نقدّم لكم هذه الترجمة لمقالٍ للباحث الصهيوني “هليل كوهين”، “المختصّ” في دراسة التعاون الفلسطينيّ مع المحتلّين، باعتبار هذه الدراسة نموذجاً للمعرفة الاستعماريّة حول تجربة روابط القرى في الثمانينيّات. ترجمها وليد حبّاس، قراءة مفيدة.

(هذه المادّة المترجمة هي الرابعة ضمن ملفٍ بحثيّ ينشره باب الواد حول “روابط القرى” كنموذجٍ للتعاون مع المحتلّ، لقراءة المقال الأول؛ الثاني؛ الثالث؛ الخامس).

ترجمة: وليد حبّاس

توطئة

هذه ترجمة أنجزها الباحث وليد حبّاس، بتصرفٍ يسير، لمقالٍ للباحث الصهيوني “هليل كوهين” المختصّ في دراسة التعاون الفلسطيني مع المحتلّين، نُشرت في عام 2013 بعنوان: روابط القرى: فشل التجربة، انتصار الفكرة والسلام الضائع. ينطلق “كوهين” في دراسته لتجربة روابط القرى في الثمانينيّات من المآل الذي وصلت إليه عملية “أوسلو” بقيادة منظّمة التحرير، التي انتهت إلى حكمٍ ذاتيّ محدودٍ تحت سيطرةٍ “إسرائيلية” كاملة، وهو مآل لا يختلف في واقعه عن المشروع السياسيّ لروابط القرى الذي حاربته منظّمة التحرير، وأسقطته بالتعاضد مع عوامل سياسيّةٍ داخل الحقل السياسي الصهيوني في الثمانينيّات، والمتمثّلة أساساً في استمرار الاستيطان في الضفة الغربية وقطاع غزة تحت حكم “الليكود”.

يقدّم “كوهين” في بداية المقال ثلاثة افتراضاتٍ أساسيّةٍ لدراسته؛ الأوّل أنّ هدف عرّابي الروابط ومؤسّسيها (ميلسون وكرمون) كان تحريك عمليّةٍ سياسيّةٍ للوصول إلى اتفاق سلامٍ فلسطيني- “إسرائيلي” يقوم على الانسحاب من الضفة الغربية، وليس تعميق سيطرة “إسرائيل” على الضفّة. والافتراض الثاني يعزو إخفاق التجربة إلى فشل عرّابيها (ميلسون وكرمون) في القراءة السياسيّة والاجتماعيّة للمجتمع الفلسطينيّ، وكذلك في قراءتهم للحقل السياسيّ الصهيونيّ، أمّا الثالث فهو أنّ تصدّي التيار المركزي في حركة فتح لروابط القرى كان نابعاً من تحدّي هذا المشروع لتمثيل منظّمة التحرير للشعب الفلسطيني، لا بسبب استعداد قيادة الروابط للاعتراف بـ “اسرائيل”، في مقابل المعارضة المبدئيّة للجبهة الشعبية له.

وفي محاججته لبرهنة صحة هذه الافتراضات، كان جل اعتماد “كوهين” في المصادر الأوّلية على مقابلاتٍ مطوّلةٍ مع الشخصيات الصهيونيّة التي بادرت لتأسيس الروابط، ومقابلاتٍ قصيرةٍ مع اثنين من رؤساء الروابط السابقين، ومقابلةٍ وحيدةٍ مع أحد الفدائيّين الذين تصدّوا لها، بالإضافة إلى بعض المقالات الصحفية. وبهذا، كانت دراسة “كوهين” أقرب إلى تحليل وجهة النظر الصهيونيّة أكثر من كونها دراسةً متوازنةً من حيث المصادر لتجربة الروابط وفشلها، مع التنبيه إلى كون مصادره نخبويّة الطابع، يغيب عنها صوت “الناس العاديين”، والذين يخرجهم “كوهين” من الصراع مع الروابط باعتبارهم إمّا منتفعين مصفّقين أو رافضين تابعين لمنظّمة التحرير.

يغلب على هذه الدراسة مركزيّة العوامل الأيديولوجيّة و الهوياتيّة السياسيّة، يمين يسار صهيونياً، والهوية الوطنية وغيابها فلسطينيّاً، ولا تمسّ البعد الاقتصادي المادّي (العمالة الفلسطينية في سوق العمل الصهيوني، وتفكيك ومن ثمّ تبعيّة الاقتصاد الفلسطيني للاقتصاد الصهيوني)، ومسألة الأرض الواقعة في مركز الصراع مع الاستعمار الاستيطاني. في المحصّلة، يظهر مشروع روابط القرى في دراسة “كوهين” كصراعٍ وكترتيباتٍ ما بين نخبٍ سياسيّةٍ على طرفي الخطّ الاستعماري، ولكنّه مع ذلك يفصّل في دقائق وحيثيّات هذا الصراع النخبويّ صهيونيّاً بين يمين ويسار، ويختزله فلسطينيّاً بالقول، على سبيل المثال، إنّ معارضة فتح للروابط كانت تعود أساساً لتشكيل الروابط تهديداً لأحاديّة تمثيلها للشعب الفلسطيني وليس لسببٍ مبدئيّ بصفتها مشروعاً للعمالة مع المحتل، منحّياً جانباً الخلافات داخل قيادة فتح، والقناعات المبدئية للقاعدة الفتحاوية في تصدّيها للروابط بصفتها مشروع خيانة.

كما يصف القراءة الاستشراقية الصهيونيّة للمجتمع الفلسطيني، والتي بنى عليها عرّابو الروابط مشروعهم، بـ “الضعيفة”، وقد أدّى هذا الضعف، بحسب “كوهين”، إلى فشلٍ في فهم المجتمع الفلسطيني سياسيّاً واجتماعيّاً، ومن ثمّ فشل مشروع الروابط. إنّ وصف القراءة الاستشراقية بالضعف يشي باستشراقيّة واصفها، فإشكاليّة المعرفة الاستشراقية لا تتعلّق بضعفها أو قوّتها (إجراءات منهجيّة أو دقّة المعلومات)، وإنّما في نظرتها الكليّة للمجتمع الذي لا يُمكنها إلّا أن تراه أوّلاً موضوعاً للسيطرة أو التلاعب، وثانياً تختزله في الهوية والأيديولوجيا، وتخضعه لتصنيفاتٍ حادّة (قروي – مديني)، وهي تصنيفاتٌ لا يتحدّاها “كوهين” معرفيّاً، وإنّما يقبلها مع الإشارة إلى سوء تقدير قوة قطبيّتها.

يصل “كوهين” في نهاية المقال إلى نتيجةٍ مفادها بأنّ فشل روابط القرى و”أوسلو” في الوصول إلى السلام يعود أساساً إلى ميزان القوى المختلّ لصالح الطرف الصهيوني، والذي كان كفيلاً بتحويل مشروع الحلّ السياسيّ بإقامة دولةٍ فلسطينيّة في الضفّة الغربيّة بقيادة روابط القرى في نهاية السبعينيّات وبداية الثمانينيّات، ومنظّمة التحرير في التسعينيّات، من مشروعٍ سياسيّ إلى مجرّد أداةٍ أمنيّةٍ صهيونيّة. ويصرّح في افتراضه التأسيسيّ الأوّل بأنّ مشروع الروابط كان يهدف للوصول إلى عملية سلامٍ وانسحابٍ “إسرائيلي” من الضفّة الغربيّة، ولكنّه يعود في نهاية المقال بنتيجةٍ تناقض افتراضه الأوّل؛ بالقول إنّ ما أدّى إلى فشل “أوسلو” ومشروع روابط القرى هو اختلال ميزان القوى لصالح “إسرائيل”، ممّا أفشل المشروعين في الوصول إلى سلام.

يبدو منطق “كوهين” هنا دائريّاً (تحصيل حاصل)؛ السبب هو النتيجة والنتيجة هي السبب. فقد نشأت الروابط و”أوسلو” منذ البداية في هذا السياق المختلّ، وبالتالي لم يكُن بإمكان المشروعين إلا أن يكونا منذ البداية أداةً للطرف الأقوى لتحقيق أهدافه، سواءً سمّيناها سلاماً أم تعميق السيطرة الصهيونية على الفلسطينيين. وكما قال “شلومو غازيت” عند توقيع إتفاقية “أوسلو”: “لم يكُن أمام عرفات سوى أن يكون لحد أو سوبر- لحد”. السلام الضائع الذي ينعيه كوهين في مقاله هو سلام صهيونيّ، حكم ذاتيّ على أراضٍ ينسحب منها الجيش الصهيوني دون أن ينسحب، وسلطة أمنيّة قدّم لها “كوهين” نصيحة ذات مرّة، متقمّصاً دور “ميلسون” وكمختصّ في دراسة التعاون، بأنّه على الفلسطينيّين أن يُعيدوا تعريف الخيانة ليستمرّ التنسيق الأمنيّ في ظلّ مصالحةٍ فلسطينيّةٍ محتَملة ما بين الرافضين والمؤّيدين لـ “أوسلو”.

 (خالد عودة الله)

*****

مقدّمة

يتناول هذا المقال “روابط القرى” التي قامت ونشطت في مناطق “يهودا والسامرة” [الضفة الغربيّة] في نهاية السبعينيّات وبداية الثمانينيّات من القرن العشرين. سيتمّ دراسة “الروابط” ونشاطاتِها من جديد، من خلال ربط الموضوع بالتطوّرات التي طرأت على علاقة “إسرائيل” بالفلسطينيين منذ ذلك الوقت حتى يومنا هذا، وذلك في ضوء شهاداتٍ جديدةٍ من بعض الأشخاص المشاركين فيها.

أسّست شخصياتٌ فلسطينية روابط القرى في “المناطق” [2] بدعمٍ من الإدارةِ المدنية “الإسرائيلية”، في محاولةٍ لتأسيسِ قيادةٍ فلسطينيةٍ محليّةٍ لا تخضع إلى م. ت. ف. ومبادئها، وبحيث تكون جاهزةً لقيادة تلك المناطق نحو الاعتراف بـ”إسرائيل”، والوصول إلى اتفاقٍ معها. لاقت هذه المساعي معارضاتٍ جديةً من م. ت. ف. والتي قام رجالها بالتعرّض [لحياة] بعض قيادات الروابط، وكذلك من الأردن الذي أعلن بأنّ الانضمام إلى الروابط يُعتبر بمثابة خيانةٍ للوطن. في “إسرائيل” أيضاً، وجدت هذه المبادرة معارضةً واسعة، سواءً من مؤيّدي الاستيطان في المناطق [المحتلّة]، خصوصاً بعد أن أعلنت الروابط رفضها للاستيطان، أو من قبل عناصرَ يساريّةٍ عارضت توجّه خلق قيادةٍ فلسطينيةٍ من قبل المؤسسة “الإسرائيلية”.

يدلُّ حجم المعارضة التي لاقتها الروابط طيلة سنوات إقامتها، والمكانة التي احتلّتها الفكرة في المعجم السياسيّ الفلسطينيّ، على أن الروابط لم تكُن حركةً عابرةً وقليلة الشأن- وهناك الكثير من الأمثلة على الحركات العابرة التي قامت في المجتمع الفلسطيني على مرّ السنوات- وإنّما كانت عبارة عن جسمٍ سياسيّ لامَسَ أكثرَ النقاط حساسيّةً في الحركة الفلسطينية وسياستها. ولعلّ العبارة التي أطلقها أبو جهاد في ذروة نشاط الروابط “أخشى أن تكونَ الخيانة وجهة نظر”، ما تزالُ تتردّد حتى اليوم وتعكس جيّداً خوفَ منظمة التحرير الفلسطينية من الروابط. كما أنّ المقارنةَ ما بين السلطة الفلسطينية تحت قيادة محمود عباس (أبو مازن) وبين روابط القرى، تتكرّر كثيراً في الخطاب السياسيّ الفلسطينيّ في يومنا هذا، وتستدعي إعادة تفحّص الروابط ونشاطها والنقاش العام حولها. [3]

استناداً إلى مقابلاتٍ قُمت بعملها وإلى موادَّ مكتوبةٍ تعود إلى فترة نشاط [الروابط] وكذلك إلى السنوات الأخيرة، سأقدّم الادّعاءات التالية: أ) كان هدف الذين بادروا إلى إقامة الروابط، أو الذين دعموها، البدء بتحريك عمليةٍ –هي الأولى من نوعها- للوصول إلى اتفاق سلامٍ “إسرائيليّ”-فلسطينيٍّ يقوم على انسحابٍ “إسرائيليّ” من مناطق الضفة الغربية، وليس إلى تعميق السيطرة الإسرائيليّة على المناطق (كما تم الادّعاء من قِبلِ الكثيرين). [4] ب) كانت المواقفُ الإيجابية لرؤساء الإدارة المدنية القائمين على نشاط الروابط (وعلى رأسهم مناحيم ميلسون ويجال كرمون)، والتي دفعت نحوَ إقامة دولةٍ فلسطينيةٍ عاصمتها القدس الشرقية [5] وعارضت مشروع الاستيطان، كانت مواقف تتعارض بشدّةٍ مع موقف المؤسسة “الإسرائيلية” [الحاكمة]. ولذلك، كان تعاون وزير الدفاع “أريئيل شارون” مع الروابط تعاوناً محدوداً جداً ووظيفياً.

ج) لقد فشل كلٌ من “مناحيم ميلسون” و”يجال كرمون” في قراءة المنظومتيْن السياسيّتين اللتين عملا بداخلهما: المنظومة الاجتماعيّة-السياسيّة الفلسطينيّة، والمنظومة السياسيّة “الإسرائيلية”، كما أنّ إجراءات القوة التي استخدمتها الإدارة المدنية قد ألَبت عليها المجتمع الفلسطيني، بغض النظر عمّا يكمن وراءها من نوايا على المدى البعيد. د) نبعت معارضة التيار المركزي داخل فتح للروابط من كون الأخيرة هدّدت مكانة م. ت. ف. باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد للفلسطينيين، أكثر من كونها رفضاً لقيام الروابط بالاعتراف بـ “إسرائيل”. وهذا على العكس من الجبهة الشعبية التي عارضت الروابط لأسباب أيديولوجيّةٍ بالدرجة الأولى، وهي نفسها التي عارضت أيضاً [نزعة] الاعتدال لدى منظمة التحرير الفلسطينية بعد الحرب اللبنانية الأولى.

ب. خلفية تاريخية

القرار بعدم القرار، وسياسة عدم التدخل
بدأ الخلاف في داخل “إسرائيل” حول مستقبل “المناطق”، ومحاولات كلّ من الفلسطينيين و”الإسرائيليين” لاستكشاف الأخر، خلال حرب حزيران 1967، واستمرّت منذ ذلك الوقت بأشكالٍ مختلفة. في نهاية الحرب، كان أمام “إسرائيل” ثلاثة خيارات: الانسحاب من المناطق وإعادة السيادة الى الأردن (الخيار الأردني) أوّلاً؛ الانسحاب من المناطق وإقامة كيانٍ سياسيّ ذي علاقةٍ فيدرالية مع “إسرائيل” (لخيار الفلسطيني) ثانياً؛ وضمّ المناطق نظريّاً أو عمليّاً ثالثاً. لم يكُن القرار بشأن هذه الخيارات قراراً سهلاً، وتمّ الاتفاق في مداولات الحكومة “الإسرائيلية” (حكومة “الوحدة الوطنية” [6] بمشاركة مناحم بيغن)، في 19 حزيران 1967، على ألّا يكون هناك اتفاقٌ فيما يخصّ مستقبل الضفة الغربية. [7]

عمليّاً، اتّخذت الحكومة إجراءاتٍ كان من شأنها التقليل من استعداديّتها للانسحاب والوصول إلى اتفاق: [فمثلاً] ضمّ القدس العربية أجهض فكرة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، أو فكرة الاتفاق مع الأردن؛ وفتّت المستوطنات التي تمّ الشروع ببنائها أراضي “المناطق” بشكلٍ كامل؛ كما منع حظر النشاطات السياسيّة تبلور قيادةٍ سياسيّةٍ محليّةٍ داعمةٍ للمفاوضات. وبهدف تجنّب الانتقادات الدولية حول خطوات “إسرائيل” أحادية الجانب، وبالتحديد من جانب الولايات المتحدّة، ومن أجل إظهار نفسها وكأنّها تسعى إلى السلام، قامت الوفود التي أرسلتها الحكومة “الإسرائيلية” بالاتّصال مع شخصياتٍ فلسطينيّةٍ في “المناطق” ومع رجالات تابعة للنظام الأردني، ولكن كما حاجج “آبي راز” بشكلٍ مقنع، فإنّ هذه الاتصالات جرت بدون أيّة نيّةٍ حقيقيّةٍ للوصول الى تسويةٍ تقوم على الانسحاب من المناطق. [8]

في صيف العام 1973، نشرت قيادة المعراخ (العمل ومبام) خطّتها حول مستقبل “المناطق”، والتي كانت تستند، من بين ما كانت تستند إليه، إلى مبدأ إبقاء الوضع السياسيّ للمناطق وسكّانها كما هو عليه؛ وحثّ الصناعيّين “الإسرائيليين” على الاستثمار فيها؛ وإقامة مستعمرات “إسرائيلية” جديدة وتمكين المستعمرات القائمة؛ وتركيز وشراء أراضٍ بهدف الاستيطان؛ والاستمرار بسياسة الجسور المفتوحة؛ وإخضاع العمالة الفلسطينية في “إسرائيل” إلى الرقابة؛ وتوسيع القدس باتّجاه الشرق والشمال والجنوب. [9] لقد كان ذلك بمثابة إعلانٍ عن نيّة “إسرائيل” بالاستمرار في سيطرتها على “المناطق”، مع تطوير مستوى حياة سكّانها الفلسطينيّين من دون الالتفات الى طموحاتهم السياسية. وقد مارست “إسرائيل” تجاه السكّان الفلسطينيين سياسة إدارة الأزمة (لا حلّها)، وهي سياسةٌ بلورها “موشيه ديان” ولاقت دعماً من مستشاري الشؤون العربية في الحكم العسكري، مثل “دافيد براحي” ولاحقا “أمنون كوهين”.

