رسوم العضوية كافيةً لتمويل الخدمات الطبية، ممّا أجبر “كوبات حوليت” على التماس تمويلٍ إضافيّ. لم تكُن الضريبة الصحيّة على أرباب العمل موجودةً، ووافق القليل من المشغّلين على المشاركة في تكاليف الخدمات الصحية لموظفيهم. الوضع المالي الصعب لمعظم العمّال الصهاينة، والعدد الكبير من غير العاملين، فضلاً عن التأجيل الكبير في دفع رسوم العضوية، جميعها عوامل أسهمت في إحداث أزمةٍ ماليةٍ لـ”كوبات حوليم”.

اقرأ/ي أيضاً على باب الواد: عام السَخنة: “الانفلونزا الإسبانية” في بلاد الشام خلال الحرب العظمى

بداية الوحدة الطبيّة الصهيونية الأمريكية

في 11 حزيران عام 1918، غادرت الوحدة الطبيّة الصهيونية الأمريكية إلى فلسطين مع طاقمٍ مشكّلٍ من 44 طبيباً وممرضةً وأطباء أسنان وصيدلانيّين ومساعدين ومدراء طبيّين. كان الطاقم مجهّزاً بمعدّاتٍ طبيّةٍ تفوق قيمتها الـ 25 ألف دولار، فضلاً عن تخصيص ميزانيةٍ بلغت الـ 400 ألف دولارٍ للأنشطة.

كان جميع أعضاء الوحدة متطوّعين، وكانت أكبر الممرضات 25 عاماً فقط. معظمهم لم يكُن قد غادر الولايات المتحدة من قبل، ولم تكُن لديهم تجربةٌ سابقةٌ في العمل الطبيّ الطارئ كالذي كان ينتظرهم في فلسطين. من ناحيةٍ أخرى، فقد كانوا متحمّسين للمشاركة في المهام الكبيرة التي كانت بانتظارهم. تمّ تعيين “إسحاق ماكس روبينو” كمديرٍ طبي، ولكنّه تأخر عن الانضمام للمجموعة في البداية، ولحقهم في آذار 1919.

من هو د. “إسحاق ماكس روبينو”؟

وُلد “إسحاق ماكس روبينو” في روسيا، ثمّ هاجر إلى الولايات المتحدة في 1893. حصل على شهادة الطب من جامعة نيويورك، وعمل لمدّة خمس سنواتٍ في أحياء نيويورك اليهودية الفقيرة في الجهة الشرقية من المدينة. التحق في عام 1900 في جامعة كولومبيا لدراسة الاقتصاد والإحصاء وعلم الاجتماع والفلسفة السياسية. ترك عمله الطبيّ بعد 3 سنواتٍ، ليستلم وظيفته في مكتب الولايات المتحدة لإحصاءات العمل، والذي غادره عام 1911.

حصل “روبينو” على شهادة الدكتوراة من جامعة كولومبيا عام 1914، وكانت أطروحته دراسةً مقارنة لتأمين العمّال في إيطاليا وروسيا وإسبانيا، ونشر بعد سنتين كتابه “معايير التأمين الصحيّ”. وبعد تركه الوظيفة الحكومية، أصبح “روبينو” ناشطاً في حملةٍ لتشريع الضمان الاجتماعي في الولايات المتحدة، ومن أجل التأمين الصحي الوطني خاصةً. كان يؤمن أنّ سنّ قانون التأمين المرضي الإلزامي هو الحلّ الوحيد على المدى الطويل لمحنة العمّال الصحية. وعلاوةً على ذلك، كان مقتنعاً بأنّ بنية عمل الأطباء بحاجةٍ إلى تغييرٍ جوهريّ، وأنّه يجب استبدال الممارسة الخاصة بخدمةٍ مدفوعة الأجر في إطار منظّمات الصحة العامة.

أطلق “روبينو” حملته في البداية تحت رعاية “الجمعية الأمريكية لسنّ القوانين العمالية”، وهي مجموعةٌ ضمّت عدداً كبيراً من علماء الاجتماع والإصلاحيين، وقد نشطت منذ تأسيسها في عام 1906 في الترويج لسنّ القوانين الاجتماعية. وفي عام 1916، عُيّن “روبينو” في “الجمعيّة الطبية الأمريكية” سكرتيراً تنفيذياً للجنة الضمان الاجتماعي حديثة التأسيس.

وبهذه الصفة، وبموافقةٍ رسميّةٍ من الجمعية الطبية الأمريكية، عمل على تطوير حملة “الجمعية الأمريكية لسن القوانين العمالية” للتأمين الصحي الوطني. ولكنّ فشل حملة هذه الجمعية أصبح واضحاً بحلول ربيع عام 1917، وعُيّن “روبينو” بعدها بفترةٍ قصيرةٍ مديراً لـ”الوحدة الطبيّة الصهيونية – الأمريكية”. لم يكُن قد انخرط سابقاً في أيّة أنشطةٍ يهوديةٍ أو تابعةٍ للحركة الصهيونية. لذلك، يُمكن التخمين بأنّ فشل النضال من أجل سنّ قانون التأمين الصحي في الولايات المتحدة لعب دوراً في قبوله للمنصب كمديرٍ للجمعية الصهيونية، وهو المنصب الذي سيمكّنه من تطبيق بعض أفكاره المتعلّقة ببنية وتنظيم الخدمات الصحية في فلسطين.

