حُذف اسمه من السجلّات الصهيونية العامة، وصُنّفت المقابلات التي أجراها على أنّها سريةً. من هو الصهيوني “يوسف هِخت”؟ وما هي دوافع العدوّ لمحوِ اسم أحد جنود المؤسّسين من تاريخه؟ هذا ما يناقشه هذا المقال، ترجمه لنا سعيد الغامدي عن صحيفة “هآرتس” الصهيونية.
ترجمة: سعيد الغامدي
توطئة
يتناول هذا المقال المترجم قصّة القائد الأوّل لـ “الهاجناه”، “يوسيف هخت”، ودوره في إرساء قوات العدو المسلحة. حُذف اسمه من السجلّات الصهيونية العامة، لا مشروع تذكاريٍّ يخلده، وصُنّفت المقابلات التي أجراها على أنّها سريةٌ، فيما لم يكشف هو يوماً عن ماضيه.
من هو الصهيوني “يوسيف هِخت”؟ وما هي دوافع العدوّ لمحوِ اسم أحد جنود المؤسّسين من تاريخه؟ هذا ما يناقشه هذا المقال المترجم عن صحيفة “هآرتس” الصهيونية.
(نُشر المقال بالإنجليزية في صحيفة “هآرتس”، للكاتب الصهيوني “نير مان”، بتاريخ 9 أيّار 2020. للاطّلاع من هنا).
****
الرسالة الأولى من “الهاجناه”
في إحدى مراكز الرعاية الدائمة، جلست “ميريام بوشفال” إحدى أبناء “يوسيف هخت” الأربعة، تستمع إلى رسالةٍ تبعثها “الهاجناه” لأول مرةٍ لعائلة أحد مؤسسيها وأهمهم. لم يكن متوقعاً ألّا تكون “ميريام” متشوقةً لمعرفة محتواها، إذ جلست عاقدة اليدين، متجنبةً الاستماع. إلّا أنّ ابنة أخيها “إدِث مارغَليت هِخْت” نكزتها مجدداً: “لقد انتظرنا هذه الرسالة تسعين سنة”، لتقتنع “ميريام” بالإنصات والاستماع عن والدها الذي لم يُحدّثهم يوماً عن ماضيه، كما لا يعرف أحدٌ من أحفاده شيئاً عن إسهاماته في تأسيس جيش العدو الصهيوني، وتقرأ “إدث” الرسالة:
“يوسيف هِخْت، صاحب الذكرى المباركة، القائد الأول لمنظمة “الهاجناه” توفي منذ نصف قرن. في الذكرى المئوية لتأسيس “الهاجناه”، يُحني أعضاؤها، ومن سلك دربهم، رؤوسهم لذكراه ويصونون ويعتزّون بذكرى نشاطه الأمنيّ في إنشاء قوة الدفاع اليهوديّة وإسهامه في بعث دولة إسرائيل المستقلّة”. وتختم الرسالة بتحيةٍ إلى “باروخ ليفاي”، رئيس عضوية منظمة “الهاجناه”.
وفي شهر نيسان الماضي، حلّت الذكرى الخمسين لوفاة قائد المنظمة الأول “يوسيف هِخْت”، الذي قادها لعشر سنواتٍ ( 1922-1931)، حتى سُرِّح من منصبه عقب صراعٍ مريرٍ مع “ديفِد بن غوريون” وزعماء صهاينة آخرين في “الييشوف”. فرضت هذه المواجهة ثمناً باهظاً، لا طرده فحسب، بل محو ذكراه من السجلّات الصهيونية العامة. وبالفعل ، فإنّ اسمه غائبٌ تماماً، تقريباً، عن التأريخ الصهيوني ومن المشاريع التذكارية، فيما صُنّفت المقابلات القليلة التي أجراها على أنّها سريةٌ، على الرغم من أنّه أرسى أسس القوات المسلّحة الصهيونية.
لم تعِ “ميريام” أنّ والدها كان أحد المسؤولين الصهاينة المهمّين حتى بلغت الثالثة عشرة من عمرها، وقد سَمِعَت أنّ مسؤولي “الهاجناه” يطلقون عليه لقب “يوسيف العظيم”. وعلى الرغم من الغموض والسرية التي التفّت حول “هخت”، إلا أنّه ترك مذكراتٍ احتوت على خواطر عميقة بقيت تفاصيلها سريةً لوقتٍ طويلٍ، حتّى وجدتها حفيدته “مارغليت” بين مجموعةٍ من ممتلكاته. ويبدو أنّ “هخت” بدأ متأخراً بتدوين مذكراته في الشهور الأولى من عام 1960، ويبدو أنّه كتبها بغضب، دون علامات ترقيمٍ وتشكيل، ردّاً على نشر المجلد الثالث من كتاب “تاريخ الهاجناه”، والذي يغطّي سنوات الثلاثينيّات.
