نعيد نشر هذا البحث الغنيّ لـ د.فيصل دراج على موقع باب الواد، لأهميته الجمّة، يُحدّثنا درّاج في الجزء الأول منه، عن دفاع الفلاح الفلسطينيِّ المُستميت عن أرضه، نظراً لعلاقته الغريزيّة بالأرض، المختلفة عن ابن المدينة، إذ التبست فلسطين بروح الفلاح، فامتدَّ في الأرض وامتدّت الأرضُ فيه، فكان أشدّ إدراكاً للخطر الصهيونيّ القادم، ونشأ عنه الفعل المقاوم أوّلَ نشوئه، في حين استشعر أهل المدن هذا الخطر بإيقاعٍ أبطأ، وهذا ما قد يفسّر الفارق الزمنيّ بين انتفاضات الطرفين ضد الصهاينة.
توطئة
نعيد نشر هذا البحث الغنيّ لـ د.فيصل دراج على موقع باب الواد، لأهميته الجمّة، يُحدّثنا درّاج في الجزء الأول منه، عن دفاع الفلاح الفلسطينيِّ المُستميت عن أرضه، نظراً لعلاقته الغريزيّة بالأرض، المختلفة عن ابن المدينة، إذ التبست فلسطين بروح الفلاح، فامتدَّ في الأرض وامتدّت الأرضُ فيه، فكان أشدّ إدراكاً للخطر الصهيونيّ القادم، ونشأ عنه الفعل المقاوم أوّلَ نشوئه، في حين استشعر أهل المدن هذا الخطر بإيقاعٍ أبطأ، وهذا ما قد يفسّر الفارق الزمنيّ بين انتفاضات الطرفين ضد الصهاينة، كما انصبّت وطنية الفلاح ودفاعه عن أرض فلسطين وتقديسها بكلّها دون تجزئةٍ أو استئثار بعض المقدّسات والرموز الدينية بهذه الوطنية والدفاع المستميت.
ولعلّ يقين الصهاينة باستحالة تخلّي أصحاب الأراضي عنها أو بيعها، هو ما جعل من إجلائهم بالقوة الحلّ الصهيونيَّ الوحيد. وعلى الجهة الأخرى، تعاون بعضُ الأفندية مع السماسرة اليهود، وباعوهم الأراضي، ساعدهم في ذلك النظام الإداريّ العثماني الفاسد الذي استغّل السماسرة ثغراته، في نقل ملكيات الأراضي إلى الصهاينة.
مقدمة
ارتبط تشكُّل الوطنية الفلسطينية، بشكلٍ أساسيٍّ، منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى قيام “إسرائيل”، بمواجهة الفلاحين للاستيطان اليهودي. عاد ذلك إلى ارتباط الفلاح الغريزيِّ بأرضه، وإلى طبيعة المشروع الصهيوني، الذي اعتبر تملّك أرض فلسطين كلَّها شرطاً لقيام الدولة اليهودية. وهذا ما جعل تاريخ الاستيطان اليهودي في فلسطين يساوي، بشكلٍ جوهريٍّ، تاريخ دفاع الفلاحين عن أرضهم، دون أن يقلّل هذا من أهمية أشكال الكفاح غير الفلاحية، ذلك أن الكفاح الوطني الفلسطيني يشكّل وحدةً متكاملةً.
الوحدة العضوية بين الأرض والفلاح
أخذت الأرض لدى الفلاح الفلسطيني صوراً متعددةً: فهي مصدر الرزق الذي تتوحّد العائلة الفلاحية حوله، والمساحة التي تعيّن أهمية الفلاح في بيئته، والمرجع المتوارث الثابت الذي يعتبر التنازل عنه مساساً بالشرف والكرامة. وعن الأرض المتوارثة، كما أشكال التعامل المتوارث معها، صُدّرت عادات الفلاح وطقوسه وأعرافه الاجتماعية ومنظوره إلى العالم، ذلك أن الأرض ملكيةٌ والعمل في الأرض نمطُ حياةٍ وثقافةٌ. جعل هذا من الأرض مصدر رزقٍ يمدّ الفلاح بالأمان، وصيّرها إلى هويةٍ وذاكرةٍ، يتعرّف بها الفلاح قبل أن تتعرّف به، لأن الأرض تُورَث وتورّث معاً.
ترجمت القرية الفلسطينية، التي بقيت متجانسةً رغم فروقها الاجتماعية الصغيرة، وطنية الفلاح الغريزية وانتماءَه العضوي إلى الأرض والمجتمع القروي معاً؛ فالقرية في حياة الفلاح، بعد العائلة والحمولة، هي المرجع الذي ينظّم حياة الفلاحين الاجتماعية والاقتصادية وفقاً لأعرافٍ مُتوارثةٍ، بل أنها كانت تمثّل “إدارةً سياسيةً مُختصرةً”، اعتماداً على سلطة رؤساء العائلات و “الحمائل”. وإذا كان في وضع القرية ما يعلن عن علاقةٍ هامشيةٍ بالسلطة المركزية، باستثناء الإلزام الضريبي، في شكله العثماني والإنجليزي لاحقاً، فإن في الوضع ذاته ما يشيرُ إلى جماعةٍ مُستقرةٍ مُتجانسةٍ قريبةٍ من الانغلاق، تنفتح على قرىً مُجاورةٍ نظيرةٍ، تربطها بها علاقات الجوار والمصاهرة، ولا تنفتح على غيرها إلا في أحوال الضرورة.صدر هذا الاستقرار عن الاكتفاء الذاتي الاقتصادي، وعن قدرة القرية على تدبير شؤونها بنفسها، بدءاً من حلّ مشاكل الأرض والتعارف على أشكال عقابٍ مُعينةٍ، وصولاً إلى شيخ القرية، الذي كان يتعرّض “أحياناً”، إلى منافسة شخصٍ غريبٍ هو: معلم المدرسة.