كانت المبادئ المعلنة لهذه السياسة تتمثّل بالحدّ من التدخّل المباشر في الحياة اليوميّة للسكّان قدر الإمكان، ودمجهم في النظام الاقتصادي “الإسرائيلي”، والتعامل الصارم مع المتورّطين بالإرهاب. ولكن، أُجبرت “إسرائيل” لاحقاً على إعادة التفكير من جديدٍ فيما يتعلّق بمستقبل المناطق المحتلّة عام 1967، وذلك في أعقاب حرب “يوم الغفران” (1973)، والدعم المتنامي لمنظّمة التحرير الفلسطينية في الساحة الدولية والمناطق (ابتداءً من 1974)، إلى جانب مبادرة السادات للسلام (1978).

زيارة السادات: الانعطافة الكبرى
لم تقُم حرب “يوم الغفران” [حرب أكتوبر 1973] بزعزعة الثقة الذاتيّة للقيادة “الإسرائيلية” وحسب، وإنّما قامت أيضاً بتقوية مكانة م. ت. ف على الساحة السياسية وتعزيز نفوذها في “المناطق”، حيث اعتبرت قمّة الرباط 1974 بأنّ المنظمة هي بمثابة الممثل الشرعيّ الوحيد للشعب الفلسطيني، وتمّت بعدها دعوة ياسر عرفات، أمين سرّ المنظمة إلى إلقاء خطابٍ في الأمم المتحدة. أمّا في “إسرائيل”، فقد أدّت الحرب إلى ظهور حركة “غوش ايمونيم” وتقويتها، وهي حركة كانت تدعو إلى الاستيطان اليهودي في كلّ أجزاء “يهودا وشمرون”. ومع صعود حكومة “الليكود” إلى الحكم في العام 1977، تحوّلت المستوطنات في قِمم الجبال من مسألةٍ خلافيّةٍ إلى سياسةٍ حكوميّةٍ مُعلَنةٍ وصريحة. لقد صرّح رئيس الحكومة “مناحم بيغن”، وهو بذلك كان يمثّل رأي حركته، بأنّ الشعب اليهودي هو المالك القانوني لكل “آيرتس يسرائيل”، وبأنه لن يقبل بسيادةٍ أجنبيّةٍ إلى الغرب من نهر الأردن، وأنّ تحويل مناطق معيّنةٍ في الضفة الغربية إلى سيادةٍ عربيّةٍ يعدّ بمثابة “كارثة أخلاقية”. [10]

وعليه، كانت المفاوضات بين “الإسرائيليين” والفلسطينيين في تلك الفترة بلا جدوى، خاصة [إذا كانت] بين “إسرائيل” و منظّمة التحرير الفلسطينية التي لم تكُن في تلك الفترة تعترف بـ “إسرائيل”، بل كانت تعتبر بأنّ الكفاح المسلح هو الطريق الاستراتيجي وليس التكتيكيّ لتحرير فلسطين. بيْد أنّ زيارة رئيس مصر أنور السادات الى البلاد، ثمّ زيارة مناحم بيغن إلى مصر، ضمن عملية السلام برعايةٍ أمريكيّة، جعلت “إسرائيل” ملزمةً للمرّة الأولى بصياغة موقفٍ ما لحلّ المشكلة الفلسطينية وعرضه أمام المجتمع الدولي.

ضمّ موقف “إسرائيل” الذي صاغته حكومة “بيغن” في إطار مفاوضات السلام مع مصر التزاماً “إسرائيليّاً”، هو الأوّل من نوعه، بأن تأخذ “إسرائيل” بعين الاعتبار “الحقوق الشرعيّة للفلسطينيين العرب (وفي الصياغة العربية: عرب إيرتس يسرائيل القاطنين في يهودا والسامرة وقطاع غزة) وطموحاتهم المشروعة”. لهذه الأسباب، تعهّدت “إسرائيل” في إطار اتفاق “كامب ديفيد” (1978) بمنح حكمٍ ذاتيّ فلسطينيّ في مناطق “يهودا والسامرة” وقطاع غزة لفترةٍ انتقاليةٍ تصل إلى خمس سنوات، على أن يتمّ تحديد صلاحيات هذا الحكم من خلال مفاوضاتٍ تشارك فيها “إسرائيل” ومصر والأردن وممثلين عن العرب الفلسطينيين. وخلال سنوات الحكم الذاتي، يتوجّب على الأطراف التباحث في الحلّ النهائي والوصول الى اتفاق. [11]

كان من المفترض أن يكون التوقيع على الاتفاق بمثابة بدايةٍ لتغييرٍ حقيقيّ في علاقات “إسرائيل” مع الفلسطينيين، على الرغم من الفجوة الكبيرة بين رؤية حكومة “الليكود” للحكم الذاتي (والتي أعلنت بأنّها ستطلب في نهاية الفترة الانتقالية سيادةً “إسرائيلية” على المناطق)، وبين رؤية مصر (التي رأت أن الحكم الذاتي سيؤدّي إلى دولةٍ فلسطينيّةٍ مستقلّة). [12] لكنّ الشرط اللازم لتطوّر المباحثات لم يتوفّر، وهو وجود تمثيلٍ فلسطينيّ يأخذ على عاتقه إدارة الحكم الذاتي. بدورها، أعلنت منظّمة التحرير الفلسطينية، والتي كانت بطبيعة الحال محظورةً، عن رفضها للاتفاقيات؛ كما رفض رؤساء البلديات في “المناطق”، والذين كانوا في معظمهم منتمين إلى منظّمة التحرير الفلسطينية، البدء بمفاوضاتٍ باعتبارهم يمثّلون الفلسطينيّين في “المناطق”، ولم يتبلور أيّ طرفٍ آخر في المناطق لإدارة المفاوضات والمضيّ قدماً في المخطّط. أضِف الى ذلك، قام رجال منظّمة التحرير الفلسطينية باغتيال فلسطينيّين مؤيديّن لمبادرة السادات (أبرزهم كان الشيخ هاشم الخزندار، والذي ترأس وفداً غزاوياً غادر إلى القاهرة لتأييد المبادرة)، وقد بادرت منظّمة التحرير الفلسطينية الى تنفيذ سلسلةٍ من العمليّات في “إسرائيل”، والتي تمّ اعتبارها بمثابة رسالةٍ إلى الولايات المتحدة و”إسرائيل” ومساعديها بأنّه لا يجب تجاهل الفلسطينيين (أيّ منظمة التحرير الفلسطينية كممثلٍ شرعيٍّ لهم) في أيّ مباحثاتٍ حول مستقبل “المناطق”. [13]

في ذات الوقت، أوضح د. “يوسف يروغ” وهو رئيس الوفد “الإسرائيلي” لمباحثات الحكم الذاتي والذي كان أيضاً وزير الداخلية، إلى المبعوث الأمريكي الخاص لمباحثات الحكم الذاتيّ “سول لينوفيتش”، بأنّ “الحكومة [الإسرائيلية] تؤيّد الاستيطان وأنا ورئيس الحكومة نؤيد الاستيطان… ونحن نستبعد بشكلٍ كامل قيام دولةٍ فلسطينيّة، بل إنّ هذا هو الوقت الملائم للمستوطنات لتحقّق استقلاليتها وتصوّب نشاطها”. [14] ولقد بدت الفجوات غير قابلةٍ للجسر.

ج. روابط القرى: المنطق السياسي، التحليل الاجتماعي

أثناء زيارة السادات لـ “إسرائيل”، كان البروفيسور “مناحيم ميلسون” مستشاراً للشؤون العربية في الحكم العسكري. لقد تمّ استدعاؤه للخدمة في هذا المنصب في حزيران 1976، وهي السنة الأخيرة من حكم “المعراخ” الذي كان [أيّ ميلسون] مقرّباً منه أيديولوجيّاً واجتماعيّاً. لقد كان ذلك بعد وقتٍ قصيرٍ من انتخابات البلديّات في الضفة الغربية، والتي ازداد خلالها نفوذ منظّمة التحرير الفلسطينيّة. وفي نفس الوقت، طرأت تغييراتٌ داخل المراتب العليا في قيادة الجيش “الإسرائيلي” في المناطق: تمّ استبعاد العميد “أريه شاليف” من قيادة منطقة “يهودا والسامرة” (أيوش- أزور يهودا وشمرون) واستبداله بالعميد “ديفيد هوجوال”؛ وعاد المستشار للشؤون العربية “أمنون كوهين” إلى الجامعة العبريّة في القدس بعد تعيين “ميلسون” بدلاً منه. [15] ظلّت هذه التغييرات مخلصةً لتقاليد الجيش، والتي كان يتمّ بموجبها تعيين مستشارين للشؤون العربية من بين المحاضرين الجامعيّين الذين يعملون في دائرة دراسات الشرق الأوسط في الجامعة العبرية (ديفيد براحي كان المستشار الأول قبل أمنون كوهين [الثاني]؛ “موشيه معوز” و”موشيه شارون” عملوا في منصب المستشار لدى منسّق نشاطات الحكومة في المناطق). لقد كان هذا التزاوج [بين العمل الأكاديميّ والعسكريّ] أمراً طبيعيّاً بالنسبة للمحاضِرين أنفسهم: باعتبارهم شخصياتٍ عامة، وأيضاً باعتبارهم يشاركون مع حكومات “إسرائيل” (المعراخ والليكود) مبادئها الأساسية، فاعتبروا على ما يبدو أنّ تقديم معرفتهم وخبراتهم للمنظومة الحاكمة العسكرية هو حقٌ وواجب .

امتازت فترة “ميلسون” كمستشار (1976-1978) باضطراباتٍ سياسيّة؛ كما أن الجبهتين اليساريّتين (الديمقراطية والشعبية) والحزب الشيوعي في “المناطق” وسّعوا من نشاطهم الاجتماعي [الأمر الذي أدّى إلى] انتشار الاتّحادات النقابية، وقد أشرفت منظّمة التحرير الفلسطينية على تسيير مسيراتٍ حاشدة، خاصّةً في الجامعات، استنكاراً لمبادرة السادات. وعلى العكس من المظاهرات التي كانت في السنوات السابقة ضدّ الاحتلال، فإنّ رؤساء البلديات أثناء هذه السنوات لم يأخذوا على عاتقهم مهمّة التوسّط ما بين الجيش والسكّان بهدف تهدئة الشارع. ويروي “ميلسون” مستذكراً: “لا يوجد هناك رؤساء بلديةٍ تستطيع أن تتفاهم معهم… إنكّ تستطيع التكلّم معهم لكن ليس لديهم أيّة مصلحة في التهدئة”. [16] والسبب واضح: التهدئة تصبّ في مصلحة الحاكم وليس المحكوم، وبالتأكيد لم تكُن التهدئة من مصلحة منظّمة التحرير الفلسطينية، التي اعتبرها رؤساء البلديات بمثابة الممثل الشرعيّ والوحيد لكلّ الشعب الفلسطيني.

في هذه الفترة، قام مصطفى دودين، من بلدة دورا في جبل الخليل والذي عمل سابقاً وزيراً للرفاه الاجتماعيّ في الحكومة الأردنيّة، بالاتصال مع قادة الحكم العسكري. كان دودين رجل استخباراتٍ مصريّة في الماضي البعيد، وعلى ما يبدو بدأت علاقاته [مع جيش الاحتلال] أثناء سيطرة مصر على جبل الخليل في العام 1948. وكان عضواً في الحكومة الأردنية في الماضي القريب، واعتُبر أحد أبرز مُعارضي منظّمة التحرير الفلسطينية في الأردن؛ وعيّنه وزيراً للرفاه الاجتماعيّ رئيسُ الحكومة الأردني وصفي التلّ، وهو الشخص الذي أنهى الوجود العسكري الفلسطيني في الأردن (أثناء أحداث “أيلول الأسود” 1970 وصيف 1971)، ثمّ أصبح في بداية السبعينيّات رئيس “الاتحاد الوطني”، وهو تنظيمٌ أقامه الملك حسين كإطارٍ لتوحيد مؤيّديه من الفلسطينيين والأردنيين.

في العام 1975، طلب دودين العودة الى قرية دورا مسقط رأسه، بعد خلافاتٍ مع رئيس الحكومة مضر بدران، وقد سمحت له “إسرائيل” بالعودة في إطار ما يُعرف بـ “لمّ الشمل”. وبعد وقتٍ قصيرٍ من عودته، بدأ يجري اتصالاتٍ سياسيّة مع فلسطينيين و”إسرائيليين”، بيْد أن رئيس بلدية الخليل محمد الجعبري [الذي رأى فيه منافساً سياسيّاً] حاول عرقلة مساعيه خوفاً من المنافسة. [17] وبعد انتخابات عام 1976، والتي لم يترشّح فيها الجعبري، انتقلت رئاسة البلدية إلى مؤيّدي منظّمة التحرير الفلسطينية. وبعد الاضطرابات التي شهدتها المدينة بُعيد الانتخابات، التقى دودين مع “ميلسون”. كان هذا في الأشهر الأخيرة من حكم “المعراخ”، وفي الأيّام الأخيرة من تولّي “شمعون بيرس” لوزارة الدفاع وقبل المبادرة المصرية، حيث استمع “ميلسون” إلى معارضة دودين الواضحة لمنظّمة التحرير الفلسطينية. لم يكُن ذلك مفاجئاً لأنّ موقفه الرافض للمنظّمة كان معروفاً، لكنّ الجديد كان تقديم دودين مقترحاً لإقامة تنظيمٍ سياسيّ يعترف بـ “إسرائيل” على العكس من موقف المنظمة. [18] يستذكّر “ميلسون” ذلك قائلاً:

نحن ندير نقاشاً سياسيّاً ما وهو يُبدي لي تحفّظاته على منظمة التحرير الفلسطينيّة، وأنا أقول له حسناً، ولكن ما العمل؟ هل لديك أفكار؟ فيجيب ربّما نقيم حزباً، علينا أن نقيم حزباً سياسياً، حركة سياسيّة. وأنا أقول له إنّ هذا غير ممكنٍ لأنّنا لا نستطيع السماح بإقامة أحزابٍ في المنطقة التي تقع تحت سيطرة الحكم العسكري. لقد كان هذا موقف “إسرائيل” منذ 1967. أنا متأكد من هذا. لا استثناءات. لا نستطيع القيام بذلك، علينا العمل ضمن إطار القانون الأردني فقط. قدّم بعد عدّة أيامٍ طلباً آخر للقاء، ثمّ جاء وقال إنّه حسب القانون الأردني هناك شيءٌ اسمه “روابط القرى”. ما هذا؟ وإذ به يقول: إنّه إطارٌ يتّعدى حدود القرية الواحدة، ويتعدّى المجلس القروي، ليس ببلدية وإنّما تنظيم يسمح به القانون الأردني بهدف القيام بنشاطاتٍ لتطوير المنطقة، [أيّ] تطوير القرى. فقلتُ لنفسي: يا لها من فكرة! فكتبتُ مذكرةً إلى وزير الدفاع “شمعون بيرس” وإلى منسّق النشاطات في المناطق لطلب موافقتهما على إقامة روابط قرى في محافظة الخليل؛ روابط قرى محافظة الخليل. هذا كلّ شيء، وهكذا بدأ العمل. ثم بدأتْ الأسئلة بمن؟ وماذا؟ .. الجميع عارض الفكرة. ما الجديد؟ وألم يكُن هذا موجوداً في السابق؟ ولماذا سيكون نافعاً؟ ألن يتحوّل إلى نوعٍ من النشاط التخريبي؟ وبدأنا رحلةً مضنية. وفي أثناء النقاش الذي لم يتوقّف حصلت الانتخابات ثمّ الانقلاب”. [19] [يقصد فوز الليكود اليميني لأوّل مرّةٍ]

جاء مقترح دودين ليثبت افتراضات “ميلسون” القائلة إنّه يُمكن العثور على فلسطينيّين معنيّين بالوصول إلى تسويةٍ مع “إسرائيل” من بين سكّان “المناطق”، على النقيض من منظّمة التحرير الفلسطينيّة. وقد نبع تأييد “ميلسون” للروابط من معرفته بأنّ الجمود السياسيّ في “المناطق” لا يصبّ في مصلحة “إسرائيل”. في الواقع، ومنذ البداية، أيّد “ميلسون” فكرة إقامة حزبٍ سياسيّ لا يكون مقتصراً على سكّان قرى بحدّ ذاتها، بيْد أنّ القانون كان يمنع ذلك. ولكن حتّى لإطارٍ محدودٍ كهذا، كانت هناك معارضاتٌ كبيرةٌ داخل المنظومة [السياسية والعسكرية]، وحسب رأيه: “لم يوجد أحدٌ لم يعارض”. لكنّه كأكاديميّ، تمّ استدعاؤه إلى المنظومة الأمنية واكتفى بتحريك الفكرة، ثمّ عاد إلى الجامعة في العام 1978.

غير أنّ اهتمام “ميلسون” بـ[الضفة الغربيّة] وما يحصل فيها لم ينتهِ، فقد أصبح رئيس معهد الدراسات الأفريقية الآسيوية في الجامعة العبرية. وخرج في حزيران 1980 في مقابلةٍ مطوّلةٍ مع جريدة “معاريف” تحت عنوان: سياسات “موشيه ديان” تركت سكان المناطق تحت السيطرة الخطيرة لمنظّمة التحرير الفلسطينيّة. نشر “ميلسون” الخطوط العريضة لرؤيته في هذه المقابلة، والتي ظهرت لاحقاً وبشكلٍ موسّعٍ في مقالٍ نشره في مجلّد: “هل يوجد حل للمشكلة الفلسطينية؟” من إصدار معهد “فان لير”، وفي مقالٍ آخر نُشر في المجلة الأمريكية (Commentary).

