تعرّفنا الباحثة المعماريّة إشراق عواشرة على نمط “السور والبرج” المعماري الصهيوني الذي لطالما شكّل روح العمارة الاستيطانيّة. تبحث المقالة في علاقات القوّة في الحيز التي أدّت إلى نشوئه، ودوره في تكريس خريطة التقسيم ومحو الفلسطينيين.

* مصدر الصورة الرئيسة: أرشيف كيبوتس نير دافيد ( تل عمل)

مقدمة: التشكيلات الفيزيائية للصراع

تُعتبر أرض فلسطين مساحةً خصبةً لاستكشاف التشكيلات الفيزيائيّة المرتبطة بالصراع ما بين المستعمَر والمستعمِر. تتجسّد ملامح هذا الصراع، وما يخلقه من علاقات القوة والهيمنة والسيطرة والمقاومة، في تكتّلاتٍ معماريةٍ وعمرانيةٍ، وتحوّلاتٍ فيزيائيةٍ على المكان.

يأتي هذا نتيجةً لممارسات كلٍّ من المستعمِر المستوطن الصهيوني والمستعمَر الفلسطيني في تغيير الحيز عبر عمليات الهدم والبناء وغيرها. يسهم هذا في استحداث أشكالٍ أخرى من علاقات القوة في الحيز، فضلاً عن إعادة تشكيل المعرفة به وإدراكه. بذا، يصطدم طرفا الصراع في المكان، وطبيعة تفاعل كلٍّ منهما معه وعناصره.

إنّ علاقات القوّة التي تتشكّل في الجغرافيا الفلسطينيّة هي بالأساس نتاجٌ لمسألةٍ فيزيائيةٍ أيضاً، تتمثّل في السعي المتواصل للحركة الصهيونية للاستحواذ على الأرض الفلسطينية، وتفريغ الحيز من الوجود الفلسطيني، ليبقى محصوراً بأيديها. وهنا، يبرز حضور المستعمِر الصهيوني باعتباره المتحكّم الأول في المكان وما يحتويه من عناصرَ فيزيائيّةٍ وحيويّةٍ أيضاً.

وعليه، مثّلت العمارة الصهيونيّة، ولا تزال، عمارةً سياسيّةً بامتياز؛ إذ كرس المعماريون الصهاينة منتجاتهم المعماريّة والعمرانيّة بأشكالها المختلفة في سبيل تحقيق البرنامج الصهيوني، متجاوزةً المعاني الأخرى للعمارة على المستوى الأوسع في أحيانٍ كثيرةٍ. بذلك، كانت العمارة الصهيونيّة منذ نشأتها، شأنها شأن الحرب، مدفوعةً سياسيّاً وأيديولوجيّاً باتجاه إقامة حقائقَ صهيونيّةٍ على الأرض، لضمان نجاح المشروع الصهيوني واستمراريته. [1]

ربما ننظر إلى الحقائق الفيزيائية للوهلة الأولى على أنها ممارساتٌ ذات وزنٍ خفيفٍ؛ أي بمعنى أنّها ممارساتٌ أقلّ عنفاً من الحرب. قد يُعزى السبب في ذلك إلى كون الحرب سريعةً وذات تأثيرٍ فوريٍ إذا ما قورنت بممارسات تشكيل الحيز التي لا يُرى فعلها إلا بعد تراكم الكثير من التكتّلات الفيزيائية ذات الطابع السياسي في المشهد. لكنّ الحقائق التي نلمسها اليوم، وبعد عقودٍ على تأسيس الدولة الصهيونيّة، تؤكّد الأهمية القصوى لممارسات تشكيل المكان في تحديد موازين القوى وتفوّق أحد أطراف الصراع على الآخر حينما يتعلق الأمر بالصراع على الأرض.

نبحث، في هذه المقالة،  في نشأة مستعمرات “السور والبرج”، وهي إحدى أبرز المنتجات المعماريّة الصهيونيّة التي شكّلت نموذجاً للعمارة الصهيونية السياسية منذ الاستعمار البريطاني وحتى اليوم، وحكمت لصالح المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني ضدّ الفلسطينيين عندما ساهمت في تحديد مسار خط تقسيم فلسطين عام 1947، كما سنرى أدناه.