بعدما أنهى دراسته الجامعية، أصبح “روبينو” عضواً في “الحزب الاشتراكي الأمريكي”. وبالنسبة له، كما بالنسبة إلى العديد من اليهود الروس المتعلّمين، مثّلت الاشتراكية إرثاً فكريّاً مهماً. نشأت الحركة اليهودية العمّالية في موطن “روبينو”، أي في ليتوانيا، في ثمانينيّات وتسعينيّات القرن التاسع عشر، وجنّدت الحركةُ العمّال اليهود الفقراء للانتساب لها، وجهّزت صغار المثقفين اليهود ليكونوا قادتها، والذين تعرّف بعضهم على أفكار “ماركس” خلال دراستهم الجامعية خارج روسيا.

وعلى الرغم من توقّف نشاطه المباشر في صراع اليهود في روسيا بعد هجرته، ظلّ “روبينو” ماركسياً، من حيث المبدأ على الأقل. أمّا عمليّاً، فنأى بنفسه بعيداً عن السياسية الاشتراكية، وحرص على تقديم نفسه كعالم اجتماعٍ و”خبيرٍ” في الضمان الاجتماعي، وليس كمنظّرٍ بأيّ شكلٍ.

السنة الأولى

وصلت “الوحدة الطبيّة الصهيونية – الأمريكية” إلى فلسطين في آب 1918. ومنذ لحظة وصولها، كان عليها التعامل مع المشاكل الصحية الأكثر إلحاحاً. وفي تشرين الثاني 1918، كانت الوحدة قادرةً على المباشرة في افتتاح المستشفيات في المراكز الحضرية، ثمّ أحيت بعدها “مستشفى روتشيلد” في القدس وحوّلته إلى مستشفىً مركزيّ. وبنفس الوقت، أعادت افتتاح مستشفى “شعار زيون” في يافا، والذي بقيَ مغلقاً منذ نهاية الحرب العالمية الأولى.

كما افتتحت مستشفياتٍ في طبريا وحيفا ومصحّةً لمرضى السل في صفد، وأُنشئت عياداتٌ ومختبراتٌ في كلٍّ من هذه المستشفيات. ووفقاً لسياسة الوحدة الطبيّة الصهيونية – الأمريكية، كان يتمّ تحديد رسوم المستشفى بناءً على الوضع الماديّ لكلّ مريض، وأُعفي المرضى الفقراء من الدفع.

ومن أجل تعويض نقص الكوادر الصحية المؤهّلة، افتتحت الوحدة الطبية كلية تمريضٍ في مستشفى “روتشيلد”، اعتُمد فيها برنامجٌ تدريبيٌّ قائمٌ على مبادئ التمريض الحديثة ومنهجٌ أمريكيّ متكيفٌ مع الاحتياجات الخاصة لفلسطين. مثّل تدريب كوادر صحيةٍ محترفةٍ شرطاً أساسياً لتوسيع نشاطات الوحدة الطبيّة الصهيونية الأمريكية في الريف، حيث نظّمت أنشطةً صحيةً في المستعمرات الزراعية وأنشأت الطب الوقائي وأقامت حملةً ضد الملاريا.

تلقّى ذلك دعماً رسمياً من الإنجليز، والذين كانوا سعداء بإخلاء مسؤوليتهم عن تقديم الخدمات الصحية للمجتمع اليهوديّ، فلم تتدخل السلطات الإنجليزية بالوحدة الطبية وكفلت حريتها في العمل. وفي ذات الوقت، تلقّت الوحدة دعماً إدارياً كاملاً من المنظمة الصهيونية العالمية، ممّا مكّنها من فرض سيطرتها.

لاقى قدوم الوحدة الطبية الصهيونية الأمريكية إلى فلسطين ترحيباً صهيونياً كبيراً، وعلى الفور سعت “كوبات حوليم” والمنظمة الطبية العبرية لإنشاء علاقاتٍ معها. قدّم الأطباء الصهاينة المتواجدون تقاريرَ تفصيليةً للوحدة عن الأمراض في المدن والقرى، ونظّموا جولةً تعريفيةً للأطباء الجُدد لمختلف المرافق الصحية. بدت آفاق التعاون بينهم واعدةً.

البنية والسياسة والتنظيم

دخلت الوحدة الطبية الصهيونية الأمريكية تحت إشراف “روبينو” المباشر لدى وصوله إلى فلسطين في آذار عام 1918. وحول البعثة الطبية تحت إشرافه، كتب “دورون نيدرلاند”: “ذهبتْ باتجاه تعميم كامل الخدمات الطبية. ومن أجل ذلك، بدأتْ بتوفير خدماتٍ طبيةٍ مركزيّةٍ، مرتكزةٍ على شبكةٍ واسعةٍ من المستشفيات والعيادات، وتخضع جميعها للإدارة المركزية للوحدة الطبية”.

ولزيادة كفاءة نشاط الوحدة، قُسّمت البلاد إلى خمس مناطق. كان مدير المستشفى المركزي مسؤولاً عن تعيين مديرٍ لكلّ منطقة، ويوكل إليه تنسيق العمل الطبي لجميع العيادات والمستشفيات، مع إشرافٍ مباشرٍ من “الوحدة الطبيّة الصهيونية الأمريكية” و”مركز القدس الطبي”. كما اعتُمد نظام زيادة المرتّبات والتعويضات لمكافأة المدراء على أدائهم الإداريّ.

وبأمرٍ من “روبينو”، تلقّى جميع أطباء الوحدة الطبية أجوراً، ومُنعوا من ممارسة العمل الخاص. كان يجب على كلّ طبيبٍ أن يوافق على العمل في أيّ مكانٍ تحدّده الوحدة؛ رفض العمل في المكان المحدّد بلا سببٍ مقنع يؤدّي إلى الفصل. رواتب الأطباء كان يحدّدها ثلاثة عوامل: الخبرة، ونطاق المسؤوليات، والوضع العائلي. أما الزيادات، فكانت تُحدّد بناءً على سنوات الخدمة، ومتساويةً بين جميع الأطباء.