عرض ميلسون قناعاته في مقالاته هذه، [قائلاً] إنّه ينبغي، بل ومن الممكن، الوصول إلى اتفاق سلامٍ مع الفلسطينيين؛ وأنّ السبب من وراء الفشل في الوصول إلى اتفاقٍ هو منظّمة التحرير الفلسطينيّة التي ترفض الاعتراف بـ “إسرائيل”؛ ومن هنا ينبع الحلّ الذي يقترحه: شنّ حربٍ شرسةٍ ضدّ منظمة التحرير الفلسطينية، ودعم قوىً فلسطينيّةٍ معيّنةٍ تكون جاهزةً للاعتراف بـ “إسرائيل”.

لم يتجاهل [ميلسون] الحقيقة القائلة إنّ معظم الجمهور في المناطق [المحتلّة] كان يعتبر منظّمة التحرير الفلسطينيّة بمثابة قيادته الشرعية، لكنّه ادّعى أنّ هذا نتج عن النظام الفاسد والإرهابي الذي قادته منظّمة التحرير الفلسطينيّة (والذي تغاضت عنه إسرائيل) وليس بسبب قناعاتٍ أيدولوجيةٍ [لدى الفلسطينيين]. كان “ميلسون” مقتنعاً أنّه وبعد هزيمة منظّمة التحرير الفلسطينيّة سيكون بالإمكان الانتقال إلى المرحلة التالية في العلاقة بين “إسرائيل” والفلسطينيّين، وهي مفاوضاتٌ بدعمٍ من الولايات المتحدة ومصر والأردن، وتسوية مناطقيّة، وإقامة كيانٍ فلسطينيّ يكون مرتبطاً بالأردن. [20]

بعد عامٍ من نشر المقالات، وعندما أقام “بيغين” حكومته الثانية، طلب وزير الدفاع “أريئيل شارون” من “ميلسون” أن يأخذ إجازةً ثانية من الجامعة ويقود قوّات الجيش في “يهودا وشمرون”. [الضفة الغربية]. [21] وقد لاقت نداءات “ميلسون” المتعلّقة بدحر منظّمة التحرير الفلسطينيّة في المناطق استحساناً لدى وزير الدفاع، والذي بدأ في حينها يخطّط لضرب قيادة المنظّمة في لبنان، مع أنّه [أيّ وزير الحرب] وحكومة “الليكود” التي يمثّلها كانوا معارضين سياسياً للجزء الثاني من الخطّة، الذي كان ينصّ على انسحابٍ “إسرائيلي” من “يهودا وشمرون”. لبّى “ميلسون” طلب “شارون”، وبعد أسابيع قليلةٍ نُصّب كأوّل رئيسٍ للإدارة المدنيّة في [الأراضي المحتلّة] برتبة عقيد. هكذا بدأت المحاولة “الإسرائيلية” الرسميّة الأولى لـ “صنع سلامٍ مع الفلسطينيين”، وهذا كان عنوان مقال “ميلسون” في “الكومنتري”. وكان من شركائه الأساسيّين في العملية كلّ من نائبه “يجال كرمون” ومصطفى دودين الذي أسّس روابط القرى.

د. الروابط: التحليل الاستشراقي- الحكومي

وعليه، كان المحرّك الأساسيّ لإقامة روابط القرى هو السعي للوصول إلى تسويةٍ مع الفلسطينيين عبر الالتفاف على منظّمة التحرير الفلسطينيّة التي رفضت الاعتراف بـ “إسرائيل”، والتي بدورها رفضت الاعتراف بالمنظّمة كممثلٍ عن الفلسطينيين. وقد استندت هذه المساعي إلى تحليلٍ اجتماعي-سياسي للمجتمع الفلسطيني في المناطق [المحتلّة]، والذي لم يكُن مجرّد أرضيّةٍ نظريّة، وإنّما تبريراً أخلاقياً أيضاً. وهو ما عمل عليه “كرمون” جنباً إلى جنب مع “ميلسون”، الذي يصف الأسباب التي دفعت الإدارة المدنيّة للتوجّه إلى القطاع القرويّ بالتالي:

السبب الأول كان سبباً كميّاً. كنّا بصدد التوجّه إلى 80% من السكّان، الذين كانوا فلّاحين قرويّين ويمرّون بعملية تحوّلٍ اجتماعيّ بسبب عملهم داخل “إسرائيل” وكان واضحاً أنّهم سيتغيّرون ويتقدّمون، ويصلون إلى وعيٍ سياسيّ ويكفّوا عن كونهم قطعاناً من الخِراف كما كان الإقطاعيّون الفلسطينيّون يتحكّمون بهم بالسابق. سيحصل كل ذلك كتحصيلٍ حاصل، وكلّ ما علينا فعله هو أن نمنح هذا التحوّل توجّهاً إيجابيّاً. وقد كان [القرويون] محليّين [في توجّههم] ومهتمّين بمصالحهم المحليّة قبل كل شيء، على النقيض من سكّان المدن الذين ترتبط مصالحهم بالعواصم العربيّة، وكانت بالفعل مرتبطةً مع منظّمة التحرير الفلسطينيّة من خلال الأموال، ويكنّون مشاعر العداء [للقرويّين]. [22]

تقوم هذه الأقوال على افتراضيْن فيما يخصّ العلاقة بين القرويين وسكّان المدن: الأوّل، افتراض وجود علاقاتٍ شبه إقطاعية، أيّ وجود هيمنةٍ إلى حدٍ ما على سكّان القرى؛ والثاني، عداوةٌ شرسة بين المعسكريْن. وبذلك تتضمّن [هذه الرؤية للتوجّه نحو القطاع الريفيّ] مسوّغاً أخلاقيّاً. وحسب هذا التحليل، فإن م. ت. ف ما هي إلّا مجموعة من الأقلية المدنيّة التي تتحكّم بأكثريّةٍ ريفيّة غير معنيّةٍ بها، وبذلك تضطلع الروابط المدعومة من “إسرائيل” بمَهّمةٍ تحريرية تجاه القرويّين. ومن شأن الروابط أن تفتح أمامهم آفاق جديدةً لوعي سياسي يحرّرهم من “الطغاة” المدينيّين. رأى “أريه شفيتسن”، مسؤول البحوث في الإدارة المدنية حينها، الأمر على النحو التالي:

“تمّ القيام بتحليلٍ [اجتماعي-سياسي] للمناطق، وتبيّن فيه بأنّ سكان القرى كانوا السكان الأكثر انصياعاً، والأكثر محافظةً، ولم يكُن لهم صلاتٌ مع منظّمة التحرير الفلسطينية، أو لم يتمسّكوا بالأفكار الوطنيّة الحديثة بشكلٍ عام، أو بالأفكار القوميّة الحديثة في تلك الفترة. أنا لا أريد التحدّث عن اليوم، ولكن أتحدّث عن فترةٍ امتدّت طويلاً. لم يكونوا جذريّين… فما هُم سوى قروييّن تقليدييّن يدينون بالولاء العشائري للعائلة والحمولة. ولاءٌ محليّ، وهكذا. أوّلاً العائلة، ثمّ الحمولة، ثمّ القرية. أنت تعرف هذا الشيء: “أنا على ابن عمي وانا وابن عمي على الغريب” [كل العالم] إلخ. تقليديون جداً. لم يكُن يعنيهم إرهاب منظّمة التحرير الفلسطينية أو الأفكار القومية المتعلّقة بالدولة الحديثة إلخ. ما الذي ظهر في الضفة الغربية في تلك الفترة؟ أنت رأيتَ أنّه ظهر نفوذ وسلطة، ليس فقط لمنظّمة التحرير الفلسطينية، وإنّما لكلّ فصائل المنظمة [مثل] فتح والجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية، على شكل لجانٍ تطوعيّة، وبشكلٍ أساسي نقابات واتحادات مهنية. لقد كان كلّ ذلك موجوداً ولكن في المدينة.. إنّهم سكان المدن. الوطنيّة انتشرت في المدينة كنابلس، رام الله… أمّا القرى كان التأثير فيها تقليدياً وأكثر هدوءاً. كذلك، دعونا نقول إنّه مع السلام الاقتصادي كان الوضع أفضل”. [23]

كان التحليل الذي قامت به الإدارة المدنية مشابهاً للرؤية الى قدّمتها القيادة القروية التقليدية، وبناءً عليه برزت روابط القرى. وعليه، من الصعب تعقّب ولادة رؤية الإدارة المدنيّة والحكومية في هذه القضية. ويبدو أحياناً أنّ الخطاب الاستشراقي- الحكومي [الصهيوني] وخطاب النخب الفلسطينية القروية التقليدية غذيا وأثّرا على بعضهما البعض بشكلٍ متبادل. يقول محمد نصر، وهو مهندسٌ من بلدة دورا وأحد قادة الروابط:

“في أيام الأردن، انتقلت القيادة من القرية إلى الشيخ الجعبري ابن مدينة الخليل. هل تعي معنى ذلك؟ أصبح الجعبري قائداً وأحد رموز الخليل. وقد رسّخت “إسرائيل” ذلك أكثر وأكثر. وفي كلّ مرةٍ كان يأتي فيها وزير [صهيوني] أو حاكم إلى المنطقة، إلى أين كان يذهب؟ إلى مدينة الخليل […] وكان يدعو محمد علي الجعبري المخاتير ورؤساء المجالس، وكتحصيلٍ حاصل رؤساء القرى في جبل الخليل. ولكن لم يحصل أبداً أن زار أحدٌ من المسؤولين “الإسرائيليّن” قريةً من هذه القرى. وبهذا، صار على كلّ من كان لديه مشكلةٌ أو مطلب أن يرفعه إلى الشيخ الجعبري”. [24]

طالما أنّ الشيخ محمد الجعبري، والذي كان يشغل منصب رئيس بلدية الخليل، لم يتخطَ الخطوط الحمراء [والتي وضعها الحكم العسكريّ “الإسرائيلي” ولم تكُن دائماً واضحة]، فإنّ هذا النظام كان مريحاً للشيخ وللحكم العسكريّ أيضاً، حتّى لو تضررت منه القرى. لم يترشّح الجعبري في انتخابات عام 1976، وتسلّم منصب رئيس البلدية بدلاً عنه فهد القواسمي، والذي اعتُبر مؤيدٌ بارزٌ لمنظّمة التحرير الفلسطينيّة. في نظر الحكم العسكري – و”مناحيم ميلسون” الذي كان مستشاراً للحكم العسكري- كانت هذه إحدى الإشارات الواضحة للتغيّر المتنامي في توجّهات المناطق، وبأنّ ثمّة حاجةً لأخذ المبادرة.

لقد شخّصوا التحوّلات في “المناطق” منذ قمّة الرباط 1974، وانتخابات عام 1976، وتابعوا تدفّق الأموال إليها بواسطة منظّمة التحرير الفلسطينية، وفهموا بأنّه في هذه الحالة سيتمّ ولادة نظامٍ جديدٍ من الولاءات. وكانوا أيضاً على درايةٍ بنموّ الهويّة الوطنيّة للشباب في القرى والمخيمات، والذين بدأوا يتعلّمون في الكليات والجامعات. بيد أنّه في نهاية سنوات السبعينيّات، اعتبر “ميلسون” و”كرمون” بأنّ الصراع على [قيادة] التوجّهات السياسية لسكّان المناطق [المحتلّة] لم يكُن قد حُسم بعد، وأنّه ما تزال ثمّة إمكانية بتوجيه وعي السكّان من خلال وسائل اجتماعيّة-اقتصاديّة وسياسيّة. وقد كان ذلك عدولاً واضحاً عن سياسات عدم التدخّل التي قادها “موشيه ديان”، والتي أصبحت غير ملائمةٍ للواقع الجديد.

كان “ميلسون” ورجاله يفضّلون إقامة حزبٍ سياسيّ عابرٍ للمحليّات، وليس [مجرّد] روابط قروية، ولكن عندما رأوا أنّ هذا هو الحل الوحيد الذي يسمح به القانون، قاموا بخلق مسوّغاتٍ سوسيولوجية له. [25] وبناءً على ما قاله “ميلسون”:” يوجد هنا تناقض مصالح [قرية-مدينة] ونحن لم نخلق هذا التناقض، بل إنّه موجودٌ منذ أجيال؛ كما أنّ عملية التغيير ستجري من خلالنا أو بدوننا، علينا فقد أن نوجّهها. اذا لم نقُم بذلك، فإنّ غيرنا سيتوكّل بالأمر، والتغيير الجريء هو أن نحثّ سكّان المناطق [المحتلّة] على الاعتراف بـ “إسرائيل” وإجراء مفاوضاتٍ معها، وذلك من خلال استبعاد منظمة التحرير الفلسطينية وأيديولوجيتها”. [26]

د. تفكيك قيادة وخلق قيادة

كان “عازار فايتسمان” وزيراً للدفاع في حكومة “الليكود” الأولى بعد الانقلاب، [المقصود صعود الليكود إلى سدّة الحكم] وصادق على إقامة روابط القرى وتوسيعها. تلا ذلك إقامة الفرع الأول لها في جبل الخليل من خلال دودين، في صيف العام 1978. وقد نشر دودين هدف الروابط في صحيفة القدس اليومية على النحو التالي: “حلّ المشاكل الداخلية للقرى بأفضل الطرق، ودعم مشاريع تعاونيّة ومؤسّسات خيريّة تعمل لصالح سكان القرى”. وفي جريدة الفجر الأسبوعية باللغة الإنجليزية، أعلن دودين أنه لا ينوي التدخّل في السياسة الوطنية وإنّما ينحصر اهتمامه بـ “تطوير القرى في جبل الخليل والتي عانت لسنواتٍ طويلةٍ من إهمال السياسيّين في المدن”. [27]

ويُمكننا أن نستبين من هذا الإعلان الرؤيةَ المشتركة لدودين ولرجال الحكم العسكري المتمثلّة بالرغبة في تعزيز الهوية القروية التقليدية أمام الهويّة المدينيّة الوطنية. لم يكشف الإعلان عن كامل طموحات الروابط، بل اكتفى بصياغةٍ عامّةٍ مستندةٍ إلى التصريح القانوني المُعطى للروابط. وفي نفس اللحظة وضعه وجهاً لوجه أمام القيادة الوطنية-المدينية من دون أن يتجاوز المحرّمات السياسية [الصهيونية]. خلال السنوات الثلاثة التي امتدّت من إقامة الروابط وحتّى عودة “ميلسون” إلى المناطق، انشغل دودين ورجالُ الحكم العسكري بتوسيعِ [قاعدة] التأييد للروابط. وفي إحدى المقابلات، يروي “كرمون” استشراف نشاط الروابط بالقول:

“في المناطق، سوف نحتلُّ دونماً تلو الآخر بالمفهومِ الاجتماعي، بمساعدة الحمائل والمساعدات الاقتصادية، ومن خلالِ خطّةٍ سياسيّةٍ تجذب كلّ المشاركين فيها؛ الأردن، والولايات المتحدة، كلُّهم سوف يصلون إلى قناعةٍ بأنّ هذا المخطط أفضل للجميع. ستزداد الثقة بين الأطراف واللقاءات، ومن ثمّ المنفعة، ورويداً رويداً سيصلون إلى هذه النتيجة. كانت هذه عملية علينا أن نبنيها. [28]

وهكذا، وقفت الخطةُ على قدميها: مساعداتٌ اقتصادية، وخطةٌ سياسية، وشعورٌ عميقٌ بمعرفة الأمر المناسب لكلّ الأطراف؛ “إسرائيل”، والولايات المتحدة، والأردن (التي أنيط لها دورٌ هامٌ في هذه العملية) والفلسطينيون بطبيعة الحال. ومّما ساهم في جعل هذا التفكير يبدو ممكناً هو نجاح الحكم العسكري داخل “إسرائيل” (1948-1966) في جلب قيادةٍ سياسيّةٍ “مواليةٍ للدولة” من خلال حزبٍ تابعٍ يدور في فلك حزب “مباي”. [29] بيْد أنّ نموَّ قيادةٍ جديدةٍ في الضفةِ الغربية استوجب أوّلاً: تفتيت القيادة المناصرة لمنظّمة التحريرِ الفلسطينيّة والتي سبق أن نمت في “المناطق”، وكان أبرز ممثليها رؤساء بلدياتٍ منتخبون، ولجنة التوجيه الوطنيّ التي أقاموها. وثانياً، تفكيك المنظومة الاقتصادية والسياسية التي أسّسوها بواسطة عشراتِ ملايين الدولارات المتدفّقة إليهم من قبل اللجنة الأردنية الفلسطينية المشتركة، والتي أشرفت بموجبها على أموال الصمود.