“تل عمل” ونشأة مستعمرة السور والبرج

شكّلت مستعمرة “تل عمل”، المعروفة اليوم بـ”كيبوتس نيار دافيد،” مستعمرةَ السور والبرج الأولى على أرض فلسطين. [2] تشير المراجع الصهيونية إلى أنّ ظهورها يعود إلى ربيع عام 1936، بالتزامن مع اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى. سعت حينها مجموعةٌ من المستعمرين الصهاينة في تل أبيب إلى إيجاد أرضٍ ليقيموا عليها مستعمرةً جديدةً، ليعثروا على أرضٍ يُقال إنّ الصندوق القومي اليهودي كان قد اشتراها من ملّاكٍ لبنانيين غائبين، بالقرب من كيبوتس”بيت ألفا”.

على إثر ذلك، أقامت المجموعة مخيماً على تلك الأرض، وبدأت بزراعتها بعدما كان الفلسطينيون يزرعونها حتى تلك اللحظة. لكنّ الفلسطينيين في المنطقة، ومع اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى، أفشلوا عملية الاستيطان تلك بعد حرقهم لخيام المستوطنين. وهنا نشأت نقاشاتٌ بين الصهاينة حول الآلية التي يمكن بها إقامة المستعمرات الصهيونية المستقبليّة بطريقةٍ توفّر الحماية للمستعمِرين ضد المقاومة الفلسطينية. [3]

انتهى الجدال حول النمط القادم للاستيطان بابتكار نموذج “السور والبرج”: مستعمرةٌ محصّنةٌ تتألّف من ساحةٍ مسورّةٍ بجدارٍ خشبيٍ مسبق الصنع، مكوّنٍ من طبقتين خشبيتين متباعدتين، تتوسطهما كميةٌ من الحصى لتمتين الحماية. كان الجدار محاطاً، كذلك، بسلكٍ معدنيٍ شائكٍ. تحتوي هذه الساحة على أربعة بيوتٍ مسبقة الصنع، تتسع معاً لحوالي أربعين مستوطناً، يحرسها برجٌ خشبيٌ مسبق الصنع أيضاً، يتربّع وسط الساحة بغاية المراقبة. كان البرج مدعّماً بعنصر إضاءةٍ، بغرض استخدامه كوسيلةٍ للتواصل البصري مع المستعمرات المحيطة عبر شيفرة “مورس”. [4]

مستعمرة "تل عمل"، المصدر: مشروع "ألبوم إسرائيل".

جانب آخر من مستعمرة "تل عمل"، المصدر: مشروع "ألبوم إسرائيل".

ما إنْ أدرك المستوطنون نجاح مستعمرة “تل عمل”، حتى اتّخذوا من نموذج المستعمرة المحصّنة بالسور والبرج نمطاً جديداً للاستيطان. ساهم هذا في ضمان استمرار حركة الاستيطان في مرحلةٍ حرجةٍ عانى فيها المشروع الصهيوني من المواجهة الفلسطينية المتمثّلة بالثورة الفلسطينية الكبرى، وتضاؤل الدعم البريطاني للمشروع الاستيطاني مع اندلاع الثورة. [5]

أجبرت أحداث الثورة الكبرى المستوطنين على بناء مستعمرات السور والبرج بالسرعة القصوى في يومٍ واحدٍ، أو حتى ليلةٍ واحدةٍ لضمان عدم عرقلة عملية الإنشاء. [6] في الحقيقة، كانت عمليات البناء تلك تتمّ بصورةٍ غير قانونيةٍ، [7] لكنّها رغم ذلك نجحت في الحفاظ على نفسها من الهدم عبر الالتفاف على أحد القوانين العثمانية المعمول بها من قِبل حكومة الاستعمار البريطاني، وهو قانونٌ يمنع هدم أيّ بناءٍ مسقوفٍ. [8]

مثّلت السرعة الكبيرة في عملية الإنشاء في ليلةٍ واحدةٍ، واستخدام عناصر مسبقة الصنع، سبيلاً لحماية مستعمرات السور والبرج من المواجهة الفلسطينية. ساهمت خطوط الدفاع (البرج والسور) التي سبق تنفيذُها تنفيذَ الوحدات السكنية، في ضمان أمن المستعمرات منذ اللحظة الأولى لإنشائها، أو بالأحرى قبل الإنشاء.