كتب “هِخْت” في مذكراته مخاطباً المؤلف البروفيسور “يهودا سلوتسكي”: “إنّ كتابة “تاريخ الهاجناه” هي في الحقيقة جهد شخصٍ واحدٍ فقط. كرّس معظم وقته للمشروع بدقة ودأب، وجمع كَمّاً هائلاً من المعلومات. وأعرفه رجلاً نزيهاً. الحقيقة بالنسبة إليه منارةٌ يستهدي بها. ولكنّه تحت ضغط رؤسائه في انتقاء المعلومات. وعلى هذا، فلا عجب أنّ المرء يستشعر كأنّ شخصاً ما أراد أن ينتقص من قيمة المعلومات الأخرى بوصفها حكايا ملفّقة”.
ما هي “قيمة المعلومات الأخرى”؟ لنفهم الدور الذي لعبه “هخت” في تاريخ “الدفاع عن إسرائيل”، علينا العودة إلى عام 1920، أيّ قبل سقوط “تل هاي”، المستوطنة اليهودية الزراعية شمال الجليل، والتي هاجمها الثوار الفلسطينيون في الأول من آذار 1920، ونكتشف الدور الذي لعبه عندما كانت قيادة “اليشوف” ما زالت تسعى عبثاً لتأسيس منظمةٍ دفاعيّةٍ مستقلة.
في عشيّة “انتفاضة موسم النبي موسى” في القدس أوائل نيسان 1920، نظّم القائد الصهيوني “زئيف جابوتينسكي” دفاعات [العصابات الصهيونية] في المدينة، فوجد نفسه يُعتَقل من السلطات البريطانيّة. وبعد إطلاق سراحه ببضعة أشهرٍ شرع في تأسيس “فيلقٍ يهوديٍّ” مفتوحٍ ومدعومٍ من السلطات البريطانية عينها. وعلى كلّ حال، رفض البريطانيون التعاون، وهو ما مهّد الطريق لتأسيس “الهاجناه” بصفتها اتحاداً لعددٍ من المجموعات الصهيونيّة المسلحة، والتي يرأسها شخصٌ واحد، هو “يوسيف هِخْت”.
سيرة مختصرة
وُلِد “هِخْت” عام 1894 في بلدة “بايخو” الروسية (Bychow)، وانتقلت عائلته إلى مدينة أوديسا (Odessa)، ولمّّا بلغ التاسعة عشرة هاجر بنفسه إلى فلسطين.
خلال سنوات الحرب العالميّة الأولى، عمل “هخت” في بساتين اللوز في قرية كفر سابا، وشارك في عمليّات تهريب السلاح مع “إلياهو غولومب” و “دوف هوز”؛ وهما شخصيّتان محوريّتان في تأسيس العصابات الصهيونية، ودعم ما قامت به من هجمات.
في عام 1918، انضم “هِخْت” للفيلق اليهودي، مجموعة من المتطوعين الصهاينة الذين قاتلوا مع القوات البريطانية ضد الإمبراطورية العثمانية، وعُيّن قائداً لمستوطنة “هولدا” الزراعية مع اندلاع التظاهرات الفلسطينية في عام 1920.
عُيّن فيما بعد قائداً لمستوطنة “هولدا” الزراعية قرب “رحوفوت”، ثمّ عمل في مدرسة “ميكفه إسرائيل” الزراعية قرب “تل أبيب”، حيث سيبرز اسمه كقائدٍ للعصابات الصهيونية في معركةٍ جمعتهم بالثوار الفلسطينيين الذين هاجموا المُنشأة أثناء مواجهاتٍ شهدتها يافا. ورفض “هِخْت”، في ذلك الحين، أوامر إخلاء الموقع التي وُجِّهَت إليه. يتذكّر “هِخْت” في وثيقةٍ وُجِدت في سجلّات الميليشيا: “في نهاية ذاك الشهر، عرض عليّ “إلياهو غولومب” منصب المنسّق للهاجناه”.
خلال العقد الذي أمضاه “هِخْت” متزعّماً “الهاجناه”، ركّز بشكلٍ أساسيٍّ على زيادة التبرعات لجمع السلاح، وحفر مخابئ الأسلحة تحت الأرض، وتنظيم دوراتٍ تدريبيةٍ للضباط، كما أدار علاقاتٍ مع كبار الشخصيّات الصهيونيّة في جميع أنحاء البلاد.