لم يكُن هذا الأمر متاحاً في فترة “عازار فايتسمان” لأنه فضّل المحافظة على الهدوء، حتى لو على حساب التغاضي عن النشاطات المدنيّة لمنظّمة التحرير الفلسطينيّة هناك، وثمّة من يدّعي أنه تعمّد فعل ذلك بهدف فتح قنوات اتصال مع عرفات. [30] بدوره، دعا “يجال كرمون” إلى حربٍ ضروس ضدّ رجالات منظّمة التحرير الفلسطينيّة في المناطق، ووجّه انتقاداتٍ لاذعة حول كيفية إدارة الأمور فيها. وفيما يلي عيّنة من أقواله:

“في إحدى المرّات قالوا لليسوع [وهو لقب يهوشع بن شاحل، الحاكم العسكري للخليل]: عليكَ أن توبّخَ القواسمي على بعض أفعاله. وحتّى يكون التوبيخ لافتاً، أرسِل في طلبي من القيادة. حسناً، عندما وصلتُ إلى هناك، كان القواسمي معَه بداخلِ الغرفة، يتضاحكون كالأصدقاء. فقلتُ له، “يا يسوع، يفترضُ أن يكون هذا توبيخ!”. [فقال الحاكم] “نعم نعم”. وأخذ البرقية ليقرأ منها وكأنّه يقول نكتة: “تلقيتُ أمراً بتوبيخك، وقد أحضرنا أيضاً “كرمون” حتى تشعرَ أنّك مهدّد”. ولم يتوقفوا عن الضحك من هذا الموقف. فقلتُ: حسناً، فليكُن. لا أحد يعرف ما الذي حصل في داخل الغرفة، ونحن سوف نعلن بأننا قمنا بتوبيخه، وهذا لبُّ الموضوع. وبينما نحن واقفون نهمّ بالخروج، انتهى من القيام بهذا الشيء السخيف. وقبل ذلك، قام الحاكم بتسليمه تراخيص. فقلت له، “يسوع، هذا توبيخ، ما الذي أعطيته له”. فقال لي: “هذا توبيخ، ما علاقة هذه بتلك”. [31]

وبحسب “كرمون”، نبعت الإشكالية من عدم معرفة الضبّاط الذين أُرسلوا لقيادة المناطق بالمجتمع الفلسطيني، وامتناعهم عن استغلال روافع معيّنةٍ تتيحها لهم المنظومة [العسكرية]، أهمّها حاجة السكّان [الفلسطينيين] الماسّة في الحصول على تراخيص لتسيير حياتهم اليوميّة، ورغبة القادة المحليّين في أن يكونوا وسطاء بين الجمهور وبين المؤسسة “الإسرائيلية” للحصول على هذه التراخيص. [32] وكانت المشكلة الأكثر خطورة، حسب رأيه، تتمثّل في غياب قيادةٍ سياسيّةٍ تأخذ على عاتقها الصِدام مع رجال منظّمة التحرير الفلسطينية في المناطق وتحييد [تأثيرهم].

تغيّر هذا الواقع في شهر آب عام 1981 مع تأسيس حكومة “بيغن” الثانية، والتي عمل فيها “أريئيل شارون” كوزيرٍ للدفاع. كما هو معلوم، إلى جانب جهوده الجريئة في تعزيزِ الاستيطان اليهودي في “يهودا والسامرة”، قرّر “شارون” تدمير الحركة الوطنية الفلسطينية، واختار “ميلسون” لتنفيذ هذه المهمة. كان “شارون” و”ميلسون” ينتميان إلى معسكراتٍ سياسيّةٍ مختلفة، وكانت رؤاهم متباينةً أيضاً فيما يخصّ مستقبل الضفة الغربية والقطاع، لكنّ كليهما اتّفق على وجوب تفتيت عناصر قوة منظمة التحريرِالفلسطينية في المناطق [المحتلّة]. وبالفعل، بدأ “ميلسون” في اتخاذ إجراءاتٍ وضعت رؤساءَ البلديات أمام اختيارٍ صعب: إمّا التعاون مع الإدارة المدنية، أو أن يتمّ استبعادهم من مناصبهم. ويقول “ميلسون” في هذا الصدد:

” أنا الآن أحاربُ عدم التعاون، لأنّه بدون تعاونٍ لا يُمكن العمل… نجح هذا مع الموظّفين، ومع وجهاء المجتمع، ورؤساء البلديات. نجح مع جزءٍ منهم، لكن لم ينجح الأمر مع أولئك الذين يتلقون توجيهاتٍ من منظّمة التحريرِ الفلسطينية. إنّهم يقاطعون الإدارةَ المدنية… في كلِّ الحالات، ولأنّ رؤساءَ البلديات لا يتعاونون، قررتُ في نهاية المطاف إقالتَهم. لقد دعوتهم، وهناك من جاء ووافق على التعاون، مثل [رئيس بلدية بيت لحم إلياس فريج]، إذ قرّر أن يتفهمَ التوضيحات التي قدمتُها له. هو لا يتعاون بشكلٍ طوعيّ وإنما هو مستمرٌ في التعاون كرئيسِ بلدية في نظامِ احتلالٍ تحتَ الحكم العسكري. لقد وافق على الرأي القائل إنّ تغييرَ العنوان [إقامة إدارة مدنية بدل الحكم العسكري] شأنٌ “إسرائيليّ”. في الواقع، كان هذا الرأيُ صحيحاً، وعنى ذلك أنّه موافقٌ على قبول هذه التوضيحات.

إلا أنّ رئيسَ بلدية نابلس [بسام الشكعة] لم يُبدِ أيّ استعدادٍ لقبول هذه التوضيحات ولا حتّى لحضور اللقاء، بالتالي فهو مُقال. من جانبٍ آخر، بعض رؤساء البلديات حاول اللعب على الحبلين؛ هؤلاء حضروا إلى مكتبي، وجلسوا وتحرّكوا على الكرسي من جانبٍ إلى آخر، لكن عندما سألتهم فيما إذا كانوا مستعدّين للعودة والعمل بشكلٍ سليم مع الإدارة المدنية ظلّوا صامتين مثل رئيس بلدية دورا الذي فهم أنّه إذا قال نعم فإنّ منظمةَ التحرير الفلسطينية ستلاحقُه، وإذا قال لا فإنه سيفقد منصبه. لكن في النهاية وبعد أن سألته عدّة مرّات، أخبرته أنّ ليس بإمكانه أن يُبقيني هكذا بدون جواب. السؤال بسيط، وهو يرفض. وعليه، فهو مُقال، ويأتي شخصٌ آخر بدلاً منه”. [33]

وبهذا، دخلت الإدارة المدنية والقيادة المؤيّدة لمنظمة التحرير الفلسطينية في مواجهةٍ مباشرة. في 11 آذار 1982، تمّ الإعلان عن لجنة التوجيه الوطنية كلجنةٍ خارجةٍ عن القانون، وهي لجنةٌ أقامها رؤساء البلديّات بهدف التصدّي لاتفاقيات “كامب ديفيد” وممارسة نشاطاتٍ شعبيّةٍ ضدّ روابط القرى. وفي 18 آذار، تمّت إقالة إبراهيم الطويل رئيس بلدية البيرة، والذي رفض مقابلة “ميلسون”. وفي 25 آذار تمّت إقالة رئيس بلدية نابلس بسام الشكعة، ورئيس بلدية رام الله كريم خلف، وبعد أشهرٍ من ذلك تمّت إقالة رؤساء بلديات دورا وجنين وقلقيلية ودير دبوان وعنبتا. [34] وبطبيعة الحال، لم تضرّ هذه الإقالات بالسمعة الوطنية لهؤلاء الأشخاص ولكنّها حيّدت قدراتهم على العمل على المستوى الجماهيري العلنيّ، وقدرتهم على توجيه أموال البلديات، ومواقعهم كوجهاء قادرين على تلبية احتياجات جماهيرهم.

سلاح الإقالة لم يكُن الوحيد بيد السلطات [العسكريّة]، إذ كانت لديها القدرات العسكرية أيضاً، ولكنّ التنظيمات الفلسطينية لم تتوانَ بدورها عن استخدام السلاح الذي بحوزتها. وحتّى قبل موجة الإقالات، وفي ذات الشهر الذي أقيمت فيه الإدارة المدنية وتمّ تعيين “ميلسون” على رأسها، استقبلته الجبهة الشعبية بالتعرّض لحياة رئيس الروابط القروية في منطقة رام الله، يوسف الخطيب، والذي تمّ إطلاق النار عليه في 17 تشرين الثاني 1981 عندما كان يسافر بالسيارة بصحبة ابنه كاظم، من قرية بلعين في رام الله، حيث قُتل الاثنان. بعد ذلك بثلاثة أيام، أعلنت إذاعة منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت أنّ كل رجالات الروابط سوف يدفعون ثمن خيانتهم، وأنّه “لن يتأسف أيّ شخصٍ على اغتيالهم على يد قوّات الثورة”. [35]

أدّى تفكيك لجنة التوجيه الوطني وإقالة رؤساء البلديات إلى تفاقم موجة المظاهرات التي رافقتها عملياتٌ مسلّحة ضدّ رجال الروابط. وفي آذار- نيسان 1982، قُتل في الضفة الغربية ستة فلسطينيين و”إسرائيلييْن” اثنين خلال مظاهراتٍ عارمة وأحداث إطلاق نار، وفي نفس الوقت تم توجيه ضرباتٍ لرؤساء الروابط. [36]

وقد نشرت صحيفة “جيروسلم بوست” (Jerusalem Post) أنّه تمّ إطلاق النار على منزل فخري الريس، أحد رجال الروابط في رام الله، في منتصف آذار 1982. وفي نهاية الشهر، تمّ زرع عبوةٍ ناسفةٍ في سيارة كمال فطافطة، رئيس الروابط في ترقوميا، وأُصيب بجراحٍ متوسّطة. [37] أمّا عبد الرحيم سلامة، من قيادات الروابط في منطقة طولكرم، فقد عُثر على جثته في آب 1982 بجانب مبنى الإدارة المدنية، وظهرت شبهاتٌ أنّه قُتل بسبب نشاطه السياسي. وفي نفس الشهر وفي نفس المدينة، تمّ إطلاق النار على محمد العمار وقتله، [38] وهو نشيط آخر في الروابط.

أمّا في دورا، تأسّست خلية يرأسها مروان عمرو، والتي جمعت مواد متفجرة من معسكرٍ [لجيش الاحتلال] قريبٍ من البلدة وجهّزت عبوة كانت تنوي زرعها في سيارة رئيس بلدية دورا المتماهي مع الروابط، والذي جاء كبديلٍ لرئيس البلدية المنتَخب الذي تمّت إقالته. وتمّ الكشف عن الخلية قبل أن تنجح في مَهّمتها. [39] وفي عدّة قرى، تمّ إلقاء زجاجات حارقة أو إطلاق النيران على منازل أعضاء الروابط، وأصبح تهديد [حياة] أعضاء الروابط أمراً روتينياً. [40]

لقد كانت هذه هي المواجهة الشاملة والأكثر استمراريّةً بين سكان المناطق والمؤسسة “الإسرائيلية” منذ العام 1967، والأولى التي يعمل فيها طرفا [الصراع] وفق رؤيةٍ استراتيجيّةٍ واضحةٍ تقوم على بلورة أهدافٍ مستقبليّةٍ واضحة، وذلك على عكس مظاهرات السبعينيّات الي انتهجت فيها “إسرائيل” سياسة “تهدئة الوضع”. أراد مؤيّدو منظّمة التحرير الفلسطينية إزالة أيّة قيادةٍ بديلةٍ من طريقهم، ونشر تأييد المنظّمة بين سكان المناطق [المحتلّة]، أمّا “ميلسون” ورجاله فقد أرادوا بناء مؤسّساتٍ سياسيّةٍ مناهضةٍ لمنظّمة التحرير الفلسطينية.

إذن، كانت الإقالات والتعرّض للقيادة القائمة شرطاً ضرورياً، لكن غير كافٍ في المضيّ قدماً في الخطة، أمّا المركّب الثاني منها فكان توسيع الروابط وتقويتها. وقد كان “كرمون” متفائلاً:

“إيماننا بإمكانية إحداث عملية تغييرٍ كان يتعزّز يوماً بعد يوم. كيف ذلك؟ بدأنا مع روابط في الخليل. استمرّت عمليات القتل والتهديد، ومع ذلك تطوّرت الروابط، وكان المحرّك الأساسي للتطوّر هو الدعم “الإسرائيلي”. وصَفت الموسوعة الفلسطينية، التي كانت تصدر من دمشق وتلقى رواجاً كبيراً، أسلوب العمل “الإسرائيلي” بأسلوب العصا والجزرة: لقد عرض الحكم العسكري مغرياتٍ متنوّعة على المستوى الشخصي، مثل منح تراخيص لمّ شمل والمساعدة في تسويق المنتجات الزراعية وتوفير بذورٍ للزراعة بأسعارٍ معقولة. وأيضاً على المستوى الجماهيري، من مثل تمديد خطوط المياه والكهرباء وتعبيد الطرق في حال انضمّ [المستفيدون من الطرق] إلى الروابط. ولم تحصل القرى التي لم يكُن لديها ممثلٌ في الروابط على هذه الامتيازات. [41]

وقد أكد “ميخائيل أرون”، الناطق باسم الإدارة المدنية في تلك الأيام وسفير “إسرائيل” لدى الولايات المتحدة في (2009-2013)، على أنّ السياسات اقتصرت على الجزر دون عِصي. [42] كان لعملية الحصول على التراخيص ومنحها للسكّان في كل مكان دورٌ وظيفيّ، وسُحبت من رؤساء البلديات المحسوبين على منظمة التحرير الفلسطينية ونُقلت إلى الروابط التي اعترفت بـ “إسرائيل” والإدارة المدنية. وقد أشار “يجال كرمون” إلى أنّ هذه ممارسة مقبولة، مذكّراً في إحدى مقابلاته بأنّ الحركة الصهيونية عملت على هذا النحو داخلياً أيضاً:

“كيف يقوم طرف ما ببناء شرعيّته؟ أبداً لن أنسى هذه الأمور. من لم يكُن لديه بطاقة عضوية حمراء، لن يكون عضواً في صناديق المرضى. لقد تُوفّي أشخاص من قلّة العناية الطبية… هكذا سارت الأمور في الحركة الصهيونية. لقد عرف الناس كيف ينضمون إلى مسارٍ معيّن لأنهم أرادوا أن يعيشوا. وكان عملنا نحو إقامة الدولة هو ما يصبغ سياستنا هذه بالصبغة الأخلاقيّة المحترمة. عندما يكون هذا هو الهدف… “بن غوريون” أقام الدولة، أمّا مسألة ما إذا كان ديكتاتوراً، فهذه على هامش التاريخ”. [43]

لكن عرف الفلسطينيون، الذين كانوا على اطّلاعٍ بتجارب الحركات المناهضة للاستعمار في أرجاء العالم من الجزائر وحتّى فيتنام، جيداً أنّ هذه الممارسات الكولونيالية التي يتمّ من خلالها إنتاج آلياتٍ للتعاون ما بين النظام والمحتلّين، وفهموا جيداً أن الروابط لا تهدف إلى تطوير القرى في الجوانب المعيشيّة، وإنّما تهدف أوّلاً، وقبل كلّ شيء، إلى ضرب الحركة الوطنية، وبناءً على هذا الوعي كثّفوا صراعهم [ضدّها وضدّ المنخرطين فيها].

تقدّم الذاكرة الجمعية الوطنية الفلسطينية كلّ من حارب الروابط باعتباره بطلاً. مثلاً، هناك قصة بعنوان “حكاية بطل شعبي” وتحته عنوان فرعي “كلّنا عوض أبو زيد” تمّ نشرها في جريدة الأيام الفلسطينية في ذكرى رحيل عوض أبو زيد من قرية دير قديس غربيّ رام الله، والذي تُوفّي عام 2004 بعمر 92 عاماً. حيث كتب أحد سكان القرية عن حادثةٍ حصلت في نهاية العام 1981، عندما أقامت الإدارة المدنية فعاليةً كبيرةً بحضور “مناحيم ميلسون” و”بنيامين (فؤاد) بن اليعازر” الذي كان في حينها قائد الجيش في منطقة “يهودا وشمرون” بهدف تلميع صورة الروابط في قرى غرب رام الله. في تلك الفعالية، عرض “الإسرائيليون” على سكان القرية والقرى المجاورة خطة تطويرٍ موسّعة، والتي أعدّوها تحت إشراف رجال الروابط، وبلغت الميزانية الأولى للمشروع مليون ونصف ليرة. كتب هذا الشخص في الأيام:

بين الحضور كان يجلس المرحوم عوض أبو زيد، والذي قام وطلب الإذن بالحديث. لقد كان على مشارف السبعين من عمره، طويل القامة، يرتدي ملابس مهندمة كالعادة. اعتقد منظّمو الفعالية بأنّه سيقول كلاماً مؤيّداً للمخطّط. سؤاله الأول كان: إذا كانت الإدارة “الإسرائيلية” معنيّةً إلى هذا الحدّ بتطوير القرى، لماذا إذن لا تسمح بإحضار الميزانية التي تصل إلى 48 ألف دينارٍ أردنيّ من عمّان، والتي خصّصتها اللجنة الأردنية الفلسطينية [للقرى]. وبعد ذلك تطرّق إلى رؤساء الإدارة المدنية الذين كانت تريد الإدارة المدنية تنصيبهم كقيادةٍ بديلةٍ وأرادوا تسويقهم من خلال هذه الفعالية. وتوجّه إلى “الإسرائيليين” فقال: هل تريدون أن تنصّبوا علينا فلاناً بعد أن أسقطتم عنه قضية التلاعب بأموال قريتنا في المحكمة؟ أو فلاناً الذي باع الأراضي أكثر من مرة؟ أو علّاناً المعروف ببذاءته؟ وقد توجّه إلى أحدهم وقال: “ميّاتك على النار ولا تستحي بما تفعله؟” وعندما أنهى كلامه ثار المشاركون، وبهذا جاءت نتائج الفعالية معاكسةً لما توقّع منظّموها. تمّ اعتقال أبو زيد على الفور. وفي اليوم التالي خرجت الصحافة الفلسطينية بعناوين: كلّنا عوض أبو زيد. وهكذا أشعل أبو زيد شرارة الحرب ضدّ الروابط في قرى غرب رام الله، واستمال قلوب المتردّدين والمتفرجين. [44]

أمّا مؤيّدو منظّمة التحرير الفلسطينيّة، فقد تصدّوا إلى محاولات إبعادهم عن القيادة من خلال الضغط على جماعاتهم للتنازل عن الامتيازات التي يحصلون عليها من العلاقة مع الروابط، وذلك من خلال الكشف عن تفاصيل مخزيّةٍ تتعلّق برجال الروابط ووصفهم بالانتهازيّين.