قُسّم الأطباء إلى مجموعتين رئيستين: أطباء المستشفى، وأطباء العيادات المتمركزة في مختلف المستعمرات. كان وضع أطباء المستشفى أفضل، ويتلقّون رواتب أعلى، ويتمّ تثبيت الطبيب في عمله بعد سنةٍ من الخدمة. مُنح جميع أطباء الوحدة الطبية المثبّتين حقوق التقاعد، وتأميناً على الحياة، وتعويضات العمل. بهذه الترتيبات، أمل “روبينو” أن يخلق بدائل عن جاذبية الممارسة الخاصة.

كانت الوقاية إحدى الميزات الرئيسة لعمل أطباء الوحدة الطبية الأمريكية الصهيونية. ومن أجل منع الصهاينة الجدد القادمين إلى فلسطين من نشر الأمراض، وللحصول على صورةٍ شاملةٍ عن الوضع الصحي، افتتحت الوحدة نزلاً مؤقتة في ميناء يافا وكان يُرسل إليها المهاجرون الجدد عند وصولهم. وخلال إقامتهم في النزل، كان الأطباء يفحصونهم، ويلقّحونهم عند الضرورة، ويزوّدونهم بتعليماتٍ متعلّقةٍ بالنظافة والتغذية والصحة العامة. ولمنع التهرّب من الفحص الطبي، أصدرت الوحدة مرسوماً يمنع أيّ مهاجرٍ من الحصول على الغذاء والإقامة من خلال الوكالة اليهودية (المعنيّة بتوطين المهاجرين الجدد) بدون إبراز وثيقةٍ تثبت تلقّي الفحوصات المطلوبة. وبهذه الطريقة، أمل “روبينو” وأطباء الوحدة الطبية بمَركزة الإشراف على صحة المجتمع اليهودي وبتحسين وضعها العام.

اعتقد “روبينو” أنّه ليس كافياً أن تُشرف الوحدة الطبية على الوضع الصحي الحالي فقط، بل اعتقد أنّه يجب عليهم تولّي تقديم بعض خدمات الرعاية الصحية الأساسية للمجتمع اليهودي في فلسطين. وبالتالي، أنشأت الوحدة الطبية قسماً إدارياً للإشراف الصحي على المدارس. عمل القسم بدايةً في القدس، ثمّ وسّع عمله في بداية عام 1921 ليشمل أربع مدنٍ أخرى، من ضمنها المدارس في المستعمرات الزراعية المحيطة. ركّز الإشراف على تعليم النظافة والرقابة الصحية على المدارس وعلاج أمراض العين – خاصةً “التراخوما”، والتي مثّلت مشكلةً رئيسيةً للأطفال. كان الإشراف الطبي على المدارس مجانياً، وتمّ تمويله من ميزانية الوحدة الطبية.

أيضاً في صيف عام 1921، بدأت الوحدة الطبية بتأسيس مراكز رعاية الأمومة والطفولة، والتي كانت تديرها ممرضات الوحدة المعتمَدات، وكانت تركّز على متابعة ما بعد الولادة للتأكّد من الالتزام بالتعليمات الطبية. كانت تنظّم زياراتٍ أسبوعية للأمهات وأطفالهم لتلقّي تعليمات العناية بأطفالهم، ولتفقّد وزن الطفل ونموه. أمِل طاقم الوحدة الطبية أن يحسّن ذلك من صحة الأطفال، ويعوّد الأمهات على نمط حياةٍ أكثر صحةً.

بعد تأسيس العيادات بفترةٍ قصيرة، أنشأت “هداسا” شبكةً أسمتها “تيبات حالاف” (قطرة الحليب)، والتي زوّدت الحليب المبستر والطعام للأطفال الذين لم تتمكّن أمهاتهم من إرضاعهم. كان تزويد الحليب مرتبطاً بزيارات الأمهات وأطفالهم إلى مراكز رعاية الطفولة والأمومة. وقد مكّن هذا طاقم الوحدة الطبية الأمريكية الصهيونية، مع منظمة “هداسا”، من الإشراف على نموّ الأطفال وتعليم الأمهات، وبالتالي زيادة متوسّط العمر المتوقّع للأطفال اليهود. أما المدفوعات المتعلقة بالحليب والطعام الخاصّ، فكان يتمّ وفقاً للمبدأ الذي أرسته الوحدة الطبية لرسوم العلاج في المستشفيات: كلّ عائلةٍ تدفع وفقاً لقدرتها وتُساعد وفقاً لحاجتها. قاد نجاح مراكز الرعاية والطفولة الأولية وخدمة (قطرة الحليب) إلى توسّعها إلى كافة البلاد.

هذه الخدمات، والتي عملت لسنواتٍ عديدةٍ في جميع المستعمرات اليهودية في فلسطين، كانت من ضمن العوامل المهمّة في زيادة متوسّط أعمار الأطفال، وعملت كقوّةٍ رئيسيةٍ في التعليم المجتمعي للطب الحديث. في عام 1927، ومع تحسّن الأوضاع الاقتصادية، أوقف مشروع (قطرة الحليب) تزويد الحليب للأطفال. لكنّ نشاطات مراكز رعاية الطفولة والأمومة التي تركّز على الإشراف الطبي على الأمهات الحوامل وأطفالهم، ظلّت مستمرّةً حتى اليوم تحت المسمى التاريخي “تيبات حالاف”، وبتمويلٍ من “الدولة” بشكلٍ كامل.