أفضى استقرار المجتمع القروي إلى أخذ مسافةٍ واسعةٍ عن: الغريب، بشكلٍ عامٍّ، الذي اكتسى ملامحَ مُهدِّدةً في شخص “اليهودي”، الذي حمل معه لغةً وثقافةً وعاداتٍ غريبةً. كان في المستوطن اليهودي الوافد حديثاً، بعد 1880، ما يُثير حفيظة الفلاح الفلسطيني: فهو الوافد الذي يعمل في أرضٍ عربيةٍ، والغريب الذي يحيل على خارجٍ مجهولٍ، وهو اليهودي الذي له أعرافٌ وعاداتٌ مغايرةٌ شديدة الاختلاف. كان في غرابة اليهودي المهدِّدة ما أيقظ في الفلاح الفلسطيني غريزة التمسّك بالأرض والدفاع عنها، وكان فيها “جديدٌ غير مقبولٍ” تتطيّر منه العادات الاجتماعية المستقرة. ومع أن الطبع القروي يعطي للعصبية مكاناً واسعاً؛ إذ القروي يتعصّب لـ “حمولته” ضد الحمائل الأخرى، وإذ كلّ قريةٍ تتوحّد في مواجهة قريةٍ مُجاورةٍ مختَلفٌ معها، فإنّ النذير الذي جاء به المستوطن اليهودي الجديد وحّد العصبيات القروية ونقلها من مكانٍ إلى آخر.
والمثال المبكّر، في هذا المجال، ثورة تموز 1908، التي هاجم فيها فلاحو قريتي الشجرة وكفركنّا اليهود ودمّروا محاصيلهم، إثر قيام يهوديّ من مستوطنة “سيجيرا” بقتل فلسطينيّ من قرية الشجرة. لا يكشف تعبير “ثورة”، الذي استعمله المؤرخ الفرنسي هنري لورانس عن العصبية القروية بقدر ما يؤكّد الحسَّ الوطنيَّ المُبكِر، الذي ميّز الفلاحين الفلسطينيين[1].
فَرَضَ الانغلاقُ الفلاحي، الذي يتداخل فيه الاستقرار والعصبية والتماسك، على القرية الفلسطينية وظائفَ ثلاث: الدفاع الجماعيّ عن الأرض ونبذ من يبيع أرضه أو يتهاون في حمايتها، وتنظيم العلاقات الاجتماعية التي تؤمّن استغلال الأرض وتحافظُ على التكافل الاجتماعي بين الفلاحين، والإشراف على حياةٍ اجتماعيةٍ يُمارس فيها الفلاحون ثقافتَهم وأعرافَهم وعاداتِهم المتوارثة. ومهما تكن حدود الوظيفتين الثانية والثالثة فهما مرتبطتان، لزوماً، بالوظيفة الأولى، التي تُعيّن الدفاع عن الأرض دفاعاً عن “شرف” القرية ومعياراً لـ “رجولة” أهلها، ودليلاً على استمرار “قيم الأجداد” في حاضر الأفراد.
ولا غرابة أن يأخذ التمسّك بالأرض شكل الغريزة، وأن تبدو مُقدّساً من مقدّسات الحياة القروية. ولعلّ تَعرُّفَ ت.إ.لورانس، أو “لورانس العرب” كما يُقال، على صورة الأرض لدى الفلاح الفلسطيني هو ما دفعه إلى كتابة رسالة إلى “سايكس” 7 أيلول 1917، جاء فيها: “إنكم تعرفون إلى أيّة درجةٍ يتشبّث العرب ولو بأرضٍ رديئةٍ، …، وبوُسعي أن أتخيّل نشوء وضعٍ قد لا يكون فيه تأثير النفوذ اليهودي على المالية الأوربية كافياً لثني الفلاحين العرب عن رفض الرحيل أو ما هو أسوأ …” [2] . إذا كان الفلاح الفلسطيني يتشبّث حتى بأرضٍ رديئةٍ، فمن المؤكد أنه يستميتُ دفاعاً عن “أرضٍ طيبةٍ”. كان لورانس يُدرك، عشية وعد بلفور، أنّ النفوذ اليهوديّ من النفوذ الأوروبيّ، وأن حقّ اليهود “الإلهي” في فلسطين مرتبطٌ بالخزانة الأوروبية، وأن عرب فلسطين لا يُساومون على أرضهم. أمّا “الأسوأ” الذي توقّعه: فقد تجلّى في كفاحٍ فلسطينيٍّ، مستمرٍّ أو متقطّعٍ، امتدّ من عام 1882 إلى 1948، ومن تاريخ قيام الدولة اليهودية حتّى اليوم.