التعامل على هذا النحو لم يكُن سهلاً، وفي عدّة مواقع، وبالتحديد في جبل الخليل، حظيت الروابط بدعمٍ واسع، وقد حضر حوالي ألفي شخصٍ في مؤتمرٍ أقيم في الخليل في تشرين الأول 1982. ويذكر أعضاء الجبهة الشعبية تلك المساعي التي بادرت لها الإدارة المدنية أثناء الافراج عن [بعض] الأسرى في محاولةٍ لدعم رجال الروابط، وبهدف تقديمهم باعتبارهم جهةً وطنيةً ناجحةً في مساعدتها لجموع السكّان.

كان [الشهيد] إبراهيم الراعي، أحد قادة الجبهة الشعبيّة في قلقيلية، هو من أخذ على عاتقه مهمّة التصدّي لهذه المساعي. اعتقله جهاز المخابرات العامة “الإسرائيلي” بتهمة التورّط في قتل “إسرائيلي” في جنين عام 1978. ووفقاً للجبهة الشعبية، فإنّه لم يعترف في التحقيق، وبالتالي حُكم عليه لمدّة خمس سنواتٍ فقط، بدلاً من الحكم المؤبد. وفي السجن، كان الراعي شخصيةً بارزةً بسبب قدراته الاجتماعية والثقافية، فقد أدار جلسات الأسرى وأعطى محاضرات ونظّم فعالياتٍ سياسيّة. ومع قيام الروابط، كان الراعي من قادة الحركة الأسيرة في سجن نابلس. ويقصّون حكايته في الجبهة الشعبية كالتالي:

“في بداية سنوات الثمانينّات، وعندما حاول الاحتلال في خطوةٍ بائسةٍ تلميع صورة الروابط، تمّ اتخاذ قرارٍ بالإفراج عن عشرات الأسرى من بينهم إبراهيم، الذي لم ينهِ فترة اعتقاله، [كهديّةٍ للروابط]. وفي مهرجانٍ أقيم على شرف الإفراج، وبمشاركة رجال الروابط، وإلى جانبهم رجال الإدارة المدنية “الإسرائيلية” بالإضافة الى متعاونين وأشخاص دنيئين، لم يستطِع إبراهيم استيعاب الأمر ولم يوافق على إطلاق سراحه لقاء تعزيز مكانة الروابط وتلميع صورتها. فقام وأعلن بكلّ شجاعةٍ أمام الجميع وباسم الأسرى، أنّ هؤلاء الأشخاص [المتعاونين ورجال الروابط] لا يمثّلون إلا أنفسهم، وأنّ منظّمة التحرير الفلسطينيّة هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. لم يبقَ أمام سلطات الاحتلال إلا أن تعيده إلى السجن، وعاد مرفوع الرأس لاستكمال فترة حكمه”. [45]

لا توجد هناك وسيلةٌ للتأكّد من دقّة الوصف الذي تقدمه “الجبهة”، ولكن في تشرين الأوّل 1982، نشرت جريدة المِرآة، التي كانت لسان حال الروابط، خبراً حول مؤتمرٍ عقدته الروابط بمشاركة ضبّاط الإدارة المدنيّة، تخلّله منح تراخيص لمّ الشمل واحتفالٌ بالإفراج عن 14 أسيراً، [46] لكن من دون الإشارة إلى أيّة احتجاجاتٍ من أوساط وطنية. ما يهمّنا هنا هو التحليل المتعلّق بها، والذي يميّز ما بين الموالين للوطن وبين الروابط.

حادثة أخرى وقعت في حزيران 1982، تمّ قتل المعلم داوود العطاونة العضو في الحزب الشيوعي من بلدة بيت كاحل غرب الخليل. وحسب أقوال الحزب، اغتيل العطاونة على أيدي رجال الروابط الذين جاؤوا لربط القرية بشبكة الكهرباء “الإسرائيلية”. [وبحسب مقالٍ نشره حزب الشعب في عام 2011 في ذكرى استشهاد العطاونة]، جاء رجال الروابط إلى القرية مسلّحين على متن سيارتي جيب برفقة جنودٍ من حرس الحدود. لا يذكر المقال أسباب الاحتكاك، لكنّه يورد أنّ رجال الروابط بدأوا بإطلاق النيران في جميع الاتجاهات وأصابوا عدّة أشخاصٍ من القرية. أمّا داوود، الذي كان يسعف أحد المصابين، فقد تمّ إطلاق النار عليه وقتله. يقدّم المقال عطاونة على أنّه دفع حياته ثمناً للتصدّي لتحوّل القرية إلى معقلٍ لرجال الروابط. [47]

تدلّ هذه الأمثلة على أنّ الحركة الوطنية بقيادة منظّمة التحرير الفلسطينية لم تكُن هامشيّةً في قرى الضفة الغربية، وكان مناصروها جزءاً أساسياً من نسيجها الاجتماعي. وهناك عنصرٌ إضافيّ في القصّة الأخيرة كان له تبعاته التصعيديّة على مستوى العلاقات بين الروابط والأهالي، وهو: تسليح وتدريب رجال الروابط من قبل حرس الحدود.

في كانون الأوّل 1981، وبعد أسبوعين من قتل يوسف الخطيب، تمّ الإعلان عن حصول رجال الروابط على تصاريح بحمل السلاح ومعدّات الاتصال. [48] لم يُعجب الإعلان رجال الروابط؛ أولاً، لقد فُهم الأمر وكأنّهم يشعرون بالتهديد داخل قراهم، بمعنى أنّ مكانتهم الاجتماعية والسياسية ليست متينة. وثانياً، تمّ توضيح أنّهم [بحماية] سلطات الاحتلال، [التي] تدافع عنهم بكلّ ما يحمله الأمر من معنى.

بدورها، بدأت منظمة التحرير الفلسطينية بتصعيد الضغط على أعضاء الروابط، وأعلن الأردن في آذار 1982 أنّه سيتمّ اعتبار كلّ من ينضم إلى روابط القرى خائناً بناءً على القانون الأردني، [49] ما شكّل ضربةً موجعةً بالنظر إلى أمل أعضاء الروابط ومؤيّديهم “الإسرائيليّين” بانضمام الأردن إلى المبادرة، واستقال عددٌ من رجال الروابط على إثر التهديد الأردني، بيْد أنّ المسلسل لم ينتهِ هنا. يقول “ميلسون”:

“ما الذي حصل في المناطق؟ لنفترض، أنا أقولك لك، اسمع، جئنا وفي وسط كلّ هذه الأجواء المتوترة لنجتمع هنا، لنقل في قباطيا، بهدف حفر بئرٍ أو طريق. كان هناك رئيس مجلسٍ [محليّ] وأراد أن يتعاون بشدّة. لقد كان الأمر محرجاً. كان هناك أيضاً مدير مدرسةٍ لديه فرقة موسيقية. متى توجد فرصة لتعزف الفرقة؟ عندما أصل أنا. إنّها مناسبةٌ احتفاليّة بالنسبة للفرقة لكي تعزف. وعليه، في كلّ مرة كنت أحضر فيها، كانت الفرقة تعزف.. أتذكّر حادثةً محدّدة، المصوّر “دايفيد روبينجر” الذي كان مصوّراً للـ “تايم”، كنت أعرفه وجمعتنا معاً علاقةٌ ودّيّة. فقلت له اسمع، أتريد أن ترى شيئاً لا يمكنك قراءته في الصحف؟ تعال وانظر ماذا يحصل في الواقع المعاش. غداً، سأذهب حيث يوجد تشييدٌ لبئرٍ في مكان معين، ثمّ تشييدٌ لمدرسةٍ في مكانٍ آخر. أتى، وكان ببساطةٍ مصدوماً. فقد شاهد التصفيق الحار من قبل الأهالي وكأنّ الوضع عاديّ، وانهمك في تصوير تلك اللحظات الفرِحة بجوانبها المتعدّدة. [50]

الى جانب الاحتفالات التي تمّ تصويرها، والحياة التي تبدو للوهلة الأولى وكأنّها اعتيادية، وإلى جانب مضايقات منظّمة التحرير الفلسطينية لرجال الروابط، قامت حكومة “بيغن” الثانية برفع وتيرة الاستيطان اليهوديّ في المناطق. وبنظر العديدين من الرافضين للاستيطان، كان الأمر يدلّ على أن “ميلسون”، والإدارة المدنية التي يقف على رأسها، يساهمون في تهويد المناطق. [51] والأهمّ من ذلك، بدأت “إسرائيل” في حزيران 1982 بضرب منظّمة التحرير والفلسطينيّين في لبنان، وفي أثناء ذلك صرّح وزير الدفاع “أريئيل شارون” بأنه يستعدّ لدفع خطة الحكم الذاتي في المناطق إلى الأمام. [52]

وبالفعل، في 18 آب 1982، ظهر العنوان التالي في صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية: “الروابط القروية يأملون أن يتمّ تعزيز نفوذهم في أعقاب هزيمة منظمة التحرير الفلسطينية”. وأشار الكاتب “أرثور وولش” إلى أنّ رؤساء الروابط القروية يرونَ أنفسهم كممثلين لكلّ سكّان القرى، أيّ ما يقارب من 70% من سكان الضفة، ونقلت مصادر “إسرائيلية” له بأنّ ربع القرى البالغ عددها 474 قريةً في الضفة، أصبحت تابعةً إلى واحدةٍ من أصل سبع روابط مناطقية. لدى الروابط إمكانيّة توسّعٍ هائلة.

ولأنّ التحليل “الإسرائيلي” استند إلى الفكرة القائلة إنّ قوّة منظّمة التحرير الفلسطينية في المناطق لا تنبع بالأساس من وعيٍ وطنيّ، وإنّما من العمليات الفدائية المتواصلة التي قادتها المنظّمة، اعتقد البعض بأنّ هزيمة المنظّمة عسكرياً سيؤدّي إلى تراجع قدرتها على التأثير على ما يحدث في المناطق، أمّا الجماهير التي كانت متردّدةً في انضمامها للمنظّمة، فستلتحق بالروابط بناءً على الظروف الجديدة. وقد أدّت الضربة “الإسرائيلية” في لبنان إلى قيام الروابط السبعة بالتوحّد، وبالتالي الإعلان عن أنفسهم كحركةٍ سياسيّة، لأنّ تسجيلهم منذ العام 1979 كان [فقط] تحت عنوان [حركة] لا-سياسية تهدف إلى تطوير القرى اقتصاديّاً واجتماعيّاً. وفي الوقت الذي استمرّت فيه الحرب في لبنان، استمرّت أيضاً الإقالات بحقّ المجالس المحلية التي رفضت التعاون مع الإدارة المدنية  (مجلس دورا، الذي تمّ ذكره أعلاه، تمّ تفكيكه في حزيران 1982). [53]

في تشرين الثاني 1982، تمّ عقد أكبر مؤتمرٍ لروابط القرى، في الخليل، وبمشاركة آلاف الأشخاص (قدرت الـ”جيروسليم بوست” عدد الحضور بحوالي ألفين، اما الصحيفة الإسرائيلية الحكومية [الناطقة بالعربية] الأنباء فقدّرت عدد الحضور بـحوالي ثلاثة آلاف مشارك، بينما قدّرته صحيفة المرآة، الناطقة بلسان الروابط، بـ خمسة آلاف مشارك. لم يغِب “ميلسون” عن المؤتمر.. [لم يحضر بصفته العسكرية]، على الرغم من استقالته من منصبه كرئيسٍ للإدارة المدنية قبل ذلك بأسابيع قليلةٍ في أعقاب مذبحة مخيميْ صبرا وشاتيلا في لبنان. انتهى المؤتمر بإقرار تأسيس الحركة الديمقراطية للسلام. وباشرت الروابط بعد المؤتمر بالتخطيط لإقامة إطارٍ شبابيّ بهدف نشر أفكار التسوية وقبول الآخر، فضلاً عن اتحادات عمّاليّة من شأنها الانضمام إلى “الهستدروت”. [54] وفي ذات الشهر، دعا أعضاء كونغرس أمريكيّون منظّم المؤتمر مصطفى دودين لزيارة الولايات المتحدة، واعتقد مناصرو الروابط بأنّ نشاطاتهم بدأت تؤتي أُكلها. فيما استشاط غضب المعارضين، حتّى “الإسرائيليين منهم” كما بدا من كتابات مراسل [جريدة] دافار، “داني روبينشطاين”. [55]

وفي الوقت نفسه، تصاعدت علاقات الروابط مع أوساط “إسرائيلية”. وفي ربيع 1983، أسّس نشطاء “إسرائيليون”، معظمهم أعضاء في الحركة الكيبوتسية، حركة “طريق السلام”، والتي وطّدت علاقاتها مع روابط القرى، ومع فلسطينيّين آخرين. فتحت هذه الأنشطة أمام روابط القرى نوافذ لتغييرٍ جوهريّ وعميق في العلاقات اليهوديّة-العربية، وأصبح التوصّل إلى اتفاق سلامٍ ممكناً. كما يذكر “ميلسون”:

“لقد زارت الروابط بلدة “كريات جات”، وبودّي القول وآمل ألّا أظلمهم في ذلك، أنّ معظم سكّان البلدة يصوّتون لـ “كهاناه”. والذي حصل أنّ مجموعة [من الفلسطينيين] جاءت وقالت لهم، نحن نحبكم، نحن نريدكم، نحن نريد السلام، نحن نريد دولة وليكُن سلامٌ بيننا ونحن سنحارب الإرهابيين. ولقد أثار الأمر إعجابهم. لا “كهاناه” ولا ما يحزنون. إنّهم يؤيّدون الأمر. هذا جزءٌ من تراجيديا الصراع. حتّى النواة “الإسرائيلية” المعارضة للتسوية، كان من الممكن أن تلين، وقد لانت”. [56]

[في الواقع] معظم مستوطني “كريات جات” لم يصوّتوا أبداً لصالح “كهاناه”، ولكنّ هذا ليس المكان لفحص عالم “ميلسون” الخياليّ المتعلّق بالحقل السياسي “الإسرائيليّ” الداخلي. موضوعنا هو القناعة القويّة بأنّه يُمكن بواسطة الروابط تغيير العلاقات “الإسرائيلية” الفلسطينية، وخارطة الشرق الأوسط برمّتها، ومنح “إسرائيل” السلام. ومن هنا، يرشح السؤال التالي: ماذا الذي جعل تلك المبادرة، والتي علّق عليها أصحابها آمالاً واسعة، تنهار وكأنّها لم تكن، وتركت وراءها العديد من الأشخاص المتضرّرين: مثل أعضاء الروابط الذين تمّت ملاحقتهم حتّى بعد تفكيكها (من بين أولئك الذين نجوا خلال فترة الروابط، تمّ قتلهم في الانتفاضة الأولى)، وكذلك “الإسرائيليين” من أصحاب المبادرة، والذين شعروا بأنّهم منبوذون ومهدّدون. سأعرض أدناه بعض التحليلات، التي تكمّل بعضها البعض أكثر من تعارضها، لتفسير فشل الروابط.

هـ. سلام سلام ولا سلام: تشريح الفشل

يُمكن -بوجهٍ عام- تقسيم التفسيرات حول فشل الروابط إلى قسمين: أسبابٌ متعلّقة بالمجتمع والسياسة “الإسرائيلية”، وأخرى نبعت من السياسة الفلسطينية (وبدرجةٍ أقلّ الدولية).

أسباب “إسرائيلية” داخلية
في العام 2012، نشر الباحث الإسرائيلي “إيهود مانور” كتاباً بعنوان “الوصول إلى سلام مع الفلسطينيين” – مستوحى من اسم المقال الذي نشره “ميلسون” في (Commentary) عام 1980. [57] أفرد “مانور” جزءاً من الكتاب للحديث عن معارضة جهاتٍ “إسرائيلية” لروابط القرى. وبالفعل، كانت هناك معارضةٌ واسعةٌ جداً لمساعي “ميلسون”، وقد قامت ثلاث مجموعاتٍ أساسية بالإعلان عن معارضتها بشكلٍ علنيّ: رجال الحكم العسكري الذين عملوا في الفترات التي سبقت عمل “ميلسون”، وجهاتٌ يسارية، ومراسلو المناطق الذين يكتبون في الصحف اليومية. فمثلاً، المقال الذي نشره البروفيسور “امنون كوهين”، وهو مستشار الحكم العسكري في فترة ما قبل “ميلسون”، بعد إقالة رؤساء المدن، يشكّل مثالاً على انتقادات الضبّاط السابقين في جهاز الحكم العسكري. لقد اعترض “كوهين” على سياسات القبضة الحديدية التي اتّبعها “ميلسون”، وادّعى بأنّ مبدأ الإدارة المباشرة “يُفسدنا ويألّبهم علينا بلا سبب”.