وعلى الرغم ممّا حققه “هِخْت”، إلّا أنّ سلوكه الانطوائيّ الكتوم شكّل سلطةً خطيرةً حسبما رأى مرؤوسيه، وهو ما قادهم لإجلائه. وقد وثّق “هِخْت” ذلك في مذكراته بعد أربعة عقود، قائلاً: “منذ أيامي الأولى في “الهاجناه”، لم أتوانَ عن ضمان السرية لجميع العمليات. كُنّا ضدّ إقامة الحفلات، ومنعنا التصوير، وكُنّا غالباً نُتلف صور الأشخاص الذين بدوا ضعافاً لحمل السلاح. وكُنّا على حذرٍ من أعيان المجتمع، و على علمٍ بسعيهم المَرَضي للدعاية”.
ويشير في مذكراته أيضاً أنّ اتحاد “الهستدروت” كان يدعم “الهاجناه” بمساعداتٍ ماليّةٍ ضئيلة، وهو ما دفع أفرع “الهاجناه” أن تكون مستقلةً مادياً. وينتقد بحدّة في مذكراته مسؤولي “الهستدروت”، مدّعياً أنهم رفضوا فكرة الهجمات التي كانت تنفذها العصابات الصهيونية تحت ذريعة “دفاع اليهود عن أنفسهم”.
وكتب: “يجب أن نتذكر أنّ أولئك القِلّة الذين عملوا باستمرارٍ وبلا انقطاعٍ لإنشاء قوّةٍ يهودية قد فعلوا ذلك بوسائل ضئيلةٍ للغاية في الخفاء، وليس فقط بمواجهة الحاكم الأجنبيّ العدائي، لكن أيضاً وسط عدم اكتراث أقرب الناس -مسؤولي العُمّال في “الهستدروت”- ومعارضة ورفض أغلبية “اليشوف”. حتى أنّ مسؤولين بالغي الأهمية، كـ “موشيه سميلانسكي”، وسكّان بعض “الموشاف”، ظنّوا أنّ قوة “الدفاع” خطيرةٌ وغير ضرورية”.
تؤكد مذكرات “هِخْت” على أنّه سعى على عدّة مستوياتٍ لتعبئة “الهاجناه” من ناحية أفرادٍ وأموال، ودعم الهجمات التي كانت تنفذها ضد الفلسطينيين. وتابع في مذكراته: “سَخِر “بنحاس روتنبرغ”، مؤسّس شركة فلسطين للكهرباء، بالجهود الطفولية ونصح بترك المسألة كلها. كل أولئك الأشخاص زعموا أنّ الحكومة [البريطانية] ستحمينا. وكان هناك أيضاً أولئك -الذين لم يكونوا قليلين- الذين كانوا متفرّجين. العديد منهم احتلّوا مناصب مهمةً مؤخراً، و[الآن] بلا حياءٍ يشدّدون على إخلاصهم في الماضي لـ”الهاجناه”. إنهم أنانيّون، ولم يكن لدينا أبداً عجزٌ من هذه النوعيّة”. إنّ “هِخْت” لم تكن لديه شكوكٌ ولو للحظةٍ في أهميّة إنشاء قوة “دفاعٍ” مَكينة.
بين سطور مذكّرات “هِخْت” تبرز لهجته الحادّة والمباشرة لتعزيز الوجود الصهيونيّ وتمكينه في فلسطين وقتل الفلسطينيين. يكتب: “نحن دائماً نُضطَهد ونُقتَل من أغلبية الشعوب “المتحضرة” أو [الشعوب] الهمجيّة والجافية كالعرب. إنّ نيّتهم نحونا ليست في إذلالنا فحسب، بل في تدمير [نا] بدنياً. يجب أن نردّ بالمثل [الهجوم]، لأن الفلسفة والذكاء لم يكونا نافعين لنا لعدّة أجيال، و ليس من المحتمل أن يتغير هذا أبداً”.
ويُعبّر “هِخْت” عن مطالباته الحثيثة في ضرورة إعداد الجيش الصهيوني وتمكينه، ويتابع: “لا اقتباسات من أفلاطون و أرسطو و بوذا أو الأنبياء ستُؤثّر فيهم أيَّ تأثير، فقط الظروف. وإذا كانت الظروف في صالحنا فسنكون أذكياء و مرغوبين للجميع، وإذا لم تكُن الظروف في صالحنا فيجب علينا أن نستعدّ لهذا بكل الوسائل المُمكنة التي ستُباغت العدو، و-حينها- حتى “يهوه” لن يُعين”.