أخبر الفلاح الفلسطيني، قبل أن يفقد أرضه، أنّ هويته من قريته، فلا وجودَ لقرويِّ فلسطينيٍَ لا يعرفُ حتى اليوم اسم القرية التي انحدر منها، وأن هوية قريته من أرضِها، وأن العلاقة الطويلة بين الأرض والهوية أنتجت عاداتٍ قويةً صلبةً، جاءت من مجتمعٍ عاش طويلاً على عاداتٍ ثابتةٍ. أكثر من ذلك: إنَّ تأمّلَ دلالات الأرض والقرية والوطن، في وجدان الفلاح الفلسطينيّ، قبل مأساة 1948، يكشفُ عن علاقاتٍ ثلاثٍ تقبل بتبادلية المواقع؛ إذ الأرضُ هي المجتمع القروي، وإذ القريةُ هي تكافل الفلاحين، وإذ الأرضُ، في وجوهها المختلفة، مساويةٌ للوطن.
جسّد الفلاحون، اتكاءً على ما سبق، القوّةَ الأساسيةَ التي دافعتْ عن فلسطين، وكان على المشروع الصهيوني أن يَهزِمَ الفلاحين الفلسطينيين، كي يُنجِز تحويل فلسطين إلى دولةٍ يهوديةٍ، ذلك أنه أراد، منذ البداية، امتلاك الأرض الفلسطينية كاملةً. جاء على لسان مسؤولٍ صهيونيٍّ متنفّذٍ يُدعى “أوسيشكين” عام 1904: “كي يتسنّى إنشاء دولةٍ يهوديةٍ في بلد “إسرائيل”، من الضروري بصورةٍ مُطلقةٍ في المقام الأول، أن تكون أرض فلسطين ملكاً للشعب اليهودي، ….، ويتوجّب بصورةٍ مطلقةٍ نزعُ ملكية الملاّك الحاليين للأرض. والآن، فإن الأمر الوحيد الممكن هو شراء الأراضي بموافقة مالكها الحالي، ولذا فإن شراء الأرض يصبحُ أحد شعاراتنا” [3].
حمل القولُ بضرورة امتلاك فلسطين نبرةً قاطعةً مُقترِحَاً شراءَ الأرض من فلاحين لا يتنازلون عن أرضهم، يساوون بين بيع الأرض وبيع الشرف. ولعلّ يقين “شراء الأرض”، الذي لا يمكن تحقيقه، هو الذي جعل من إجلاء أصحاب الأرض عنها، بالقوّة، الحلّ الصهيونيّ الوحيد. انطوى المشروعُ الصهيونيُّ، منذُ مطلع القرن العشرين، على أبعادٍ ثلاثةٍ مُتكاملةٍ: تجلّى الأول في تصوراتٍ تلغي الوجود الفلسطيني، وتعتبر وجود غير اليهود في فلسطين أمراً غيرَ مقبولٍ. وانطوى البعد الثاني على اقتناعٍ حاسمٍ بأنّ المشروع يعتمدُ في تحقّقه على فاعلية الدول الأوربية المؤازرة له، وأوكل البعد الثالث إلى القوى الأوروبية الكبرى حسم الصراع بين العرب واليهود لصالح الغايات الصهيونية التي تقاطعت، بأقدارٍ كبيرةٍ، مع المصالح الأوروبية.
تكشفُ هذه الأبعاد عن بطولة الفلاح الفلسطيني ومأساته: بطولته في الدفاع عن أرضه دون مساومةٍ، ومأساته الصادرة عن سياقٍ تاريخيٍّ مُختلّ القوى. فقد ارتكنت الصهيونية إلى إمبرياليةٍ قويةٍ صاعدةٍ، أعادت تقسيم الشّرق العربي كما تريد، بينما تبقى لفلسطين موقفٌ عربيٌّ مرتبكٌ ومُبعثرٌ، ينوس بين العفوية العاجزة والارتجال ويمتثل، في التحديد الأخير، إلى إرادة القوى الإمبريالية المُسيطِرة. وبسبب ذلك فإنّه من العبث كلّ العبث قراءة الكفاح الفلاحي، كما قراءة الكفاح الفلسطينيّ بعامةٍ، في حدود “الصراع الفلسطينيِّ اليهودي”، بمعزلٍ عن ضعف الدولة العثمانية وإدارتها الفاسدة، وقوة المال اليهودي الموطّد بدعم “القوى الكبرى”، كما المال الأوروبي، الذي كان ينفذ إليه القادة الصهاينة بوسائلَ وطرقٍ مختلفةٍ.