من ناحيةٍ أخرى، فإنّ السرعة في البناء حمتْ المستعمرات الجديدة من خطر الهدم من قِبل حكومة الاستعمار البريطاني، نتيجة اكتمال بناء السقف قبل إدراك سلطات الاستعمار. هكذا، وبحلول عام 1939، كان المستعمرون الصهاينة قد نجحوا بمساعدة القيادات الصهيونية في إقامة حوالي سبعٍ وخمسين بؤرةً استيطانيةً من نوع “السور والبرج”، تطوّرت لاحقاً إلى مستعمراتٍ من نوع “الكيبوتس” أو “الموشاف”. [9]

نصب برج مستعمرة "مجدال هشمير"، المصدر: أرشيف الحركة الصهيونية.

مستعمرة "سور وبرج"، المصدر: أرشيف الحركة الصهيونية

السور والبرج وتقسيم فلسطين

مثّلت مستعمرات السور والبرج وسيلةً مثاليةً لإحكام سيطرة الصهاينة على الأرض التي استحوذت عليها حركتهم. كما ساهمت هذه المستعمرات في تمكين الحركة من السيطرة على المزيد من الأراضي الفلسطينية في مرحلة الثورة الكبرى وما بعدها.

شكّل إنشاء هذه المنتجات المعمارية الصهيونية سبيلاً لاستيطان مناطقَ جديدةٍ -كالجليل مثلاً، ووسيلةً لخلق تواصلٍ جغرافيٍّ بين المستعمرات الموجودة أصلاً. كانت مستعمرات السور والبرج تُقام في المناطق البعيدة أو المعزولة عن مراكز الاستيطان القائمة، إضافةً إلى المواقع الحساسة أو الإشكاليّة بنظر الصهاينة، والضرورية لتوسيع حدود السيطرة الصهيونية، وضمان الاستمرارية الجغرافية لأراضي الدولة الصهيونية المستقبلية. [10]

لم يكن اختيار المواقع التي أُنشئتْ عليها مستعمرات السور والبرج اختياراً عشوائياً إذاً، بل جاء نتيجةً لتخطيطٍ صهيونيٍّ استراتيجيٍّ على مستوىً إقليميٍّ، هدِفَ بالأساس إلى خلق شبكةٍ من نقاط الاستيطان في المواقع المهمة أو الحرجة. بذا، أُقيمت مستعمرة “سورٍ وبرجٍ” في موقع كلّ نقطةٍ من نقاط تلك الشبكة الاستراتيجية، مع ضمان اتصال كلّ نقطةٍ من نقاط الشبكة بالنقاط المحيطة بها ولو بشكلٍ بصريٍّ، ليتسنّى لسكانها طلب المساعدة والدعم حال تعرض مستعمرتهم للخطر. [11]

مستعمرة "سور وبرج"، المصدر: مشروع "ألبوم إسرائيل".

خلقت مستعمرات السور والبرج اتصالاً جغرافيّاً- على شكل حرف “N”- للأراضي المسيطر عليها صهيونيّاً. بذلك، لعبت مستعمرات السور والبرج دوراً جوهريّاً في تحديد مسار خط تقسيم فلسطين عام 1947. يبدو ذلك جليّاً إذا ما نظرنا إلى خط التقسيم وعلاقته بموقع مستعمرات السور والبرج كما نرى في الخريطة أدناه، حيث أمّن وجود مستعمرات السور والبرج مساحةً أكبر وامتداداً جغرافياً أوسع للمنطقة “اليهودية”، حسب خطة التقسيم. اشتملت المنطقة الصهيونية في الخطّة على الغالبية العظمى من مستعمرات السور والبرج، كما نرى في الخريطة. [12]

خريطة (1): مستعمرات السور والبرج وعلاقتها بمخطط تقسيم فلسطين عام 1947، الخريطة من إنتاج الباحثة.