وفيما يتعلق بالروابط، كتب “كوهين” أن طبيعة التوجُّهات التي تدعو إلى خلق قيادةٍ “تطرح أمامنا صعوباتٍ مبدئيةً وأخلاقيةً متعدّدة”؛ بيْد أنّ الأمر الأكثر أهميةً حسب رأيه، هو أنّه لا يُمكن للروابط أن تشكّل بديلاً عن منظّمة التحرير الفلسطينيّة، ولا يُمكن تحصيل أية منفعةٍ من ورائها. تبيّن لنا التجربة التي راكمها مصطفى دودين، والذي اعتُبِر فاسداً من قبل أشخاصٍ عديدين يعرفونه، أنّ المنفعة التي عادت على قرى جبل الخليل كانت ضئيلةً ومعدومةً بالنسبة لباقي سكّان [الضفة الغربيّة]”. [58] وبعيداً عن مضمون الجدل ما بين شخصين ينحدران من نفس الخلفية، بل واحتلّوا نفس المناصب، فإنّ ادّعاءات “كوهين” تدلّ على أنّ رؤية “ميلسون” لم تمثّل كلّ شخوص الإدارة المدنية “في إسرائيل”، ولا تمثّل حتّى كلّ جماعة الإدارة التي تعمل في الحكم العسكري، وتعكس حجم المعارضة للروابط حتى من أشخاصٍ مقرّبين من المؤسّسة العسكرية.

ولم تنَل محاولات “ميلسون” (الوصول إلى سلامٍ مع الفلسطينيين) رضى شخوص اليسار “الإسرائيلي” -اليسار الراديكالي وأجزاء من اليسار الصهيوني- كما سبّبت أفعاله موجةً من الهجمات الصارخة. حتى أنّه لم يحدث في السابق أن استخدمت الصحافة العبرية عباراتٍ قاسيةً بحقّ ضابطٍ “إسرائيليّ” كما حدث مع “ميلسون”. وأحد الأمثلة هو ما اقتبسه “مانور” عن الصحيفة الأسبوعية “هاعولام هازه העולם הזה” بحقّ “ميسلون” بقوله: “الوحش صاحب الوجه الطفولي”، و”البروفيسور المغموس بالدم”، وكذلك وصْفه بـ”الكابو [59] الأكاديمي” من قبل الناشط اليساري “جدعون سفيرو” من القدس، وأيضاً في مقاطع من رسائل “يعكوف سرت”، والذي خاطبه قائلاً إنّ لعنات الأجيال ستلاحقه. [60]

كانت هذه أكثر الانتقادات قسوة. وبحسب “مانور”، أدّى التناول المستمرّ لنشاطات روابط القرى في الصحافة “الإسرائيلية” إلى تحويلها موضوعاً للرأي العام، قائلاً: “سيكون من الصعب المبالغة في الضرر الذي تسبّب به المراسلون في المناطق”. وافقه بهذا الرأي “ميخائيل أرون”، الذي كان الناطق باسم الإدارة المدنية في حينها؛ مشيراً إلى أنّ التقارير الصحفية السلبية أثّرت على صورة الروابط في الصحافة الغربية، وبالتحديد على تصويرهم بأنّهم لا يمثّلون الفلسطينيين في الضفة الغربية. [61] وقد وافق محمد نصر، الذي ترأّس الروابط بين تشرين الثاني 1982 وآذار 1983، على هذا التحليل بشأن الدور الرئيسي لمعارضة اليسار [الصهيوني] في فشل الروابط؛ بالقول: “العامل الذي أضرّ حركة الروابط أكثر من غيره كان اليسار “الإسرائيلي”؛ لقد بدأوا ينظرون إلينا باعتبارنا متعاونين مع العدوّ… أمّا الطرف الآخر “الفلسطينيّين” فقد تلقّفوا هذه الأقوال وراحوا يردّدون: اليهود أنفسهم يصفونهم بأنّهم عملاء، إذن لماذا كلّ هذا الحديث؟ وبطبيعة الحال، بدأت الروابط بالتراجع”. [62]

لماذا تسبّبت إجراءات “ميسلون” بكلّ هذا الغضب؟ يدّعي “مانور” أنّ مواقف “ميلسون” السياسية كانت شوكةً في حلق أعدائه؛ فهو لم يعتذر عن قومة الشعب اليهودي، وأكّد على حقّه في السيادة فوق أرض “إسرائيل”، كما أنّه لم يعتبر الصهيونية حركةً كولونيالية، ولم يعتذر أمام “الضحايا” الفلسطينيين”. [63] لم يكُن هذا التفسير مُقنعاً؛ إذ إنه من الصعب أن نعثر بين مُعارضي “ميلسون” – خاصة المُنتمين إلى المنظومة الحكومية والإدارة المدنية – على أشخاصٍ يرَوْن الصهيونية حركةً كولونيالية والفلسطينيين كضحايا أبرياء! لذا، من المنطقيّ أن نقترح تفسيراً آخر، وهو أنّ محاولة بناء قيادةٍ بديلةٍ للقيادة الوطنية [م. ت. ف.] كانت تكتيكاً مقبولاً لدى الأنظمة الكولونيالية على مدار التاريخ. وعلى هذا الأساس، كان في هذا التكتيك عيبان، أولهما السوابق التاريخية التي تدلّ على أنّ نجاح مثل هذه الإجراءات كان ذي طبيعة مؤقتة، والثاني، والذي لا يقلّ أهميةً، هو أنّ الإجراءات ساهمت في الوصول إلى قناعةٍ غير مرغوبة، خاصةً لدى اليسار الصهيوني، بأنّ “إسرائيل” قد دخلت إلى المنطقة الرمادية بفعل مُمارساتها الاستعمارية، وبالتالي فإنّها تُثبت الصفة التي تُطلق عليها بأنّها استعمارية، وهي صفةٌ سائدةٌ في الخطاب العالمثالثي وبدأت تتسلّسل إلى خطاب النخب في الغرب.

في كلّ الأحوال، فإنّ معارضة اليسار كانت أحد العوامل، ولكن يُمكن القول أيضاً إنّ معارضة الروابط من قبل المنظومة السياسية والأمنية، [64] فضلاً عن معارضتها من قبل أوساط المستوطنين، كان له تأثيرٌ أكبر، مع أنّ “ميلسون” خدم في ظلّ حكومة اليمين. وقد تحدّث “يغال كرمون” عن معارضة “إليكيم هاعتساني”، فقال:

“بعد صبرا وشاتيلا، كان شارون في موقفٍ لا يُحسَد عليه، ومن وقف بجانبه؟ المستوطنون. لقد كان المستوطنون سنداً أمام “بيغن”. “اليكيم هاعتساني” قال له: تلك الروابط.. يجب أن تنتهي، كل هذا الأمر [يجب أن ينتهي]. وقد علمتُ بالأمر وقلت له: “اليكيم، أليس لديك أمرٌ آخرُ تفعله في الحياة؟ فقط هذا الأمر؟ منظمة التحرير الفلسطينية تسيطر على المناطق وهذا كلّ ما تفكر فيه؟ فقال لنا: م. ت. ف، تلك لا تعنيني؛ فنحن لن نتحدث معها أبداً، إنّ مشكلتي هي دودين. [65]

لا بُدّ من الإشارة إلى أنّ المستوطنين كانوا مجموعة ضغطٍ سياسيةً ذات ثقلٍ أكبر من اليسار “الإسرائيلي” تحت حكومة اليمين، ومن الواضح أنّهم أيقنوا تمام اليقين الخطر الذي يتهدّد مسألة الاستيطان في حال نجحت إجراءات “ميلسون”. بَيْد أنّ الروابط ما كانت لتعمّر سياسياً؛ للسبب البسيط التالي، وهو أنّ برنامجهم السياسيّ يتعارض تماماً مع المبادئ الأساسية للحكم في “إسرائيل”. صحيحٌ أنّ رؤساء الروابط يختلفون عن منظمة التحرير الفلسطينية في أنّهم ومنذ العام 1982 أبدوا استعداداً للاعتراف بدولة “إسرائيل” على مبدأ تقسيم الأرض، لكنّهم أيضاً طالبوا “بإنهاء الاحتلال وانسحاب إسرائيل من المناطق المحتلة عام 1967”. [66] وقد آمنوا بإمكانية حلّ قضية المستوطنين (من يُريد أن يبقى فليبقَ، كما حال العرب مواطني “إسرائيل”)، ومشكلة القدس (الغربية عاصمة “إسرائيل”، والشرقية عاصمة فلسطين)، واللتان ستوفّران مدينةً مفتوحةً أمام الجميع، وحسب ما قاله “كرمون”:

“الفصل لن ينجح. لأن الفصل ينبع من العداوة. لا يمكن لأمرٍ ينبع من العداوة أن ينجح، الفصل يساوي الحرب. الفصل يجب أن يكون فصلاً في السيادة وليس عبر بناء جدار. إنّ فصل السيادة يعني أنّ حدود “إسرائيل” تنتهي إلى هنا، ومن هناك إلى هناك تلك [يقصدُ فلسطين]. ولكن في جوٍّ من التعاون الشامل والمحبة العميقة وعلاقات الصداقة الاقتصادية والتجارية. وبالطبع، التعاون الاستخباراتيّ، وبالتأكيد الحرب الشرسة ضدّ الإرهاب، بالطبع كلّ شيءٍ”. [67]

هذه رؤيةٌ ملفتةٌ، لكنها بعيدةٌ عن رؤية حكومة “بيغن-شارون”. وعليه، لماذا موّل “شارون” نشاطات الروابط؟ ولماذا قام بتعيين “ميلسون” لهذه الوظيفة؟ هناك إجابتان، تتمثّل الأولى بهدف إظهار “إسرائيل” كبلدٍ مستعدٍّ لتحريك مباحثات حكمٍ ذاتيٍِّ وإقامة مفاوضات سلامٍ في “كامب ديفيد”. أمّا الثانيّة فقد كانت محاولةً من طرف “شارون” لفحص إمكانيّة إقامة قيادةٍ بديلةٍ لمنظمة التحرير الفلسطينيّة تكون موافقةً على استمرار الحكم “الإسرائيليّ”، بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ.  لكن عندما رأى “شارون” أنّ رؤساء الروابط يطالبون “إسرائيل” بالانسحاب الكامل، قام بتقليص ميزانيتهم، وهذا جعلهم يصارعون للبقاء على قيد الحياة. [68] وفي هذا السياق، يقول “ميلسون”:

“في فترةٍ مبكّرةٍ جداً، كان من الواضح أنه ليس لديّ ميزانيّةٌ كافيةٌ من أجلهم. وفي حال أردتُ أن أقوم بأعمالٍ تطويرية، وهذا ما كنت أريده، فإنني لم أجِد التمويل. توجّهت إلى [شارون] وقلتُ له: أعطِني نصف ميزانيّة كتيبة اللوجستيات في الجيش. لم يهتمّ، لم يكُن الأمر يعنيه ببساطة”.

وبحسب “كرمون”، فقد قال “ميناحيم ميلسون” لـ”شارون”: هيا، أعطِنا ثمن طائرة فانتوم واحدة ونغيّر الواقع. نحن، مؤيّدو الروابط، لم نكُن مهتمين بهذه الحرب [حرب لبنان 1982]. إنها أدّت إلى سقوط الضحايا فقط. كلّ العائلات هنا، أيّ في الضفة الغربية، تتماثل مع الفلسطينيين في لبنان بكلّ تأكيدٍ. ماذا؟ إنّها فقط أضرار، فقط مصائب، لو أنّ منظمة التحرير الفلسطينيّة بقيت هناك في بيروت، لكان بإمكاننا وصفهم بأنّهم مجموعةٌ فاسدة؛ لأنّ دولتهم قامت هنا وهم ظلّوا أصحاب مصالح ويريدون الاستمرار بالقتال. لقد أنقذوهم من خلال هذه الحرب. [69]

لقد كان الاختلاف في وجهات النظر، بين “شارون” من جهة و”ميلسون” ورجاله من جهةٍ أخرى، اختلافاً جذرياً إلى أبعد الحدود، حيث أراد “شارون” تغيير الواقع من خلال القوة والحرب؛ في حين اقترح “ميلسون” و”كرمون” تغيير الوعي من خلال تحسين الظروف الحياتيّة. وقد فهم الأخيران أنّه بازدياد القتل والمعاناة، يتعاظم التلاحم الفلسطيني ويزداد تماثل سكان المناطق مع منظّمة التحرير الفلسطينية في لبنان.

ومع ذلك، فقد غُرِّر بـ “ميلسون” الذي اعتقد بأنه يستطيع أنْ يُناوِر المنظومة “الإسرائيلية” وأن يعمل بناءً على فهمه الخاص لاتفاقيات “كامب ديفيد” والالتزامات النابعة منها، وليس بناءً على سياسات الحكومة المنتَخبة، ووزيرها المسؤول. في الواقع، فإنّ “ميلسون” نفسه هو الذي تمّت مُناورته؛ إذ لم ينجح في الحصول على الدعم الكافي لأفكاره في الساحة “الإسرائيلية” الداخلية، وتحوّل إلى “ملطشةٍ” من اليمين واليسار. وفي هذا السياق، كان فشل طواقم الإدارة المدنية في فهم المجتمع الفلسطيني من خلال التحليلات التي قدّمتُها بهذا الشأن، أكثر أهميةً من فشله في قراءة الخارطة السياسية “الإسرائيلية”.

عوامل فلسطينيّة داخليّة، وضعف القراءة الاستشراقية- الحكومية للمجتمع الفلسطيني

إنّ اختلاف وجهات النظر بين “ميلسون” و”شارون”، فيما يتعلق بالوظيفة السياسيّة للروابط، كان سبباً كافياً للحدّ من تطوّرها، ولكن ثمّة عوامل مؤثّرة أخرى تتعلّق بالصراعات الداخليّة بين رجال الروابط، والصعوبة في تجنيد أشخاصٍ ملائمين للمشاركة في أنشطتهم. كما أنّ الحرب الضروس التي شنّتها منظمة التحرير الفلسطينية ضدّ الروابط، جعلت الأمور أكثر تعقيداً.

ليس من الصعوبة بمكانٍ فهم معارضة منظمة التحرير الفلسطينيّة للروابط؛ إذ إنّ منظّمة التحرير الفلسطينيّة ناضلت على مدى سنواتٍ ليتمّ الاعتراف بها ممثلاً شرعياً ووحيداً للفلسطينيّين، وعندما نجحت في استبعاد الخيار الأردني، ظهر أمامها منافسون في “المناطق”، وحاولوا تهديد مكانتها. لكن حتى هنا، يُمكن لنا أن نتساءل حول ما إذا كانت هذه الخطّة تستند إلى فهمٍ عميقٍ للواقع السياسيّ في المناطق، وإلى التباينات في علاقة “الإسرائيليين” بالفلسطينيّين. ربّما يكون التحليل المقدّم أدناه هو تحليل ما بعد موت الظاهرة، وربّما تقع، في هذه الأيام، مَهمّة التقرير بشأن فشل الروابط على عاتق الكاتب والقارئ، وربّما كان للتاريخ أن يخطّ منحىً آخر آنذاك، مع ذلك تبقى هنالك فرصةٌ لفحص الدوافع الأساسية للذين أقاموا الروابط.

تمثّل الافتراض الأساسي لدى عرّابي روابط القرى بالقناعة بضعف الشعور الوطني لسكان القرى. صحيحٌ أنّه لا يمكن تفحُّص قوّة الوطنيّة، لكنّ التحليل التاريخيّ المتعلّق بدور القرويّين في الحركة الوطنية الفلسطينيّة يذكّرنا بأنّه في سنوات العشرينيّات من القرن الماضي، فشلت محاولات القيادات القروية في إقامة قيادةٍ بديلةٍ عن لجنة العمّال العرب، كما أنّ الثورة العربية في فلسطين في الأعوام 1936-1939 وقعت على كاهل أبناء القرى. وبشكلٍ مشابه، يمكننا القول إنّ القرويّين كانوا مركز الثقل النضالي الوطنيّ منذ سنوات العشرينيّات، بغض النظر عن كونها لم تصِل لمكانة المدينيّين. [70]

كما اتّضح خطأ الافتراض القائل بغلبة الولاء العشائريّ على الالتزام تجاه الحركة الوطنيّة، وذلك منذ بدء نشاطات الروابط؛ حيث إنّ العديد من أبناء عائلة دودين في دورا لم يسيروا في درب مصطفى وأصحابه؛ كما عارض العديد من شبان قرية سعير كبار السن من عائلاتهم الذين تقرّبوا من الروابط، وكذلك هو الحال في أماكن أخرى. [71]

ولا بُدّ أنْ نُقرّ بضعف التحليل المُقدّم من المؤسّسة الحاكمة الصهيونية -والذي اتفق عليه رجالات الإدارة الذين سبقوا “ميلسون”- والقائم على التفريق ما بين منظّمة التحرير الفلسطينيّة وسكان “المناطق”؛ بحيث يتمّ اعتبار المنظّمة عنصراً خارجياً. فابتداءً من أواخر السبعينيّات فقدت هذه الآراء مصداقيّتها بسبب توطُّد العلاقات بين سكّان المناطق ومنظّمة التحرير الفلسطينيّة، وبدـ النشطاء في المناطق [المحتلّة] بالانتساب إلى فصائل منظمة التحرير الفلسطينيّة، كما أنّ العديد من السكان اعتبروها قيادةً لهم في المنفى ذات امتدادٍ محليّ.

كان هناك مؤشرٌ آخر يُثبت ضعف التحليل القائل إنّ القرى مسلوخةٌ عن الحركة الوطنية، ومتنصّلةٌ من منظّمة التحرير الفلسطينيّة، وهو المشاركة الواسعة من أبناء القرى في النشاطات العسكريّة (بالتحديد التابعة لحركة فتح) والتي امتدّت منذ الاحتلال 1967 وحتّى إقامة الروابط. وفي ظلّ غياب معطياتٍ دقيقةٍ حول كامل النشاطات العسكريّة، استندتُ إلى عيّنةٍ من 113 قضيّةً تمّت مداولتها في المحاكم العسكريّة ضدّ أعضاء الخلايا الفلسطينيّة والذين شاركوا في الكفاح المسلّح ضدّ الاحتلال في نهاية السبعينيّات، وهي موجودةٌ لديّ، فقمت بتفحُّص أماكن سكن أعضاء الخلايا. حيث أظهرت النتائج ما يلي: 22 خليةً مركّبة من سكان المخيمات، 36 خليّةً من سكاّن المدن، و55 خليّةً من سكان القرى.