الفلاح الفلسطيني والنصر المستحيل
استهل المؤرخ الإسرائيلي يوسيف لمدان بحثه “العرب والصهيونية”، الذي هو جزء من كتاب جماعي، بعنوان فرعي: “ردود فعل مبكّرة: 1882 1908 ” ، جاء فيه: “وعلى الرغم من أن غالبية اليهود جاءت للإقامة في القدس ويافا، فإن ردة فعل الفلاحين في محيط المستوطنات الجديدة، هي التي استشعرت أولاً” [4] . تشير هذه الكلمات إلى حساسية الفلاحين الخاصة في علاقتهم بالأرض، أو إلى الغريزة الفلاحيّة التي حرّضت الفلاح على الشعور بالخطر الوافد، الذي استشعره أهل المدن بإيقاعٍ أقلّ سرعةً. تزامن ردّ الفعل الفلاحي مع الهجرة اليهودية الأولى الساعية إلى احتلال فلسطين.
يصبح الأمر واضحاً بالرجوع إلى كتاب المؤرخ الفرنسي هنري لورانس: “اختراع الأراضي المقدسة”، الذي عَنْوَن الفصل الرابع منه بـ”بدايات العاليّا الأولى”، إشارةً إلى المهاجرين اليهود الأوائل إلى فلسطين. فقد اقترنت هذه “العاليّا”، وتعني “الصعود”، بالمستوطنة الزراعية “ريشون ليتسيون” قرب يافا، التي أقيمت في 31 تموز 1882 وأعقبها، في العام ذاته، مستوطنة روش بيناه (حجر الأساس) في الجليل، ومستوطنة سمرين قرب حيفا.
تبيّن المقارنة بين رد الفعل الفلاحي، الذي حدّد المؤرّخ الإسرائيلي تاريخه بعام 1882، وتاريخ ظهور المستعمرات اليهودية الأولى، كما جاء في كتاب المؤرخ الفرنسي، صفاء الحس الفلاحي الرافض للاستيطان الذي شعر، منذ البداية، بالخطر “الغريب” الوافد إليه، موحّداً بين استشعار التهديد الخارجي والردّ عليه. غير أن الحس السريع الاستنفار لا يلبث أن يطرح سؤالين: هل يستطيع الفلاح الفلسطيني، الفقير والأميّ، أن يواجه عملاً صهيونياً مؤسساتياً متعدد الإمكانيات؟ وما مدى فاعلية رد الفعل الفلاحي، الذي بدأ مجتهداً واستمر مقاتلاً كما بدأ؟ يمكن صياغة السؤالين بشكل أكثر وضوحاً: هل تستطيع القرية الفلسطينية المغلقة مواجهة نفوذ البارون “دو روتشيلد”، الفرنسي ذي الأصول الإنجليزية، والذي كانت له زراعة مزدهرة في فرنسا آنذاك؟
وضع المؤرخ الفرنسي هنري لورنس، بعد عنوان الفصل الرابع مباشرة، قولاً للصهيوني إدمون دو روتشيلد: “أنا لستُ مُحسِنَاً، لقد بدأتُ المشروع في فلسطين لأنني كنت أريد أن أعرف ما إذا كان بالإمكان توطين يهود في أرض فلسطين”[5]. أكّد الثري اليهودي الفرق بين الإحسان والعمل المنتج، وبين المبادرة الخيّرة السريعة و”المشروع”، الذي يقترح التجريب والمثابرة، منتهياً إلى غايةٍ واضحةٍ: توطين اليهود في فلسطين. يتمثّل المشروع، ظاهرياً، بعمليةٍ تجاريةٍ بسيطةٍ قوامها: شراء الأرض، تعلن عن سطوة المال اليهودي وإرادة “البارون” الفاعلة”. تضمّنت “التجارة” المشروعة عنصريةً كاسحةً، مفترضةً أن الفلاحين الفلسطينيين مستعدون لبيع وطنهم، وتزييفاً صريحاً، ذلك أن الأوطان تُورّث ولا تشترى. أراد “روتشيلد” أن يخترع وطناً لليهود، حاجباً الاختراع بفعلٍ تجاريٍّ مدركاً، الإدراك كله، أنه لا “يخترع” بماله، بل بقوّة الغرب، التي كانت تحتلّ فيها انجلترا وفرنسا موقعاً مسيطراً.
ولعلّ عملية الشراء، التي تُباطنها الخديعةُ واستثمار النفوذ، هي التي خلقت مهنةً يهوديةً مُزدهرةً، منذ بدايات “العاليّا الأولى”، عنوانها: السمسار بالمعنى الضيّق والواسع معاً. فإذا كان السمسار، بالمعنى الضيّق، وسيطاً بين بائعٍ ومُشترٍ مقابل “عمولةٍ” معيّنةٍ، فإن السمسار اليهوديَّ، بالمعنى الموسّع، وسيطٌ متنفّذٌ مُفسدٌ، لا يقتصر عمله، في الشرط الفلسطيني آنذاك، على إيجاد “بائع الأرض”، بل عليه إفساد الجهاز الإداري القائم؛ ذلك أنّ القانون العثماني كان يمنع، ولو بقدرٍ، بيع أراضي فلسطين لليهود. ولهذا كان على السمسار أن يصل إلى: القاضي الفاسد، والمحامي الفاسد، والإداريِّ الفاسد، قبل أن يصل إلى بائع أرضٍ لبنانيٍّ أو سوريٍّ أو فلسطينيٍّ.