إنّ النظر إلى الخريطة أعلاه من منظورٍ تخطيطيٍّ إقليميٍّ، يؤكّد لنا أنّ مستعمرات السور والبرج اكتسبت أهميتها لا من مجرد إقامة مستعمرةٍ واحدةٍ من هذا الصنف، إنما من تكرار النمط في مواقعَ مختلفةٍ ذات بعدٍ استراتيجيٍّ. كما يؤكّد هذا مجادلتنا بأنّ أهمية التكتّلات الفيزيائية للصراع تأتي على إثر تراكم كثيرٍ من العناصر المعمارية والعمرانية موحّدة الرؤية، التي تؤدي معاً إلى خلق حقائق ملموسةٍ في المشهد، وإعادة تشكيل العلاقات والسلوكيّات المرتبطة بهذا المشهد.

مستعمرات الدفاع والهجوم

قد تبدو مستعمرات السور والبرج- بجدارها وبرجها وعلاقاتها الجغرافيّة والبصريّة مع المستعمرات المحيطة- مجرّدَ مستعمراتٍ دفاعيةٍ شكلت ملجأً محصّناً لحماية المستعمرين الصهاينة من المقاومة الفلسطينية في زمن الثورة الكبرى. لكنّ النظر إلى هذا النمط الاستيطاني من منظورٍ آخر على مستوىً جغرافيٍ أوسع، يبيّن لنا أن الصبغة الدفاعية التي طغت على مستعمرات السور والبرج، أخفت وراءها الخاصيّة الهجومية لهذه المستعمرات، باعتبارها أداةً من أدوات الاستعمار الاستيطاني.

في الحقيقة، لعب تخطيط مستعمرات السور والبرج وتصميمها دوراً مركزيّاً في تحقيق البعد الهجوميّ لهذه التكتّلات الفيزيائية. ففي الوقت الذي بنُيت فيه كلُّ مستعمرةٍ من هذه المستعمرات على قطعة أرضٍ صغيرةٍ نسبيّاً، كان اختيار موقع الإنشاء على قمم الجبال ورؤوس التلال، والشكل الذي بنُيتْ عليه المستعمرة، كفيلَيْن بإعادة تعريف المشهد المحيط بالمستعمرة والعلاقات المتشكّلة فيه. [13]

مستعمرة "حانيتا" تتربّع على قمة جبل، المصدر: مجموعة الصور القومية

إنّ موضعة المستعمرة في المناطق الأكثر ارتفاعاً في الطوبوغرافيا، واحتواءَها على عنصر المراقبة (البرج) داخل حدودها، جعلا الصهاينة مسيطِرين على الأراضي المحيطة، وإنْ لم يكونوا قد سيطروا عليها من ناحيةٍ عمليةٍ. تمنح المراقبة القوّة للصهيوني؛ إذ يعتلي البرج ويرى الفلسطيني في أرضه القريبة من المستعمرة، وبالتالي يستطيع قتله ولو نظريّاً.

من هنا، تكون كفّة موازين القوى لصالح الصهيوني ضدّ الفلسطيني؛ أي من فرق الإحداثيات العموديّة للمستعمَر والمستعمِر، وإمكانية مشاهدة الصهيوني للفلسطيني، مع ضمان عجز الأخير عن تتبّع الصهيوني، فضلاً عن إعادة تشكيل وجود المستعمَرة المرتفعة وبرجها لعقلية الفلسطيني، وجعله يعتقد بمراقبته من طرف الصهيوني طيلة الوقت. بالرجوع إلى الفيلسوف الفرنسي  “ميشيل فوكو”، فإنّ امتلاك مستعمرات السور والبرج لهذه المزايا جعلها نوعاً من “البانوبتيكون”، وبالتالي أدواتٍ فراغيةً للسيطرة والتحكم. [14]

عند الحديث عن مسألة السيطرة عبر المراقبة، لا بدّ لنا من استذكار الأغنية الصهيونية بعنوان “أغنية الحارس” من كلمات “إيمانويل لين” وموسيقى “بنيامين عمر”. تجسّد هذه الأغنية قدرة المستعمِر الحارس (أو المراقِب) على النظر ومراقبة المحيط حتى مسافاتٍ بعيدة.