“هِخْت” وراء أول اغتيالٍ سياسيٍّ في “اليشوف”
بعد عاميْن من توليه منصب “قائد محلي للهاغاناه”، ارتبط اسم “هِخْت” بأهم الأحداث التي ستبقى مرتبطةً به تاريخياً، والذي تَمثّل عام 1924 بأول اغتيالٍ سياسيٍّ في “اليشوف”، مستهدفاً “يعقوب دي هان” الذي كان الناطق السياسيّ باسم طائفة “إيدا حريديت” الأرثوذكسية المتطرّفة المناهضة للصهيونية في مدينة القدس.
تميز “دي هان” بإدارته السياسة الخارجيّة المناهضة للصهيونية لحركة “أغوداث يسرائيل” الأرثوذكسية المتطرّفة وتأمينه التمثيل القانوني لها، والتي دعت إلى سلامٍ بين جميع سُكّان البلاد تحت الراية الهاشميّة. وعارض توزيع المزايا من مسؤولي الانتداب لـ “اليشوف”، وهاجم الصهيونيّة في الصحافة الأوروبيّة والتقى في عمّان الأمير عبد الله (قبل أن يصبح ملكًا) ووالده الشريف حسين ملك الأردن آنذاك.
و عشيةَ رحلةٍ له إلى لندن ضمن نشاطه المعادي للصهيونية، أُطلقت عليه ثلاثُ رصاصاتٍ في شارع يافا في قلب مدينة القدس، فور خروجه من كنيس مستشفى “شعاري تسيدك”. لم يُؤدِّ الاغتيال إلى موجات صدمةٍ بالغةٍ في “اليشوف”؛ فالأغلبيّة تلقّوا إنكار القيادة الصهيونيّة للتورط في العملية، وأيضاً إشاعات تنفيذ العرب للاغتيال، بالقبول.
وعلى مَرّ السنين نمت الشكوك حول مَن نفّذ الاغتيال بالفعل، حتى صرّح “هِخْت” في وثيقةٍ أدلى بها لمؤرخ “الهاجناه” “سلوتسكي” في تشرين الثاني 1952، بصراحةٍ أنّه حين علم أنّ “دي هان” كان على وشك زيارة لندن، تشاور مع قائد “الهاجناه” في القدس “زكريّا يوريلي” واتُّخذ قرار اغتياله. وكُلّف بتنفيذ العملية عنصريْن سرييْن؛ هما “أبراهام تيهومي” و”أبراهام كريتشفْسْكي”.
بعد العملية -فقط- أنبأ “هِخْت” العضوَ البارز في المجلس المحلي (قيادة “اليشوف” المدنية قبل تأسيس الدولة) “إسحاق بن تسفي”، وعلّق: “لست نادماً عليها ولو رُدّ لنفذتها مرَّةً أخرى”.
وقبل إعادة انتخاب “بن تسفي” رئيساً لـ”إسرائيل” لفترةٍ ثانية، ذكرت صحيفة “هعولام هازيه” (Ha’olam Hazeh) الأسبوعية أنّ زوجته “راحيل ينايت بن تسفي” كانت متورطةً في اغتيال “دي هان”. ويذكر “سلوتسكي” في كتاب “تاريخ الهاجناه”، الذي نُشر عام 1959، أنّ أمر تنفيذ العمليّة أصدره “منسّق الهاجناه”، مُشيراً إلى “يوسيف هِخْت”.
وبعد اغتيال “دي هان”، رأى قادة “الهاجناه” أنّ “هِخْت” تجاوز سلطته، إلا أنّهم لم يُذيعوا ذلك في الواقع. ولكن، أصبح ذلك اتّهاماً شرساً ضدّه، وخاصةً في جو الاستياء المتنامي بين قيادة “اليشوف” و”الهستدروت”، وهو الذي تزايد في مواجهات عام 1929 في فلسطين، والتي في أعقابها مُجّدت “الهاجناه” و”هِخْت” لـ “إنقاذهم القدس”.
تُضاف حادثةٌ أخرى إلى سجل “هِخْت” خلال قيادته “الهاجناه”، عندما عُقدت محاكمةٌ خاصةٌ في عام 1930، ترأستها لجنةٌ مكونةٌ من ثلاثة صهاينةٍ لا يملكون أيّ خلفيةٍ قانونيةٍ، وأصدروا حكماً بحقّ أحد عناصر “الهاجناه” أن يقوم بقتل نفسه، وذلك بعد اتهامه بتسريب معلومةٍ عن “الهاجناه” لضابطٍ في الشرطة البريطانية اسمه “يوجين كوِغْلي”. بعد المحاكمة، قام اثنان من القضاة باقتحام منزل المحكوم عليه في منتصف الليل، وأجبروه على توقيع اعترافٍ بالخيانة، قبل أن يخرجوا تاركين خلفهم مسدّساً محشوّاً لينفّذ به الحكم.