من المفيد، في هذا المجال، الرجوع إلى كتاب “يوسف نحماني”، “مذكرات سمسار أراضٍ صهيونيّ”، الذي يغطّي قُرابة نصف قرنٍ من المشروع الصهيوني (1912-1948)، مُبتدئاً بفلسطين ومارّاً على لبنان وسوريا، متوقفاً أمام بيوعٍ قامت بها “أسماء لها هيبة”، كاشفاً عن “السياسي السمسار” وعن بعض “الأعيان المتنفّذين” الذين يؤمنون بالمال قبل غيره. يتحدّث صاحب المذكرات، وهو سمسارٌ شهيرٌ كان ينسّقُ مع سماسرةٍ يهود أكثر شهرةً، عن “الأفندية” الذين باعوه أرضهم، وأبناء “العائلات الحسيبة”، بل عن” القادة” أيضاً: “القادة لا يخسرون، …، لديهم ما يكفي من المال وهم سيستمرون مستقبلاً في السمسرة لليهود، فقط الفلاحون والعمال والتجّار هم الخاسرون…” [6].
في مقابل “قادةٍ يستمرّون في السمسرة” ويحرّضون، بصفاقةٍ، الناس على التظاهر ضدّ الاستيطان، كما جاء في كتاب السمسار الصهيوني، كان الفلاحون يتمسّكون بأرضهم، فإنْ تنازلَ واحدٌ منهم كان مُكرهاً وموضع عقابٍ من الجميع. والظاهرُ، كما يكشف “نحماني”، أنّ بيوع الفلسطينيين كانت مُحاطةً بالسرية والتلاعب، والبعد عن أنظار الفلاحين الذين أربك ارتفاعُ صوتهم، في ثورة 1939 حُسبان السماسرة اليهود. كتب آنذاك صاحبُ المذكرات إلى زميله الشهير “حانكين” عن: “ضرورة إيقاف كلّ عملية استملاكٍ جديدةٍ، وإنهاء العمليات القديمة، والإسراع في نقل ما يمكن وقابلٌ للنقل والتشاور مع المحامين” [7]. تُفصِح نبرة السمسار إلى زميله عن بيوعٍ لا تنقُصُها الخديعة، ويُعوِزُها الضمان القانونيّ الصحيح. وتُفصِح، أولاً، عن رعب السماسرة اليهود من انتقال الفلاحين من وصاية “الأفندية” إلى قرارهم الذاتي، الذي أربك الأفندية وسمسارة الأرض معاً.
على الرغم من توزّع الكفاح الوطنيّ الفلسطينيّ على الشعب بأسره، فقد التبست فلسطين، ما قبل 1948، بروح الفلاح، الذي يمتدُّ في الأرض وتمتدُّ الأرض فيه، وهو ما قال به غسان كنفاني في روايته التي لم تكتمل “العاشق”: “لا غرابةَ، أن يطمئنَ اليهود إلى بعض أعيان المدن، وأن تكون السمسرة المدعومة بالفساد مرتبطةً بالأفندية وكبار الملاّك ونفوذ “روتشيلد” المتعدّد الوجوه”.
سعى “روتشيلد” إلى شراء الأرض وتأهيل المزارعين اليهود، وإلى نقل تجربته الزراعية الناجحة في فرنسا إلى فلسطين. دعته هذه الأسباب إلى معاينة “المشروع” على الأرض، فزار فلسطين في 1887 وقام بزيارتها مرتين لاحقاً، مؤكّداً “شراء الأرض” نهجاً منظّماً وعملاً مؤسساتياً أقنعاه، بعد أن ساءت صحته في 1899، إلى نقل مسؤولياته إلى جمعية الاستيطان اليهودي (إيكا)، التي اتّخذت من لندن مركزاً لها، وداعبتها أحلام التوسّع فهجست أيضاً بشراء أراضٍ في لبنان.
قامت استراتيجية روتشيلد، التي جمعت بين الفكرة وتطبيقاتها العملية، على مراكمة رأس مالٍ عقاريٍّ واقتصاديٍّ وبشريٍّ، تُؤسّسُ للمشروع الصهيوني وتُعيد إنتاجه ليصبح، لاحقاً، مُكتفياً بذاته. دفعه منظوره العملي إلى شراء أراضٍ متجاورةٍ، قابلةً لأن تنفتح على بعضها بعضاً، أكانت أرضاً صالحةً أو سيئةً. لم ينسَ، وهو يتمسّك بخبرته الزراعية الحديثة، التي طبّقها على أرضه المُنتجة للخمور في فرنسا، أن يدعو إلى توليد خبراءَ زراعيين يدركون العلاقة بين المنهج الزراعي الحديث وزيادة الإنتاج. أراد “البارون” تكوين جماعةٍ فلاحيةٍ يهوديةٍ في فلسطين، تعيدُ تجربة الجماعة الفلاحية الفرنسية في عهد الجمهورية الثالثة، وتدمجُها بحياةٍ يهوديةٍ قوامها “الشريعة” والعمل، مُقتنعاً أنه يتعامل مع أرضٍ يهوديةٍ بمعاييرَ يهوديةٍ. حاول أن يجمع بين منظورٍ عقيديٍّ يهوديٍّ ومعاييرَ رأسماليةٍ حديثةٍ، تحضّ على الإنتاجية وتطوير الكفاءات، وتهمل المشاريع الفاشلة وتعاقب الذين لا يحسنون العمل والإرادة.