” من أعلى البرج سأراقب بعيداً،
عيني ستشرب في المسافات،
الأرض هادئةٌ في جوف الليل،
أوه، أيها الحارس، ما الذي يجلب الليل؟

سوف يفرح مزمار الراعي،
ينزل القطيع أسفل منحدر التل،
ما الذي أريده أكثر يا كنعان؟
نسيم البحر يهمس،
ما بين حزمات القمح،
ما الذي أريده أكثر يا كنعان؟

يرتفع القمر فوق التلال،
يتغطّى الوادي بالضباب،
يعوي ابن آوى في مكانٍ ما بلطف،
أوه، أيها الحارس، ما الذي يجلب الليل؟”

إلى جانب الموقع ووجود البرج في مستعمرة السور والبرج، لعب الجدار المحيط بالمستعمرة دوراً هجومياً آخرَ  نابعاً من الفصل ما بين عالمين مختلفين: “الداخل والخارج”. فباعتبار السور خطاً مرجعيّاً يرسم الحدود، عرّف الصهاينة “الداخل” على أنه المستعمرة اليهودية المهندسة بخطوطٍ ديكارتيةٍ حداثيةٍ، الأعلى ارتفاعاً في الجغرافيا، المراقِبة. يقابلها “الخارج”؛ المنطقة العربية الفوضوية الأقل ارتفاعاً عن سطح البحر، المراقَبة من البرج الموجود في “الداخل”، والتي لا بد من السيطرة عليها وضمّها لتصبح جزءاً من “الداخل”. [15]

إنّ تأثير “البانوبتيكون”، والفصل الصهيوني ما بين “الداخل والخارج”، وتعريفهما للعدو الذي يقبع في الخارج؛ أي الفلسطيني الذي يجب محاربته والحصول على أرضه، وتغيير إدراك كلٍّ من الفلسطيني والصهيوني للمشهد عبر تغيير علاقات القوة فيه، كلّها عوامل أدّت إلى إزاحة الفلسطينيين عن أرضهم رغم محاولاتهم المستمرة في العودة إليها. هكذا، استطاعت مستعمرات البرج والسور، بتكتّلاتها وموقعها، تحقيقَ رغبة المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني في السيطرة على أرض فلسطين ومحو سكانها الأصليين. [16]

مستعمرة "دان"، المصدر: أرشيف الحركة الصهيونية.

البرج والسور والمشهد العسكري الصهيوني في الضفة الغربية

مع أنّ أغلب الأدبيات تتفق على أنّ مستعمرات السور والبرج انتهت مع انتهاء الثورة الفلسطينية الكبرى، ترى أدبياتٌ أخرى استمرار هذا النمط الاستيطاني حتى عام 1947، بل حتى عام 1980. [17] لكن إذا ما نظرنا إلى مستعمرات البرج والسور من مستوىً تحليليٍ يتعدّى الشكل المعماري للمستعمرة إلى الخصائص والامتيازات التي قدمها هذا الشكل، نتوصّل إلى أن ّمستعمرة السور والبرج لا تزال تجد تمثيلاتها على الأرض إلى اليوم في المستعمرات الصهيونيّة والبؤر الاستيطانية على أراضي الضفة الغربية، وجدار الفصل والضمّ والتوسع الاستيطاني.

جزء ٌمن طابٍع بريديٍّ في الذكرى الخامسة والعشرين لبدء نموذج السور والبرج، المصدر: ويكيبديا.