“هِخْت” والعرب
لم يخفِ “هِخْت” في مذكراته سياسته تجاه الفلسطينيين والعرب، بل كان كثير الوضوح بكلماته ومطالباته المستمرّة بالردّ على ما وصفه “الهجوم العربي”. وخلال الاشتباكات التي دارت بين العصابات الصهيونية والثوار في القدس عام 1929، رفض الموافقة على قتل المفتي الأكبر “الحاج أمين الحسيني”. كما حظر الهجمات الانتقامية على الجنود البريطانيين الذين اعتقلوا يهوداً لأنهم يقومون بتصرّفاتٍ استفزازية، وقال حول ذلك: “يكفي عدو واحد لنا؛ العرب”.
ومع ذلك، أعطى موافقته عام 1923 لـعملية اغتيالٍ بادر إليها تنظيم “هشومير”، وهو تنظيم صهيوني مبكّر في فلسطين، استهدفت “يعقوب “توفيق الغصين”، راعي فصيل عربي في وادي جنين. فشلت العملية بعد أن أطلق المنفّذون النار على عربيٍّ آخر يحمل ذات الاسم ويعمل في الشرطة البريطانيّة. وعندما اكتُشف الخطأ، اتّهم الضحية بأنّه مسؤولٌ عن مذبحةٍ ليهودٍ مهاجرين خلال المواجهات التي شهدتها يافا عام 1921. وبالنسبة لـ “هِخت”، فقد أخبر “سلوتسكي” أنّ المُغتالين أبلغوه عن مهمتهم و”لم يستجوبهم بالتفصيل”.
وفي صيف 1927، أعدّ “هِخْت” قنبلةً يدويةً بدائيةً وأمر بزراعتها في منزل شيخ حارة المغاربة، ما أدى لانهيار المنزل بشكلٍ كاملٍ وهروب السكان من الحارة مذعورين. وقد اتهمت في حينه الصحافة الفلسطينية اليهود أنهم وراء الانفجار، إلا أنّ قيادة “اليشوف” أنكرت صلتها بالحادثة، والتزم “هِخْت” الصمت.
ظروف صادمة
في ثلاثينيات القرن العشرين، بدأ “بن غوريون” بغرس بذور سياسته الحازمة “سايسون Saison” -موسم الصيد- وبدأت “الهاجناه” بقمع نشاطات المنظمتيْن السرّيّتيْن المنشقتيْن: “الأرغون” و”ليحي/شتيرن”. تخلّلها عملية “آلتالينا” والتي تضمنت إصدار قرار قصف سفينةٍ تنقل أسلحةً أحضرتها “الأرغون” إلى شاطئ “تل أبيب”، وتفكيك المقرات المحليّة لـ “البلماخ”؛ قوة “الهاجناه” الضاربة.
وفي ظل ذلك، كانت تنمو جماعةٌ سريةٌ داخل “الهاجناه”، والتي بدأت عندما انضم أعضاء “هاشومير” فعليّاً لـ”الهاجناه”، بغير علم المنظمة، نظّموا مع أعضاء من كتيبة العُمّال، مجموعةً خاصةً سُمّيت “الكيبوتس السرّي”. كان وجود هذا الجيش الخاص معلوماً لدى قيادة “الهستدروت”، لكنّ “بن غوريون” كان يجهل وجوده حتى خريف 1925. فقد كان ينظر إلى النشاط التنظيميّ على أنّه خرق جسيم من سلطة “الهستدروت”. فحُلّ “الكيبوتس السرّي” في كانون الثاني 1927، لكنّ مخازن أسلحة الجماعة لم تُسلّم لـ”الهاجناه”.
واقعة الجماعة السريّة أحدثت اضطراباً هائلاً في “الهستدروت” خلال منتصف الثلاثينيات، وأصبحت إعصاراً فظيعاً حتى نهاية العَقد. وفي مساومةٍ مع مِلاك “هاشومير”، كان يُسمَح فقط لـ”هِخْت” الدخول إلى سردابٍ تملكه الجماعة السرّيّة في “كيبوتس كفار جلعادي” في الجليل الأعلى ليرى محتوياته بنفسه، الأمر الذي أثار الشكّ لدى “بن غوريون” بأنّ “هِخْت” مقرّبٌ لجماعة “هاشومير” التخريبية الانفصالية، لتبدأ تلوح بداية نهاية رئاسته لـ “هاجناه”ـ.
وحول مخازن السلاح، دوّن “هِخْت” في دفتره أنّ أسلحةً من مخبأٍ آخر في “كيبوتس تل يوسيف” في الشمال، أيضاً، قد صُودِرت عندما انتشرت شائعاتٌ أنّ هناك نيّةً في بيعها إلى العرب لتمويل عودة مجموعةٍ من اليهود إلى الاتحاد السوفييتي.