صراعٌ محتدم بين الوحدة الطبية الأمريكية الصهيونية والعمّال اليهود

عندما وصلت الوحدة الطبية الأمريكية الصهيونية إلى فلسطين، تواصلت “كوبات حوليم” معها بشأن الخدمة الصحية والدعم المالي. وفي رسالةٍ إلى الصحافة المحلية، شرحت “كوبات حوليم”، مُدَافِعَةً عن الأسباب التي دعتها إلى الاستغاثة بالوحدة الطبيّة:

“صعوبة التأقلم، والتي سبّبت أمراضاً متكرّرة، منعتنا لسوء الحظ من تقديم العون الطبي عبر المعونة المتبادلة فحسب، وكنّا مجبرين على الاستفادة من مساعدة “الشعب” بأكمله … لا يُمكننا النظر إلى مجموعة “هداسا” (الوحدة الطبيّة الصهيونية الأمريكية، كما كانت تسميها الصحافة المحلية) كما ننظر إلى الصليب الأحمر الأمريكي … تبدو الوحدة هنا كرسولٍ للصهيونية وكعضوٍ في المجتمع اليهودي”.

في عام 1918، كانت “كوبات حوليم” تمرّ بصعوباتٍ ماليةٍ لأنّ أعضاءها كانوا ببساطةٍ فقراء جداً وغير قادرين على دعمها. وعلى الرغم من قرارها الحازم بالعمل باستقلاليةٍ، كشبكة معونةٍ متبادلة، فقد كانت في الواقع غير قادرةٍ على العمل بدون دعمٍ خارجيّ. وهكذا طلبت من الوحدة الطبيّة، بكونها “رسول الصهيونية” و”عضواً في المجتمع اليهودي”، تقديم العون.

شكّلت هذه المساعدة حوالي 80% من الميزانية العامّة لـ “كوبات حوليم”، وكانت هناك قيودٌ مرافقةٌ لها. أُجبرت “كوبات حوليم” على القبول بشروط الوحدة الطبية، والتي تضمّنت السيطرة على عيادات “كوبات حوليم”، بل وفي الواقع، على كامل برنامجها. ساهم البُعد الثقافي وحواجز اللغة في تصاعد شكاوى العمّال على المنظمة الأمريكية، والتي أصبحت تدير برنامجهم بدون مشاركةٍ وافيةٍ منهم. وعلى وجه التحديد، استاء العمّال من مطالب “روبينو” الإدارية ومن سلوكه الأبوي.

معظم طلبات العون التي تلقّتها الوحدة الطبيّة كانت تتطلّب دعمها في تحويل المرضى إلى مستشفى الوحدة الطبية في القدس، ودفع ثمن الأدوية. يظهر حجم عدم اكتراث هذه الوحدة بطلبات العمّال في مقابلةٍ نُشرت عام 1919 في صحيفة “كونترس”، صحيفة حزب وحدة العمل، “اهدوت عفودا”، جاء فيها:

“نحن تفاوضنا معها (الوحدة الطبية الصهيونية الأمريكية) عندما جاءت لأول مرةٍ إلى فلسطين؛ الشيء الوحيد الذي كانت مستعدةً لعمله هو معالجة أعضائنا المرضى بدون مقابل. وبسبب الظروف السائدة، لم نستطِع الاستفادة أكثر من هذا الاتفاق”.

وفي تشرين الثاني من العام نفسه، تمّ النص على التهم الموجّهة إلى الوحدة الطبية بشكلٍ أكثر صرامةً في رسالةٍ وصلت إلى “كوبات حوليم” فرع القدس:

“ما الذي فعلته الوحدة لتطوير الظروف الصحيّة للعمال؟ حتى مجموعات العمّال جيدة التنظيم، حيث الظروف العامة أكثر راحةً، لم يتمّ تزويدها بالحدّ الأدنى من احتياجاتها الصحية … لا عجب أنّ صحة العمّال تدهورت كثيراً”.

وحتّى عندما تمّ تحقيق بعض التعاون بين الوحدة و”كوبات حوليم”، لم يتمّ تطوير العلاقات بين الطرفين. “روبينو” وأطباء الوحدة طالبوا بالالتزام الكامل من جانب “كوبات حوليم” فيما يتعلق بتوزيع الأدوية وبدعم عمل الأطباء والممرضات. من ناحيةٍ أخرى، طلب “روبينو” وضع معسكرات العمل تحت إشراف القسم الصحي التابع للمجموعة.

لم يكُن لدى العمّال بدائل للعون الطبي، وأجبرت الأزمة المالية الشديدة التي كانت تمرّ بها “كوبات حوليم” على قبول الشروط التي فُرضت عليها. ولكنّ هذا لم يضع حدّاً للمشاكل، وظلّت هنالك نزاعاتٌ مريرةٌ بين الطرفين، تخلّلها الكثير من سوء الفهم الحاصل بسبب الاختلافات الثقافية واللغوية بينهم وبين العمّال.

يذكر الطبيب “جوزيف شابيرو”، والذي أرسلته الوحدة إلى أحد معسكرات العمال، أنّ العمال رفضوا أن يتمّ تلقيحهم ضد “الباراتيفوئيد”. عارض العمال نصيحته بخصوص استخدام مياه الشرب غير المنقّاة من بحيرة طبريا، وقالوا إنّ ظروفهم المعيشيّة لا تشكّل أيّ خطرٍ على الصحة. رفض العمّال الاستماع إلى تحذيره بأنّهم جميعاً مصابون بالملاريا نتيجة استخفافهم بإجراءات النظافة والصرف الصحي، كما تمرّدوا عليه عند محاولته تنقية مياه الشرب.