شكلّت مستعمرات السور والبرج منذ نشأتها روحَ العمارة الصهيونيّة، ولعبت دوراً في تحديد الخصائص العسكرية الهجومية والدفاعية للمنتجات المعمارية والعمرانية الصهيونية قبل وبعد تأسيس الدولة. [18] من ناحيةٍ أخرى، ترى الحركات الداعمة للاستيطان في الضفة الغربية- خاصةً حركة “غوش إيمونيم”- نفسها وريثةً لحراك السور والبرج وأيديولوجياته الصهيونية والاستعمارية الاستيطانية، [19] متّخذةً من مفاهيم السور والبرج شعاراتٍ تعبويّةً للحراك الاستيطاني على أرض الضفة. [20]

إنّ الوقوف على بعض المسائل الجوهرية في المستعمرات الصهيونيّة على أرض الضفة الغربية يؤكد ارتباطها الوثيق بمستعمرات السور والبرج. فقد صُمّمت مستعمرات الضفة بنمطٍ تحصينيٍّ أيضاً، واختيرت مواقع الغالبية العظمى منها لتكون الأكثر ارتفاعاً في المشهد بالمقارنة مع محيطها. هدِفَ ذلك إلى توفير قوةٍ تكتيكيّةٍ وحمايةٍ للذات، ورؤيةٍ شاملةٍ للمشهد المحيط، مسترجعةً بذلك نموذج “البانوبتيكون” المتحكّم في الحيز.

هكذا، أعادت وتعيد المستعمرات الصهيونية في الضفة الغربية تشكيلَ علاقات القوة؛ إذ تسعى إلى تخويف الفلسطينيين، وبالتالي إزاحتهم عن أراضيهم في المستعمرة ومحيطها. [21]

وإذا ما وسّعنا نظرتنا المقارنة بين نمطي الاستيطان الأخيرين، فيمكننا استكشاف الارتباط الوثيق بينهما على المستوى التخطيطي أيضاً. فكما كانت مستعمرات السور والبرج نقاطاً جذريةً ضمن خطةٍ استراتيجيةٍ للتوسّع الصهيوني في الأرض، تتجاوز أهمية مستعمرات الضفة الغربية المستوى المحليّ للمستعمرة الواحدة، وتشكل معاً شبكةً استراتيجيةً متكاملةً وواسعة النطاق، تهدف إلى السيطرة والتحكّم بالمجتمعات الفلسطينية المحيطة، وضمّ الأرض بخلق حقائق فيزيائيةٍ على الأرض، وبالتالي بسط النفوذ والهيمنة الصهيونية الاستعمارية على الفلسطينيين المستعمَرين وأراضيهم. [22]

بالإضافة إلى المستعمرات الصهيونيّة في الضفة الغربية، يشكّل جدار الفصل والضم والتوسّع تجسيداً آخرَ لمستعمرات السور والبرج. ينطلق هذا التجسيد من مسألة الفصل ما بين طرفي الصراع مكانياً بواسطة عنصرٍ فيزيائيٍ: الجدار في الحالتين. فكما كان سور مستعمرات السور والبرج فاصلاً عازلاً ما بين المستعمَر والمستعمِر في فترة الثورة الفلسطينية الكبرى، شكّل جدار الفصل حلاً مماثلاً لعزل الفلسطينيين بعيداً عن مناطق النفوذ الصهيونيّة عقب أحداث الانتفاضة الفلسطينية الثانية.

وفي الوقت الذي يتم الحديث فيه عن جدار الفصل باعتباره عنصراً أمنياً يهدف بالأساس إلى حماية الصهاينة من مواجهة الفلسطينيين، تُظهر المخططات التي تمّ ترسيمها وتعديلها مراراً لخط سير الجدار، وتطبيقه على أرض الواقع، أنّ الجدار يتجاوز الصبغة الأمنية الدفاعية التي يختبئ وراءها، ويعمل شأنه شأن مستعمرات السور والبرج على الهجوم في الحيّز من أجل ضمّ الأرض وإقصاء الفلسطينيين منها. [23]