وعن تجربته الدخول إلى مخبأ السلاح، كتب “هِخْت” موثقاً العملية التي توّلّاها هو والرئيس المستقبلي “بن تسفي” لوضع حدٍ لهذه المسألة: “استهزأ أعضاء “الكيبوتس السري” في “كيبوتس تل يوسيف” بطلبنا تسليم الأسلحة، وكانوا واثقين أنّنا لن نصل للمخزن، الذي لا سبيل له إلّا من خلال مدخلٍ تحت أرض الحُجرة. وأراني “زلمان زيغر” – شخص من العامّة – مدخلاً سرّيّاً من الخارج عبر نفقٍ طويل. أخذتُ حِبالاً و فانوساً وبدأنا الزحف عبر نفقٍ ضيقٍ مليءٍ بعلب القصدير. وفي منتصف النفق كانت العلب صدئة وتتفكك عند لمسها، والتربة تتناثر. تراجع “بن تسفي” ومضيتُ قُدُماً بصعوبةٍ بالغة، لأن الممرّ كان ضيّقاً جدّاً. ووصلتُ أخيراً إلى تجويفٍ كبيرٍ وعميقٍ أستطيعُ الدخول إليه برأسي أولاً. كانت أرضية التجويف أخفض بحوالي مترٍ من المدخل. ونقلنا الأسلحة بحبل”.
تردّد صدى هذه العملية على مدار ثلاث سنوات، وجُرح القائد المحلّيّ ونائبه في حادث سيرٍ قبل اندلاع ثورة البراق عام 1929، فتولّى “هِخْت” القيادة في المدينة عندما اشتعلت الثورة. قبلها بأسبوعٍ كان قد أمر أعضاء “هاشومير” السابقين في “كفار جلعادي” أن يرسلوا أسلحتهم إلى القدس، لكنهم ظنّوا أنّ المقصد الحقيقي كان في السيطرة على أسلحتهم. ولمّا بدا لهم أنّ التوتر قد خَفَت، قرّروا ألّا يرسلوا أيّاً من أسلحتهم التي فاقَت عدد ما في مخازن حيفا والقدس مجتمعتَيْن. ووافقوا على إرسال الأسلحة ليعينوا هاتَيْن المدينتيْن فقط بعد المجزرة التي حَلَّت باليهود في الخليل.
كان انتشار “الهاجناه” المبكّر في القدس هو ما جَنَّب اليهود في المدينة القديمة والأحياء المستحدثة من مصير مواطنيهم في مناطق أخرى خلال الأحداث. كتبت “راحيل ينايت”، إحدى قادة “الهاجناه” في القدس: “لم يكن ثَمَّة أحدٌ كالشجاع “هِخْت” بقدرته التنظيمية، إذ شعر بكل ذرةٍ في كيانه بالخطر المُحدِق بـ “اليشوف”، خاصةً في القدس”.
وكما قال “سلوتسكي”: “أظهر “هِخْت” خلال تلك الساعات المشحونة رباطةَ جأشٍ وضبطاً للنفس وشجاعةً بالغةً ومقدرةً عظيمةً على الارتجال. هذه الخصال مكّنته من التحرك في الوضع الذي تطوّر في المدينة”. وفي تجمعٍ حاشدٍ في باريس شهر أيلول 1929، صرّح “جابوتنسكي”: “علينا أن ننحني إجلالاً لأبطال دفاعنا [وهو معنى كلمة “هاجناه”]، لأن “الهاجناه” هي مَن حمت “اليشوف””.
لم ينحنِ أحدٌ في قيادة “اليشوف” السياسية إجلالاً لـ”هِخْت”، وأساء هو قراءة خريطة الوضع الجديد. في آب 1929 استشعرت قيادة “اليشوف” خطأها -عندما انتهى القتال- بعدما تركت “المسائل الدفاعية” في أيدي “الهاجناه” وحدها، وأعدّوا لتغييرٍ جذري. وتعلّمت الدرس الجوهري؛ لا يمكن القبول بترك الضروريات القصوى تحت السيطرة الحصرية للأشخاص الذين كانوا مهووسين بهذه الأمور فقط؛ وخاصةً أنّ “الدفاع” كان من مهمة “اليشوف” كاملاً، وتطلّب استثمار الكثير من الجنود العَتاد.
“هِخْت” الذي كان مُحبطاً من وعود أصحاب رؤوس الأموال الصهاينة والتي تبخرت كلّها سريعاً في الهواء، قرّر مدعوماً من النواة الصلبة المخلصة له من ضباط “الهاجناه” رفضَ طلبات مشاركة “بن غوريون” ومؤسس “الهاجناه” “إلياهو غولُمْب” في التغييرات الهيكلية. ورفض عامَين -في الواقع- أن يُشارك سلطته أو أن يُعان في جهود إعادة تنظيم المنظّمة. وقد بدأ فعلياً بدفع ثمن ابتعاده عن الساحة السياسية.