ربما كان عدد الخلايا القرويّة أقل بقليلٍ من مشاركة القرى من حيث عدد السكان (رغم أنّه لا يُمكن التأكّد من ذلك لأنّ المعطيات الشائعة القائلة إنّ 60-70% من سكّان المناطق هم قرويّون تتجاهل سكان المخيّمات)، ومع ذلك، فهذا حضورٌ كبيرٌ [لعدد الخلايا القرويّة]. ومع إقامة الروابط، تبيّن عمق الشعور والانتماء الوطنيّ بين القروريّين. فليدّعي من يريد أنْ يدّعي بأنّ تخصيص “إسرائيل” للمزيد من الأموال لصالح الروابط كان من شأنه أن يغيّر الواقع، إلا أنّه استنتاجٌ لم يكُن من الممكن إخضاعه للفحص.

وهناك نقطةٌ أخرى استند إليها مُقيمو الروابط وكانت نقطة الخلاف الرئيسة بينهم وبين اليسار الصهيونيّ الذي دعم فكرة التفاوض مع منظّمة التحرير الفلسطينيّة، وهي أنّ الأخيرة كانت غير مستعدةٍ للتفاوض مع “إسرائيل” وغير مستعدةٍ للاعتراف بها. أمّا “الإسرائيليّون” الذين دعموا الروابط، فقد ادّعوا بأنّ التزام منظّمة التحرير الفلسطينيّة بحربٍ شاملةٍ ضدّ “إسرائيل” هو عاملٌ غير قابلٍ للتغيير. وعليه، لم يهتمّوا كثيراً بالنقاشات التي دارت في تلك الفترة داخل منظمة التحرير الفلسطينيّة، خاصّةً داخل الجبهة الديمقراطية وفتح، حول إمكانيّة الاعتراف بـ “إسرائيل”، والتي تمخّض عنها بعد عقدٍ من الزمن اتفاق “أوسلو” والاعتراف الرسميّ المتبادل بين منظمة التحرير الفلسطينيّة و”إسرائيل”.

ربّما كان من الصعب في حينها قياس مدى استعداد منظمة التحرير الفلسطينيّة للاعتراف بـ “إسرائيل”، لأنّنا نعرف اليوم، في العام 2013، بأنّ عمليّة “أوسلو” قد انهارت وأنّ جزءاً من السلاح الذي تمّ إعطاؤه للسلطة الفلسطينيّة قد وُجّه نحو أهدافٍ “إسرائيليّة”. بيْد أنّه لا يجب أنْ نستنتج أنّها كانت نيّة منظمة التحرير الفلسطينيّة منذ البداية (حسب رأيي، كان هناك تضارب آراءٍ بهذا الصدد داخل منظمة التحرير الفلسطينيّة)، ولربما لو لم تستمرّ “إسرائيل” في تعميق سيطرتها على “المناطق” ودعم الاستيطان فيها، لكان اتجاه التسوية داخل منظمة التحرير الفلسطينيّة سيزداد قوةً.

وفيما يتعلق بموضوعنا، من المهم التوضيح بأنّ الخيار في بداية الثمانينيّات لم يكُن بين منظّمة التحرير الفلسطينيّة التي ترفض الحوار وبين روابط القرى التي كانت مستعدةً للاعتراف بـ “إسرائيل” وإجراء حوارٍ معها، وإنّما بين منظّمة التحرير الفلسطينيّة لكونها منظّمةً ممثّلةً للفلسطينيين وتبحث عن طريقٍ تؤدّي إلى الحوار، وبين مجموعة أشخاصٍ لا يمثلون الفلسطينيين ومستعدّين للوصول إلى تسويةٍ، لكنّ تأثيرهم على الجماهير كان محدوداً مثلما كان حضورهم التمثيليّ محدوداً.

علاوةً على ذلك، عندما فهِم المتنفّذون داخل فتح بأنّه لا مناص من الاعتراف بـ “إسرائيل”، فإنّ حربهم الشرسة ضدّ الروابط كانت تنبع من تخوّفهم من قيام حركةٍ أخرى تسبقهم إلى ذلك، وبالتالي يفقدون أسبقيّتهم في قيادة الفلسطينيين في “المناطق”. [72] من هنا ينبع الفرق بين فتح والجبهة الشعبية والتي، إلى جانب حربها ضد الروابط، حاربت أيضاً اتجاه التسوية التي أدخلتها فتح إلى صفوف منظمة التحرير الفلسطينيّة.

لئن اعتبر الجميع أنّ صراع كافة تيارات منظمة التحرير الفلسطينيّة ضدّ الروابط كان صراعاً ناجحاً، إلا أنّ الأمر لم يكُن مماثلاً فيما يخصّ صراع الجبهة ضدّ التسوويّين الفتحاويين. ففي العام 1988، قاد ياسر عرفات منظّمة التحرير الفلسطينيّة نحو إعلان الاستقلال الفلسطينيّ والذي استند إلى مبدأ تقسيم الأرض إلى دولتين، وبعد حوالي خمس سنواتٍ قادهم إلى التنكّر رسمياً (وعلى مدى سنواتٍ عملياً) من الإرهاب، وإلى الاعتراف بقيام “إسرائيل” والتوقيع على اتفاقيات “أوسلو” المستندة إلى رؤية “كامب ديفيد”. بمعنىً آخر، بعد عقدٍ من صراعها المستميت والعنيف ضدّ روابط القرى، وافقت منظمة التحرير الفلسطينية على الخطّة التي حاربتها، والتي بناءً عليها جرت مباحثات الحكم الذاتيّ وفي ظلّها قامت روابط القرى.

هذا يعزّز الافتراض القائل إنّ صراع التيار المركزي داخل فتح ضدّ الروابط، لم ينبع من رفضها لرؤية الدولة الفلسطينيّة على حدود 1967 كما قالوا، وإنّما من رفضهم لوجود مجموعةٍ تنازعهم التمثيل السياسي للكلّ الفلسطيني، والتي تحاول الالتفاف على القيادة الوطنيّة الشرعيّة، وبالتالي، من تهميش سكّان المخيّمات المتواجدين خارج حدود فلسطين الانتدابية. ضمن هذا الاعتبار، وعلى افتراض (الذي يمكن أن يختلف معه فلسطينيون و”إسرائيليون”) بأنّ الطرفين وقّعا اتفاق “أوسلو” بنيّةٍ صادقةٍ وقناعةٍ للوصول إلى تسويةٍ حقيقيةٍ من شأنها تغيير موازين القوى، فإنّ الإصرار “الإسرائيلي” على بناء قيادةٍ بديلةٍ لمنظمة التحرير الفلسطينية دلّل على عدم الإلمام بالتحولات الهامة التي حدثت داخل السياسة الفلسطينية. [73]

و. تلخيص: السلطة الفلسطينية والروابط – ابحث عن الفروقات

لقد استندت الاتفاقيّات الموقعة بين “إسرائيل” والفلسطينيين في سياق عملية “أوسلو”، بشكلٍ كبيرٍ، على المبادئ التي تمّت صياغتها في اتفاق السلام “الإسرائيليّ”-المصريّ قبل ذلك بـ 15 عاماً: حكمٌ ذاتيٌ لمدّة خمس سنوات، ومفاوضاتٌ حول الوضع النهائي، وشرطةٌ محليّةٌ قويّة، وإعادةُ انتشار قوات الجيش “الإسرائيلي” في “يهودا وشمرون”. سبّبت هذه الاتفاقيات جدلاً واسعاً في داخل الحقل السياسيّ الفلسطينيّ، وأحد النقاط الأساسية التي أثارها المعارضون قبيل “أوسلو” هي أنّ صلاحيات السلطة المنوي إقامتها تنبع من اعترافها بـ “إسرائيل”، وليس من الحقوق الشرعيّة للفلسطينيين باعتبارهم أبناء هذه الأرض وأصحابها القانونيّين. لكن وعلى الرغم من الانتقادات والصعوبات، حصلت هذه الاتفاقيّات على موافقة مؤسّسات منظمة التحرير الفلسطينيّة. [74]

ومنذ إقامتها فصاعداً، استمرّت المعارضة الفلسطينيّة بتوجيه الانتقادات إلى السلطة الفلسطينيّة، على أنّ هذه الانتقادات كانت تزداد في فترات الجمود السياسيّ، واستمرار الاستيطان والامتناع عن مواجهة “إسرائيل”، بكلماتٍ أخرى، طيلة معظم الفترة باستثناء سنوات الذروة في انتفاضة الأقصى، 2001-2004.

في هذا السياق، قام الدكتور عبد الستار قاسم، وهو أحد المنتقدين اللاذعين للسلطة الفلسطينية منذ إقامتها، ومحاضر العلوم السياسيّة في جامعة النجاح في نابلس، في مقالٍ يعود للعام 2008، بسرد توقّعاته السابقة فيما يتعلق بمنظمة التحرير الفلسطينيّة، والتي تحققت واحدةً تلو الأخرى: فمنذ العام 1979 كان على قناعةٍ بأنّ منظمة التحرير الفلسطينية معنيّةٌ بالاعتراف بـ “إسرائيل”. وكتب ذلك في مقالٍ، في العام 1982، جادل فيه أمام تلاميذه بأنّ معارضة منظمة التحرير الفلسطينية لروابط القرى لم تكُن سوى خلافاً على من الذي سيقود عمليّة الخضوع لـ “إسرائيل”. وعندما كان معتقلاً إدارياً في سجن “كتسيعوت” في النقب في العام 1988، التقى مع معتقلين من فتح وقال لهم إنّه في المستقبل القريب ستقوم سلطات الاحتلال بتسليمهم السجون لكي يعتقلوا بها مقاتلي الحرية الفلسطينيين، وكان ردّه حول توقيع اتفاق “أوسلو” في العام 1993 بأنّ هذه وصفة أكيدة لحرب أهلية فلسطينيّة. وقد نشر مقاله في العام 2008 بعد المعارك التي حصلت بين فتح وحماس في قطاع غزة، بعدما تحقق توقّعه الأخير.

لم يكُن هذا التحليل حصراً على عبد الستار قاسم، فقد كانت هناك مقارنةٌ شائعةٌ في خطاب المعارضة الفلسطينية، بين السلطة الفلسطينية وجيش أنطوان لحد في جنوب لبنان، أو روابط القرى. [75] والادّعاء هنا بأنّ منظمة التحرير الفلسطينيّة نجحت في اغتيال الروابط، بيْد أنّها احتلّت مكانها دون أن تقدّم بديلاً ملائماً. كما هناك ادّعاء بأنّه كما حصل مع الروابط فإنّ السلطة أيضاً تخلّت عن الكفاح المسلّح، وبدأت بالتعاون مع أجهزة المخابرات “الإسرائيلية”، وتصدر التراخيص باعتبارها وسيطاً بين المؤسسات “الإسرائيليّة” والسكّان الفلسطينيين. كلّ ذلك حصل، بينما الأفق الفلسطيني ارتكس لإقامة كيانٍ فلسطينيٍ متقطّعٍ بين مناطق تخضع للسيادة “الإسرائيليّة”.

يدّعي أسعد غانم من جامعة حيفا، بأنّ تصرفات السلطة تعتبر أكثر خطورةً من تصرفات الروابط، وأنّ هناك جهاتٍ في الساحة الوطنيّة تنظر إلى الماضي وتأسف على صراعها ضدّ الروابط مدعيةً أنه كان من الأفضل للفلسطينيين لو قبلوا بقيادة الروابط، على أن يسمحوا لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية اللبنانية-التونسية من استلام زمام المشروع وقيادته من فشلٍ إلى آخر. ويقول أحد المجادلين: إنّ انتصار “إسرائيل” يكمن في فهمها أنّها لن تستطيع التغلّب على منظمة التحرير الفلسطينية، وأنّه من الأفضل لها أن تقوم بإجبارها على الرقص على إيقاعات الولايات المتحدة و”إسرائيل”. [76]

تكشف المقارنة بين السلطة الفلسطينية بقيادة منظّمة التحرير الفلسطينيّة وبين روابط القرى نقاط تشابهٍ كثيرة، غير أنّ السبب الأساسيّ في ذلك لا يكمن في التشابه الأيديولوجي بين السلطة والروابط، وإنّما في قوة “إسرائيل” فيما يتعلق بعلاقتها بالفلسطينيين، بغض النظر عن الجهة التي تمثّلهم. مكّنت علاقات القوة هذه “إسرائيل” من أن تطلب من الروابط والسلطة الوقوف في صفها ومحاربة الفلسطينيّين الذين يعارضون الاتفاقيّات. لكن لا بدّ من القول إنّه إلى جانب التقارب الملموس بين البرامج السياسية للاثنتين خلال سنوات الثمانينيّات – أو تقبّل فكرة الدولتين داخل منظمة التحرير- ما يزال هناك اختلافٌ نوعيٌّ بين خطاباتهم السياسيّة.

منذ بدايته، كان الخطاب الذي تطوّر، داخل فتح والجبهات اليساريّة، خطاباً مناهضاً للاستعمار. هذا الخطاب تعامل مع اليهود باعتبارهم غرباء عن هذه البلاد، ووجد صعوبةً بعد ذلك في تبرير عملية التسوية. أمّا خطاب الروابط فهو خطابٌ محليٌ تقليديٌ تصالحيّ، ويحتوي على أبعادٍ تتناقض مع الخطاب الوطنيّ الدارج. فيقول جميل العملة، أحد قيادات الروابط: “هذه الأرض ليست تابعةً لـ “إسرائيل” لوحدها ولا للفلسطينيّين. إنّها أرضٌ للشعبين… كلنا أبناء سيدنا إبراهيم”؛ أو أقوال محمد نصر، الذي يذكرنا بأنّه لا يوجد للفلسطينيّين أي تجربةٍ سابقةٍ في الحكم الذاتيّ، وربما يحلّ بهم ما حلّ ببعض الشعوب في أفريقيا والذين بعد أن نالوا استقلالهم، انهارت دولهم. [77]

منذ إقامة الروابط، ومروراً باتفاقيات “أوسلو”، ثمّ تولّي سلام فياض لرئاسة حكومة السلطة الفلسطينية (2007-2013)، توسّع الاستيطان في الضفة الغربية، وتآكلت الجدوى من إقامة اتفاق سلامٍ يستند على منطق الدولتين. يبدو التحليل الذي يعرض الروابط باعتبارها أداةً للسيطرة “الإسرائيليّة”، وليست قناةً لحلّ الصراع، مقبولاً أكثر وأكثر، كذلك الأمر بالنسبة للادّعاء بأن اتفاقيات “أوسلو” جاءت لتعزيز السيطرة “الإسرائيليّة” على “المناطق” وليس للوصول إلى تسوية. بيْد أنّ ما توصّل إليه هذا التحليل جاء من التبصّر بنتائج ومآلات كلا السياقين، وليس من فهمٍ لنوايا القائمين على كلّ سياق.

إن الحقيقة القائلة إنّ مصدر صلاحيات الخطّتين (الروابط والسلطة) يكمن في الاتفاق مع “إسرائيل” (وليس الانتصار على الكيان الصهيوني كما كان يأمل الأشخاص الأكثر راديكاليّة)، توسيع الاستيطان في سنوات نشاط الروابط وسنوات “أوسلو”، وموافقة السلطة المتحفّزة للتعاون مع “إسرائيل” في صراعها ضدّ التنظيمات الفلسطينيّة الرافضة- كلّ هذه الأمور دفعت العديد من الفلسطينيين إلى البحث عن نقاط تشابهٍ بين السلطة والروابط، إذ جاء كلاهما بهدف تعزيز السيطرة “الإسرائيلية” على المناطق. وربما لم يكُن هذا بالضرورة هو هدف القائمين على هذه الاتفاقيات.

ومن منظورٍ تاريخيٍ واسع، يمكن أن نرى في العمليّتين محاولات معارضة “إسرائيليّة” لضمّ المناطق بغية تحريك اتفاقية سلامٍ تقوم على أساس دولتين، بدون مستوطناتٍ وبدون عودة لاجئين -العملية الأولى كانت من خلال تمثيلٍ محليّ يعتمد على قوّة الجيش، والعملية الثانية من خلال قيادة الحركة الوطنيّة وتقوم على التوافق- من دون أن يكون هناك تقييمٌ سليمٌ لحجم المعارضة لهذا الاتفاق، سواءً في “إسرائيل” أو في المجتمع الفلسطيني.