وعندما حاولت الممرضة “بيرثا لانديسمان” تغيير قائمة طعام معسكر العمّال اليهود في المجدل، بالقرب من بحيرة طبريا، قاطع العمّال الطعام الذي أعدّته ورفضوا لمسه. بالإضافة إلى ذلك، قاموا بنشر شائعاتٍ أنّ الوحدة الطبية الصهيونية الأمريكية تقدّم طعاماً مسموماً إلى المرضى. وفقط بعد بذل الكثير من الجهد، تبدّدت شكوكهم ووافقوا على اقتراحاتها. السببان الرئيسان لرفض العمّال لطاقم الوحدة كانا السلوك الأمريكي المتغطرس وسلوكهم الأبوي. انفجرت الخلافات بشكلٍ متكرّر، ممّا أدّى في كثيرٍ من الأحيان إلى رفض مساعدة الوحدة الطبيّة على الرغم من المشاكل الصحية الخطيرة.

فاقم تدخّل الوحدة الطبية الصهيونية الأمريكية بشؤون “كوبات حوليم” من استياء العمّال تجاهها. كان “روبينو” يزيد من النزاعات بين طاقم الوحدة والعمّال، والذي طلب (مع تهديدٍ ضمنيٍّ بوقف الدعم المالي إذا لم يستجِب العمال) أن تقدّم “كوبات حوليم” تقريراً مالياً شهرياً كشرطٍ مسبقٍ لتلقّي التمويل. “أنتم تحملون تصوّراً غريباً عن العلاقة بين الوحدة ومنظّمتكم”، كتب إلى أحد أفرع “كوبات حوليم”. “لا يمكنكم أن تخبروا الوحدة ماذا تفعل، ولا يمكنكم أن تنفقوا التمويل.. دون موافقتنا”.

وكتب في رسالةٍ أخرى: “أرجو أن تعلموني، ما هو مجموع ديونكم في بداية الشهر، وفي نهاية نفس الشهر وفي نهاية السنة؛ يجب أن أعلم إذا زادت أو قلّت … إذا لم أرَ جهوداً من جانبكم لإدخال تحسيناتٍ على صندوق المرضى الخاص بكم، لن أكون قادراً في المستقبل على أن أوصي باستمرار الدعم المقدّم للجنة”.

طلب “روبينو” أيضاً أن تقدّم “كوبات حوليم” قائمةً بكلّ فروعها وأعضائها إلى مكتبه. وأضاف في نفس الرسالة أنّ الوحدة الطبية الصهيونية الأمريكية حصراً هي من تحدّد أيّ الأطباء مخوّلٌ بعلاج العمّال، ومن يوافق على الرحلات إلى القدس من أجل الفحوصات الطبية، أو إرسال العمّال إلى المستشفيات من أجل العلاج. إجراءاتٌ مشابهةٌ كانت مطلوبةً لتوزيع الأدوية، والتي كان ينفّذها حصرياً الصيادلة التابعون للمجموعة، وعبر شبكة صيدلياتها. رفضت الوحدة بدورها أن تغطّي النفقات الطبية المستحقّة بأيّ طريقةٍ أخرى.

لم يكُن إشراف “روبينو” والوحدة الطبية مقتصراً على الرقابة المالية والإدارية. “لا يمكنني الاعتماد على شهادتك”، كتب “روبينو” إلى “يعقوب افتر”، مدير “كوبات حوليم”، بعد تقريرٍ طبيّ أثار شكوكه بالخداع. اعتبرت “كوبات حوليم” واتحاد العمّال طلبات الوحدة الطبية المتعلّقة بالتقارير المفصّلة عن أيّ عملٍ طبيّ إساءةً لسلطتهم، وتعبيراً عن عدم الثقة، وتشكيكاً بكفاءتهم.

في مقالةٍ نُشرت في جريدة العمّال، احتج العمّال على “اللهجة الوقحة” لرسالة “روبينو” إلى موظفي “كوبات حوليم”. وادّعوا أنّه يستخدم ذريعة أنّ “كوبات حوليم” تهدر الأموال في عمل متطلّباتٍ غير مبررة، وأنّ نيّته الحقيقية هي وقف التمويل الذي تخصّصه الوحدة الطبية لـ”كوبات حوليم”.

وفي أواسط عام 1919، تطوّرت الخلافات بين المنظّمة الصهيونية العالمية والوحدة الطبية. اللجنة التنفيذية للمنظمة، والتي ترأسها القائد الصهيوني “مناحيم أوسيشكين”، رأت أنّها المسؤولة عن عمل الوحدة الطبية في فلسطين. مع ذلك، رأى “روبينو” والوحدة الطبية أنفسهم تابعين للمنظمة الصهيونية الأمريكية فحسب، بل وأكثر من ذلك؛ إذ  طالبوا بأن يكون عمل الوحدة مستقلّاً، وأن تديرها “هداسا”، المنظّمة الصهيونية النسائية الأمريكية.