أراد روتشيلد أن يكون رائداً في “شراء الأرض وإعمارها”، عاملاً على إعطاء درسٍ نموذجيٍّ في مشروع الاستيطان اليهوديِّ في فلسطين، مؤكّداً النهج الحديث في العمل وضرورة المبادرة و”التماسك الأخلاقي اليهودي”، مُتطلّعاً إلى إقناع غيره من أغنياء اليهود بإمكانية “الزراعة المكثّفة” المضمونة النجاح. أراد أن يُترجم، عملياً، العمل الجماعي المنظّم وفاعلية الإيمان اليهودي والذرائعية، التي تقدّس الغاية وتخترع الوسيلة الملائمة؛ ذلك أنّ ما حققه، في فلسطين، لم يكن ممكناً من دون ما يُدعى “سماسرة روتشيلد”، الذين استغلوا الفساد الإداريَّ القائم وأنتجوا فساداً جديداً. بل إن مهارته في توليد “الزراعة المكثّفة” لم يكن يعادلها إلا مهارة سماسرته في الرشوة واستثمار ثغرات القانون واستئجار شهود الزور وانتهاك اللوائح العثمانية[8].
كان على الفلاح الفلسطيني أن يواجه إمكانيات روتشيلد وآلته، وأن يتحمل ثغرات إدارةٍ عثمانيةٍ فاسدةٍ، تعايشت مع “مستشارين” صهاينة، وأن يعاني من نفوذ “القنصليات” الأوروبية، التي كانت تنصر اليهود الوافدين بطرقَ مختلفةٍ. فقد كانت هذه “القنصليات” تكفل، مالياً، إقامة اليهود المهاجرين، وتزوّدهم بجنسياتٍ أوروبيةٍ تمنحُهم الحماية، وتعطّل التدابير العثمانية التي تحدّ من الهجرة وشراء الأراضي العربية. فعندما حاول متصرّف القدس عام 1892، على سبيل المثال، حظر بيع الأراضي العائدة للدولة إلى اليهود، انتزع قناصل الدول العظمى من السلطة العليا اعترافاً بحقّ اليهود المقيمين إقامةً شرعيةً شراء ممتلكاتٍ عقاريةً. لم تكن تلك الإقامة الشرعية إلا “الأوراق الرسمية” التي يمنحها القناصل، من دون جهدٍ كبيرٍ، إلى اليهود القادمين إلى فلسطين بطرقٍ غيرَ شرعيةٍ.
في هذه الشروط، التي لا تفسّر أبداً بـ “الروح اليهودية المبدعة”، أنجز إدمون دو روتشيلد دوره في المشروع الصهيوني، الذي استكملته منظمة “إيكا”. حقّق الأول لقضية الاستيطان اليهودي عملاً “يفوق بكثيرٍ كلّ العمل الجماعي الذي أدّته المنظمة الصهيونية”، ونجحت الثانية في توفير ربحيةٍ عاليةٍ للزراعة اليهودية. غير أنّ الإنجاز والنجاح، اللذين صاغهما سياقٌ تاريخيٌّ، لم يمنعا الفلاحين عن الكفاح المتواتر دفاعاً عن أرضهم، ولم يُرهِبا الفلسطينيين، أو “الأهالي أشباه المتوحشين”، كما كان يقول بعض الصهاينة.
تشكّل الاستيطان اليهودي في سياقٍ تاريخيٍّ موائمٍ، تكامل فيه الضعف العثماني والتدخل الاستعماري والمال اليهودي، وقاتل الفلاحون الفلسطينيون في سياقٍ نقيضٍ، يعتمد على التمسّك بالأرض دون أن يعثُر على نصيرٍ أو ظهيرٍ.
الفلاحون الفلسطينيون في مواجهة الاستيطان
كتب المؤرخ الصهيونيُّ يوسيف لمدان: “تكاد لم تقُم مستوطنةٌ يهوديةٌ دون مشاكل مع جيرانها العرب بسبب مسألة الأرض. وعلى سبيل المثال، اشترى رؤبين ليرر، حتّى وهو في روسيا 2000 دونم الأولى لمستوطنة نيس تسيونا (تأسست في 1883)، وحال وصوله إلى البلاد خسر ربع المساحة، في محاكمةٍ قضائيةٍ مع القرويين. وعلى مدى سنينَ أزعج فلاحو “قطرة” المستوطنة المجاورة “غديرا”، (تأسّست في 1884)، على أمل استعادة قطعة أرضٍ فقدوها لصالح مُقرِضٍ عربيٍّ بالفائدة. وفي عام 1892 غزا حوالي 100 قرويٍّ من “زرنوقة” مستوطنة “رحوفوت” (تأسست في 1890)، وفي ظروفٍ شبيهةٍ قام الفلاحون بالهجوم على “بيتح تكفا” عام 1886. وحتّى عام 1902 لم تكن “الخضيرة” قد استطاعت حلّ مسألة حدودها (تأسّست سنة 1891) [9].