إلى جانب الدفاع والهجوم، يشابه جدار الفصل والضمّ والتوسع مستعمرات السور والبرج من ناحيةٍ أخرى؛ ألا وهي تشكيل علاقات القوة وتفاعل كلٍّ من الفلسطينيين والصهاينة مع المشهد. لقد تمّ اختيار تصميم الجدار وموقعه ببراعةٍ عسكريةٍ سعت إلى إبراز هيمنة الصهاينة على المكان بعدّة طرقٍ: تشييد الجدار مثلاً في مناطق أعلى ارتفاعاً من محيطها، بحيث يحافظ الصهيوني على مركزه في المشهد كمراقِبٍ، فيما يبقى الفلسطيني في المستويات الأدنى من الجغرافيا، وبذلك يظل هو المراقَب. [24]

ملصقٌ في الذكرى السادسة والخمسين ليوم "الاستقلال الصهيوني"، يتضح استرجاع نموذج السور والبرج وربطه بالجدار، المصدر: مشروع أرشيف ملصق فلسطين

خاتمة

تساهم التشكيلات الفيزيائيّة للحيز وتراكم العناصر المعمارية والعمرانية ذات الرؤية الواحدة- في المشهد الجغرافي- في إعادة تشكيل المعرفة بالمكان والتفاعل معه، ومن ثم إعادة تعريف موازين القوة في الصراع. تمكّنت الحركة الصهيونية في ثلاثينيات القرن الماضي من توظيف مستعمرات السور والبرج باعتبارها منتجاتٍ فيزيائيةً للهندسة المعمارية والتخطيط في سبيل خدمة المشروع الصهيوني الاستعماري الاستيطاني الساعي إلى السيطرة على الأرض وإفراغها من سكانها الأصليين. وقد نجحت في تحويل هذه المنتجات الفراغّية إلى شبكةٍ استراتيجيةٍ ساهمت في ترسيم حدود الدولة الصهيونيّة.

لم تتوقّف عقلية السور والبرج عند نهاية ثلاثينيات القرن العشرين، بل امتدّت إلى يومنا هذا، متمثّلةً في المستعمرات الصهيونية والبؤر الاستيطانية في الضفة الغربية، إضافةً إلى جدار الفصل والضمّ والتوسّع. حملت حركات الاستيطان الصهيوني في الضفة الغربية روحَ مستعمرات السور والبرج في السيطرة على المكان وعناصره الفيزيائية والحيوية، ووضعت نصب أعينها الاستحواذ على الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وإزاحة سكانها الأصليين عنها عبر تخويفهم ولو بصريّاً.

ساهم جدار الفصل والضمّ والتوسّع، أيضاً منذ عام 2004، في استمرار العنف الاستعماري في الحيز بحجة حماية المستعمِرين. عمل الجدار على الفصل الفيزيائي ما بين المستعمَر والمستعمِر، وتمثّلت نتائجه، كما في حالة جدار مستعمرة السور والبرج، بخلق حقائق فيزيائيةٍ على الأرض، تعمل كأدواتٍ للتوسع الصهيوني في الأرض ومحو الوجود الفلسطيني من هذه الأرض.

إنّ الجانب المكانيّ للصراع، والمتمثّل بخلق الحقائق الفيزيائية المعمارية والعمرانية- من هدمٍ وبناءٍ وغيرها- على الأرض، يحدد برأيي الطرف الأكثر تفوقاً في مسألة الصراع على الأرض بين الأصلانيّ والمستعمِر المستوطن. الكثير من النجاحات التي حققتها الحركة الصهيونية في الاستيلاء على الأرض والتوسع فيها ومحو سكانها الأصليين، جاءت ليس نتيجةً لقوةٍ عسكريةٍ حربيةٍ، إنما نتيجةً لتفوقٍ في استخدام التشكيلات الفيزيائية العمرانية والمعمارية بطريقةٍ تكتيكيةٍ لتشكيل الحيز وعلاقات القوة المتشكلة فيه. يبرز السؤال هنا عن إمكانية خلق حراكٍ معماريٍ مقاومٍ، يسعى إلى تطوير حقائق معاكسةٍ على أرض الواقع، ويقلب كفّة ميزان القوى لصالح الفلسطينيين هذه المرة.