اعتبر العمّال مطالبة الوحدة الطبية الصهيونية الأمريكية بالاستقلالية خطوةً سلبيةً للغاية، ويُمكن رؤية ذلك في بيانٍ نُشر في صحيفة العامل الشباب “هبوعيل هتسعير”:

“لذلك هربت مجموعة “هداسا” … تدخلاتٌ ومطالباتٌ خارجية، وهي تحكم بيتها وتتكلّم لغتها (الإنكليزية) … (هم توقعوا أن نكون) تابعين لسلطات سكّان ناطحات السحاب، كلّهم معاً، من الرئيس وحتّى بعض أطباء “هداسا” في فلسطين، اعتقدوا أنّ المال يشتري كلّ شيء … هنالك مؤشراتٌ لفرض ذلك علينا … سياسة شرق “برودواي” تظهر أكثر وأكثر بصورةٍ واضحةٍ … (وهي ظاهرةٌ في) المواعظ الأخلاقية مع الرغبات السلطوية المبالغ فيها لتعليم الأخلاق …”.

تُظهر هذه اللهجة الحادّة عداء اتحاد العمّال للمجموعة. من وجهة نظر العمّال، همّ الوحدة الطبية الوحيد هو أجندتها الطبية الاستبدادية، وليس المشاكل الصهيونية المحلية. كان يُنظر إليها على أنّها منظمةٌ أمريكيةٌ متعجرفةٌ كانت تنظر باستخفافٍ إلى المجتمع اليهودي “المتخلّف”، وعلى أنّهم أقلّ شأناً، ولا يعرفون ما هو جيدٌ لهم ويحتاجون إلى تعلّم الأخلاق والانضباط.

اقترحت “هبوعيل هتسعير” مقاطعة “روبينو” والوحدة الطبية وحثّهم على “العودة إلى ديارهم”؛ العودة إلى أمريكا. أصبحت الهجمات في الصحافة أكثر شدّةً، خاصة بعد الشجار العنيف بين الطبيبين “دي سولا بول” و”أبراهام هارتسفلد”.

يجب ملاحظة أنّ عدد العمّال المنظّمين ما بين 1918-1920 كان عدّة آلافٍ فقط، وأنّه لم يكُن لدى “كوبات حوليم” أكثر من ثلاثة آلاف عضوٍ. وبمقارنة كامل تعداد اليهود في فلسطين بحلول نهاية عام 1918، يُمكن اعتبار الحركة العّمالية ضئيلةً جداً ليُخصّص لها مساعدةٌ كبيرة كهذه. ولكن رغم قلّة عدد العمّال، امتلك قادة تلك المرحلة (دافيد بن غوريون، وإسحاق بن تسفي، وبيرل كاتز-نيلسون) تأثيراً اجتماعياً وسياسياً كبيراً، والذي لم تفهمه الوحدة الطبية الصهيونية الأمريكية أو تقرّه في سياستها.

لم تكُن الحالة الصحية لليهود في المدن أفضل منّها في المستعمرات الزراعية – في الواقع، كان الأمر أسوأ في القدس. وبالتالي، من وجهة نظر “روبينو”، التقليل من شأن استغاثات العمّال الزراعيين، وتوجيه جهود الوحدة الطبية نحو المدنيّين، كان مبرراً تماماً. وبعكس معتقدات العمّال، لم تكُن هناك إساءةٌ متعمّدةٌ أو إهمالٌ متعمّد.

تتمثّل إحدى ميزات مجتمع العمّال في تطوّر وعيها الذاتي السياسي: بتجاهل عددهم الصغير، نظر العمّال الصهاينة إلى أنفسهم على أنّهم القوة الرائدة الرئيسية (وإلى حدٍّ ما، الوحيدة) القادرة على بناء “فلسطين الجديدة”. منظمةٌ كـ”الوحدة الطبية الصهيونية الأمريكية”، منفصلةٌ عن الواقع السياسي والاجتماعي في فلسطين، ولا يمكنها أن تفهم جيّداً الحركة العمالية أو إمكاناتها السياسية الموروثة. استجابت الوحدة الطبية للإحصائيات الصحيّة وللحاجات الطبية الملحّة، وخصّصت مساعدتها الطبية وفقاً لهذه المقاييس.

وخلال عمله في “هداسا”، كتب “دونالد ميلر” أنّ هذه الصدامات كانت جزءاً من صراعٍ شاملٍ على التحكّم بالخدمات الصحية خلال هذه الفترة من التاريخ الصهيوني. في البداية، اقتصر النزاع على الصراع بين الوحدة الطبية الصهيونية الأمريكية وبين اللجنة التنفيذية للمنظّمة الصهيونية العالمية. ولاحقاً، امتدّ النزاع إلى صدامٍ بين الوحدة الطبية واللجنة الصحية التي أنشأها اليهود عام 1921. يشرح “دورون نيدرلاند” أنّ نشوب هذه الصراعات جاء كنتيجةٍ مباشرةٍ لتعارض الأسلوب الإداري البيروقراطي المركزيّ للمجموعة مع قوى المعارضة الصهيونية اللامركزية.

في تقرير اتحاد العمّال الموجز لعام 1923، نقرأ:

“حتى عام 1922، لم يكُن هناك علاقاتٌ منظمةٌ ومنتظمةٌ بين “هداسا” (أيّ الوحدة الطبية) و”كوبات حوليم”. لم يكُن هناك اتفاقٌ متبادلٌ على المبادئ يحدّد إطاراً للعمل المشترك، وآثار هذه الحالة كانت واضحةً. في الحقيقة، وبكونها منظمةً طبيةً قويةً ذات ميزانيةٍ ضخمةٍ وآمنةٍ، لم تعتقد “هداسا” أنّه كان ضرورياً عليها أن تأخذ الجمعية العمّالية الصهيونية للعون المتبادل بعين الحسبان، والتي بدورها لم تكُن متطوّرةً ومتبلورةً بشكلٍ كاملٍ، وهو ما سبّب الكثير من النزاعات. وإنْ أعطت “هداسا” الأموال مباشرةً إلى اتحاد العمّال، فكان من شأن ذلك تعزيز سلطة “كوبات حوليم” بشكلٍ كبير، وتوسيع عضويتها وتقويتها مادّياً وبالعموم، وبالتالي تعزيز هدفها الأساسي: “تنظيم خدماتٍ صحيةٍ مناسبةٍ ومعقولةٍ، وقائمةٍ على أساس العون المتبادل، ومطابقةٍ تماماً للحاجة..”.