أما”الهستدروت”، فكان في ذاك الوقت غارقاً في دوامةٍ من الشكوك والاتهامات والتحقيقات بشأن “الهاجناه”. وحاولت دوائر الجناح اليميني في “تل أبيب” أن تغري “هِخْت” بالموارد المالية الكبيرة في سبيل شَقّ قيادة التنظيم وترؤّس قوةٍ مستقلةٍ في المدينة، كما حدث في القدس أثناء الأحداث التي أدّت إلى إنشاء تنظيم “الأرغون”.
وفي أيّار 1931، قررت لجنة من “الهستدروت” رَأَسَها رئيس الوزراء المستقبلي “ليفي إشكول” فصلَ “هِخْت” من “الهاجناه” لعامٍ واحد. وندم “هِخْت” في النهاية على خلافه مع “غولُمْب” -الذي أجلّه- وقبِل اقتراح ألّا تكون قيادة “الهاجناه” متركّزةً في يد شخصٍ واحد، ولكنّ رحيله عن التنظيم كان مؤبّداً.
كتب “هِخْت” بعد عقود: “في أوائل الأربعينيات قاسَيْتُ معاناةً بالغةً وعذاباً ووِحدة. كان التحريض الجافي الذي بدأ في حلقةٍ ضيقةٍ ينتشر بسرعة. مَن كُنتُ أحبّهم و أطمع أن أعمل معهم كانوا يُحرّضون، فحيثُ ما ولَّيتُ وجهي كان ثَمَّة عَداء. وأحاط بي ذُهان الكراهية والاتّهامات هذا الذي لا أساس له، كسربٍ من الدبابير، كل واحدةٍ منها تسعى للَسعِك وحقنِكَ بسُمّها”.
ولكن “هِخْت” لم يكُن شخصاً يجادل ليظهر أنّه على حق، وهو ما يظهر في مذكراته حيث كتب: “قاومت في نفسي بقوةٍ كي لا أردّ بالطريقة التي يردّ بها الآخرون في مثل هذه المواقف. كُنتُ أستطيع أن أنضم إلى حزبٍ سياسيٍّ وأنازع أولئك الذين أبغضوني وربمّا أغلبهم حتى. لكنّي كبحتُ نفسي، لأنّي أعلمُ كم يقع من دمارٍ في مثل هذه المعارك، و نحن -قديماً والآن- مُحاطون بقومٍ يبغضوننا ويتربّصون بكل زلّةٍ منّا”.
ومع أنّ الثمن الذي دفعه في النهاية كان محو ذكراه شبه الكامل من السجلات العامة، إلا أنّه لم يندم على تفضيله درب الصمت بعد عام 1931. “لستُ آسفاً أنّني لم أنجرف في عاصفة القذف والأكاذيب التي أحاطتني من كل جانب وما زِلْتُ لا أسلم منها. كُنتُ أتعامل مع أُناسٍ كل الأفعال عندهم مُباحةٌ كي ينتصروا ويحكموا، وكل الهياكل التنظيمية الداخلية التي يسيّرونها هي ستار لرغائبهم الشخصية”.
ورغم غضب “هِخْت” من “بن غوريون” إلا أنّ ذلك لم يمنعه من الاصطفاف مع القائد الذي أطاح به وتأييده في قضية “فضيحة لافون” عام 1954؛ العملية الإسرائيلية السرية الفاشلة في مصر المُسمّاة على اسم وزير الجيش الصهيوني في حينه. وقد علّق “هِخْت” بعد ست سنواتٍ على ذلك مدوناً في مذكراته: “أنا أُشيد “ببن غوريون” لقدرته على التصدّي حتى لحزبه في قضيةٍ قد تكون عُرضةً لأن تضرّ أمن الدولة، ولإشاحته الصارمة عن الصيحات، وفقط مَن لا يعلمون شيئاً أو في قلوبهم مرضٌ سيتّهمونه. من السهل الاستغناء عن “لافون”، لكن على “بن غوريون” ألّا ينجرّ للجو الذي يتشكّل الآن. ولا أظن، حقيقةً، أنّه مستحيلٌ للأمور أن تتيسّر بدونه، و لن يخيب أمل الناس. ليس ثَمَّة نقصٌ في اليهود المستعدّين لاستبداله، ومن الممكن أن يكونوا أنجح حتى خلال مدّتهم”.