إذا كان في جملة “قطعةٍ أرضٍ فقدوها لصالح مُقرِضٍ عربيٍّ” ما يُحيل على القهر الذي كان يدفع الفلاح الفلسطيني إلى خارج أرضه، فإنّ في الجمل اللاحقة ما يعيّنُ أشكال مقاومة الفلاحين: اللجوءَ إلى القضاء إعلاناً عن بيعٍ ظالمٍ استغلّ فقر الفلاحين، وإقلاق “الجوار اليهودي” لأنه بعيدٌ عن معنى الجوار، والغزو الذي يُتَرجمُ فعلاً جماعياً مقاوماً يرفض الاستيطان والمستوطنين، وأخيراً “الهجوم” الذي يجسّد عملاً محارباً ضدّ الخطر. يتراءى في هذا كلّه أمران: خبرةٌ فلاحيةٌ متناميةٌ تبدأ باللجوء إلى القضاء وتنتهي بالهجوم، وحسٌّ وطنيٌّ مبكّرٌ واجه كلّ مستوطنة جديدة بـ “إقلاقٍ” جديدٍ، منذ بدايات الاستيطان الأولى. يُضاف إلى هذين الأمرين تكافلٌ فلاحيٌّ يُجابه “الخارج” المهدّد، ويُترجَم عصبيةً فلاحيةً مقاتلةً أدركت أبعاد تهديدٍ وافدٍ يقع على الجميع.
لم ينتظر الاستيطان اليهودي، الذي شكّل أسُسَ “الدولة القادمة”، إعلان وعد بلفور عام 1917، الذي فتح للاستيطان أفقاً جديداً، عن طريق إرهاق الفلاح الفلسطيني بالضرائب والتصرّف بـ “أرض الدولة” لصالح اليهود. ولم ينتظر الفلاحون وعد بلفور ليُدركوا حقيقة المشروع الصهيوني، خلافاً لساسة تقليديين ولجزءٍ واسعٍ من المسؤولين العرب، لم يعُوا من “المشروع” شيئاً حتّى بعد ظهور وعد بلفور. فوفقاً لمصادر متعدّدةٍ: فإنّ ما باعه الفلاحون في الفترة (1901-1914) لا يتجاوز 3.4%، مدفوعين بظروفٍ شاقّةٍ سببها “السلطات” وجشع المرابين المتعاونين مع الصهاينة. ولعل التمسك بالأرض، كما البيع غصباً، هو الذي جعل الفلاح، باع أرضه أم لم يبعها، يرى في “اليهوديّ”، من حيث هو، عدواً له، وأن يحرّض على قتل “السماسرة”، كما جاء في كتاب “مذكرات سمسار أراضٍ صهيونيٍّ” للصهيونيّ يوسف نحماني.
يروي المؤرخ الصهيونيّ “لمدان” حكايتين أخبره بهما الناشط الصهيوني “ألبرت عنتابي”، الذي كان صديقاً للمسؤول العثماني في القدس. تقول الأولى أنّ قرويين عرباً ممن لا يعرفون القراءة والكتابة سألوه، أي عنتابي، عام 1901: “هل حقيقة أن اليهود يريدون انتزاع هذا البلد لأنفسهم؟”، وتقول الثانية أنه التقى بعد عامين، بشابٍّ مُسلمٍ من القدس، لم يكن مُتعصّباً، قال له: سنسفك قطرة دمنا الأخيرة على أن نرى مسجد قبة الصخرة يسقط في أيدي غير المسلمين”.
ما أدركه الفلاح الفلسطيني عام 1901 لم يكن يدركه بعض “المتزعّمين الفلسطينيين” بعد صدور وعد بلفور بزمنٍ، كما يقول أكثر من مؤرّخٍ نزيهٍ. وعلى الرغم من الوطنية الصادقة، التي عبّر عنها الشاب المقدسيُّ المسلم، فإنه رأى “مسجد قبة الصخرة” قبل أن يرى غيره، كما لو كان على الفلسطينيين أن يبدأوا كفاحهم بالدفاع عن المقدّسات، خلافاً للفلاح الذي استعمل كلمة “بلد”، التي تعني الأرض ومقدّساتها معاً، كما لو كان مُقدّسُ الفلاح يُغاير مُقدّس “ابن المدينة”، رغم تبجيل الطرفين للمواقع المقدسة.
إنّ الفرق بين تجربة الفلاح وتجربة “ابن المدينة” الفلسطينيِّين، في علاقتهما بالاستيطان اليهودي، هو الذي يفسّر الفرق الزمني بين انتفاضات الطرفين: إذ كان الأول يعيشُ على الأرض ومنها، وكان الثاني يعيشُ على الأرض ويمارس حرفةً لا علاقة لها بالأرض. فقد وقعت المواجهة الكبيرة الأولى بين الفلاحين والمستوطنين في 29 آذار 1886، حين هاجم 50-60 فلاحاً من قرية “اليهودية” مستعمرة “بيتح تكفا”، وأتلفوا المحاصيل وأصابوا خمسة يهود، وساقوا البقر والبغال من المستوطنة إلى المحكمة في يافا، بدعوى وجود الحيوانات على أرضهم وطالبوا بتعويضات”[10]. دافع الفلاحون عن أرضهم مُعتمدين المواجهة المباشرة خياراً أوّلاً، واللجوءَ إلى القضاء خياراً ثانياً، مُدركين أن الاستيطان اليهودي مسألةٌ لا يحلّها القضاء وحده.