إنْ كان ذلك ممكناً، فما هو المنتج المعماري المقاوم؟

*****

الهوامش:

 [1] Sharon Rotbrad, “Wall and Tower,” in A Civilian Occupation: the Politics of Israeli Architecture, ed. Rafi Segal (London : Verso , 2003), pp. 47-56, 40-42.
[2] أُنشئت مستعمرة “تل عمل” على بعد حوالي 0.2 كم إلى الغرب من مدينة بيسان، بالقرب من قرية تلّ الشوك المهجّرة. يُنظر: خارطة فلسطين قبل نكبة عام 1948 من موقع “فلسطين في الذاكرة”، من هنا.
 [3] Rotbrad, “Wall and Tower,a,” 42-43; Jonathan Cook, “JNF’s Sordid History – Tower and Stockades, Forests and Jim Crow Vetting Committees ” Stop the JNF Campaign, accessed September 9, 2020, here.
 [4] Rotbrad, “Wall and Tower,a,” 40- 53.
[5] Tamar Katriel and Aliza Shenhar, “Tower and Stockade: Dialogic Narration in Israeli Settlement Ethos,” Quarterly Journal of Speech 76, no. 4 (1990): 359-380, 
[6] Rotbrad, “Wall and Tower, a,” 43.
[7] Aharon Kellerman, “Settlement Myth and Settlement Activity: Interrelationships in the Zionist Land of Israel,” Transactions of the Institute of British Geographers 21, no. 2 (1996): 363-378, 
[8] Katriel and Shenhar, “Tower and Stockade,” 367-371.
[9] Rotbrad, “Wall and Tower, a,” 42; 46.
[10] Katriel and Shenhar, “Tower and Stockade,” 360-362; Kellerman, “Settlement Myth and Settlement Activity,” 374; Rotbrad, “Wall and Tower,”  (n.d.), 
[11] Rotbrad, “Wall and Tower, a,” 48- 49.
[12] Rotbard, “Wall and Tower, b,”4-8.
[13] Rotbard, “Wall and Tower, b,”4-5.
[14] Rotbard, “Wall and Tower, a,”48- 54; Sherly De Yong, Murni Rachmawati, and Josef Prijotomo, “The Meaning of Panopticism in Architecture Deterministic,” Recent Trends in Social and Behaviour Sciences, 2014, pp. 209-212.
[15] Rotbard, “Wall and Tower, a,”53.
[16] Katriel and Shenhar, “Tower and Stockade,” 366- 367; Cook, “JNF’s Sordid History.”
[17] Katriel and Shenhar, “Tower and Stockade,” 360.
[18] Ibid; Rotbard, “Wall and Tower, a,”46;  Kellerman, “Settlement Myth and Settlement Activity,” 374- 375.
[19] للمزيد عن الأيديولوجيا والقيم والمعاني الصهيونية المرتبطة بمستعمرات السور والبرج، يُنظر:
Tamar Katriel and Aliza Shenhar, “ ‘ I Was There’: The Poetics of Narration in Tower and Stockade Personal Experience Stories,” Jewish Folklore and Ethnology Review 14 (1992): pp. 32-43; Katriel and Shenhar, “Tower and Stockade: Dialogic Narration in Israeli Settlement Ethos,” Quarterly Journal of Speech 76, no. 4 (1990): pp. 359-380.
[20] Katriel and Shenhar, “Tower and Stockade,” 362- 373; Kellerman, “Settlement Myth and Settlement Activity,” 374- 375; Cook, “JNF’s Sordid History.”
[21] Ibid; Katriel and Shenhar, “Tower and Stockade,” 362- 373; Eyal Weizman, “5. Optical Urbanism,” April 26, 2002, here.
[22] Ibid; Eyal Weizman, Hollow Land (VERSO Books, 2017), 7; 87-110.
[23] Hannah Rought-Brooks, “Separation Wall: Expansion Or Security?,” Socialist Lawyer 43 (March 2006): pp. 22-27,24-26; Eyal Weizman, Hollow Land, 162- 182.
[24] Ibid, 166- 167.