****

الهوامش:

[1] الكاتب يرغب بالتوجّه بالشكر الى معهد “ترومان” لبحوث تطوير السلام في الجامعة العبرية على تخصيص ميزانيةٍ لهذا البحث، وأيضا الى “أساف فيلد” الذي ساعد في البحث.
[2] [المترجم: في الخطاب السياسي “الإسرائيلي”، سواءً اليساري أو اليميني، الأكاديمي أو الحزبي، يتمّ الإشارة الى الضفة الغربية وقطاع غزة باستخدام كلمة “المناطق”، وبالعبرية شطاحيم].
[3] للمزيد من التفاصيل، اُنظر الى القسم الأخير من المقال. وهنا أريد أن أذكّر برسالة ماجستير: Hazem Jamjum, “The Village Leagues: Israel Native’s Authority and the 1981-1982 Intifada,” American University of Beirut, 2012 , والتي تمّ توقيعها بالعبارات التالية “منظمة التحرير الفلسطينية التي باسمها وباسم الشرعية قام المتظاهرون بمحاربة روابط القرى، تحوّلت هي نفسها الى روابط قرى باسم ذات الشرعية وباسم ذات المتظاهرين”. (ص. 86)
[4] اُنظر مثلاً، Salim Tamari, “Israel Search for a Native Pillar: The Village League,” in Naseer Aruri (ed.) , Occupation: Israel over Palestine, London 1984, p. 378؛ “روابط القرى”، الموسوعة الفلسطينية، دمشق 1984، المجلد ب، ص.: 484-486؛ جمجوم، رسالة سبق ذكرها.
[5] بناءً على “كرمون”، في مقابلة، 6 حزيران 2013. لقد كانت هذه هي طبيعة التفاهم بين رؤساء الروابط وبين مؤيديهم “الإسرائيليين”، مع أنّ هذا الاتفاق الواسع لم ينعكس بشكلٍ واضح على الخطاب العام الرافض للروابط أثناء سنواتها، كما أنّ معارضي الروابط من اليسار ادّعوا بأنّ سياسات “ميلسون” تساعد على تعميق السيطرة “الإسرائيلية” على المناطق.
[6] [المترجم: قبل حرب 1967، تمّ تشكيل حكومة “وحدةٍ وطنية” في “إسرائيل”، حيث انضمّ “مناحيم بيغن” اليمينيّ إلى جلسات حكومة “ليفي أشكول” ابتداءً من 5 حزيران كوزيرٍ بلا حقيبة].
[7] Avi Raz, The Bride and the Dowry: Israel, Jordan and the Palestinians in the Aftermath of the June 1967 War, New Haven 2012, pp. 26-28, 43-47؛ شلومو غازيت، العصا والجزرة: الحكم الإسرائيلي في يهودا والسامرة، تل أبيب 1985، ص: 136. هذه القرارات لم تنشر إلا بعد سنوات طويلة.
[8] هذه أطروحة مركزية في كتاب را الذي سبق ذكره، وانظروا بالاستخلاصات ص: 273-274.
[9] تمّ نشر الخطة في صحيفة الحزب، هادافار، بقلم دان باتير، 16 آب 1973.
[10] زيو روبينبيتش وجيرالد شطاينبيرغ، “برنامج الحكم الذاتي لدى ميناحم بيغين: بين الواقعية السياسية والأيديولوجيا”، هاميرحاب هاتسيبوري 6(2012)، ص: 81-82.
[11] للصيغة العبرية اُنظر: موشيه جاباي (جامع ومحرّر)، تصريحات وقرارات تتعلق بالشأن الفلسطيني 1950-1989، أفعال 1990/ ص: 112-117؛ هآرتس، 19 أيلول 1978.
[12] حول ملخص لرؤية كلّ طرف اُنظر: Meron Benvenisti, The west Bank Handbook: A Political Lexicon, Jerusalem 1986, pp.8-11
[13] حول أهداف العمليات، صرّح عرفات في حفل تخريج ضباط م. ت. ف في لبنان، الناطق بلسان م. ت, ف فلسطين الثورة، 20 آب 1978، ص: 12. قتل الخزندار في الأول من حزيران 1979، وحول هذا الأمر اُنظروا تصريحات حاكم قطاع غزة، العميد يتسحاق شاغاب، لـ New York Times، 28 اذار 1981، وكذلك المقالة المنشورة في جريدة دنيا الوطن، 16 تموز 2011.
[14] مستشار رئيس الحكومة دان باتير ليوسف بورغ، “محادثتك مع السفير سول لينوفيتش”، 21 تشرين ثاني 1979، “أرشيف الدولة الإسرائيلي”، ملفات رئيس الوزراء، أ 4316/8.
[15] حول التغييرات في رجال الحكم العسكريّ: مقابلة مع أريه شفيتسن، المستشار للشؤون العربية في الإدارة المدنية، القدس، 13 أيار 2013.
[16] ميلسون، مقابلة، 18 مارس 2008.
[17] Joseph Massad, Colonial Effects: The Making of National Identity in Jordan, New York 2001, p. 247؛ يهودا ليطاني، هآرتس، 30 تشرين ثاني 1981.
[18] ميلسون، مقابلة، 25 مارس 2008.
[19] نفس المصدر.
[20] معاريف، 13 حزيران 1980، مقابلة مع داف غولدشتاين؛ مناحيم ميلسون، “م. ت. ف.، الأردن والفلسطينيين: لماذا يرفضون المشاركة في عملية سلمية؟” في ألوف هرابان (تحرير)، هل يوجد حل للمشكلة الفلسطينية؟ مواقف إسرائيلية، القدس 1982، ص: 25-43؛ Menahem Milson, “How to Make Peace with the Palestinians,” Commentary (May 1981), pp. 25-35
[21] ميلسون، مقابلة، 15 حزيران 2008.
[22] يجال كرمون، مقابلة، 6 حزيران 2013، القدس.
[23] أريه شفيتسن، مقابلة، 13 أيار 2013، القدس.
[24] محمد نصر، مقابلة، 16 تموز 2008.
[25] ميلسون، مقابلة، 15 حزيران 2008.
[26] كرمون، مقابلة، 6 حزيران 2013. لتحليلٍ جيّدٍ لسياقات التغيير في المجتمع الفلسطيني في تلك الفترة اُنظر إلى أطروحة الدكتوراة لهالال بيرش، “بناء المؤسسات الفلسطينية في المناطق 1967-1985″، الجامعة العربية في القدس، 1989.
[27] القدس، 1 آب 1978؛ Al-Fajr Weekly, 26.7–1.8.1981. وكلاهما يقتبسان عن Salim Tamari, “Israel’s Search for a Native Pillar: The Village Leagues,” in Naseer Aruri (ed.), Occupation: Israel Over the Palestinians, London 1984, p. 378
[28] كرمون، مقابلة، 6 حزيران 2013.
[29]حول بناء قيادات محلية “للعرب مواطني إسرائيل” اُنظر: هيلل كوهين، عرب جيدون: الاستخبارات الإسرائيلية والعرب في إسرائيل 1948-1967، القدس 2006.
[30] هذا تحليل بنحاس عنبري، من قدامى الصحافيين الإسرائيليين الذين بحثوا في السياسة الفلسطينية، أنظر كتابه مثلث الأردن: العلاقات السرية بين الولايات المتحدة، الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية، القدس 1983، ص: 204-206. وبناءً على تحليله، فإنّ رؤساء البلديات ولجنة التوجيه الوطني التي أقاموها كانوا على خلافٍ مع منظمة التحرير الفلسطينية، على عكس تصريحات المنظمة.
[31] كرمون، مقابلة، 6 حزيران 2013.
[32] حول استخدام السلطات للتراخيص بهدف خلق قيادةٍ من المجتمع العربي في “إسرائيل” تكون مريحةً بالنسبة للمؤسّسة [الحاكمة]، أنظر: كوهين، عرب جيدون. النيّة كانت القيام بعملٍ مشابه في “المناطق”.
[33] ميلسون، مقابلة، 15 حزيران 2008.
[34]Shmuel Sandler and Hillel Frisch, Israel, the Palestinians and the West Bank, Toronto 1984, pp. 154-155
[35] رسالة الى إعلام السفارة “الإسرائيلية”، تمّ نشرها في صحيفة , The Jewish Week 18 April 1982. تمّ اعتقال أعضاء الخلية، وهم من سكان ثلاث قرى قضاء رام الله، في صيف 1983، وأثناء التحقيق معهم (والذي كان حسب أقوالهم عنيفاً) اتّضح أنّهم كانوا متورّطين في قتل متعاونٍ آخر. مواد التحقيق متوفرة في ملف النائب العسكري ضدّ كامل رضوان وآخرون، محكمة رام الله العسكرية، 4142/83.
[36] Edward Cody. “Palestinian Violence Fails to Shake Israel’s Grip on West Bank,” The Washington Post, 6 April 1982
[37] Alexander Zvielli. “From our Archives,” The Jerusalem Post, 14 March 2007; The New York Times, 1 April 1982, p. a-3
[38] “Pro-Israel Arab Aide Found Dead,” The New York Times, 27 August 1982
[39] تمّ اعتقال مروان عمرو والحكم عليه، ملف محكمة رام الله العسكرية، 1259/82.
[40] مقابلة مع ناشط من فتح في قرية سعير (بالقرب من الخليل)، والذي كان منخرطاً في نشاطاتٍ ضدّ الروابط بالقرب من قريته، بينما كان عمّه عضواً فيها، القدس، 19 حزيران 2013. ملف محكمة رام الله العسكرية، 2092/83، ويحتوي على دعوة ضدّ أحد سكان بيت فجار الى الجنوب من بيت لحم والذي هدّد أعضاء الروابط في قريته، وهذه تعتبر بعض الأمثلة.
[41] الموسوعة الفلسطينية، المجلد ب، ص: 484-486.
[42] أرون لـ Washington Post، 18 آب 1982، ص: 18A.
[43] كرمون، مقابلة، 6 حزيران 2013.
[44] الأيام، 24 أيلول 2004 (طبعة الكترونية).
[45] عبد الناصر فراونة، “في الذكرى السنوية [الـ 21] لاستشهاد أبراهيم الراعي”. تمّ نشره للمرة الأولى في نيسان 2004، ومرة أخرى عام 2009 على الموقع الالكتروني http://www palestinebehindbars.org/n25.htm، المخصّص للأسرى الفلسطينيين. تمّت قراءته للمرة الأخيرة بتاريخ 12 تموز 2013. وحسب الموقع فإنّ الراعي [استشهد] في السجن بعد اعتقاله مرة أخرى في الانتفاضة الأولى.
[46] المرآة، 11 تشرين أول 1982.
[47] “في الذكرى الـ 29 لاستشهاد داوود عطاونة: هكذا سقطت روابط القرى في بيت كاحل”، 21 تموز 2011، http://www.palpeople.org/atemplate.php?id=4466، تمّت مشاهدته آخر مرة بتاريخ 10 تموز 2013.
[48] هآرتس، 1 كانون أول 1981، ص: 1.
[49] أقوال شارون في هآرتس، 11 أذار 1982. بنت أحد المؤيّدين لروابط القرى قالت لي إنّه في ذلك الوقت سمعت بأنّ عرفات هو الذي قام بالضغط على الأردنيّين لمعارضة الروابط لأنّه كان يرى كيف فقد سيطرته على جبل الخليل. لا يجب الاستنتاج بأنّ الأقوال دقيقة، وإنّما تدلّ فقط على التوجّه العام لدى رجال الروابط.
[50] مقابلة مع ميلسون، 15 تموز 2008.
[51] اُنظر: داني روبينشتاين، “ثمن الاستيطان”، دافار، 30 أكتوبر 1981؛ المذكور أعلاه، “الصراع حول يهود الضفة”، دافار، 1 كانون الثاني 1982، ص: 17.
[52] تصريح لشارون في New York Times، 20 حزيران 1982.
[53] Washington Post، 18 آب 1982، ص: 18A.
[54] مقابلة مع محمد نصر، 16 تموز 2008.
[55] المعطيات من المصادر المختلفة ظهرت لدى Tamari, “Israel Search for a Native Pillar,” p. 386. لوصف المؤتمر اُنظر لدى داني روبنشتاين، دافار، 15 تشرين أول 1983، وفي مقابلة مع كرمون، 6 حزيران 2013. وتحليل نقديّ للمقالة المنشورة في دافار اُنظر لدى مانور، ص: 177-178.
[56] كرمون، مقابلة، 6 حزيران 2013.
[57] إيهود مانور، الوصول الى سلام مع الفلسطينيين: الجدل الإسرائيلي حول الضفة الغربية 1967-1987، القدس 2012.
[58] معاريف، 7 نيسان 1982، ص: 18. وفيما يتعلّق بالفساد يُنظر أيضاً: Tamari, “Israel Search for a Native Pillar,” p. 383. حتّى من بين محبّي دودين كانت تخرج أصواتٌ لتقول إنّه لم يكُن دائماً مستقيماً.
[59] [المترجم: بداخل السجون النازية، كان النازيون يعيّنون معتقلاً متعاوناً معهم لمراقبة باقي المعتقلين]
[60] مانور، الوصول الى سلام مع الفلسطينيين، ص: 178-179.
[61] نفس المصدر، ص: 190.
[62] مقابلة مع محمد ناصر، 16 تموز 2008.
[63] مانور، الوصول الى سلام مع الفلسطينيين، ص: 190.
[64] في إحدى المقابلات (15 حزيران 2008) قال ميلسون إنّ المنظومة الأمنيّة بما تشمله من ضبّاط القيادة التابعين للإدارة المدنيّة وجهاز المخابرات العام، لم يؤيّدوا الروابط. وحسب رئيس فرعٍ سابق في الشاباك (لم يسمح بنشر اسمه)، كان الشاباك مرتاباً من الروابط، ولم يدعمهم بشكلٍ مباشر، بيْد أنّه لم يعرقل عملهم (مقابلة، آب 2010).
[65] كرمون، مقابلة، 6 حزيران 2013.
[66] تصريح سياسي للروابط، في العنوان الرئيسي لـ المرآة، 13 مارس 1983.
[67] كرمون، مقابلة، 6 حزيران 2013.
[68] يمكن الحصول على المؤشّرات من البيانات التي يوفّرها يزيد الصايغ، Yezid Sayigh, Armed Struggle and the Search for State, Oxford, pp. 480, 484
[69] نفس المصدر.
[70] Tamari, “Israel Search for a Native Pillar,” p. 378. تبدأ الموسوعة الفلسطينية، المجلد ب، ص:484، فصلها بالحديث عن روابط القرى من خلال مسحٍ مطوّلٍ للأحزاب القروية خلال فترة الانتداب. للتوسّع حول هذه الأحزاب اُنظر: هيلل كوهين، جيش الظلال، القدس 2004، ص: 22-30، وهناك أيضا تحليل للفشل.
[71] فيما يتعلّق بسعير، اُنظر أعلاه، الملاحظة رقم 43. وفيما يخصّ عائلة دودين- محادثة مع اثنين من عائلة دودين، تشرين الثاني 2012. وفي نقاشٍ جرى في منتدى رابطة المترجمين العرب الإلكتروني [الإنترنت] والذي عُقد في العام 2008، كتب أحد أفراد العائلة، شادي دودين، بأنّ معظم أبناء العائلة تبرّأوا من مصطفى دودين وقاطعوه، وأنّ المقاطعة استمرّت حتّى وفاته. http://www.wata.cc/forums/archive/index.php/t-32933.html.. تمّت قراءته لآخر مرة في 12 تموز 2013.
[72] حول اعتدال منظّمة التحرير الفلسطينية قبل حرب لبنان 1982 وبعدها (وبناءً عليه اختلف مؤيدو الروابط الإسرائيليين)، اُنظر: الصايغ، ص: 551؛ Mark Tessler, A History of the Israeli-Palestinian Conflict, Bloomington, Indiana 1994, pp. 609-611. وحول دعوات القيادة الفلسطينية في “المناطق”، والتي تشمل مؤيّدي منظمة التحرير الفلسطينية، لوقف العمليات ضد المدنيّين اُنظر: الفجر، 8 كانون الأول 1983؛ عالمشمار، 8 كانون الأول 1983. وقبل هذا بأيامٍ، استنكر كبار مؤيدي منظّمة التحرير الفلسطينية العمليات التي حصلت في راديو وتلفزيون إسرائيل، وفي 7 كانون الأول عاد الناطق باسم المنظمة في لبنان وتنصّل من المسؤولية عن العملية: FBIS، 7 كانون الأول 1983. وقد فسّرت الجبهة الشعبية زيارة عرفات للرئيس المصري حسني مبارك في نفس الشهر بأنّها اعترافٌ باتفاق السلام “الإسرائيلي”-المصري. أما الهدف (26 كانون أول 1983)، جريدة الجبهة، فقد نشرت في صفحتها الأولى صورةً لعرفات وهو مطأطئ الرأس، وكتبت تحتها: “انحراف خطير”، وفي مقالٍ لهيئة التحرير (ص: 5) تمّت الدعوة إلى تنحية عرفات. وحول الأمر اُنظر أيضاً أطروحة الدكتوراة لأفرايم لابيه، “الفلسطينيين في الضفة الغربية: أنماط المعارضة السياسية تحت الاحتلال وفي ظلّ الحكم الذاتي”، جامعة تل أبيب، 2009.
[73] كرمون (في المقابلة المذكورة أعلاه) وآخرون يعتقدون بأنّ منظمة التحرير الفلسطينية لم تنوِ الوصول إلى تسويةٍ مع “إسرائيل”، وعليه فإنّ التغاضي عن هذه الأحداث كان مبرّراً.
[74] بروتوكولات ومذكّرات في منتديات فلسطينية مختلفة (وأيضاً اتجاهات في “إسرائيل” والعالم العربي والعالم أجمع) تتعلّق بالاتفاقيات، اُنظر: “Documents and Source Material,” Journal of Palestine Studies 23/ 2 (Winter 1994), pp. 125-159
[75] أحد الأمثلة مقال للدكتور إبراهيم حمامي في موقع كتائب عز الدين القسام والذي يقارن بين السلطة والروابط: http://www.alqassam.ps/arabic//article.php?id=7248، استُرجع مؤخراً في 19 أيلول 2013، وفيه اقتباسٌ من مقالٍ سابق كتبه شكري هوزيل، الذي يقدّم نفس الادعاء.
[76] المدوّن الإسلامي ياسين عز الدين في مقال: “هل ينجح [سلام] فياض في الموقع الذي فشلت فيه الروابط؟”، 17 أيار 2009، في موقع المنتديات الفلسطيني
https://www.paldf.net/forum/showthread.php?t=419045، استُرجع مؤخراً في 15 تمّوز 2013، وهناك نقاشاتٌ اشترك فيها العديدون. أسعد غانم، “سلطة وطنية أم روابط قرى”، بكرا، 25 أذار 2010، http://www.bokra.net
[77] مقابلة مع جميل العملة، القدس، حزيران 2012. مقابلة مع محمد نصر، 16 تموز 2008.