وأمّا “بن غوريون” فقد كتب في مذكراته عن اشتباكه مع “هِخْت” أيضاً في أيلول 1929: “أتاني يوسيف لرؤيتي هذا المساء. قُلتُ له: حتى الأسبوعين الماضيَين كان لديّ إيمانٌ كاملٌ بك، وحتى الآن أؤمن بإخلاصك لـ”الهستدروت”. نعرف أنّك تعمل باسم “الهستدروت”، لكنّك الآن كما يبدو تعتمد على قواتٍ أخرى – “هاشومير” و جماعات الجناح اليميني- لا نتمنّى أن نزيلك من منصبك، لكنّ الارتباط بين هذا العمل – قيادة الهاجناه- و”الهستدروت” هو حاجةٌ ضروريةٌ لتنظيمه ونجاحه. و إذا لم نكُن متأكدّين من التزامك بهذا، فسننظّم العمل من دونك”.
التنظيم الجيد، لا المهارة
بعد أن طُرِد من “الهاجناه”، عاد “هِخْت” إلى مزرعته في “جفعتايم” وتجنّب الأنشطة العامة. وفي عام 1954 انتقل إلى “موشاف مخموريت” حيث كان يعيش أفرادٌ آخرون من عائلته، وتوفي في 25 نيسان 1970، ملتزماً بصمته حول سيرته العسكريّة في “الهاجناه”.
كتب في مذكراته: “سأقول دون ادّعاءٍ أنّي لم أشعر أنّ لديّ ذرةٍ مهارة عسكرية. ولكن من خبرة 10 سنين في إدارة تنظيمٍ عسكريٍّ محظورٍ والإشراف عليه، فإنّي لا أؤمن بوجود العباقرة العسكريين، بل بالتنظيم الجيد! إنّ كلّ قوةٍ قتاليّةٍ -صغيرةً كانت أم كبيرة- تعتمد على عامل المفاجأة، والتنظيم السريّ يتطلّب هذا أكثر من أيّ شيءٍ آخر. إنّ الشخص المناسب لترؤس تنظيمٍ هكذا هو شخصٌ يعرف كيف يُجري الأمور بمشاركة أقلّ عددٍ لازمٍ من الأشخاص في كلّ عمليّةٍ لا أكثر. وواضحٌ أنّ هذا في النهاية سيرتدّ على الشخص المسؤول، لأن هذا السلوك يحرّض الكثيرين عليه غضباً وغيظاً أو جهالة. وللدفاع عن قومي كُنتُ مستعدّاً للاستفادة من أيّ وسيلة”.
تجسّدت في “هِخْت” مزايا القائد بالفطرة. لم يشارك قط في دورة ضباط، ولم يكن له اتصالٌ بالساحة السياسيّة. وخلال العَقد الذي ترأس فيه “الهاجناه” كان عضواً مخلصاً في “الهستدروت”، لكنّه -أيضاً- قاوم بقوةٍ ضد الحزبيّة ليحافظ على توجه تنظيمه القومي. قال “هِخْت”: “كُنتُ ضدّ إعطاء “الهاجناه” دورَ حزبٍ أو طبقة. كُنتُ أراها الجيش اليهوديّ المستقبلي، وهذا ما قاتلتُ لأجله”.
وعلى الرغم من أنّه كان رجلاً قليل الكلام، إلّا أنّه حافظ على محادثةٍ مستمرةٍ مع قادة “اليشوف” الذين سعوا إليه. واستضاف الزعيم الصهيونيّ البارز “حاييم وايزمان”، وأيضاً “جابوتينسكي” أثناء تمرينات “الهاجناه”، ممّا أثار استياء “بن غوريون” إذ كانوا خصومه سياسيّاً. وعندما وصلت الحرب إلى القدس فتح بحزمٍ صفوف التنظيم لـ”الحريديم” من حي “ميا شريم” و للشيوعيين؛ رغم الضجة التي أثارها قراره هذا.
كتب “هِخْت” في مذكراته: “كلّ شخص لديه انتصاراتٌ وإخفاقات، ومن المستحيل أن تطلب من شخصٍ أن يُذيع إخفاقاته للغرباء الذين لن يفهموه، سيكون ضميره هادئاً فقط إنْ لم يتباهَ بانتصاراته. أعرفُ نقاط ضعفي أفضل من الآخرين، ولم أتظاهر قَطّ أنّي نموذجٌ للكمال. ولكن، على أيّة حال، هناك شيءٌ واحدٌ أعرفه وأعيه بوضوح؛ أنّي قدّمتُ دائماً مصلحة الأمة على مصلحتي، وكانت حروب الفصائل والأحزاب والطبقات -وما زالت أيضاً- غريبةً عليّ”.