على خلاف النموذج الفلاحيّ، فإن يافا، التي احتشدت باليهود الوافدين، لم تثُر، بشكلٍ عنيفٍ ومُوسّعٍ، إلا بعد اثنين وعشرين عاماً، تعبيراً عن حساسيتين مختلفتين تميّزان ابن الريف عن ابن المدينة؛ فقد كان عدد اليهود في يافا منخفضاً في نهاية القرن التاسع عشر، وارتفع فجأةً، عام 1893 إلى حوالي 2500 تاركاً على حياة المدينة آثاراً واضحةً، وزاد ارتفاعاً بعد عقدٍ من الزمن إلى 6000 يهوديٍّ من عددٍ إجماليٍّ قدره 44000 نسمة. مع ذلك فإن انتفاضة يافا، المدينةُ العريقةُ في وطنيّتها، ضدّ الوجود اليهودي لم تقم إلا في آذار 1908، مع فرقٍ بين تعدّديةِ أسبابها وواحديّةِ السبب في التمرّد الفلاحي. فقد أرجعها البعض إلى تنافسٍ مهنيٍّ بين اليهود والمسيحيين، وأعطاها بعضٌ آخرَ وازعاً أخلاقياً ناظراً إلى ضيق السكان العرب بممارسات الشباب اليهودي التي لا تُراعي “الحشمة”، بينما عزاها آخرون إلى صِداماتٍ فرديةٍ اكتسبت طابعاً جماعياً. لم تكن هذه الأسباب إلا قناعاً لسببٍ أكثر عمقاً عنوانه: إدراك الفلسطينيين للخطر اليهودي الذي يتهدّدهم.
إنّ دفاع الفلاحين عن أرضهم، المرتبط بالغريزة والعقل معاً، هو الذي حاصر “شراء اليهود” للأرض الفلسطينية، رغم الإمكانيات الواسعة والدعم المتعدّد للعناصر. فلم يمتلك اليهود، حتى عام 1926 أكثر من 4% من كافّة الأراضي (بما فيها أراضي الدولة)، ولم تصل إلى خمسةٍ بالمائة إلا بعد ثماني سنوات.
أورد محمد حسين هيكل في كتابه “المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل” ما يلي : حين احتجّ “وفدٌ فلسطينيٌّ” مؤلفٌ من شخصياتٍ سياسيةٍ شهيرةٍ، لدى المندوب السامي البريطاني، عام 1933، على شراء اليهود للأراضي، أجابَ الأخير: “إنّ هناك رجالاً يمثّلونكم يبيعون أراضيهم لليهود، فلماذا تحتجّون عندي أنا”، وقال أيضاً: “إن الفلاحين ليسوا هم الذين يبيعون الأراضي، إنما الذين يبيعونها هم الأثرياء” [11].
فإذا كانت الأرض، في التصوُّر التجاري، سلعةً تُباع وتُشترى، وفقاً لمعايير السوق والربح والمصلحة، فإنّ للأرض، في التصوّر الفلاحي، كما في الممارسة الفلاحية، معنىً آخرُ تماماً.
تابع/ي قراءة الجزء الثاني، هنا
المصدر : مجلة أوراق فلسطينية، العدد الرابع، 2013، الصادرة عن مؤسسة ياسر عرفات، هنا
***
الهوامش:
[1] هنري لورانس: مسألة فلسطين، المجلد الأول، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2006 ، ص 286
[2] المرجع السابق، ص 16
[3] هنري لورانس، الكتاب الأول، المجلد الأول، ص: 253
[4] يوسف لِمدان: العرب والصهيونية،ترجمة وتقديم وإعداد د. إلياس شوفاني، دار الحصاد، دمشق، 2009، ص: 44. بل أن كثيراً من المؤشرات تبيّن أن احتجاج الفلاحين الفلسطينيين الأول على بناء المستوطنات اليهودية جاء مع تأسيس مستوطنة مكفيا عام (1870)، انظر كتاب د. عبد العزيز محمد عوض: مقدمة في تاريخ فلسطين الحديث، بيروت، 1983، ص: 19-22
[5] هنري لورنس: مسألة فلسطين، المجلّد الأول، ص: 291
[6] يوسف نحماني: مذكرات سمسار أراضٍ صهيوني، ترجمة وتقديم وإعداد د. إلياس شوفاني، دار الحصاد، دمشق، 2010، ص: 80
[7] المرجع السابق ص : 192 . * (على الرغم من أنّ معطيات نحماني أخذت شكل يوميات متقطعة، فإن تعبير “قادة” يبدو غائماً لأنه خلط، على ما يبدو، بين القادة والوجهاء والأفندية وكبار ملاّكي الأراضي والسماسرة (ف.د).
[8] لورنس، المجلد الأول، ص: 151
[9] يوسف لمدان: مرجع سبق ذكره، ص: 146-147
[10] المرجع السابق، ص: 45
[11] محمد حسين هيكل: المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل، دار الشروق، القاهرة، ص: 130