يخلق هذا التقرير انطباعاً عاماً لدى القارئ بأنّ العمّال شعروا بأنّ الوحدة الطبية أضّرت بعمل “كوبات حوليم”، وذلك نتيجة دقّة “روبينو” المفرطة ومحاولة الوحدة الطبية تحديد جميع أولويات النفقات. أراد اتحاد العمّال أن يتلقّى دعم الوحدة الطبية الماديّ دون أن يصاحبه أيّ شرط، وهو ما كان مرفوضاً من الوحدة الطبية. أرستْ المواقف المتضاربة لكلٍّ من الوحدة الطبية و”كوبات حوليم” الأساسَ للمواجهات الكبرى بين الطرفين خلال العشرينيّات، حتّى بعد توقيع “هدنةٍ” رسميةٍ في عام 1922 وعودة “روبينو” إلى الولايات المتحدة عام 1923.

من وكالة إغاثةٍ مؤقتةٍ إلى منظّمةٍ صحيّةٍ

مع التغيير الذي حصل في النظام الحكومي في فلسطين، على إثر الانتقال السلس بين الاحتلال العسكري الإنجليزي للبلاد بعد الحرب العالمية الأولى وإقرار الانتداب البريطاني على فلسطين، تغّير التنظيم في الوحدة الطبية الصهيونيّة الأمريكيّة. خدمت الوحدة كوكالة إغاثةٍ مؤقّتةٍ تقدّم مساعداتٍ فوريّة للمشاكل الملحّة في مجال الطبّ والصحّة العامّة. كما طُلب من الوحدة الطبيّة الصّهيونيّة الأمريكيّة المساعدة في تأسيس نظامٍ صحيٍّ يوفّر عنايةً مستمرّةً للجالية اليهوديّة في فلسطين.

وبعد عامٍ من المناقشة، قرّر المؤتمر الصّهيوني العالمي الثاني عشر، الذي عُقد في أيلول 1921 في ألمانيا، تحويل الوحدة الطبية الصهيونية الأمريكية إلى منظّمةٍ طبيّةٍ مستقلّةٍ تابعةٍ لمنظّمة “هداسا” الأمريكية، وتعمل بشكلٍ مستقلٍّ في فلسطين. وعلاوةً على ذلك، أصرّ الكونغرس الصهيوني على أن تتفاوض الوحدة الطبية على اتفاقيةٍ تحدّد علاقتها مع “كوبات حوليم”، في محاولةٍ لتجنّب مزيدٍ من النزاعات.

في شهر آذار عام 1922، تمّ توقيع أوّل اتفاقيةٍ بين “كوبات حوليم” و”هداسا”. ووفقاً للاتفاق، ستموّل الوحدة الطبية الصهيونية الأمريكية، المسمّاة الآن “منظّمة هداسا الطبية”، نصف مصاريف “كوبات حوليم” للأدوية والمعدّات الطبية، وستوفّر الرعاية الصحيّة للعمّال بأجورٍ منخفضةٍ. وافقت “هداسا” أيضاً على ألّا تتدخّل في الشّؤون الدّاخليّة لـ”كوبات حوليم”.

حَسَمَ الاتّفاق رسميّاً العلاقة بين منظّمة “هداسا” الطبيّة و”كوبات حوليم”، وأضفى الطّابع المؤسّسي على الخدمة الاجتماعية الطبية. اعتمدت “كوبات حوليم” نموذج الأطباء مدفوعي الأجر، كما اقترح الدكتور “روبينو”، ومنعتهم من الاحتفاظ بالعيادات الخاصّة، ووافق أطباء “كوبات حوليم” على العمل في أيّ عيادةٍ أو معسكرٍ يتمّ تكليفهم به. كما تمّ قبول مفاهيم “روبينو” الأساسية حول القضايا المتعلّقة بالنظافة والتعليم في التغذية السليمة، فضلاً عن الإشراف المركزي على صحة المهاجرين الجدد والنشاط المستمرّ لمراكز رعاية الأمومة والطفولة من قبل “كوبات حوليم”. افتتحت الأخيرة محطّاتها الخاصّة ومراكزها الوظيفيّة في المستوطنات الزراعية وفقاً للنموذج الذي طوّرته الوحدة الطبية.

كما أحدثت إعادة تنظيم الوحدة الطبية إلى مؤسّسةٍ دائمةٍ نقطةَ تحوّلٍ في مسيرة الدكتور “روبينو”. ثلاثُ سنواتٍ من العمل المضني، ومشاكل الميزانية المستمرّة والخلافات الدّاخلية والصدامات مع العمّال والاعتداءات عليه من الصحافة، دفعته إلى مغادرة فلسطين والعودة إلى الولايات المتحدة، حيث رفض الطلبات المتكرّرة التي قدمتها “هنريتا سولد” من منظمة “هداسا” بالبقاء، وكان مصرّاً على الرّحيل، حتّى قبل تعيين مديرٍ جديد.

في خطاب وداعه، قال “روبينو”:

“اسمحوا لي أن أقتبس لكم هذه الكلمات الحكيمة من فيلسوفٍ مجهول: “عادةً ما يُعتبر أولئك الذين يعرفون كيفية التصرف في جميع الظروف ساحرين ومثقفين، لكنّ أولئك الذين يرتكبون دائماً أخطاء محرجةً، فيفعلون ويقولون الشيء الخطأ في الوقت الخطأ، يكشفون أنفسهم على أنّهم غير مثقفين. قد أعترف أيضاً فأقول إنّه وفقاً لهذا الأمر غالباً ما كنتُ أكشف نفسي على أننّي غير مثقف، حتّى أنّني ربّما كوّنت صداقاتٍ من خلال تعلّم العبرية بدلاً من العمل أربع عشرة ساعةً في اليوم. لذلك فشلت في هذا، لم أكن محبوباً بين الموظّفين لأنني أضع احتياجات الناس فوق احتياجات الموظفين. وبعد ذلك، بعد أن تشاجرتُ مع طاقم الموظّفين، شرعتُ في الخلاف مع كلّ القوى في الحركة الصهيونية. وبعد أن حافظتُ على استقلالية الوحدة الطبية، شرعتُ في الصّراع مع المنظّمة الأمريكية وكسبتُ العديد من الأعداء هناك، لأنني أصرَرْتُ على أن يُدفع لموظّفينا مقابل عملهم. وعندما أصرَرْتُ على ألّا يمتلك أطباؤنا عياداتٍ خاصّة، لم يوقف ذلك رجال الطبّ في الخارج من مهاجمتي .. لذلك، لم أكوّن صداقاتٍ كثيرة، ولم أحصل على الكثير من الامتنان، لكنّني آمل أن تصدقوني إذا قلت إنّ فلسطين ستبقى دائماً محطّ اهتمامي”.

خلاصة

حدّدت تجربة الدكتور “إسحاق ماكس روبينو” والوحدة الطبية الصهيونية الأمريكية خلال الأعوام 1918-1923 المراحل الأولى في تطوير نظام الرعاية الصحية الصهيوني. وبالاعتماد على المعايير الأمريكية، قدّمت هذه التجربة نظاماً جديداً لتقديم الخدمات الصحية، مستندةً فيها إلى فكرة تقديم خدماتٍ للرعاية الصحية الشاملة. ساهمت الوحدة في بناء شبكةٍ من مراكز رعاية الأمومة والطفولة والعيادات الخارجية والمستشفيات، ووضعت إجراءاتٍ للنظافة المدرسية والفحص الطبّي للمهاجرين اليهود.

كان صِدام الدكتور “روبينو” والوحدة الطبية الصهيونية الأمريكية مع “كوبات حوليم” والعمّال أمراً لا مفرّ منه؛ إذ نشأ من الاختلافات بين منظمّةٍ خيريةٍ أمريكيةٍ لم تتوقّع أيّ مشاركةٍ من قبل عملائها في صنع القرارات – ممّا أوجد التّبعيّة – وبين منظّمةٍ اشتراكيةٍ مرتكنةٍ على العون المتبادل والتأكيد على الاعتماد على الذات، ممّا زاد الخلاف سوءاً، ولكنّه لم ينشأ عن سلوك الوحدة الطبية الصهيونية-الأمريكية الأبويّ تجاه مجتمع العمّال وقادتهم.

ومع ذلك، وبشكلٍ عامّ، لم تمنع الخلافات الدكتور “روبينو” والوحدة الطبية من تحقيق أهداف الرعاية الصحية الخاصة بهم وتعزيز قيم العناية الصحيّة المجتمعية الشاملة في المجتمع الصهيوني. وعلى المدى الطويل، ساهم هذا النظام الصحي، والسياسات الصحية التي طوّرتها الوحدة الطبية الصهيونية الأمريكية، في بناء نظام الرعاية الصحية “الإسرائيلي” الحديث. واليوم، يعمل الأطباء “الإسرائيليون” تبعاً لنموذج الطبيب مدفوع الأجر الذي ابتكره “روبينو” في عام 1919.

كما اعتُمد الفصل بين أطبّاء المستشفى وأطباء العيادات من قبل نقابة الأطباء “الإسرائيلية” والاتحاد العمّالية، ويُسمح لكبار موظّفي المستشفى فقط بامتلاك عياداتٍ خاصة في ظلّ ظروفٍ معينة، بينما تستمرّ الأمهات في استخدام مراكز رعاية الأمومة والطفولة التي افتُتحت في عام 1920، وتواصل المستشفيات التي افتتحتها الوحدة الطبية في تقديم الخدمات الطبية في القدس و”تل أبيب” وحيفا.

وعلى الرغم من نمو “كوبات حوليم” لتصبحَ أكبر مزوّدٍ للخدمات الصحية في “إسرائيل”، بينما قلّصت الوحدة الطبية- “هداسا” مشاركتها، إلا أنّ التوتر والمنافسة بينهما لم ينتهيا بشكلٍ كامل، ويتراوح الصراع ما بين التصعيد والتهدئة بينهما، حسب الظروف. لا يزال البعض يعتبر “هداسا”، كمنظّمةٍ خيريةٍ أمريكيةٍ، “جسماً غريباً” في المجتمع الصهيوني، فيما لا تزال “كوبات حوليم”، على الرغم من الاحتكار الفعليّ الذي تمارسه اليوم في النظام الصحي، تعتبِر “هداسا” منافساً أيديولوجياً يتحتّم مراقبته عن كثب.